بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 12:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم تكن العلاقات المصرية التركية خلال العقد الأخير سوى انعكاس حيّ لتشابك المصالح وتعارض الرؤى، في مشهد معقد جمع بين لحظات التوتر القصوى، وأوقات التنسيق الهادئ. إذ شهدت المنطقة لحظة تصعيد بالغة الحدة عندما أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في يوليو 2020، عن “الخط الأحمر” في ليبيا، محددًا مدينة سرت والجفرة كحدود أمن قومي لا يُسمح بتجاوزها. كان ذلك تصريحًا غير مسبوق في صراحته وحدّته، وموجهًا ضمنًا نحو أنقرة التي كانت آنذاك تمارس نفوذًا متزايدًا على الأرض الليبية، في سياق دعمها لحكومة الوفاق.
في المقابل، كانت تركيا تحتضن رموز جماعة الإخوان المسلمين، التي اعتبرتها الدولة المصرية تهديدًا مباشرًا لاستقرارها، خاصة بعد ثورة الثلاثين من يونيو التي أطاحت بالحكم الإخواني، والتي اعتبرها المصريون تصحيحًا لمسار ثورة يناير، وترسيخًا للدولة الوطنية الحديثة.
ومع هذا التوتر السياسي الحاد، ظلّت العلاقات الاقتصادية بين البلدين على حالها، بل نمت في بعض الفترات، وهو ما يكشف عن طبيعة العلاقة بين قوتين إقليميتين تتداخل مصالحهما في ملفات عدة، من شرق المتوسط إلى أفريقيا، ومن أمن الطاقة إلى توازنات الإقليم.
وقد كنتُ ممن أكدوا، في ذروة القطيعة، أن هذه الحالة لن تستمر. لم يكن ذلك رجمًا بالغيب، بل قراءة موضوعية لثوابت الجغرافيا ومصالح الدول، ولمسار تاريخي طويل من التفاعلات بين مصر وتركيا. فالدول، بخلاف الأفراد، لا تؤسس مواقفها على العواطف بل على حسابات دقيقة للمصالح والاستقرار والتوازن، وهو ما جعلني أتمسك دائمًا برؤية مفادها أن التلاقي بين البلدين حتمي، مهما بلغت حدة الخلاف.
لقد تبدلت الأمور كما كنا نتوقع، وشرعت تركيا في مراجعة موقفها من جماعة الإخوان، لتغلق المنصات الإعلامية التي طالما كانت تبث خطابًا معاديًا للدولة المصرية، وتبدأ فصلاً جديدًا من الانفتاح السياسي تم تتويجه بتبادل الزيارات الرئاسية، بداية من زيارة الرئيس السيسي إلى الدوحة ثم أنقرة، وصولاً إلى زيارة أردوغان التاريخية إلى القاهرة، والتي أكدت عودة العلاقات إلى أعلى مستوياتها.
أما ما لم يكن يتوقعه كثيرون، بل ربما عدّه البعض من ضروب الخيال، فهو ما نشهده اليوم من تدريبات عسكرية مشتركة بين القوات المصرية والتركية. فهذا التطور لا يعكس فقط تحسنًا في العلاقات، بل يشير إلى تحوّل استراتيجي في مقاربة الدولتين لملفات الأمن الإقليمي، وتقاطعهما في رؤية جديدة للتوازنات في المنطقة.
لقد انتصرت البراغماتية السياسية، كما ينبغي لها أن تفعل، في منطقة مثقلة بالتعقيدات والتحولات، وثبت مرة أخرى أن المصالح المشتركة – حين تُدار بحكمة – قادرة على تجاوز الخلافات الأيديولوجية والاصطفافات العابرة.
وهكذا، من خط أحمر في عمق الصحراء الليبية، إلى تدريبات عسكرية في مياه المتوسط، تمضي مصر وتركيا نحو مرحلة جديدة، لا تلغي الخلافات، لكنها تؤكد على حتمية إدارتها بعقل الدولة، وبفهم عميق لضرورات التاريخ والجغرافيا والسياسة.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟