|
لم أشعر يومًا بخوف على مستقبل الولايات المتحدة كما أشعر الآن
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8331 - 2025 / 5 / 3 - 13:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
العنوان أعلاه لمقال للكاتب والصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، المقرَّب من الرئيس السابق جو بايدن، نشرته «نيويورك تايمز»، ترجمة صحيفة «الاتحاد» الفلسطينية. في هذا المقال، الذي قد نتفق معه أو نختلف، يقول فريدمان: تجري في عهد إدارة ترامب أحداث يومية حافلة بالفوضى، حتى أن وقائع غريبة للغاية ومليئة بالدلالات تضيع وسط الضجيج الإعلامي المتواصل. ويذكر أن من بين هذه الأحداث مشهد وقع في الثامن من أبريل 2025 في البيت الأبيض، حينما اختار الرئيس الأمريكي، وسط احتدام حربه التجارية، أن يوقّع على أمر تنفيذي لدعم قطاع التعدين.
قال الرئيس ترامب، محاطًا بمجموعة من عمال المناجم المعتمرين للخوذ الواقية، وهو قطاع تراجع عدده من نحو 70 ألف عامل قبل عقد إلى 40 ألف فقط، بحسب وكالة رويترز: «نحن نعيد للحياة قطاعًا تم التخلي عنه». وأضاف مؤكدًا: «سنعيد العمال إلى المناجم». وللمبالغة في الإطراء، أضاف ترامب: «بإمكانك أن تهدي هؤلاء العمال شقة فاخرة في الجادة الخامسة ووظيفة مختلفة تمامًا، ومع ذلك سيشعرون بالتعاسة. إنهم يريدون استخراج الفحم، هذا ما يحبون فعله».
وتعليقًا على ذلك، يذكر الكاتب: من الجدير بالتقدير أن يثمّن الرئيس جهود الرجال والنساء الذين يعملون بأيديهم. لكن حين يخصّ عمال مناجم الفحم بالمديح، بينما يسعى في الوقت ذاته إلى تقليص تمويل التكنولوجيا النظيفة في ميزانيته - علمًا بأن قطاع طاقة الرياح في الولايات المتحدة وفّر في عام 2023 وظائف لحوالي 130,000 شخص، في حين بلغ عدد العاطلين في قطاع الطاقة الشمسية 280,000-، فإن ذلك مؤشرًا إلى أن ترامب أسير أيديولوجية «استيقاظية» يمينية متطرفة لا تعترف بوظائف الصناعة الخضراء كوظائف «حقيقية»، كيف لهذا النهج أن يقوّي بلادنا؟
إن إدارة ترامب الثانية ليست سوى مهزلة قاسية، فالرجل لم يترشح لولاية ثانية لأنه يملك تصورًا لماهية النهضة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، لقد فعل ذلك هربًا من السجن، وسعيًا للانتقال ممن حاولوا محاسبته قانونيًا استنادًا إلى أدلة دامغة، ولا أظن أنه أمضى خمس دقائق من حياته في تأمل ملامح قوى العمل في المستقبل.
عاد بعد ذلك إلى البيت الأبيض وهو لا يزال في رأسه أفكارًا تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وهناك، أطلق حربًا تجاريةً بلا حلفاء، ودون إعداد جاد - ولهذا السبب تتغير الرسوم التي يفرضها تقريبًا كل يوم - ودون أن يفهم مدى التعقيد الذي أصبح عليه الاقتصاد العالمي، كمنظومة بيئية متشابكة تُجمّع فيها المنتجات من مكوّنات مصدرها دول متعددة. ثم أوكل إدارة هذه الحرب إلى وزير تجارة يتوهّم أن ملايين الأمريكيين يطمحون لاستبدال العمال الصينيين الذين «يركّبون مسامير صغيرة لصناعة هواتف الآيفون».
لكن هذه المهزلة توشك أن تمسّ كل مواطن أمريكي. فحين يهاجم ترامب أقرب حلفاء أمريكا - كندا، اليابان، كوريا الجنوبية، الاتحاد الأوروبي - في الوقت ذاته يهاجم فيه خصمنا الأكبر، الصين، ويُظهر في المقابل تفضيله لروسيا على أوكرانيا، ويدعم صناعات الطاقة المدمُرة للمناخ على حساب الصناعات المستقبلية، وكأن مصير الكوكب لا يعنيه، فإنه بذلك يزعزع ثقة العالم بأكمله بالولايات المتحدة.
العالم يرى الآن أمريكا ترامب على حقيقتها الآخذة في التشكّل: دولة مارقة يقودها رجل منفصل عن حكم القانون ومبادئ الدستور الأمريكي وقيمه الراسخة.
هذا ما استنتجه فريدمان، ولكن السؤال الأهم الذي يطرحه هنا هو: أتدري ماذا تفعل ديمقراطيات العالم بالحكومات المارقة؟ الجواب، برأيه، يكمن في ربط بين هذه النقاط.
أولاً، تتراجع عن شراء سندات الخزانة الأمريكية كما كانت تفعل في السابق. وبالتالي، تضطر الولايات المتحدة إلى رفع أسعار الفائدة على هذه السندات لجذب المشترين، ما يؤدي إلى تداعيات واسعة على الاقتصاد الأمريكي بأكمله، من أقساط السيارات إلى قروض الرهن العقاري، وحتى تكلفة خدمة الدين القومي، على حساب كل بند آخر في الموازنة.
تساءلت صحيفة وول ستريت جورنال: هل هناك مخاطر جديدة على أمريكا؟ هل يتسبب تذبذب قرارات ترامب وضرائب الحدود في إحجام المستثمرين العالميين عن الدولار وسندات الخزانة الأمريكية؟ في تقديره، ربما من المبكر إصدار حكم قاطع، لكنه ليس من المبكر طرح السؤال، لا سيما في ظل ارتفاع العوائد على السندات وتراجع قيمة الدولار، وهما علامتان كلاسيكيتان على تآكل الثقة، وهي خسارة لا يلزم أن تكون ضخمة كي تخلخل الاقتصاد بأكمله.
الأمر الثاني الذي يحدث هو أن حلفاءنا يفقدون ثقتهم في بمؤسساتنا. أفادت صحيفة فايننشال تايمز أن المفوضية الأوروبية بدأت توزيع على بعض موظفيها المسافرين إلى الولايات المتحدة هواتف مؤقتة وحواسيب محمولة أساسية، لتقلل من خطر التجسس، وهي إجراءات كانت حتى وقت قريب مقتصرة على البعثات المتوجهة إلى الصين. المفوضية لم تعد تثق بسيادة القانون في الولايات المتحدة.
أما ثالث الأمور، فهو أن الناس في الخارج باتوا يخبرون أنفسهم وأبناءهم: «ربما لم يعد من الحكمة بعد الآن الدراسة في أمريكا». والسبب إنهم لا يعلمون متى قد يُعتقل أبناؤهم تعسفًا، أو متى قد تُرحل أسرهم إلى سجون السلفادور.
هل هذا المسار لا رجعة فيه؟ يجيب: لا أدري، لكن ما أعلمه بيقين هو أن هناك، في مكان ما على هذا الكوكب، شخصًا يشبه والد ستيف جونز البيولوجي، المولود في سوريا، الذي جاء إلى شواطئنا في خمسينيات القرن الماضي لينال شهادة الدكتوراه من جامعة ويسكونسن- شخصًا كان يخطط للدراسة في أمريكا، لكنه بدأ الآن يفكر في كندا أو أوروبا بديلاً.
إذا فقدت أمريكا قدرتها على جذب المهاجرين الأكثر حيوية وابتكارًا في العالم، وهي القدرة التي جعلت منها مركزًا عالميًا للإبداع والتجديد، وإذا تراجعت قدرتها على استقطاب الحصة الأكبر من مدخرات العالم، وهي التي سمحت لها أن تعيش لعقود فوق إمكاناتها، وإذا فقدت سمعتها كدولة تلتزم بسيادة القانون، فإن النتيجة الحتمية على المدى البعيد هي أمريكا أكثر فقرًا، أقل احترامًا، وأشد عزلةً، هذا ما توصل إليه، أو بالأحرى هذا ما يحدث الآن.ربما تقول: «أليست الصين أيضًا لا تزال تعتمد على الفحم؟» نعم، صحيح. لكنها تفعل ذلك ضمن خطة بعيدة المدى للتخلص منه تدريجيًا، مع توظيف الروبوتات في أداء الأعمال الشاقة والضارة بالصحة، بدلاً من تعريض حياة الناس للخطر.
وهنا يكمن جوهر المسألة. ففي حين ينهك ترامب في «نسج خيوطه» المتخبطة - منخرطًا في هذيانات لحظية عّما يراه سياسة جيدة -، تنسج الصين بصبر وثبات، خططًا استراتيجية بعيدة المدى.
في عام 2015، قبل أن يتولى ترامب الرئاسة بعام، كشف رئيس الوزراء الصيني آنذاك، لي كه تشيانغ، عن خطة نمو طموحة واستشرافية بعنوان «صُنع في الصين 2025». وقد بدأت هذه الخطة بطرح سؤال جوهري: ما الذي سيكون محرك النمو في القرن الحادي والعشرين؟ ومن هنا شرعت بكين في ضخ استثمارات ضخمة في مكوّنات هذا المحرك، حتى تتمكّن الشركات الصينية من الهيمنة عليها، محليًا وعالميًا. الحديث يدور هنا عن الطاقة النظيفة. البطاريات، المركبات الكهربائية والذائبة القيادة، الروبوتات، المواد المتقدمة، أدوات التصنيع، الطائرات المسيّرة، الحوسبة، والذكاء الاصطناعي.
ووفقًا لمؤشر Nature البحثي الأخير، فقد أصبحت الصين «الدولة الرائدة عالميًا من حيث ناتج البحث العلمي في مجالات الكيمياء، وعلوم الأرض والبيئة، والعلوم الفيزيائية، وتحتل المرتبة الثانية في علوم الأحياء والعلوم الصحية».
وهنا يتساءل فريدمان: هل يعني ذلك أن الصين ستتجاوزنا وتتركنا خلفها في غبار السباق؟ ليس بالضرورة. فبكين، على حد قوله، ترتكب خطأً جسيمًا إذا اعتقدت أن بقية دول العالم ستقبل بأن تواصل كبح الطلب الداخلي على السلع والخدمات، كي تتيح لحكومتها الاستمرار في دعم الصناعات التصديرية ومحاولة تصنيع كل شيء للجميع- مما يترك اقتصادات الدول الأخرى خاوية ومعتمدة عليها. على الصين ان تعيد التوازن إلى اقتصادها، وفي هذه النقطة يرى أن ضغط ترامب في هذا الاتجاه ليس بغير حق.
لكن التهديدات الجوفاء التي يطلقها ترامب، وتقلّباته العشوائية في فرض الرسوم الجمركية ورفعها، لا تشكل بأي حال «استراتيجية»، خاصة عندما تقرر مجابهة الصين بعد مرور عقد من الزمن على انطلاق مشروع «صنع في الصين 2025». وإذا كان وزير الخزانة سكوت بيسنت يعتقد حقًا - كما صرح بتهوّر - أن بكين لا تملك سوى «زوج من الورقات الضعيفة». الصين نجحت في بناء محرّك اقتصادي متين يمنحها بدائل وخيارات.
ثمة تساؤلات أخرى يطرحها أمام بكين - كما أمام بقية العالم -، وهي: كيف ستستخدم الصين كل الفوائض التي راكمتها؟ هل ستستثمرها في بناء جيش أكثر تهديدًا وخطورة، أم ستنفقها على مدّ خطوط سكك حديدية فائقة السرعة وطرقات سريعة نحو مدن لا تحتاجها، أم ستوجّهها نحو تحفيز الاستهلاك والخدمات داخل البلاد، وفي الوقت ذاته تعرض بناء الجيل المقبل من المصانع وسلاسل التوريد الصينية في أمريكا وأوروبا، ضمن شراكات تملّك متساوية بنسبة 50-50؟ علينا أن نشجع الصين على اتخاذ القرارات الصائبة، لكن على الأقل، توجد للصين بدائل.
قارن ذلك بالخيارات التي يتخذها ترامب. إنه يقوّض مبدأ سيادة القانون الذي يعبر عن ركائز قداسة النظام الأمريكي، يهدر رصيد التحالفات التي بُنيت عبر عقود، يضعف قيمة الدولار، ويمزّق آخر ما تبقّى من أمل في وحدة وطنية. بل وصل به الأمر إلى حد مقاطعة الكنديين لاس فيغاس، لأنهم لا يحبّذًون أن يقال لهم: «قريبًا سنملككم».
خلاصة ما توصل إليه فريدمان: إذا لم يتوقّف ترامب عن هذا السلوك الخارج عن كل قواعد الدولة، فسوف يُدمر كل ما جعل أمريكا دولة قوية، محترمة، مزدهرة. وهو ما جعله أن يقول: «لم أشعر في حياتي قطّ بقلق على مستقبل أمريكا كما أشعر الآن».
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن معرض «إعادة تدوير الأشياء»
-
آباي كونانباييف.. علامة مشرقة في تاريخ كازاخستان
-
عصر الأنوار
-
تهجير العرب من فلسطين فكرة صهيونية قديمة
-
الهوية وحرّية الفكر والعمل
-
اقتصاد أوكرانيا: بين خسائر الحرب والنهب
-
الناتو وزيادة الإنفاق الدفاعي
-
فاطمة حدّاد الشامخ.. أبرز القامات التونسية في مجال الفلسفة
-
حلف الناتو.. هل يتفكك؟
-
عبدالعظيم أنيس.. المفكر والأديب
-
فهل يحق لي أن أشتكي من انعدام التحرر؟
-
العرب والدولة الحديثة والديمقراطية
-
نعوم تشومسكي
-
لماذا الأزمة البيئية كونية؟
-
حديث عن الصحافة الثقافية
-
الدكتور عادل العوا.. قامة فلسفية وفكرية
-
العرب وأسئلة الهوية
-
أمريكا: حدود الممكن إلى الانبعاث
-
أكاديمي صيني: بريكس لا ينبغي أن تكون منظمة مواجهة.. بل خيارً
...
-
المؤرخ والأديب أحمد أمين.. من رواد التنوير الإسلامي
المزيد.....
-
آيا صوفيا في تركيا.. إليك أسرار التحفة المعمارية التي صمدت 1
...
-
إسرائيل توقف الرحلات الجوية في مطارها الرئيسي بعد سقوط صاروخ
...
-
بوتين: روسيا لم تكن بحاجة قط لاستخدام الأسلحة النووية وآمل ب
...
-
البرلمان السلوفاكي يحذر من اندلاع حرب عالمية إذا تدخل الناتو
...
-
غانتس يدعو لرد فعل عنيف في طهران إثر سقوط صاروخ يمني بتل أبي
...
-
السودان: قوات الدعم السريع تشن هجوماً بالمسيّرات على مطار بو
...
-
فيديو – مجموعة من الثعالب الصغيرة تقتحم مركز شرطة في دبلن
-
إسرائيل تستدعي آلاف جنود الاحتياط استعدادا لتوسيع هجومها في
...
-
وزير الداخلية الألماني المرتقب يعتزم تشديد الرقابة على الحدو
...
-
الهند تجدد اتهام باكستان بخرق وقف إطلاق النار
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|