حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8203 - 2024 / 12 / 26 - 10:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
د.حمدي سيد محمد محمود
في خضم التحديات الكبرى التي تواجه العالم المعاصر، تبرز القضايا المتعلقة بالدين والسياسة كواحدة من أكثر المعضلات تعقيدًا وإثارة للجدل، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي شهدت على مدار أكثر من قرن تصاعدًا لافتًا للصهيونية كحركة سياسية، ودورها في تغيير ملامح المنطقة جيوسياسيًا ودينيًا. وبينما يبدو الصوت الداعم للصهيونية حاضرًا بقوة في الأوساط السياسية والإعلامية والدينية الغربية، يظهر على النقيض صوتٌ آخر لا يقل أهمية، لكنه أكثر ندرة وشجاعة، يُحاول تفكيك هذا الترابط المفتعل بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوجية سياسية. ومن بين أبرز هذه الأصوات، يبرز الحاخام يعقوب شابيرو، الذي يُعدّ أحد المفكرين اليهود الذين كرّسوا حياتهم لمناهضة الصهيونية والدفاع عن الطابع الروحي للدين اليهودي، بعيدًا عن الاستخدام السياسي الذي قامت به الحركة الصهيونية.
تتجلى أهمية يعقوب شابيرو في كونه ليس مجرد ناقد للصهيونية، بل شاهدًا من داخل البيت اليهودي نفسه، ينطلق من جذوره الأرثوذكسية العميقة ومبادئه الدينية الصارمة ليكشف التناقض الجوهري بين العقيدة اليهودية وبين المشروع الصهيوني. إنه يمثل تيارًا فكريًا ودينيًا يحاول استعادة الهوية اليهودية من قبضة السياسة، معيدًا تعريفها كدين عالمي روحاني لا علاقة له بالقومية، ومناهضًا لأي محاولة لفرض هوية سياسية على الدين. يرى شابيرو أن الصهيونية لم تكن يومًا مشروعًا دينيًا، بل هي أيديولوجية سياسية ذات أصول علمانية، سعت لاستغلال الدين لتحقيق أهداف استعمارية وقومية، متجاهلةً القيم الأخلاقية التي تنادي بها التوراة.
إن رحلة يعقوب شابيرو الفكرية والدينية ليست مجرد مواجهة سياسية، بل هي معركة للوعي بين الدين والسياسة، بين الأخلاق والمصالح، وبين الهوية الروحية والهوية القومية. وفي ظل الأزمات المستمرة في المنطقة، تتجاوز أفكاره حدود الجدل الديني لتطرح أسئلة أعمق حول العدالة وحقوق الإنسان والتعايش المشترك بين الشعوب. يدافع شابيرو عن رؤية قائمة على السلام والعدل، رافضًا بشكل قاطع ربط اليهودية بالمشروع الصهيوني أو تبرير الاحتلال والاضطهاد الذي تعرض له الفلسطينيون.
إن دراسة شخصية يعقوب شابيرو ومواقفه الفكرية والدينية ليست مجرد استكشافٍ لموقف معارض، بل هي نافذة لفهم جدلية العلاقة بين الدين والسياسة في واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة في العالم الحديث. إنها فرصة لإعادة النظر في الروايات السائدة حول اليهودية والصهيونية، وفهم الأبعاد الأخلاقية التي تطرحها الأصوات الدينية الرافضة للصهيونية، تلك الأصوات التي غالبًا ما تُغيَّب عن الساحة العامة. وفي هذا السياق، يُعتبر يعقوب شابيرو رمزًا للمقاومة الفكرية ضد محاولات تسييس الدين، ودعوة لإعادة التفكير في الأسس التي بُنيت عليها المشاريع القومية والدينية في المنطقة.
تفتح هذه المقدمة الأبواب أمام استعراض معمق لشخصية شابيرو، لفهم رؤاه الفكرية، ودوره في تحدي السرديات الصهيونية السائدة، وتأثيره في النقاشات الدينية والسياسية حول مستقبل اليهودية والقضية الفلسطينية.
الحاخام يعقوب شابيرو
الحاخام يعقوب شابيرو (Rabbi Yaakov Shapiro) هو شخصية يهودية معروفة بمواقفه الرافضة للصهيونية، ويمثل أحد الأصوات المهمة التي تُعارض الربط بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة سياسية. يُعد شابيرو من الحاخامات الأرثوذكس الذين يتمسكون بفكرة أن اليهودية ليست قومية، بل ديانة بحتة ترتبط بالروحانية والالتزام بالتوراة.
الخلفية الشخصية والدينية
ولد يعقوب شابيرو ونشأ في بيئة يهودية أرثوذكسية تقليدية، حيث تلقى تعليمه الديني في مدارس ومعاهد تلمودية متخصصة. يُعرف بأنه خطيب ومؤلف ومفكر بارز داخل الأوساط اليهودية الأرثوذكسية، وله مؤلفات ومحاضرات تهدف إلى تصحيح المفاهيم حول العلاقة بين اليهودية والصهيونية.
مناهضته للصهيونية
الفصل بين اليهودية والصهيونية:
يؤكد شابيرو أن اليهودية هي دين عالمي ذو طابع روحاني لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالقومية أو الهوية السياسية. ويرى أن الحركة الصهيونية قامت بإعادة تعريف اليهودية لتصبح أيديولوجية قومية بهدف تحقيق أهداف سياسية.
رفض دولة إسرائيل كدولة يهودية:
يعارض شابيرو فكرة أن إسرائيل تمثل جميع اليهود في العالم أو أنها الدولة القومية لليهود. ويشير إلى أن هذا الادعاء يتناقض مع التعاليم اليهودية التقليدية التي تؤكد أن إقامة دولة يهودية يجب أن تكون بيد الإله، وليس من خلال البشر.
نقد الأيديولوجية الصهيونية:
يهاجم الصهيونية باعتبارها حركة علمانية استغلت الرموز الدينية لجذب دعم اليهود حول العالم، في حين أنها تتناقض مع القيم الدينية الأساسية في اليهودية. بالنسبة له، فإن الصهيونية ليست سوى أيديولوجية استعمارية تهدف لتحقيق مصالح سياسية على حساب السكان الفلسطينيين.
الدفاع عن حقوق الفلسطينيين:
يدافع شابيرو عن حقوق الفلسطينيين ويرى أن الظلم الذي وقع عليهم نتيجة المشروع الصهيوني هو انتهاك للقيم الإنسانية والدينية. ويدعو إلى التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين والمسيحيين في فلسطين التاريخية.
موقفه من الحاخامات الآخرين:
ينتمي شابيرو إلى تيار الحاخامات الأرثوذكس الذين يعارضون بشدة الصهيونية، ومن بينهم حاخامات حركة "ناطوري كارتا " (Neturei Karta)، التي تعتبر واحدة من أبرز الجماعات اليهودية المعارضة للصهيونية. ولكنه يعمل بشكل مستقل في كثير من الأحيان لنشر رؤيته.
أعماله ومؤلفاته
كتب يعقوب شابيرو عدة كتب ومقالات حول العلاقة بين اليهودية والصهيونية، أبرزها كتابه الشهير "The Empty Wagon" (العربة الفارغة)، حيث يتناول بالتفصيل الأضرار التي ألحقتها الصهيونية باليهودية وبالهوية اليهودية الحقيقية. في هذا الكتاب، يعرض شابيرو التاريخ الفكري للصهيونية، وكيف استغلت الدين لأغراض سياسية.
نشاطاته ومواقفه
يُلقي شابيرو محاضرات في مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا، لشرح رؤيته حول الصهيونية.
يُظهر دعمه العلني للقضية الفلسطينية، ويشارك في المؤتمرات المناهضة للصهيونية.
يُعتبر صوتًا مؤثرًا داخل الأوساط الأكاديمية والدوائر الدينية التي تبحث في العلاقة بين الدين والسياسة.
الانتقادات التي يواجهها
تعرض شابيرو لانتقادات شديدة من الأوساط الصهيونية ومن المؤيدين لدولة إسرائيل، الذين يتهمونه بتقويض "وحدة الشعب اليهودي". ورغم ذلك، يواصل الدفاع عن مواقفه، مستندًا إلى النصوص الدينية اليهودية والحقائق التاريخية.
رؤيته المستقبلية
يدعو شابيرو إلى ضرورة فصل الدين عن السياسة في القضية اليهودية، وإعادة تعريف الهوية اليهودية كدين مرتبط بالأخلاق والقيم، وليس كأداة لتحقيق مشاريع قومية. كما يشدد على أهمية بناء جسور التفاهم بين اليهود وغيرهم من الشعوب، خاصة في الشرق الأوسط.
الأهمية الفكرية لشخصية يعقوب شابيرو
الحاخام يعقوب شابيرو يمثل نموذجًا لحاخام يهودي محافظ، لكنه يرفض الانخراط في المشروع السياسي الصهيوني. رؤيته تعكس تيارًا داخل اليهودية الأرثوذكسية يسعى إلى الحفاظ على نقاء الدين بعيدًا عن المصالح السياسية، مما يجعله شخصية مثيرة للجدل ومؤثرة في آنٍ واحد.
إن الحاخام يعقوب شابيرو يمثل بجرأته الفكرية وشجاعته الأخلاقية نموذجًا فريدًا في مواجهة واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في العصر الحديث. فمواقفه الرافضة للصهيونية ليست مجرد نقد عابر أو خلاف أيديولوجي، بل هي دعوة لإعادة النظر في جذور العلاقة بين الدين والسياسة، ومساءلة السرديات التي رُوِّجت لتبرير الاحتلال وخلق دولة قومية تُنسب زورًا إلى اليهودية. لقد استطاع شابيرو، بعمق رؤيته وتمسكه بالتعاليم الدينية الأصيلة، أن يكشف عن التناقضات الجوهرية التي تنخر في أساس المشروع الصهيوني، ويدافع عن هوية دينية تستند إلى الأخلاق والقيم الإنسانية، بعيدًا عن التوظيف السياسي والدعائي.
في عالم تهيمن فيه الأصوات الملتبسة والمتواطئة، يُعد شابيرو صوتًا نادرًا للحق والوضوح، يواجه بقوة ووضوح محاولة اختطاف اليهودية وتحويلها إلى أداة سياسية. من خلال رؤيته، يُظهر كيف أن الصهيونية، بدلًا من أن تخدم اليهودية، قد أساءت إليها، وجعلتها شريكًا في مشروع قمعي تسبب في معاناة الشعب الفلسطيني، وأضعف فرص السلام والتعايش في المنطقة.
إن استكشاف فكر يعقوب شابيرو ومواقفه يُبرز أهمية الأصوات النقدية التي تُعيد التوازن إلى الخطاب العام، وتعيد الدين إلى مساره الصحيح كمنظومة أخلاقية وروحية لا يُمكن أن تتماهى مع الاحتلال أو الظلم. كما يُلقي الضوء على قوة الدين كأداة للسلام بدلًا من أن يكون وقودًا للصراعات. وفي هذا الإطار، يُصبح فكر شابيرو جزءًا من خطاب عالمي يدعو إلى العدالة والإنصاف، وإلى ضرورة تجاوز روايات الاستعلاء القومي أو الديني.
ختامًا، يمثل الحاخام يعقوب شابيرو درسًا بليغًا في الشجاعة الفكرية والتزام المبادئ، ويُذكّرنا بأن الدين، في جوهره، ليس أداةً للسيطرة أو الإقصاء، بل هو دعوة للتسامح والتعايش. إن رؤيته تُحاكي الضمير الإنساني، وتُلهم الأجيال القادمة لمواصلة السعي نحو عالم أكثر عدلًا وسلامًا، حيث تُحترم حقوق الجميع بغض النظر عن دينهم أو قوميتهم.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟