خالد خالص
الحوار المتمدن-العدد: 8229 - 2025 / 1 / 21 - 22:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الماضي القريب، كان التعليم يشع بثقة وإيجابية عبر أساتذة مغاربة فخورين بمغربهم وبمغاربهم، أساتذة يزرعون فينا الثقة بالحاضر والمستقبل، يجمعون بين التدريس والتربية التي كانت الاسرة تتحمل نصيبها الأكبر منها. لم تكن المقررات الدراسية تخلو من دروس التربية الإسلامية، والتربية الوطنية، والتربية المدنية (Éducation Civique)، مما عزّز فينا القيم الأخلاقية والوطنية.
إلى جانب المدرسة كانت الأسرة الممتدة، تلعب دوراً كبيراً في التأطير والتربية. الأخ والأخت، العم، والعمة، الخال والخالة الخ، كانوا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن الأطفال وكأنهم أبناؤهم. حتى الجيران والمارة في الشوارع كانوا يتدخلون لحماية الأطفال من أي خطر.
في ذلك الزمن، كانت المنافسة بين الشباب مقتصرة على التحصيل العلمي. كانت المكتبات والنوادي الرياضية والسينمائية تمثل فضاءات للنقاش والإبداع. كنا نجد متعة في مجالسة الأدباء والشعراء ورجال القانون والدين، وننهل من تجاربهم لننقلها للآخرين.
كنا نقيم الدنيا للطبيب، والمحامي، والصيدلي، والمهندس... وكنا ننحني إجلالاً وإكباراً للمعلم والأستاذ، ونردد أشعاراً تليق بمقامهم. كان المغربي يحترم المغربي وكان المجتمع يحتفي بنجاح أي فرد، سواء كان في الدراسة أو في أي مجال آخر، عبر إقامة الحفلات وتقديم الهدايا، تعبيراً عن الفخر والاعتزاز، وتحفيزاً للآخرين للاقتداء به. كان لكل واحد منا دور في بناء هذا الوطن، ولو بحجر صغير. آمنا بقيم العيش المشترك وطبقناها على أرض الواقع.
كانت الحياة بسيطة، معظم الناس كانوا بسطاء، ومع ذلك كانوا سعداء، مطمئنين، يتراحمون ويتوادون، رغم أن أغلبهم لم يكن يتقن لا القراءة ولا الكتابة. كنا نتابع الروايات والمسلسلات الإذاعية لعبد الله شقرون ومحمد حسن الجندي وغيرهم، واستمتعنا بسهرات أم كلثوم، وأمسيات المرح والضحك، وليالي الآلة والسماع والمديح. وعند ظهور التلفزيون، كنا نجتمع جماعات لدى من يمتلكه لمتابعة سهرات السبت، في جو يعكس البساطة والود.
لكن الأمور تغيرت مع الزمن. طغت المادة، وتحول نمط العيش من البساطة إلى الاستعراض، ومن التواضع إلى التباهي. أصبحت المنافسة في امتلاك أكبر وأجمل منزل، أغلى سيارة، وأحدث الأجهزة. صار حفل الزفاف أهم من الحب، والجنازة أهم من الميت، واللباس أهم من الشخصية. صرنا نتسابق حتى على الجمال المصطنع بالفيلينغ والبطوكس وبتكبير الارداف...لأننا لم نعد نسعد بالجمال الطبيعي.
تحولنا من مجتمع يعيش بسعادة مستمدة من البساطة إلى مجتمع استهلاكي يعيش هوس الاستعراض. تغيرت نظرتنا للمهن النبيلة مثل الطب والمحاماة والتعليم، وأصبح التشكيك والتبخيس في كل شيء هو السائد.
حاولنا الهروب من هذه الأجواء عبر الإعلام، لكن وجدناه محملاً بالسلبيات: حروب، كوارث، وقصص محبطة. حتى وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان يُنتظر منها أن تقرب الناس وتُحيي الروابط الاجتماعية، تحولت إلى فضاء للتفاهة والتنمر والابتزاز وتصفية الحسابات بل ساهمت بشكل فضيع في التباعد بين أفراد الأسرة الواحدة الأمر الذي أصبح اليوم هو الوضع الطبيعي أو القاعدة السائدة، حيث قلّت اللقاءات المباشرة والعلاقات الحميمة، لتحل محلها العزلة والانشغال الفردي.
مع غياب الإيمان والجانب الروحي، تضاعفت مشاعر اليأس والإحباط، وانتشرت السلبية في كل مكان. فقدنا العفوية والطاقات الإيجابية، وأصبح البحث عن السعادة أشبه بمهمة مستحيلة.
في ظل هذه التحولات، ومع تفاقم الضغوط النفسية والاجتماعية التي تعاني منها مختلف الشرائح في المجتمع المغربي، برزت ظاهرة جديدة لتلبية احتياجات الإنسان للسعادة والطمأنينة، لكنها تأتي على شكل سلع وخدمات تباع بمقابل مادي. صار سوق السعادة ظاهرة قائمة بذاتها، حيث تعددت الأساليب والطرق التي تحاول أن تسوق السعادة كمنتج تجاري، دون أن تحقق بالضرورة الراحة النفسية الحقيقية للإنسان.
في طليعة هذه الظاهرة نجد الدورات التدريبية وورشات "تنمية الذات" التي تغزو كل مدينة ومنصة إلكترونية. يتم الترويج لهذه الورشات كحلول سحرية لتحسين جودة الحياة واستعادة التوازن النفسي والنجاح المهني والعاطفي. فبأسعار خيالية، يتوافد الناس على قاعات مغلقة في فنادق مصنفة 5 نجوم للاستماع إلى مدربين يُظهرون ثقة زائدة في أنفسهم، مستخدمين كلمات رنانة ورسائل تحفيزية عامة قد لا تكون موجهة لحل المشكلات الفردية العميقة.
إلى جانب ذلك، برزت السياحة الروحية كوسيلة للهروب من الواقع المادي وضغوط الحياة اليومية. هناك من يسافر إلى وجهات محددة محليًا ودوليًا، مثل مناطق جبلية أو صوفية، ليشارك في أنشطة يوغا أو تأمل أو "صمت مطبق" أو تنويم أو حتى في رحلات يُطلق عليها "رحلات البحث عن الذات". وبينما كانت هذه الأنشطة في الماضي جزءًا من الروحانية الصافية والبحث عن السلام الداخلي، أصبحت اليوم فرصة للربح المادي، حيث يتم بيعها كمنتجات سياحية باهظة الثمن.
ظهرت أيضًا مهنة "كوتش السعادة" أو مدرب السعادة، وهي مهنة جديدة يُقدَّم من خلالها نصائح حياتية عن كيفية التغلب على القلق، بناء العلاقات، وتحقيق الرضا النفسي. وفي حين أن بعضها قد يكون مفيدًا في تقديم الدعم النفسي، إلا أن الكثير منها يتخذ طابعًا تجاريًا محضًا، حيث يتم تقديم وعود غير واقعية، ويُشعر الأفراد بأنهم "عاجزون" عن تحقيق السعادة دون دفع مبالغ مالية لهذه الخدمات.
أصبح الاستهلاك المادي أيضًا جزءًا من هذه الظاهرة. تسوّق الشركات منتجاتها كوسيلة لتحقيق السعادة: عطور تعد بتغيير المزاج، سيارات تَعِد بحياة أفضل، وأجهزة إلكترونية تجعل الحياة "أكثر رفاهية". هنا، يتحول مفهوم السعادة من حالة داخلية إلى منتج يمكن شراؤه. وبينما قد توفر هذه المنتجات لحظات قصيرة من الرضا، فإنها لا تستطيع معالجة الفراغ الداخلي العميق الذي يشعر به العديد من الأفراد.
إن تفشي ظاهرة "بيع السعادة" يكشف عن فجوة عميقة في حياتنا المعاصرة، حيث فقد الكثيرون مصادر السعادة الحقيقية القائمة على الروابط الاجتماعية القوية، والإيمان، والبساطة، والتلقائية. ففي الماضي، كان الفرد يجد سعادته في جلسة روحية أو عائلية دافئة، أو في حديث مع صديق حقيقي، أو حتى في أعمال بسيطة كالعطاء والتعاون. أما اليوم، فقد أصبحت حتى الجلسات العائلية على قلتها بغير طعم لأن الهواتف الذكية قضت على تلك الدفء الإنساني والقرب الذي كنا نشعر به في اللقاءات العائلية.
لذلك أصبح الانسان يبحث عن سعادة مصطنعة سعادة مشروطة مربوطة بالمال والمظاهر والبرامج التدريبية بالرغم من أن المال لا يمكنه أن يشتري سعادة دائمة، كما أن المنتجات والخدمات التجارية لا يمكنها أن تعوض عن فقدان القيم الإنسانية الأصيلة.
فهل آن الأوان لنعيد جميعا التفكير في مفهوم السعادة وأسبابها الحقيقية تلكم السعادة التي تُبنى بالبساطة، بالحب، بالتضامن، بالعودة إلى الذات وإلى الجذور التي صنعت إنسانيتنا والى الاسرة الصغيرة والممتدة التي تفككت لترميمها والى الصداقة الحقيقية لا المزيفة بالمصالح إذ يكفي في الواقع القليل للحصول على سعادة طبيعية لا الكثير للحصول على سعادة مصطنعة عابرة ؟.
#خالد_خالص (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟