عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8297 - 2025 / 3 / 30 - 21:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نظريّة المراحل عند كيركجور ؛ هي واحدة من أهم أفكاره الفلسفيّة ، حيث قد طرح فيها رؤيته عن الإنسان ، التي ترى أن الإنسان يمر بثلاث مراحل من الوجود ، في رحلته نحو تحقيق ذاته والاقتراب من الحقيقة ؛ وهذه المراحل هي المرحلة الجماليّة ، المرحلة الأخلاقيّة ، والمرحلة الدينيّة ، وكل مرحلة تمثل نمط مختلف لفهم الحياة ومعناها ، ولكل مرحلة تناقضاتها الديالكتيكيّة الخاصة ، مما يجعل الانتقال من مرحلة إلى أخرى بمثابة قفزة وجوديّة.
ويرى كيركجور أن الوجود ليس ثابتًا ، بل هو رحلة وجوديّة تتطور من خلال ثلاثة مراحل أساسيّة ، و أول هذه المراحل ؛ المرحلة الجماليّة ، حيث يكون الإنسان في هذه المرحلة يعيش حياة قائمة على اللذة والمتعة والهروب من الألم ، والإنسان هكذا لا يهتم بالمعنى العميق للحياة ، بل يبحث عن "الإشباع اللّحظيّ" ؛ لكن في هذه المرحلة مشكلة ، ألا وهي أن المتعة واللذة دائماً ما يكونا مؤقتين ؛ أيّ ليسا دائمين ، وهذا يؤدي إلى الملل ، الذي يؤدي بدوره إلى الفراغ الداخليّ ، مما يجعل الإنسان يقع في الأزمة الوجوديّة (سبق ووقعت فيها ؛ والجو هناك مظلم بالمناسبة) ، وفي المرحلة الجماليّة ، يكون الإنسان مركزًا على اللحظة الراهنة واللذة الشخصيّة ، لكنه يهتم بـ التجارب الحسيّة هنا دون الالتزام بـ مبادئ ثابتة أو قيم دائمة ، حيث يرى الفرد المّار بـ المرحلة الجماليّة ، أن الحياة يمكن اعتبارها نوعًا من "اللعب" ، حيث أن الفرد المّار بالمرحلة دائماً ما يكون باحثاً عن الإثارة والمتعة (دون جوان)* ، لكنه في ذات الوقت يُعاني من فراغ داخليّ ، ونقص في العمق عند مواجهة الأسئلة الوجوديّة الكبرى ، ومن الناحية الفينومينولوجية نجد أن هذه المرحلة تُبرز ، كيف يمكن للتجارب الحسيّة أن تُشكّل الإدراك الأوليّ للواقع ، لكنها تُركّز على الظواهر السطحيّة دون التعمق في جوهر الوجود.
وبعدما ينتهي الفرد المهتم بالحقيقة والوجود ، من المرور على المرحلة الجماليّة ، نجده داخلاً على المرحلة الأخلاقيّة ؛ ويكون الفرد في هذه المرحلة مهتمًا على عكس المرحلة السابقة ، بالاعتراف بقيمة المبادئ والأخلاق ، حيث يبدأ بتحمل المسؤولية واتخاذ القرارات التي تنبع من معايير موضوعية وأخلاقيّة ، و يكون الالتزام بالواجب والأخلاق قاعدة أساسية في حياته ، ويُدرك أن السعادة الفرديّة لا تُستمد من اللذة اللحظيّة فقط ، بل من تحقيق معنى أعمق ومسؤولية تجاه الذات ، ومن الناحية الفينومينولوجية ؛ يمكن فهم هذه المرحلة على أنها تحول من إدراك أكثر تعمقّا يرتبط بالضمير والواجب ، حيث يُعيد الفرد تشكيل تجربته الذاتيّة بناءًا على معايير أخلاقيّة تتجاوز الإشباع اللّحظيّ ، من أجل جعل فهم الفرد أكثر عمقًا بالوجود ، وسبب هذا وعلته ؛ هو أن الحياة تحتاج إلى معنى أعمق ، فيبدأ في تبنيه لأفكار وقيم أخلاقيّة ، والتزامات أكثر ارتباطاً بالمسؤولية ، ويرى الفرد نفسه ككائن ”أخلاقيّ“ ، يحاول أن يكون "إنسانًا جيدًا" ، لكن هذه المرحلة مثلها مثل السابقة ، حيث أن مشكلة هذه المرحلة هي أن الإنسان لا يستطيع تحقيق الكمال الأخلاقيّ ؛ لأن الأخلاقيّ ممل في الفلسفة ، مثلما هو كذلك في الحياة ، ومن هنا يبدأ في الدخول في أزمة وجوديّة جديدة.
ومن هذه الأزمة الوجوديّة ، نجد الفرد خارجًا من الأخلاقيّ إلى الدينيّ ، و المرحلة الدينيّة تُعتبر ذروة رحلة الذات عند كيركجور ، حيث يعني انطلاق الفرد إلى هذه المرحلة ، الوصول إلى مستوى من العلاقة مع المطلق أو الإلهيّ ، حيث في هذه المرحلة ، يتطلب التطور وجود "قفزة إيمانيّة" تتجاوز العقل والمنطق ، حيث يُصبح الإيمان الشخصيّ والتجربة الدينيّة بمثابة أساس للحياة والمعنى ، ومن وجهة نظر فينومينولوجيّة ؛ تُظهر هذه المرحلة كيف أن التجربة الدينيّة تتضمن طابعًا فرديًا وعميقًا ، ويكون اختزالها في هيئة نظام منطقيّ أو قيميّ موحد ثابت صعباً ، فالإيمان هنا يُعد تجربة جوهريّة ، تُغير من طبيعة إدراك الفرد للواقع وتفتح أمامه أبوابًا للتجارب الذاتيّة غير محددة بـ قوالب مسبقة.
وبخصوص عمليّة الإنتقال بين المراحل ؛ نجد أن عمليّة الإنتقال من مرحلة إلى أخرى لا تُعتبر خطوة آليّة أو صيرورة خطيّة ؛ حيث يعتقد كيركجور أن الإنتقال من مرحلة إلى أخرى يحدث عبر ”أزمة وجوديّة “ ؛ حيث يُدرك الإنسان فجأة عدم كفايّة المرحلة التي يعيشها ، ويشعر بالحاجة إلى تجاوزها ، مثل عمليّة الإنتقال من المرحلة الجماليّة إلى الأخلاقيّة ، ويحدث هذا عندما يشعر الإنسان بالملل ، و يُدرك أن الحياة التي تعتمد على المتعة فقط ، لا تمنحه معنى حقيقيًا ، والانتقال من المرحلة الأخلاقيّة إلى الدينيّة ، يحدث عندما يُدرك الإنسان أنه حتى الأخلاق لا تكفي ، لأن العقل وحده لا يستطيع مواجهة التحديات العميقة مثل الخطيئة ، والمعاناة ، وهنا يشعر الإنسان بـ الحاجة إلى الإيمان ، ومن ما سبق يتبين أن كل انتقال في نظر كيركجور هو قفزة وجوديّة ، وليس مجرد تطور منطقيّ أو طبيعيّ.
ويرى كيركجور أن هذه المراحل ، هي طرق مختلفة لمواجهة الحياة والمعنى ، وليست مجرد تصنيفات نظريّة ، وبالتالي فإن الشخص الذي يحيا في المرحلة الجماليّة ، يرى العالم كـ مساحة للمتعة والهروب من الواقع أو الألم ، وبالمثل فإن الشخص الذي في المرحلة الأخلاقيّة يرى العالم كـ مساحة الواجب ، والمسؤولية ، والتضحية ، والشخص الذي في المرحلة الدينيّة يرى العالم كـ مساحة للإيمان والعلاقة مع الله ، حيث يصبح كل شيء مرتبطًا بالمطلق ، وكل شخص يعيش تجربته الخاصَّة داخل هذه المراحل ، وقد يكون هناك أشخاص يعانون من التنقل بين مرحلتين دون حسم موقفهم الوجوديّ ، مما يُسبب لهم قلقًا داخليًا عميقًا ، ويرى كيركجور أن المرحلة الدينيّة هي الذروة ، لكنها ليست للجميع ؛ حيث أن هذه المرحلة هي المرحلة الأكثر أصالة وعميقًا ، لأنها تتطلب قفزة إيمانيّة كبيرة ، مما يجعل الفرد يتخلى عن الأمان الذي يوفره العقل والأخلاق ، وقد تحدث كيركجور عن هذه المرحلة مع مثال النبي إبراهيم وقصة التضحية بـ إسحق ، لكن في مقال اليوم لن أتحدث عنها ، وسوف أذكرها في المقال القادم.
وقد وضع كيركجور ، هذه النظرية ليس لأنه كان مهتمًا ببناء نظريّة فلسفيّة مجردة ، بل كان يسعى إلى مساعدة الأفراد على مواجهة أعمق أسئلتهم الوجوديّة ، وهذه النظرية ليست ذات مسار حتميّ ، بل هي دعوة مفتوحة للتفكر بعمق ، في كيف يعيش الإنسان حياته ويفهم وجوده ويستكشفه ، لكن يجب على كل فرد أن يفكر في الوجود بطريقته الخاصة ، وفي الختام ، لقد كانت نظرية المراحل عند كيركجور ؛ هي حجر الأساس للفلسفة الوجوديّة "الحديثة" ، حيث أنها ركزت على التجربة الفرديّة ، والحريّة ، والقلق ، والمسؤولية ، كما أنها كانت ردًا على الفلسفة الهيجليّة ، التي حاولت تقديم نظام عقلانيّ وشامل للوجود ، بينما رأى كيركجور أن الحياة ليست مجرد نظام منطقيّ ، بل تجربة شخصيّة تتطلب قفزات وجوديّة.
يتبع...
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟