أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الواقعية التاريخية














المزيد.....

المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الواقعية التاريخية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 02:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يرتبط مفهوم "المادية الجدلية" ارتباطًا وثيقًا بما يشبه القلب النابض للفكر الماركسي، حيث لا يمكن فهم هذه الفلسفة من دون العودة إلى أصولها الجدلية الهيغلية، التي مثّلت نقطة الانطلاق الحاسمة لتحول نوعي في الفكر الفلسفي الغربي الحديث. لقد كانت جدلية هيغل لحظة انعطاف كبرى في فلسفة الحداثة، حين صاغ مفهوم التطور من خلال التناقض بوصفه محرّكًا للتاريخ والوجود والوعي. غير أن هيغل – باعتباره مثاليًا – اعتبر أن التطور الجدلي يتم أساسًا في نطاق الفكر أو الروح (Geist)، أي أن الواقع لا يُدرك إلا من خلال تطوره المفهومي، وأن التناقضات التي تظهر في العالم ليست سوى انعكاسات لصراع منطقي داخل الوعي الكلي.

أما ماركس، فقد قلب جدلية هيغل على قدميها، كما صرّح هو نفسه، عبر تحويل الجدلية من مجال الوعي إلى مجال الواقع المادي والاجتماعي. وهنا تكمن قطيعة ماركس الكبرى مع الفلسفة المثالية: فقد انطلق من أن الوجود الاجتماعي والمادي هو الذي يُنتج الوعي، وليس العكس. وبذلك، لم يتخلَّ ماركس عن الأداة الجدلية الهيغلية، بل أعاد توجيهها نحو الأرض، نحو العلاقات المادية والإنتاجية التي تحكم الواقع التاريخي، فظهر ما عُرف لاحقًا بـ"المادية الجدلية" (Dialectical Materialism) بوصفها البنية التحتية للفكر الماركسي.

المادية الجدلية: المنهج والنظرية

تمثل المادية الجدلية عند ماركس وإنجلز مزيجًا عضويًا بين الجدلية الهيغلية من حيث المنهج، والمادية الفويرباخية من حيث المضمون. أي أن ماركس احتفظ بالحركة الجدلية كتطور تناقضي مستمر، لكنه غيّر "الموضوع" الذي تجري فيه هذه الحركة، إذ لم يعد تطور الروح أو الفكرة المطلقة هو الموضوع المركزي، بل الصراع الطبقي، وعلاقات الإنتاج، وتناقض البنى الاقتصادية والاجتماعية.

في هذا الإطار، تصبح المادية الجدلية أداة لفهم التحولات التاريخية والاجتماعية، إذ أن كل نظام اقتصادي – في نظر ماركس – يحمل في داخله نقيضه الذي يؤدي إلى انهياره، ليحل محله نظام جديد ناتج عن صراع القوى المتناقضة في المجتمع. وهكذا، فإن تطور المجتمعات لا يتم عبر تراكم كمّي فقط، بل عبر "قفزات نوعية" ناتجة عن التناقضات الجوهرية الكامنة في كل مرحلة.

وما يجعل المادية الجدلية مختلفة عن المادية الميكانيكية – التي سادت في القرنين السابع عشر والثامن عشر – هو أنها ترى في المادة ليس فقط جوهرًا ثابتًا، بل واقعًا ديناميكيًا متغيرًا، يتحرك عبر صراعات داخلية. فهي تصور العالم بوصفه وحدة من العمليات المتغيرة باستمرار، لا بوصفه مجموعًا من الأشياء المنفصلة.

التحول من الفلسفة إلى التاريخ

في حين ظل هيغل متمسكًا ببُعد أنطولوجي ميتافيزيقي، يؤمن بأن العالم يتجلى من خلال "الفكرة" التي تسعى لتحقيق ذاتها في التاريخ، فإن ماركس انطلق من الواقع الحسي المادي، وجعل التاريخ ساحةً لصراعات القوى الاجتماعية والاقتصادية. وقد تمثلت هذه النقلة في أطروحته الشهيرة في "الأطروحات عن فويرباخ"، حين قال: "إن الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم هو تغييره".

بهذه المقولة، وضع ماركس الأساس لفهم جديد للفلسفة بوصفها فعلًا تاريخيًا، لا تأملًا نظريًا. فالمادية الجدلية عنده لم تعد تقتصر على فهم الواقع، بل تسعى إلى تغييره عبر الانخراط في التناقضات الاجتماعية. ومن هنا نشأ المفهوم الماركسي للتاريخ بوصفه تاريخًا للصراع الطبقي، حيث أن كل تقدم تاريخي هو نتيجة لتناقضات القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وهي تناقضات تنشأ في البنية التحتية للمجتمع، وتؤدي إلى تحولات كبرى في البنية الفوقية (أي في الفكر والثقافة والسياسة والدين).

النقد الماركسي للمثالية الهيغلية

لم يكن نقد ماركس لهيغل مجرد نقد منهجي أو معرفي، بل كان نقدًا أيديولوجيًا أيضًا. فقد رأى ماركس أن المثالية الهيغلية، رغم أنها طرحت حركة التاريخ بوصفه صيرورة عقلية، إلا أنها أفرغت الواقع من مضمونه الحسي والاجتماعي، وجعلت من الدولة (خصوصًا عند هيغل) تمثيلًا للعقل الكلي، الأمر الذي برر بنية الدولة البروسية الاستبدادية. ومن ثم، فإن المادية الجدلية في صورتها الماركسية جاءت كتحدٍ جذري لهذا التبرير المثالي للسلطة، بإظهار أن الدولة ليست تجليًا للفكرة، بل أداة لحماية مصالح الطبقات المهيمنة.

وفي نقده لمكانة الفرد في فلسفة هيغل، رفض ماركس تصور الذات بوصفها روحًا مطلقة تنمو عبر جدليتها الداخلية، واعتبر أن الإنسان كائن اجتماعي مشروط بعلاقاته المادية. فالفرد، في نظر ماركس، لا يوجد خارج شروطه الاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن فهمه إلا في سياق بنيته الطبقية وتاريخ نضاله.

خاتمة: المادية الجدلية كأفق للتفكير الثوري

تُمثّل المادية الجدلية إحدى أعظم محاولات الفكر الحديث للربط بين الفلسفة والتاريخ، بين الفكر والممارسة، بين الوعي والواقع. وإذا كانت جدلية هيغل قد فتحت الباب أمام فهم ديناميكي للعالم، فإن ماركس أعاد لهذه الجدلية واقعيتها الثورية. لقد قدّم ماركس من خلال المادية الجدلية أداة لتحليل المجتمعات وتحويلها، وهي لا تزال، حتى اليوم، تُلهِم المفكرين والناشطين الذين يسعون لفهم جذور الاضطهاد والهيمنة داخل بنى العالم الرأسمالي المعاصر.

ولعل القيمة الجوهرية لهذا التحول من المثالية إلى المادية، تكمن في وضع الإنسان، لا كفرد منعزل، بل ككائن اجتماعي تاريخي، في قلب الفلسفة. فالمادية الجدلية لا ترى في العالم سوى حركة لا تنفك عن التناقض والتغير، ولا في التاريخ سوى ساحة صراع تُملي علينا ضرورة الفعل النقدي، لا التأمل السلبي.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا
- نيتشه و مابعد الحداثة: من موت الإله إلى تشظي المعنى
- العلمانية والإسلاموفوبيا: جدلية التنوير والإقصاء
- الذكاء الاصطناعي في مواجهة تغير المناخ: أمل تقني في معركة مص ...
- عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام
- مستقبل القواعد العسكرية الأجنبية في الوطن العربي في ظل التحو ...
- الحرية بين العقل والإيمان: قراءة مقارنة في الفلسفة الإسلامية ...


المزيد.....




- ترامب يتحدث عن إمكانية تخفيف الرسوم الجمركية على الصين.. هذا ...
- مالطا تقترح إصلاح سفينة من -أسطول الحرية- استُهدفت بمسيرات ف ...
- هذه كانت وصية البابا الأخيرة.. تحويل سيارته إلى عيادة متنقلة ...
- مصدران لـCNN: إسرائيل تصادق على خطة موسعة لاحتلال أراضي غزة ...
- زيلينسكي: بعض السياسيين الأوروبيين يسعون للحصول على مقعد أفض ...
- مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي يوافق على توسيع الهجوم في غزة ...
- الهباش: عباس يعتزم مناقشة الوضع في غزة والعلاقات الثنائية مع ...
- إنجاز روسي جديد.. أول قمرة قيادة بدون نوافذ للطائرات فوق الص ...
- الأمن الروسي يلقي القبض على مواطن تلقى تعليمات أوكرانية لتنف ...
- إسبانيا تعبر عن قلقها إزاء الأوضاع في سوريا وتدعو إسرائيل إل ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الواقعية التاريخية