أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد العمراوي - فيروز: الإجماع الهائل















المزيد.....


فيروز: الإجماع الهائل


أحمد العمراوي

الحوار المتمدن-العدد: 8233 - 2025 / 1 / 25 - 09:01
المحور: الادب والفن
    


"اللفظ الشعري والصوت واللحن – أي نص وطاقة وشكل صوتي – باتخاذها التنشيط في الأداء المعروض، تساهم في وحدة معنى ما . ما أنذر الدراسات الدقيقة التي تم تكريسها حتى الآن لهذه الطاقة الدلالية" (1)
بول زمتور
صوت. إيقاع. نغم. ومعنى معنىً. نحن نقول إن المعنى هناك، في فلب الغيم لأن ما يخلق المعنى ليس الكلام وحده وإنما ما يرافقه من صوت ينتقل بواسطة ريح خافتة تتربع طبلة الأذن فتحدث لذة وربما ألما حين يستعصي الفهم. المعنى يتم بالكلام وحامله، نعني الصوت.
يبقى الصوت أهم رافعة لخلق المعنى وخلخلة الراقد فينا منذ وجد الكلام والموسيقى قبله. فأيهما أسبق هل الصوت أم الصائت؟ المكان بأهله تقول الصوفية، ونحن ننقل ذلك ونُحوِّره قائلين: الصوت بأهله.
بعض الأصوات تشدّك بشكل رهيب. تُدهشك وتدغدغ فصّيْ دماغك معا. نشوة. بهجة. ودعوة للمستقبل. نعني للأمل. أليس هذا ما نشعر به كلما استمعنا لصوت السيدة فيروز؟
نقول: " السيدة فيروز". هذا إجماع هائل على صوت ملائكي قادم من هناك، من عمق الغيب اللذيذ متوجها للداخل، إلى قلب العقل وعقل القلب معا.
هل هي بحّة الصوت أم جِدّته أم تميزه عن غيره أم ماذا؟ يصعب علينا تصنيف هذا الصوت بطبقاته المتعددة ضمن سلم واحد. هي مقامات متدافعة تسطو عليك وتخلق النشوة واللذة المطلوبة في كل تلقٍّ شعري موسيقي
صيف يا صيف عا جبهة حبيبي لوح يا سيف رجعتنا قريبي
لا حاجة أحيانا للكلام، يكفي الصوت المسبوق بإيقاعات تنزل من الدماغ إلى القدم. الصوت يصدح فتهتز الكتف وتتحرك الأقدام بدبكة قوية، والسيدة تقف أماما شاخصة أمامك بقوة وثبات. ثبات الموقف الواقف بلا هوادة، وهو الجمال في بهائه الذي لا يتكرر.
خطة قدمكن عالأرض هدارة
إنتوا الأحبا و إلكن الصدارة
خطة قدمكن عالأرض مسموعة
خطوة العز جبهة المرفوعة
قد تضيف اللهجة اللبنانية ورقتها الموسيقية روعة وبهاء لهذا الصوت المتفرد القادم من البرية ليخترقنا.
الصوت والصائت كالشعر والشاعر. الكلمة الأولى من الله وما يتبقى فعلى الشاعر. نقول هذا لنبين أن لا شعر بلا تصور ولا موسيقى من غير هدف محدد سلفا، والربح حاصل في الحالتين ولكن شتان بين ربح مادي آني وآخر خالد، ولنتذكر زرياب وموزارت وبيتهوفن وسيد درويش ومواويل الحصادة والأغاني الخالدة لناس الغيوان وغيرها.
نحن نولد بأصواتنا الخاصة التي توارثناها بجينات دقيقة قد تلعب الصدف فيها فعلتها، ولكن حسن الاستغلال وتوجيه الصوت لوجهته المتميزة للإمتاع في الموسيقى هو ما يحقق التميّز.
يولد الناس بذكاءات متعددة: لغوية – بصرية – منطقية – موسيقية – بيئية – اجتماعية – ذاتية – حركية ... بُذورها قد ترتبط بالوراثة، ولكن ما نكتسبه من المحيط هو ما سيؤشّر للوصول هنا أو هناك. نحن مجبرون في البداية مخيرون بعدها. ألم نقل إن الهبة الأولى هي طبيعية وما يتبقى يؤسسه الشعراء؟ نعني الفنانين عامة.
الصوت هبة طبيعية كبرى يتم صقلها بالدراسة والتدريب قصد التمكن فالتمكين.
ويرتفع الصوت طبيعيا ثم مصقولا مخدوما ليصل إلينا مدهشا. وحتى في الشعر فإن " من يتكلم هو الصوت – ليست اللغة هي المتكلة، فما هي إلا ظهور عارض، طاقة لا وجه لها، رنين وسيط، مكان زائغ حيث يتخذ اللفظ غير المستقر مرتكزا في استقرارية الجسد" (2). يتكلم الصوت إذن بشعريته الشاعرية فنأخذ مكاننا أمام المنصة. نبصر. ننظر وننتظر الصوت. أو قد نضع سماعاتنا حين نكون مواجهين لشاشات أو لأجهزتنا السمعية. مجلجل وهادئ هو صوت السيدة وياللغرابة. فكيف يمكن لصوت ما أن يكون قويا مجلجلا صداحا وهادئا في الوقت نفسه؟ يحرك الداخل. يجعلك تسكن وتستكين كهدوء الليل وسكونه
سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام
وسع البدر وللبدر عيون ترصد الأيــــــــــام
سنواصل الاستنجاد بالخبير بول زومتور Paul Zumthor لتأكيد ما نزعمه عن أهمية الصوت في الأداء والشعر عامة، يقول:" إن الانطباع الإيقاعي شديد التعقيد الذي يخلّفه الأداء، ينبع من تظافر سلسلتين من العوامل: جسدية، إذن بصرية ولمسية ، وصوتية إذن سمعية. إلا أن هذه العوامل الأخيرة تعمل عملها على صعيدين: - صعيد تكرارات العود والتوازنات– صعيد التطويعات الصوتية، المدركة مباشرة، من حيث المبدأ، حتى ولو في ظل الجهل باللغة المستعملة." (3).
و يا سلام، التزاوج والتمازج بين الأصوات الفيروزية التي تردد اللازمة معها هي بمثابة مدرسة واحدة. نبرة واحدة منسجمة من أعلى السلم إلى أدناه. مع البيانو الهائل والكمنجات المتلاطمة بهدوء على الأذن يحدث ما يصعب وصفه ولا تمييزه باللغة
يا سلام على بكرا، يا سلام
يا سلام من هلأ ، يا سلام

رح تحصل ولا بدّ
ما بينوضعلا حدّ

ما فينا إلّا نعدّ ونعدّ
الإيام

... شو ضيّعنا إيام
والأحلام... شو كبّرنا أحلام
يا سلام ، تضغط السيدة على اللام بقوة وبمد طبيعي سداسي هائل لتتوقف بعده وتترك للآلات النحاسية إتمام المتبقي.
هيدي عم بحكيلك قصّة
بشعة كتير
وحلوة كتير

بس هيك بتصير، عن حالي

هيدي قصّة معقولة
كل يوم تصير
وبتصير كتير
واسمعها أرجوك، كرمالي
قصة قصيرة كثير. قصة قصيرة جدا لا يتعدى سماعك لها أزيد من 4 دقائق و40 ثانية . هو عمر زمن الأحلام الصغيرة التي نعيشها ( شو كبّرنا أحلام ) . هي ميزة رحبانية فيروزية إذن قد نضعها في مواجهة المدرسة الطربية الكلثومية المعروفة، ولكل مكانته وقيمته الضرورية.
قطرات البيانو المصاحبة لبنت الشلبية تزيد المشهد بهاء، لذلك أغمض عينيك قليلا وأنت تتنقل بخيالك من هدير الآلات الهادئ إلى أعماق روحك وأنت تبصر داخلك هذه البنت مكللة بالملائكة الطيبين الداعين للسلم الذي ما فتئت السيدة تدعو له.
وحين يتم المزج بين الصوت والأورغ وأصوات فيروزية جلابة يحدث الشفاء. ألم تحقق الموسيقى خير شفاء للروح والجسد معا؟ يكفي أن نذكر ما سجله إخوان الصفا في رسائلهم من الموسيقى لحنا كانوا يستعملونه في المارستان وقت الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض، ويكسر سورتها، ويشفي الكثير من الأمراض والأغلال (4). الروح في حاجة لمن يطربها في كل حالاتها من أقصى حالات الحزن إلى قمة الفرح. أليس هذا ما تقوم به السية فيروز معنا وبنا؟
و سمعني غناني يا عيوني و أتغزل فيا
البحر وأمواجه الهادرة الذي يتكرر مع صوت الرجال (ولنستحضر الصوت القوي لوديع الصافي)، يترك المجال بعده للصوت النسائي الفيروزي الجماعي المتشابه ليفعل فعلتها فينا من غير وسيط.
البنت الشلبية عيونا لوزية
حبك من قلبي با قلبي إنتي عينيا
حد القناطر محبوبي ناطر
كسر الخواطر يا ولفي ما هان عليا
بتطل بتلوح و القلب مجروح
و أيام عالبال بتعن و تروح
تحت الرمانة حبي حاكاني
وسمعني غناني يا عيوني و أتغزل فيا
الكلام أم الصوت. من منهما الأكثر تأثيرا في موسيقى السيدة؟ التكامل حاصل بلا شك في هذا التميز الذي خلقته المدرسة الرحبانية خاصة.
ما هو كلامي يرتبط بالمَقول، بينما ينتمي الإنشاد لفن الموسيقى. ففي المقول يتوارى حضور المتكلم المادي بقدر يزيد أو ينقص... في الإنشاد يؤكد حضور المتكلم المادي نفسه ... لهذا السبب، أغلب الأداءات الشعرية، في كل الحضارات، كانت دائما تتم إنشادا، ولهذا السبب تمثِّل الأغنية في عالمنا اليوم شعر الجماهير الحقيقي الوحيد، رغم ابتذالها على يد التجارة (5). ثم هم ( القدماء) يقسّمون الألحان أقساما متعددة منها الروحية المؤثرة كتجويد القرآن ، والألحان الحربية، والجنائزية ، وأغاني الصيادين ، وأغاني المناسبات، وفي كُلٍّ شفاءٌ. وتكفي العودة لابن سينا والكندي والفاربي وغيرهم من السابقين لتبيان أهمية الموسيقى في الشفاء لدى الناس. ثم " إن الموسيقى هي الفن الوحيد القادر بأشكاله ومضامينه على التعبير عن المكنونات البشرية، التي لا يستطيع أن يصل إليها أي فن من الفنون. فهي قادرة على الغور في دواخل الإنسان، ومخاطبة روحه، وذلك باعتمادها على آلات أبرزها الحنجرة البشرية، والآلات المصنوعة التي لم تكن إلا تقليدا لهذه الحنجرة الطبيعية" (6).
هكذا إذن ولنقف قليلا مع هذا النموذج من قصة/أغنية/ شذرة بليغة توصل الكلام والحكي بنبر هائل للسيدة مع الأخوين الرحباني. تقول القصة /الأغنية والتي لا يمكن فهمها جيدا إلا بتتبع الصعود والنزول الموسيقي لمقاطعها المنسجمة مع المعنى:
1 . حبيبي بدو القمر
والقمر بعيد
والسما عالية
ما بتطالا الأيد

2. طلعت على السطح
دلّو علي الناس
قالوا مدري شو بها
و خبّروا الحراس

3. قلتلن بدي القمر
قالوا القمر غالي
حقو عشر ليالي
عشر ليالي سهر

4 . وإلي عشر ليالي
عالسطح سهرانه
و حاسة بحالي
تعبانه و نعسانه

5. خايفة لأنام و ينزل القمر
و يلاقيني غافية

6. و تسرقو جارتنا يللي مزاعلتنا

7. وتعطيه لحبيبي ويحبا حبيبي

8 . وأنا صير غريبة.
القمر ، الحب ، الغبيرة ، المستحيل، التحدي... هي أهم ما ترمي إليه هذه القصة/ القصيدة القصيرة البليغة وهي تتجزأ موسيقيا إلى 8 مقاطع : يرتبط فيها الأداء صعودا ونزولا بصوت السيدة الذي يصور الواقعة ويذكرنا بقصيدة باشو الشهيرة لشعر الهايكو :
اللص أخذ كل شيء
ما عدا القمر
على النافذة
وبعجالة يمكن رصد العلاقات بين اللفظ والمعنى والصوت واللحن هكذا :
1 بداية هادئة متصاعدة . 2 صعود أكثر للصوت وللحن 3 . نزول قليلا 4 . مزيدا من الصعود 5 صعود لقمة السلم الموسيقي 6. بداية النزول 7 . نزول . 8 . نهاية المحطة وانتهاء القصة.
هذا التأمل يبين بجلاء قمة الارتباط بين المعنى والصوت واللحن والأداء من أجل تحقيق المتعة بذكاء موسيقي هائل. ومهما يكن فالاستماع للسيدة يبقى شفاء حقيقيا للروح والجسد معا فلنتجرعه من غير وصفات جاهزة.
***
هوامش:
1) بول زمتور، مدخل إلى الشعر الشاهي، ترجمة وليد الخشاب، دار شرقيات، القاهرة، ط 1، 1999، ص: 183
2) بول زومتور، ص157
3) لمرجع نفسه، ص: 164.
4) انظر رسائل إخوان الصفا، دار صادر، ج1.
5) المرجع نفسه، ص : .178
6) جمال الدين بنحدو، مدخل إلى تاريخ موسيقى الأديان، دار الأوائل، 2010، ص : 17



#أحمد_العمراوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محترفات كتابية1: القراءة والذكاءات المتعددة
- المثقف وخطابات التصوف بين -نعم- و-لا-: سؤال الحيرة وجواب الن ...
- التّرجمة والخيانة المزدوجة، الرّغبة والتحويل


المزيد.....




- باريس تحتضن معرض -سنوبي-: أزياء مستوحاة من شخصيات كرتونية لا ...
- أفلام رعب وخيال 24 ساعة من الدهشة “تردد قناة فوكس موفيز 2025 ...
- كيف رسم الفنانون الأشجار عبر التاريخ؟ .. دراسة تكشف
- الأيديولوجيا والقتل الجماعي.. السياسات الأمنية المردكلة للإب ...
- المعروك.. هل صار أكل الملوك فعلا في سوريا؟!
- إيفانكا ترامب تتفوق في فنون الدفاع عن النفس! (فيديو)
- تحطيم نجمة الممثلة الإسرائيلية غال غادوت في هوليوود
- فعاليات ثقافية:نادى أدب القبارى بستضيف الشعراء فى مسرح ثقافة ...
- سلاف فواخرجي: بشار الأسد ليس طاغية ونتوسم خيرا بأحمد الشرع
- تغريدة مثيرة عن الدراما المصرية في القنوات السعودية.. هل تصل ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد العمراوي - فيروز: الإجماع الهائل