|
حينما يصبح الشعر نشيدا للإنسان، ونشدانا للحرية والانعتاق
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 8331 - 2025 / 5 / 3 - 08:53
المحور:
الادب والفن
عندما سنقرأ هذه النصوص العشرين المتراصة في منظومة شعرية سردية متشابكة، سنكون، نحن قراؤها، بالتحديد في "مدينة الصحون الطائرة"، حيث البشر المقهورين والعبث المر وانحلال القيم، وسيطرة الظلام. ولكن، بأسلوبه الشعري الذي بات مألوفا لدينا، وبإصراره على تلك المعادلة الكيميائية الصعبة في المزج بين المعاش اليومي والروح الكونية الحية، يقدم لنا الشاعر العراقي حسين علي يونس متواليته الشعرية الجريئة بعنوان “حمزة الزغير والصحون الطائرة”، والتي شكلت في واقعها قصيدة نثرية طويلة واحدة موزعة على عشرين نشيدا، تتفاوت في أطوالها وعناوينها الجانبية واهداءاتها واقتباساتها. عندما سننتقل من العنوان إلى متن الأناشيد العشرين، سنعرف على الفور ان “حمزة” المذكور باسمه ما هو إلا الرادود الحسيني الشهير “حمزة الزغير”، الذي لا يوجد عراقي على وجه الأرض إلا وقد استمع إلى قصة مقتل الإمام الحسين بصوته الحزين الباكي في تسجيل شهير يستمر لست ساعات متواصلة مليئة بالبكاء والعويل واللطم. لقد خلق لنا صاحب الأناشيد قصيدة مركبة مبنية بطريقة طباقية، بحيث تتداخل طبقات مختلفة من الزمن، الصوت، والذاكرة، والتاريخ، باستخدام تقنية “المونولوج الداخلي” لاستحضار صوت حمزة الزغير، أو أصوات شخصيات من واقعة الطف في كربلاء، مع مزجها برؤية الشاعر الشخصية. كل ذلك عبر لغة شعرية معاصرة، مع الحفاظ على نغمة حزينة وقوية تليق بالموضوع، تجمع بين المجاز العميق والبساطة الرمزية. ولكن، لماذا أسمى الشاعر أناشيده هذه بالمتوالية الشعرية؟ في الحقيقة، إن المتوالية الشعرية (Poetic Sequence) هي قالب شعري يتكون من مجموعة قصائد مترابطة بموضوع أو فكرة أو حكاية، وتُقدم كعمل متكامل عند قراءته أو التعامل معه نقديا. ولعل من أقرب الأمثلة على ذلك هي سونيتات شكسبير، أو أنشودات شكسبير، في ترجمة موازية، وتتكون من 154 قصيدة، وتُعتبر واحدة من أشهر المتواليات الشعرية في الأدب الإنگليزي. كذلك لدينا متوالية الشاعر ألفريد لورد تنيسون المكونة من 133 نشيدا (cantos) كتبها تنيسون حدادًا على صديقه آرثر هالام. أما في الأدب الفرنسي فنذكر "أزهار الشر"، تلك القصائد التي كتبها بودلير عام 1857، وتُعتبر متوالية شعرية لأن القصائد مترابطة بموضوعات الجمال، الخطيئة، الحب، والموت. كذلك لابد من ذكر "إشراقات" وهي مجموعة قصائد نثرية كتبها آرثر رامبو، وتُعتبر متوالية شعرية لأنها تتمحور حول رؤى رمزية وصور شعرية مترابطة حول الحياة والفن والتمرد والموت. واذا ما لاحظنا بشكل عام، لوجدنا أن المتوالية الشعرية في الأدب الإنگليزي غالبًا ما ترتبط بالسونيتات أو القصائد الغنائية، بينما في الأدب الفرنسي، قد تأخذ شكل قصائد نثرية أو قصائد حرة كما في أعمال بودلير ورامبو. وفي حالتنا الماثلة أمامنا اليوم، يمكن القول إن الشاعر حسين علي يونس قد انتهج الخط الفرنسي وهو يقدم لنا متواليته الشعرية "حمزة الزغير والصحون الطائرة". وبما أن حمزة الزغير كان معروفًا بصوته الموسيقي وإلقائه المؤثر، فقد احتوت القصيدة على إيقاع داخلي يعكس هذا الشجن. قد يتحقق ذلك باستخدام تكنيك التكرار، والتوازي، أو الجُمل الشعرية المتوالدة التي تخلق إحساسًا بالحداد المستمر. تمثل هذه المتوالية الشعرية التي أقدمها لكم اليوم، انعكاساً فنياً وتعبيرياً عن التوتر بين التراث والحداثة، حيث يستلهم الشاعر شخصية تراثية لتواجه شخصية عصرية في إطار مدينة خيالية تحمل أبعاداً رمزية وثقافية. القصيدة تتميز بأنها تجمع بين الكوميديا السوداء والنقد الاجتماعي، الأمر الذي يجعلها نصاً متعدد المستويات يحفز القارئ على التأمل في عمق القضايا التي تطرحها. تصور القصائد مدينة خيالية تقوم على فكرة الطموح التكنولوجي، حيث تحتضن مصنعاً لإنتاج الصحون أو الأطباق الطائرة، وهو رمز للابتكار والتطلع نحو المستقبل. لكن سرعان ما تنقلب الصورة مع تحول المصنع إلى منشأة لإنتاج الروث الحيواني، في انعكاس ساخر يعبر عن خيبة الأمل في المشاريع التقدمية التي تتهاوى تحت وطأة الفساد أو فقدان الهدف. يجد بطل القصيدة نفسه في مواجهة هذا التحول الكارثي، فيلجأ إلى صديقه طالباً النصيحة. وهنا تتجلى المفارقة الأكبر في النص؛ إذ ينصحه الصديق ذو المسبحة الحسينية بالعودة إلى التراث ممثلاً في أناشيد ومراثي الشيخ حمزة الزغير، القارئ الشهير لمقتل الإمام الحسين، وفي الوقت نفسه يحثه على حمل كتاب “ما العمل؟” لفلاديمير ايليتش لينين، أحد رموز الفكر الثوري الاشتراكي في العصر الحديث. وواضح لنا هنا ان اختيار الشاعر لشخصية الرادود حمزة الزغير وفلاديمير لينين ليس عشوائياً، بل يحمل دلالات رمزية دقيقة. فالشيخ حمزة، الذي اشتهر بأسلوبه البكائي في قراءة مقتل الإمام الحسين، يمثل التراث الروحي الذي يحاول أن يمنح الإنسان المعاصر إحساساً بالهوية والانتماء من خلال استحضار الماضي ومآسيه. أما لينين، فهو رمز للفكر التقدمي الذي يسعى إلى إيجاد حلول عملية للصراعات الطبقية والاجتماعية. كتابه المعروف "ما العمل؟" يقدم رؤية للعمل السياسي والتنظيمي من أجل بناء مستقبل أكثر عدلاً، وهو ما يجعل وجوده في النص إشارة إلى الحاجة إلى الخروج من حالة الركود والعودة إلى الفعل. يتلاعب الشاعر بهذه التناقضات بأسلوب ساخر، حيث يقدم المدينة والشخصيات كرموز لمأساة الإنسان في العصر الحديث. فالمصنع الذي يبدأ بوعد تكنولوجي وينتهي بإنتاج الروث يعكس فشل الإنسان في تحقيق التوازن بين التقدم المادي والقيم الأخلاقية. أما النصيحة التي يقدمها الصديق في القصيدة فتجسد عبثية الموقف الذي يجد فيه البطل نفسه، حيث يضطر إلى الاختيار بين الاستغراق في البكاء على الماضي أو البحث عن حلول جذرية عبر ثورة فكرية. وُلد حمزة الزغير في مدينة كربلاء عام 1921، واسمه الحقيقي هو حمزة هادي، ولكنه اشتهر بلقب “الزغير” (الصغير) بسبب قصر قامته مقارنةً بغيره من الرواديد. وهو أحد أبرز الرواديد الحسينيين العراقيين الذين برزوا في القرن العشرين، وقد ترك بصمة لا تُمحى في الذاكرة الثقافية والشعائرية للطقوس الحسينية في العراق. جاء في أحد أناشيد هذه المتوالية الشعرية: (يقول المعلم حمزة معترضا ومن ثم وازنا نظرته التي كانت تشبه نظرة عصفور كئيب تعيد ترميم العالم الذي كان يغرق وليس من الممكن لملمة ذكراه -كل شيء سيصبح ماضيا، يقول المعلم حمزة - كلما اهتز وجود الانسان على الارض يرى نفسه غريبا ومنعزلا ووحيدا). تميز حمزة الزغير بصوته القوي والمؤثر وأسلوبه الفريد في الأداء النحيبي الذي يجمع بين العاطفة العميقة والأسلوب المأساوي الملحمي، وهو ما جعله أحد أعمدة الشعائر الحسينية في العراق. كان أسلوبه يعتمد على إيصال ما يردده بأقصى درجات التأثير العاطفي من خلال الجمع بين الإلقاء الجميل والنغم الحزين الشجي، ما جعله قريبًا جدًا من قلوب المستمعين إليه. لكنه رغم مسيرته الغنية في المراثي الحسينية عموما، إلا انه لم يذع صيته ولم تطبق شهرته الآفاق سوى عندما تبنت الاذاعة العراقية الرسمية آنذاك أبرز أعماله التي اشتهر بها ألا وهو تسجيله الصوتي لقصة مقتل الإمام الحسين بن علي في واقعة الطفّ بكربلاء، بحسب رواية “أبي مخنف” كنا أوردها الطبري في كتابة تاريخ الرسل والملوك، والتي تُعدّ من أكثر الأعمال تأثيرًا وانتشارًا في التراث الحسيني. يستمر هذا التسجيل لمدة ست ساعات تقريبًا وبدون توقف مع حضور الجمهور الذي يتفاعل معه بشكل يفوق التصور المعتاد، ويُعتبر مرجعًا شعبيًا وروحيًا للكثير من الشيعة في العراق والعالم الإسلامي الذين يعتمدون عليه لإحياء ذكرى واقعة عاشوراء. في هذا التسجيل، استخدم حمزة الزغير أسلوبًا سرديًا يُدمج بين الحزن والشجن العاطفي، حيث يروي تفاصيل المأساة بأسلوب درامي مؤثر. يتنقل بين مراحل المأساة المختلفة من وداع الإمام الحسين لأهله وأصحابه، مرورًا بمشاهد استشهاد أصحابه وأهل بيته، وصولًا إلى اللحظة المأساوية لاستشهاده. وقد أضفى صوته ونبراته أبعادًا روحية عالية على النصوص التي كان يؤديها، مما جعل هذا التسجيل محفورًا في ذاكرة المستمعين عبر الأجيال. كان حمزة الزغير من الشخصيات الرائدة التي ساهمت في إرساء قواعد الطقوس الحسينية وتطويرها من خلال المزج بين العناصر التقليدية والأساليب الأدائية الحديثة. فكان يوظف الشعر الشعبي العراقي بمهارة ليخلق تفاعلًا مباشرًا مع جمهور المستمعين، مما ساعد على إيصال معاني التضحية والفداء التي تمثلها واقعة كربلاء. ورغم وفاته عام 1977، لا يزال حمزة الزغير حاضرًا في الوجدان الشعبي العراقي من خلال تسجيلاته وأدائه الذي استمر في إلهام الرواديد اللاحقين. أعماله تُعدّ رمزًا ثقافيًا وشعائريًا يعكس التزام الشعب العراقي بإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي وما تمثله من قيم إنسانية وروحية. يقول الشاعر حسين علي يونس في أحد أناشيد الصحون الطائرة: (خرجت من البناية التي كانت تقصف بقوة ووجدت مركبة كبيرة فتحت بابها ودخلت إلى قلب الوحش الحديدي وهناك وجدت معارفي كلهم اولئك الذين ورد ذكرهم في الأناشيد ومن الذين لم يرد ذكرهم. كانوا يريدون أن يغيروا حياتهم، هجروا عوالمهم الثقيلة واستعانوا بالحدايد التي تدعى الصحون الطائرة. في داخل الوحش وجدت القلقين كلهم: رضا علي، عبد الصاحب شراد، يوسف شاتي، ملاح حمود الباذر، سامي نسيم، كريم حنش، خالد المعالي، نصيف الناصري، كريم راهي، يوخنا دانيال، عبد الزهرة شذر، امير ناصر، محمد ثامر، نبيل شوفان، انور بن حسين، علي بن نخي، معتز رشدي.. يقودهم المعلم حمزة ومساعدوه: ياسين الرميثي وعبد الزهرة الكعبي، إلى سماوات مختلفة وبعيدة. لقد كتب عليهم أن يطيروا في الزمن).
* هذا المقال بمناسبة انتهاء الشاعر العراقي حسين علي يونس من نشر متواليته الشعرية بحلقاتها العشرين بعنوان (حمزة الزغير والصحون الطائرة) على موقع مجلة كناية الرقمية الثقافية المستقلة، وكنا قد احتفينا بصدور النشيد الأول منها، وها نحن ذا نحتفي بصدور أخيرها، منوهين بالتجربة كلها كنص شعري متكامل أنموذجا (لما كتبنا ونظرنا له عبر مقالات وبيان) لقصيدة ما بعد النثر والتفعيلة.
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هوروسكوب
-
أميلكار، هانيبال وقرطاج، في رواية تونسية جديدة..
-
أوسكار وايلد وصادق هدايت في مسلسل عربي
-
رعد عبد القادر باللغة السويدية: الصقر مع الشمس بأجنحة الشعر
...
-
نحو سرد موجز، نحو رواية ليست طويلة..
-
نظرة ما إلى قواعد اللعبة: من المحيط إلى المركز
-
ترابكَ
-
لا ترمني بوردة
-
نحو رواية قصيرة
-
تحديات جديدة أمام المسرحيين في عالم اليوم: نحو علاقة حيوية م
...
-
تمر الشمس في برج الحمل
-
عناصر السيميولوجيا أخيرا
-
رباعيات العواطف: عندما يكون الشعر منتظماً وحُراً في آنٍ
-
أساطير الأم بين عشتار وآتروبوس
-
من النَّظْم إلى المعنى: مشروع رؤية جديدة للبلاغة تصل الأصالة
...
-
قل لا حتى ولو كنت على نعم
-
قصيدة و رباعية عن الولادة والرحيل
-
سين أقرب من سوف
-
قبر إدغار ألان- پو
-
الأسود: وَيَا حزنْ كمْ ليلكْ طويلْ..
المزيد.....
-
المعمار الصحراوي.. هوية بصرية تروي ذاكرة المغرب العميق
-
خطه بالمعتقل.. أسير فلسطيني محرر يشهر -مصحف الحفاظ- بمعرض إس
...
-
موعد نزال حمزة شيماييف ضد دو بليسيس في فنون القتال المختلطة
...
-
من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله
...
-
مثقفون مغاربة يطلقون صرخة تضامن ضد تجويع غزة وتهجير أهاليها
...
-
مركز جينوفيت يحتفل بتخريج دورة اللغة العبرية – المصطلحات الط
...
-
-وقائع سنوات الجمر- الذي وثّق كفاح الجزائريين من أجل الحرية
...
-
مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
-
سرديّة كريمة فنان
-
-وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله
...
المزيد.....
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|