اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.
(Ishak Alkomi)
الحوار المتمدن-العدد: 8144 - 2024 / 10 / 28 - 12:27
المحور:
الادب والفن
صِفاتُ المُبْدِعِ الوَطَنِيِّ، الإِنْسانِيِّ، الواقِعِيِّ، والعالَمِيِّ.
جَميعُنا مُبْدِعونَ، حَتّى الأُنْثى الّتي تُنْجِبُ أَطْفالًا لِيُتابِعوا الطَّريقَ الإِنْسانِيَّ مُبْدِعَةٌ، والفَلاّحُ مُبْدِعٌ، والعامِلُ والصّانِعُ الماهِرُ، وكُلُّ مَن يَتَعامَلُ باللَّوْنِ، والكَلِمَةِ، واللَّحْنِ، والتَّصْمِيمِ، والطِّبِّ والقابِلَةِ، والكيمْياءِ، والهَنْدَسَةِ، والسّائِقِ وحَتّى جَدّي جَجّي قَوْمِي مَلْكُو كَتْنِهِ الدّارَاوِي كانَ مُبْدِعًا حينَ تَعَلَّمَ صِناعَةَ نَسْجِ الثِّيابِ والبُسُطِ مِنْ خُوالِهِ بَيْتِ الماري، وكانَ الصّانِعَ الوَحيدَ قَبْلَ المَذْبَحَةِ في قَرْيَتِنا القُصورِ وتُسَمّى الكولِيَّة. وَما بَعْدَ المَذْبَحَةِ، وكانَ أَوَّلَ مَن رَبّى النَّحْلَ في القَرْيَةِ فَكانَ عَسَلُ بَيْتِ جَجّي أَوْ مَنْحَلَتِهِ لا يُمْكِنُ إِلّا وأَنْ يَأْكُلَ مِنْها الصَّغيرُ والكَبيرُ في القَرْيَةِ الّتي كانَتْ ٥٠٠ خانَةٍ أَوْ بَيْتٍ، قَبْلَ المَذْبَحَةِ، وأَصْبَحَتْ بَعْدَها مع كُلِّ أَسَفٍ ٦٠ بَيْتًا أَوْ أُسْرَةً. نَتْرُكُ جَدّي وكانَ مِنَ الضَّروريِّ أَنْ نَأْتيَ عَلَيْهِ لأَسْبابٍ وَجْدانِيَّةٍ، فَقَدْ ظَلَمَتْهُ الأَيّامُ الماضيةُ المنسيَّةُ، وتَطاوَلَ عَلَى جُهْدِهِ أَصْحابُ العَكَلِ الّذينَ عاشَ أَغْلَبُهُمْ عَلَى عَمَلِيَّةِ الدَّيْنِ بالفائِدَةِ. وَكَمْ أَكَلوا أَتْعابَ غَيْرِهِمْ دُونَ أَنْ يَتَحَرَّكَ لَهُمْ أَيُّ طَرَفٍ مِنْ ضَمائِرِهِمْ بَلْ غالِبًا ما اعْتَبَرَها بَعْضُهُمْ فَهْلَوِيَّةً وشَطارةً.
أَمّا صِفاتُ المُبْدِعِ الوَطَنِيِّ والإِنْسانِيِّ والعالَمِيِّ فَلا بُدَّ أَنْ نُمَهِّدَ لِلصِّفاتِ عَلَّها تُنْقِذُنا مِنَ الما وراءِيّاتِ، وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ نَبْقَى في واقِعٍ حَقيقيٍّ لا افْتِراضِيٍّ. وَلِهَذا نَعْتَقِدُ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ كَتَبَ فَهُوَ بِكاتِبٍ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَسَمَ فَهُوَ بِفَنّانٍ تَشْكيليٍّ أَوْ لَوْنيٍّ، ما لَمْ يُجَدِّدْ في ذاتِهِ ويُطَوِّرْ نَفْسَهُ وأَدَواتِهِ ويَتْعَبْ وَيَمْحي، ويَبْري، ويُمَزِّقُ ويَكْتُبُ، والمَوْهِبَةُ أَساسُ الإِبْداعِ، تِلْكَ الّتي تَأتي مَعَ المُبْدِعِ مُنْذُ تَكْوينِهِ الأَوَّلِ وتَتَفَتَّحُ مِنْ خِلالِ بِيئَةٍ أُسْرِيَّةٍ واجْتِماعِيَّةٍ ومادِّيَّةٍ وسِياسِيَّةٍ، تِلْكَ العَوامِلُ الّتي تَقُومُ عَلَى تَطْويرِها وتَعْتَمِدُ عَلَى الشَّخْصِيَّةِ المَوْهوبَةِ حينَ تَسْهَرُ اللَّيالِي ولا تَمَلُّ في الدِّراسَةِ والاسْتِنْتاجِ والاسْتِقْراءِ مِنْ كُلِّ ما تَمُرُّ عَلَيْهِ، ويَمُرُّ بِها، فَكُلُّ حَواسِّ المُبْدِعِ تَعْمَلُ في تَناسُقٍ عَجيبٍ: العَيْنُ، والأُذُنُ، والحَواسُّ، والإِدْراكُ، والشُّعورُ، واللاشُعورُ، الجُمْلَةُ العَصَبِيَّةُ وسِيالاتُها المُتَدَفِّقَةُ، الأَنا الأَعْلى، والفِكْرُ، والدِّماغُ. كُلُّ هذِهِ الأَعْضاءِ ووَظائِفُها تَعْمَلُ في مَجْرًى واحِدٍ وتَتَوالَدُ في رَحِمِ الذاتِ المُبْدِعَةِ آلافُ الصُّوَرِ والأَخيلَةِ والأَفْكارِ، وَحينَ تَحينُ وِلادَتُها تَراها تُولَدُ دُونَ مُقَدِّماتٍ، ولا يُمْكِنُ أَنْ يَكْتُبَ المُبْدِعُ أَوْ يَرْسُمَ ما لَمْ يَكُنْ قَدْ مَرَّ بِمَدارِسَ ومَناهِجَ عِدَّةٍ وعِنْدَها هُوَ لا يَخْتارُ عَناوينَ مَوْلُوداتِهِ، بَلْ بَعْدَما تَكْتَمِلُ عَمَلِيَّةُ الخَلْقِ والوِلادَةِ، وَيَرى تِلْكَ المَوْلُوداتِ فَيُسَمِّيها ويُرَتِّبُ بَعْضَها، وَقَدْ يَسْهَرُ عَلَى بَعْضِها لأَشْهُرٍ حَتّى تَكْتَمِلَ أَجْسامُها كالرِّوايَةِ والقِصَّةِ والْبَحْثِ بِأَنْواعِهِ.
لَكِنَّ المُبْدِعَ النّاجِحَ هُوَ مَن أَخَذَ بِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ الأَوَّلِ:
1=مُعالَجَةُ الواقِعِ ومَشاكِلِهِ وتَقديمُ الحُلولِ لِذاكَ المُجْتَمَعِ الّذي يَعيشُ فيهِ. وَعَمَلِيَّةٌ تَرْكيبيَّةٌ وتَحْليليَّةٌ أَوَّلًا.
2=أَنْ يَكونَ عَمَلُهُ المُبْدِعُ بَعْدَ أَنْ يَكونَ قَدْ تَمَكَّنَ حَقيقةً مِنْ مَرْحَلَةِ التَّقْليدِ، أَنْ يَكونَ وَيُكَوِّنَ إِضافاتٍ إِلى الصَّنْعَةِ الإِبْداعِيَّةِ، وتَطْويرِ آلِيَّتِها لِتَتَناسَبَ مَعَ تَطَوُّرِ الحَياةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَرَّ بِحالَةِ التَّمَثُّلِ، والتَّمْثيلِ، والتَّقْليدِ. وَأَنْ يَقْرَأَ دَوْمًا مَوْلُوداتِهِ قِراءَةَ النّاقدِ لا قِراءَةَ الأَبِ والأُمِّ تُجاهَ مَواليدِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَوَّلْ بَعْدَ الوِلادَةِ الإِبْداعِيَّةِ إِلى نّاقدٍ فَهُوَ لا يُريدُ أَنْ يُطَوِّرَ أَعْمالَهُ الإِبْداعِيَّةَ.
إِنَّ المُبْدِعَ الحَقيقيَّ نِتاجُ مَوْهِبَةٍ أَصيلَةٍ ومُتابَعَةٍ جادَّةٍ وعِشْقٍ لِتِلْكَ الحالَةِ، فَإِذا لَمْ يَكُنْ عاشِقًا لِمَوْهِبَتِهِ وإِبْداعِهِ فَهُوَ لَيْسَ سِوى طَفْرَةٍ وتَنْتَهي.
والمُبْدِعُ الّذي يَنْغَلِقُ على نَفْسِهِ، ويَنْحَصِرُ نَشاطُهُ الإِبْداعِيُّ على مُجْتَمَعِهِ، وأَهْلِهِ وَدينِهِ، ووَطَنِهِ ما هُوَ إِلّا أَحَدُ أَتْباعِ الصَّنَمِيَّةِ والطُّوطَمِيَّةِ. ولا يَسْتَحِقُّ بِالمُعْطَياتِ الإِنْسانِيَّةِ أَنْ نُسَمِّيهِ عالَمِيًّا مَهما كانَتْ أَعْمالُهُ يَكْتَنِفُها الإِبْداعُ والصَّنْعَةُ والمَوْهِبَةُ والأَصالَةُ.
وَعَلَى المُبْدِعِ الحَقيقيِّ، أَنْ يَقْرَأَ لِلعالَمِ أَناشيدَهُ وَمِنْ أَجْلِهِمْ يَعْمَلُ، ويُشارِكُهُمْ تاريخَهُمُ المَأْساوِيَّ وانْتِصاراتِهِمْ وأَفْراحَهُم وأَعْمالَ العُظَماءِ مِنْهُمْ. وَأَنْ يَعْمَلَ على نَقْلِ رِسالَةِ مُجْتَمَعِهِ إِلَيْهِمْ بِكُلِّ أَمانَةٍ دُونَ أَنْ يُزَيِّفَ واقِعَ أَهْلِهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَأَ تِلْكَ المَزاميرَ الّتي كَتَبَها على أَبْناءِ مُجْتَمَعِهِ ووَطَنِهِ.
لِهَذا فَعَلَى المُبْدِعِ العالَمِيِّ تَقَعُ مَسْؤُولِيَّةٌ وَطَنِيَّةٌ وإِنْسانِيَّةٌ في أَنْ يَحْمِلَ إِلى العالَمِ أَحْزانَ أُمَّتِهِ، وشَعْبِهِ ووَطَنِهِ. إِنَّها مَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ مِفادُها أَنْ يَكُونَ هَدَفُ إِبْداعِهِ إِنْسانِيًّا أَوَّلًا، وأَنْ يَحْمِلَ كُلَّ الصِّفاتِ الإِنْسانِيَّةِ وَما تَتَوَقُّ إِلَيْهِ في خِطابِها العامِّ ثانيًا.
وإِذا تَحَقَّقَ لَهُ ذَلِكَ وبِكُلِّ شَفافِيَّةٍ دُونَ أَنْ تَخْضَعَ أَعْمالُهُ لِلِابْتِزازِ السِّياسِيِّ والوَطَنِيِّ ومِنْ قِبَلِ تُجارِها الّذينَ أَثْبَتَ التّاريخُ السِّياسِيُّ على مَدى الحَياةِ البَشَرِيَّةِ، بِأَنَّ هُناكَ مِنَ المُبْدِعِينَ وَهُمْ كُثْرٌ قَدْ ظُلِموا عَبْرَ التّاريخِ، ولَكِن لا يُمْكِنُ إِلّا وَأَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ العُظَماءِ وَيَنْتَشِلُونَهُمْ مِنْ أَعْماقِ البِئْرِ الّذي رَمَوْهُمْ فيهِ إِخْوَتُهُمْ كَما يُوسُفَ الصَّدِيقِ (يُوسُفَ الحَسَن). وَعِنْدَها كَمْ مِنْ مُبْدِعٍ؟!! قاوَمَهُ السُّخَفاءُ والأَجْلافُ والشُّوفِينِيُّونَ مِنْ مُحيطِهِ، وَلَكِنَّهُ حينَ قَيَّضَ اللهُ لَهُ أَنْ يَتَعَمْلَقَ في العالَمِ وغَدَتْ أَعْمالُهُ لا تُقاوِمُ أَكْبَرَ دُورِ العَرْضِ والمَسارِحِ، أَنْ تُعْرَضَ أَوْ تُقْرَأَ لَهُ... راحَ أُولئِكَ الأَقْزامُ يَتَمَسَّحُونَ بِثِيابِ الظِّلِّ ولَكِنَّ العالَمَ يَعْرِفُ كَمْ كانُوا وسَيَبْقَوْنَ صِغارًا لا يَكْبُرُونَ رَغْمَ الزَّمَنِ الّذي مَرَّ عَلَيْهِمْ.
المُبْدِعُ يَسِيرُ بِخُطىً وَئيدَةٍ وواثِقَةٍ، بِكُلِّ اعْتِزازٍ مَهْما كَثُرَ مِنْ حَوْلِهِ الضَّجيجُ والعَوَاءُ.
والمُبْدِعُ الّذي لا يُحَطِّمُ الأَصْنامَ المَعْهُودَةَ، فَهُوَ عِبارَةٌ عَنْ مُقَلِّدٍ، في إِحْدى عَرَباتِ الغَجَرِ حينَ يَعْرِضُونَ السِّيرْك الّذي طالَما دَخَلْتُهُ لِأَتَعَلَّمَ مِنَ المُبْدِعينَ داخِلَ السِّيرْكِ، وَأَنا ابْنُ الخَمْسِينَ عامًا.
المُبْدِعُ الحَقيقيُّ أَكْبَرُ مِنْ وَطَنٍ ومِنْ أَيِّ سُلْطانٍ أَوْ رَئِيسٍ أَوْ أَميرٍ كانَ. وَلَكِن عَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَ رِسالَتَهُ العالَمِيَّةَ دُونَ أَنْ يُقَيِّدَهُ دينُهُ أَوْ وَطَنُهُ وسِياساتُهُ وعَلَيْهِ أَلّا يَبْقى في المَكانِ رَغْمَ عِشْقِهِ لَهُ وإِخْلاصِهِ لِلأَرْضِ الّتي وُلِدَ وعاشَ عَلَيْها. وَالمُبْدِعُ الحَقيقيُّ والإِنْسانِيُّ لَيْسَ ذاكَ الّذي يَرْمي (في البِئْرِ الّتي شَرِبَ مِنْها) بَلْ عَلَيْهِ تَقَعُ مَسْؤُولِيَّةُ تَنْظِيفِ تِلْكَ البِئْرِ كُلَّما احْتاجَ إِلى مَنْ يُنَظِّفُها.
المُبْدِعُ العالَمِيُّ لا يَعْني أَنْ يَضْرِبَ عَرْضَ الحائِطِ بِأَمْنِ بِلادِهِ، وإنْ أَمْكَنَهُ ساعَدَها على تَجاوُزِ مَفاهيمَ عَتيقَةٍ، بالِيَةٍ، غَيْرِ مُجْدِيَةٍ. وأَنْ يَنْصَحَ الحاكِمَ والعِبادَ لِأَنَّهُ يَحْتَرِمُهُمْ ويُحِبُّهُمْ وَهُوَ لَهُم مَهْما كَبُرَ بِهِ الزَّمَنُ فَإِلى ذاكَ الوَطَنِ يَنْتَمي.
المُبْدِعُ هُوَ الإِنْسانُ الّذي تَكْتَمِلُ عِنْدَهُ مَعانِي الإِبْداعِ بِكُلِّ تَجَلِّياتِها، وصِفاتِها ومُقَوِّماتِها.
اسحق قومي.18/1/2019م. شتاتلون. ألمانيا.
#اسحق_قومي (هاشتاغ)
Ishak_Alkomi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟