خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8317 - 2025 / 4 / 19 - 07:56
المحور:
الادب والفن
هكذا كانت نظرة وانطباع الحكيمين عن المدينة والمتنزه في لقائهما الثاني ، الذي
تركت طبيعة المدينة ومجراها الرئيسي أثرها الكبير في نفسيهما ، حدا استغنوا فيه عن الخوض في أحاديث أخرى يومها.
في عصر نهار يوم عطلة الاسبوع التالي ، اتصل الحكيم الاول بزميله طالبا منه لقاء في مكانهما المعتاد. لم تمضي على المكالمة نصف ساعة حتى لمح من بعيد وهو يسارع الخطا للوصول إليه ، مجتازا بسرعة ممرات المنتزه المؤدية إلى تلك الأريكة التي اعتادا الجلوس عليها ، ولم تمض دقائق حتى وصل متعبا متحاملا على جسده المنهك ، وسرعان ما جلس بعد أن حيا تحية المساء وصافح زميله الذي سبقه في الجلوس إليها.
لم تمضي برهة من الزمن ، حتى استجمع قواه واتكأ قليلا على حافتها الجانبية ، بعدها عاد ليجلس متماسكا دافعاً ظهره بهدوء ليلامس متكأ الاريكه الخلفي بعد أن ألقى نظرة عامة عن مرتادي المنتزه كزميله ، ليجده قد اكتظ بأفراد العوائل الذين ملأت ضحكات اطفالهم اجواء المكان فرحا وسرورا ، وهم يلعبون ويتسابقون مع بعض.
بانت على وجه هذا الحكيم نشوة الفرح وهو مغتبطا بما قراه على وجوه الاطفال ليردد في الحال:
حقا حيثما يكون الأمان والسلام تكون المحبة والالفة بين الناس بمختلف اشكالها.
طوبى لصانعي السلام والقائمين على ضمان دوامه .
أجابه الحكيم الاول:
نعم ما تفضلت به :
طوبى لصانعي السلام والقائمين على ضمان الأمان ودوام استمراره.
ولكن وا اسفاه ، تلك صفة حرمت منها مناطق كثيرة اخرى في عموم البلاد منذ أن مزقت الحروب أوصالها وفجع الإرهاب قلوب ساكنيها بآلام واحزان لم تنتهي أثرها بعد لما عانوه من اعمال قتل وإرهاب ودمار ، وصل عند بعض الأقليات الدينية حد الإبادة الجماعية للأسف على الهوية الدينية فقط ، فتمزقت أثر كل هذا هوية الوطن التي ينبغي أن تكون الهوية الوحيدة الجامعة للجميع.
أليس وجودنا هنا بسبب تلك الأعمال الإرهابية.
التفت الحكيم الثاني اليه فلاحظ على وجهه ما استوقفه من زيادة معاني الالم والمعانات عما كان عليه بداية اللقاء. عندها ارتأى ان يخفف و يغير من مجرى الحديث ليسأله:
أراك اليوم ، وكأن نزهة ذلك النهار لم تتمكن من إنتشالك من أمر مكبوت ، يبان أثره بوضوح على قسمات وجهك؟
وجائه الجواب دون مقدمات من الحكيم الاول:
نعم ما تمتلكه من فراسة وبصيرة متقدة .
ما وجدته مرسوما على وجهي سببه جهد لم يفلح بعد في مهمة اجتماعية وإنسانية اخذت مني وآخرين ساعات نهار اليومين السابقين دون التوصل إلى حل بين المعنيين. و ضاعف وقع ذلك ، ما اعقبها اليوم من موقف نقله لي احد اصدقائي عن ولده الشاب الذي ذكر له ما نصه :
أخذت طريقي يوم امس الى حينا القديم (يقصد به الحي في المدينه البعيدة التي عافتها العائلة اضطراراً قبل سنين هربا من اعمال الإرهاب ، بحثا عن ألامان). بعدها وجدت نفسي في لقاء جمعني مع اصدقاء لي وغيرهم ، لمناسبه عودة صديق يجمعنا جاء من غربته القسرية لأسابيع يقضيها بين أهله.
أحاديث كانت تدور حول مختلف جوانب الحياة وتطور الأحداث فيها.
ولكنها امتدت عند بعضهم لتصبح أحاديث حول ما لا يعنيهم أكثر من ما يعنيهم ، وفيها من الفضول اكثر مما فيها من الجد في الأمور.
وهذا بمجمله لم يطيب لي.
بعدها أشار ابنه:
توصلت إلى رأي مفاده أن الانسحاب من حياة البعض احيانا ، وان كانوا اصدقاء ، يكون افضل من سماعهم ومسايرتهم و محاباتهم في كل شيء. فذلك لا يجلب للنفس احيانا غير الشقاء والالم ، مثل ما جلبت ايضا بعض احاديثهم العجب لذلك الصديق الذي اكسبته الغربة والانشغال بالعمل فيها أسلوبا جديدا في نظرته إلى الحياة.
عبّر الحكيم هذا لزميله عن موقفه بالقول:
كلما كثرت تجارب الإنسان في الحياة ، صغرت دائرة علاقته مع من حوله ، لأن التجارب تمنحه معايير أكثر دقة في إنتقاء الأشخاص.
عموما ارى إن احاديث كهذه لا يقاس عليها بالضرورة ، لأنها كانت بدوافع ذاتية غير مسؤولة لم يوكلهم فيها أحد لتعبّر عن رأي جمعي ، أحاديث فيها من مجاملات الشباب اكثر من ما فيها من جديتهم ، وفيها من لهوهم اكثر مما تعبر عن قناعاتهم.
بعيدا عن هذه الأحاديث التي لا يقاس فيها عليهم فإن أحاديث غيرهم عموما لا تخلوا من مؤشرات و مواقف تعكس واقعا اجتماعيا ، وإن أتت احيانا بأسلوب لا يخلو من مزحة.
ولكن يبقى ضرورة للوقوف عند تلك المواقف وقرائتها ومعرفة دوافعها وأسبابها.
وبعيدا ايضا عن ملاحظات البعض التي تأتي أحيانا من مواقف مسبقة لاعتبارات لا تخلوا في هذا الزمان من نظرة مذهبية ، عنصرية ، سياسية بما فيها تلك التي يملأ البعض فراغه بل جل وقته وفق مزاجه أكثر من عقله فيها ، خاصة اولئك الذين اعتادوا على كسر ظمأهم او شحنه من معين واحد لا يرى معه غيره كما يفترض .
يبقى من السهل والضروري أن تفرز من بينهم ما يلفت انتباهك من مواقف مسؤولة واحاديث معبرة تأتي ممن لا يرتوي الا بارتوائه ماء زلالاً يتم جمعه من كل الروافد التي تصب في ربوع وطنه ليعكس بها انتماءه الصحيح وحسه الوطني والإنساني . لتكون وفقها احلديثه مغبرة بحق عن واقع وطن بحاجة لبناء ، وطن كم هو بحاجة لأمثاله من الشباب ليكتمل بسواعدهم بنائه من جميع النواحي. وهؤلاء هم ثروة البلد الكبرى التي لا تنضب بتقادم السنين.
ما يلفت انتباهي ، تلك المواقف التي تأتي مثلا كتعليقات مسؤولة و بناءة على ما ينشر من مقال او ما يتم تناوله عبر لقاء في موقع او منصة معينة ،اكثر من ما يرد في المقال او اللقاء نفسه احيانا . فالمقال قد يُدفع له ثمنه ، اما تعليقاتهم في الامور الجادة فيمكن ان يلتقط منها ما يعبر عن رأي مشترك جمعي يعين المعنيين الرسميين ، رأي يأتي بالمجان ، ومن اعماق قلوب ليس لها فيه ما تخاف عليه شخصيا.
وسرعان ما ربَتَ على يده الحكيم الثاني ليجيب:
حديث ابن جارك ذكرني بحديث شاب قبل أيام وهو ايضا ابن احد جيراني الاعزاء في الحي الذي اسكنه ، وقد ساب ناهز الثلاثين من عمره.
اكمل هذا الشاب دراسته الجامعية منذ سنوات. يعمل في النهار عملا لا يتناسب مع اختصاصه وشهادته كما بان لي من ملبسه حين يعود عصر كل يوم لداره ، قبل أن يغادره ثانيه بعد قرابة ساعتين من الاستراحة وهو بشياكته المعهودة لمشوار مع أصدقائه.
في حديثه أشار الشاب إلى ما دونًه على صفحة تواصله الاجتماعي مع اصدقائه ، اطلعني عليه وكأنه يريد به ان يستعين برأيي في ما كتبه ناصحا يقول:
أحياناً علينا في هذه الحياة تجاهل بعض الكلمات وبعض المواقف ، وحتى بعض الأشخاص ، حتى نستطيع مواصلة حياتنا دون منغصات و دون خلافات و تعكير مزاج.
ذلك ما رأيته واقعا أسلم لي ولغيري ايضا ، رغم انني وجدت بداية صعوبة وألما في تطبيق ذلك.
وعبر الحكيم هذا عن تأثره بحديث الشاب بالقول:
يبدوا لي ان كلماته جاءته تنفيسا لموقف جره اليه صديق له افسد عليه يومه او شيء آخر يهمه.
وقبل أن يستفيض اكثر سأله الحكيم الاول :
وماذا كانت نصيحتك له؟
وجاء جواب الحكيم الثاني:
نصحته بالطبع وقلت له:
حين يتعمد احد ما، فهمك بطريقة خاطئة لا ترهق نفسك بالرد او التبرير. كل ما عليك ان تدير له ظهرك وتاخذ طريقك الى حيث يمكنك ان تغير مزاجك و تنسى كل ذلك لتستمتع بالحياة.
ثم استفسر متسائلا:
وانت ماذا كانت نصيحتك لابن جارك؟
أجاب:
لقد نصحته بأن لا يدع الكثير عن نفسه ينساب لأصدقائه وغيرهم من الناس بسهولة ، فالبعض منهم قد يوظفونه بطرقهم الخاصة لصالحهم ليؤلموه بداية بعمق كي يمسحوا منه كل جميل لا يسرهم فيه ، ليستدرجونه بعدها لمستواهم.
تلك طبيعه بعض البشر.
وأضفت:
جلستك مع اصدقائك رسخت لديك قناعة ان البشر من بعيد ربما يكونون افضل.
مع ذلك من الطبيعي ان تقترب النفوس من تلك القلوب التي يزرع فيها الفرح وينبت فيها الامل ، مثلما تبتعد النفوس خلاف ذلك عن ما يعكر صفوها ومزاجها بل وطريقتها في الحياة.
ومن الطبيعي ايضا ان تقترب النفوس من الذين يفتحون بصدق في الارواح نوافذ من نور وسلام ومحبة لبعض.
وتبتعد عن هؤلاء الذين يحفرون في القلب بؤر الظلام والشر والحقد.
لكن لا تظن ان ما عشته واقعا في مجلسك ذاك يقتصر عليك فقط ، بل ان الكثير من أصحاب الوعي المرتفع و العقول المتقدة في أي مكان تجدهم يبذلون مجهودا غير اعتيادي حتى يستطيعوا الانسجام مع ظرف أو واقع لا يتوافق مع أفكارهم.
ولكن دعني يا صديقي اقول:
انها لصدفه عشناها واقعا مع شابين بنفس الرؤى؟.
أجابه الحكيم الثاني:
هذا الجيل تعلم من الحاسوب أن سلة المهملات ضرورة ملحة في مخيلة ذاكرتنا جميعا لنرمي فيها ما يزعجنا من مواقف وما يجرحنا من كلمات بل ما لا يليق بنا من اشخاص حتى إن لم تجد في من تقابله منهم ذنبا غير صدقه.
فالصدق وحده يبقى غير كافياَ أحيانا.
ذلك انه مع الصدق يكون مطلوبا ان يجيد كل شخص الإمساك بعصا الأعمى ويتجاهل ، وكأنه لا يرى عندما يبصر شخصا آخر بزلًه بسيطة غير مقصودة قد لا تتجاوز سرقة رغيف خبز اقدم عليها طفل يتيم مثلا ليقطع بها جوع والدته المريضة ، ذلك كي لا يظهر انه ارفع منه.
زادت هذه العبارة من عمق احساس الحكيم الاول ليعلق قائلا:
اشخاص في مواقف كهذه ،لا يحملون عصا الاعمى تلك يتوجب مقاطعتهم بل محاسبتهم قانونا حتى ان كانوا أصدقاء او مقربين لنا.
مع انه
أمر مخيف جدا أن ينطفئ شخص ما في عينيك وان كان قريبا او صديقا لك ، ليعود غريبا وكأنه لم يكن ، بعد أن كان يعني لك الكثير.
ولكن ما الحيلة مع شخص
يضيع أوقاته في تتبع عيوب الآخرين حتى في بساطتها ، في وقت يمكنه أن يستثمر وقته هذا في اصلاح ما افسدته يداه.........
قاطع الحكيم الثاني حديث زميله ليطلب مشروبا باردا من اقرب بائع متجول، وسرعان ما لبًى الطلب فتى يافع يتأبط صندوقا منه.
ارتسمت على وجه الحكيم هذا ابتسامة عميقة بعد أن لاحظ ، عند دفع ثمنه أضعاف قيمته رافضا استرجاع الفرق ، ان الفرحة قد غمرت وجه ذلك الفتى اليافع بسبب ذلك. وكأنه قرأ على وجهه البريء معالم بركة اتته من السماء حلا لهموم شخصية يعيشها.
سرعان ما القى بأحدى قنينتي المشروب في يد صديقه ، وهو بداية قد طلبها من اجله عندما لاحظ ان محيط فمه قد اعتراه الجفاف وكست شفتيه زبدا ابيضا.
تركت أول رشفة مفعولها في وجه الحكيم الاول لتزداد نبرة صوته وعمق كلامه ليقول:
اذا حصلت السرقة لقطعة خبز يريد بها طفلا كسر جوعه او حوع والدتك ، فهي جريمة يجب ان يخجل منها ويحاسب عليها عموم المجتمع ودولته ككل وليس السارق.
كم من حالات كهذه في بلدنا سمعنا عنها وحكم فيها على طفل بالسجن لسنوات لاسباب مشابهة لا تتعدى سرقة مناشف ورقيه ، بينما افرج او حتى غض النظر عن مسؤول كبير في الدولة سرق منها مليارات الدولارات.
ليعلم الجميع بهذا ادرسا مفاده:
ان وراء كل فقير في اي بلد وفي كل زمان رجلا غنياً او مسؤولا كبيرا سرق ابتسامته ، سرق ماله وفرصة عمله ، سرق قلبه ووطنه بل سرق حقه في الحياة وعمره.
الحكيم الثاني
استطيع ان اضيف مالما تناولناه من حديث ، ما مفاده :
ان من لا يرى في الآخرين إلا الأخطاء والعثرات فلن تستطيب له الحياة ، لأنها لا تنفك عن تعليم الانسان العبر بشتى الطرق والوسائل ، وغالبا ما يكون الانسان ميدان ومصدر عبر هذه الحياة ، تأتي منه بما له من تجارب متواصلة لا تتوقف عند موقف معين او زمان ما.
الحياة تخضع لنواميس الكون التي لا تعرف القرار والاستقرار.
لذا و لديمومه العلاقات في حياة كل انسان قي كل مكان و زمان ، كم يكون من المطلوب على كل شخص أن يبحث دائماً عن الجميل المخفي الكامن في أعماق غيره والجميل اللامع في نفوسهم و التغاضي عن هفوات بسيطه طالما لا تنحدر بهم الى دهاليز الظلم والعدوان ومستنقعات الفساد والرذيلة ، والاستحواذ على حقوق الغير وقطع الطرق امام فرص الحياة ، لهولاء المتعبين من شقاء الدنيا وحيتان فسادها ولصوص نهارها وتلك مسألة تتجاوز امكانية أفراد محدودين ، لانها مسالة شعب ووطن كبرى.
اثناء الحديث
رن جرس هاتف الحكيم الاول يطلبه فيه قريبا له لأمر ما.
في هذه الاثناء لمح زميله من بعيد ذلك الشاب ابن جيرانه داخلا للمتنزه منهمكا مرتبكا ، وكأنه يبحث عن شيء عزيز فقده فيه. وسرعان ما دار في فكر هذا الحكيم حدس ربط به بين حديث ذلك الشاب ، وتلك الفتاة التى رآها قبل قرابة اسبوع مع شقيقتها الصغرى في هذا المنتزه ، وقد ذبلت عيناها وكانها تعرضت لضربة اوقعتها ارضا ، او قضت على آمالها. وردد هذا الحكيم مع نفسه: عسى ان يكون مجيء هذا الشاب خيرا ، متأملا أن يكون هو نفسه من يحمل فيه بشرى لتلك الفتاة التي كانت تبدو له من قسمات وجهها ،وكأن الدنيا قد ضاقت أمام عينيها.
قبل أن تُسدل الشمس ستارها، غادرا المتنزه بعدما اكتفيا بما تبادلاه من أحاديث متنوعة، وبما شاهداه من ملامح الفرح المرتسمة على وجوه مرتاديه ، وكانهم يمثلون في فرحتهم جميع ابناء هذا المجتمع ، مما أضفى على نفسيهما قدراً من الترفيه والراحة. فانصرفا ، كل إلى وجهته ، على أمل فرصة للقاء آخر.
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟