نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 8128 - 2024 / 10 / 12 - 22:36
المحور:
كتابات ساخرة
تذكرون، وربما لليوم ما زلنا نخضع كمواطنين، لذات النمط من التحقيق الرسمي والدراسات الأمنية المكثفة والمتعددة والتي تقوم بها عدة جهات وإدارات أمنية، تتقاطع بعدها المعلومات، عن طالب وظيفة، أو موفد، أو بائع وشارٍ لعقار أو سيارة، أو باحث عن عمل في الدولة وجهات القطاع العام، والمهم في هذا، هو "الاستمارة الأمنية" التي يكتبها مقدّم الطلب، ويدوّن فيها اسمه الرباعي أو الخماسي، واسم أبيه، وأمه، وتاريخ ومكان ولادته، وهذا لا يكفي، فيطلب منه تدوين الخانة ورقم "القيد" (وذلك لمعرفة ديانته وطائفته وعرقه وأحياناً عشيرته وقبيلته)، ولا ينتهي الأمر ها هنا، وحسب، بل والأهم يطلب منه كتابة أسماء إخوته وأصدقائه، ومن يمكن السؤال عنه، ومن له متنفذ بالدولة، وعمل هؤلاء وزوجاتهم واسم جدّه وجداّته، وأخوات جدّته، وإخوان جدّه، وأخواتها وأخواله وخالاته وأزواجهن، وأعمامه وأولاد أعمامه وزوجاتهم، وزوجة عمه وإخوتها وزوجاتهم وأنسبائهم وأصهارهم، ومعرفة إين تنتهي سلالته لسام أم لحام، لقابيل أم لهابيل أم لأبي البشرية آدم عليه السلام، وأسماء عمّاته وما هو عمل كل هؤلاء ومكان إقامتهم، ومن هم أقرباؤه بالجيش وخارج سوريا وأين يقيمون وماذا يفعلون، ووو وبعد طول جهد وبحث ووصلة عبس قمطريرة يبتسم العريف الأمني الغضنفر، وتنفرج أساريره وكأن رسالة الخبز أو الرز قد وصلته للتو، ويقول للمواطن، " روح ونحنا منتصل فيك"، وطبعاً كل هذا الجانب الأمني لا علاقة له بالموضوع، وإنما من باب الدعابة والسرد والذكرى التي تنفع المؤمنين، فالمهم بالأمر، وهو موضوع المقالة، ذاك السيل الجارف من المعلومات الشخصية التي يجهد المحقق الأمني في تحصيلها، والتي قد تتطلب في أحايين كثيرة زيارة و"كبسة" من المحقق الأمني لقرية أو حي "المذكور" (لا يطلقون عليه، أبداً، ولو على قلع عينيه، صفة المواطن أو السيد كما هو معمول به في كل دول العالم)، لجمع المزيد من المعلومات عن الشخص صاحب الاستمارة.
لكن وبكل بساطة، هذا ما تفعله، وتقدّمه، أوراق النعوة، ليس للجهات والإدارات الأمنية، وحسب، ولكن لجميع إدارات الأمن بالعالم، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي –أي أوراق النعوة- تشرّح المتوفي تشريحاً، وتبيّن عمره وتاريخ ميلاده وولادته واسم قريته واسم المقبرة ووقت الدفن والجامع أو الكنيسة التي سيصلى عليه هناك، ومكان دفنه وقبول التعزية فيه وكلها "إحداثيات" حقيقية وحسّاسة، وقد تكون خطيرة، فيما إذا كان هناك ذكر لشخصيات عامة في ورقة النعوة، لا بل تكشف، وتفاخراً أحياناً، عن نسب وأصل وفصل وشبكة علاقات المتوفي وطراز حياته وتداخلاته "السلطوية" وزيجاته ومصاهراته ودرجة قرابته وبعده من أصحاب القرار أحياناً، والمسؤولين، لا بل والأنكى من ذلك، تفيد "المهتمين" والجهات "صاحبة الاختصاص"، (داخلياً أم خارجياً)، بكل المعلومات المطلوبة عن المتوفي تماماً كالاستمارات الأمنية طيبة الذكر، والتي تجهد أجهزة تجسس في غير مكان وعلى غير مستوى في الحصول عليها ومنها "الفيسبوك" مثلاً، (صارت فضائح مزلزلة ومجلجلة عن سرقة وتقديم بيانات فيسبوكية)، وتقدّم ورقة النعوة لهم أسماء أبيه وأمه، وفيما إذا كانوا أمواتاً أو أحياءً، واسم زوجته وأخواتها، وأصهارها وأولاده وزوجاتهم ومستوى تحصيلهم العلمي (مدرس، محامي، دكتور، صيدلاني، ضابط، موظف...إلخ) وأقربائه من الفروع والأصول وأنسبائه، وأصهاره، وخالاته، وعمّاته، وجميع أقربائه في الوزارات والدوائر الحكومية ومناصبهم وحتى في الجيش كذكر اسم اللواء فلان، والعميد كذا والرائذ ذاك، والعقيد المتقاعد علتان، والمرحوم سين، وهذا المقيم في سين مكان، كما يضاف لذلك سلسلة العائلات المرتبطة بالمتوفي كآل فلان، وآل فلان وآل وآل وآل وآل حتى تصل لعشرات الأسر والعائلات داخل سوريا وخارجها (خاصة بالنسبة للسنّة العرب من أبناء القبائل وأقربائهم وأنسبائهم في الجزيرة العربية وهذا نادراً ما لا ينطبق على بقية المكونات كالأرمن والنصيرية والشركس والتركمان والأكراد والمسيحيين ووو)، وهذا حقيقة ما قد يعجز عنه أي فرع "معلومات" متخصص، أنصحه بالرجوع لأوراق النعوة لجمع أهم البيانات عن "المذكورين". ربما المحظوظون، ها هنا، والناجون هم أولئك الذين لا ولم يسمح "أمنياً" بكتابة أوراق نعوة لهم ونشرها على الملأ لأسباب عدة وحصل الأمر كثيراً، أو أولئك الذين لا حسابات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الأوراق –أوراق النعوة- تـُطبع وتوزّع في كل قرية وحي وشارع وناصية وركن وتلصق على كل جدار وعلى مواقف الحافلات وفي الصحف الرسمية ومداخل الدوائر الحكومية وصارت تنشر لاحقاً في حقب السوشلة المعاصرة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة لتصبح "جرصة" حقيقية بحق المتوفي وليست ورقة نعوة رسمية ستتمكن من خلالها من جمع كل المعلومات ومعرفة أصله وفصله وطائفته وعائلته وعشيرته ومذهبه وعرقه وشبكة علاقات المتوفي وهل هو فقير أم ميسور وحتى فيما إذا كان موالياً أم معارضاً، مرضياً عنه أم مغضوباً عليه (يعني تقييماً أمنياً تلقائياً). ومن فترة ليست مديدة، قرأت، مثلاً، عن قريب نافذ لشخصية متوفاة فعرفت على الفور سبب حصول المتوفي على تلك الوظيفة المرموقة لعقود، بغض النظر إن كان مؤهلاً لها أم لا، معلومة كنت أجهلها تماماً لولا ورقة النعوة تلك التي قدمتها لي ورقة النعوة، على طبق من ذهب، وأنا جالس "أكبّس" بالموبايل دون مبارحة مكاني وكتابة استمارات أو بذل أية جهود أمنية وتفكك لك الكثير من الأسرار والألغاز.
تشكل المعلومة، اليوم، ومهما كانت درجتها وحساسيتها، وطبيعتها، ونوعيتها واحدة من أهم الركائز والأركان والأسس التي تـُبنى عليها قرارات ومواقف هامة، وربما تكون خطيرة وتبحث عنها وتستغلها جهات عديدة لتحقيق نفع عام أو خاص، تكتكيكي أم استراتيجي، تقوم أوراق النعوة، وبكل أسف، بتقديمه لقمة سائغة، وبالمجان، وعلى طبق من ذهب لهذا أو ذاك ولكل من هبّ ودبّ وقبّ على وجه الأرض.
ربما كانت سوريا، والتي تعتبر، اليوم، واحدة من قلة قليلة من أنظمة العالم "الحديدية" الباقية والمتبقية، والتي تحكمها قبضة أمنية فولاذية، تـُحصي على المواطنين أنفاسهم، وتتحكم بحياتهم ومستقبلهم ومصائرهم وتقرر لهم حياتهم، وتحاول أن تضبط وتتابع كل شاردة وواردة في حياتهم، ولا هم ولا عمل لها سوى شؤون وحياة المواطن، لكن أوراق النعوة هذه تشكل أكبر اختراق أمني ربما على مستوى العالم، فظاهرة أوراق النعوة هذه بهذا الشكل المنفـّر والغريب، هي واحدة ربما، أيضاً، من أكبر الخروقات الأمنية على مستوى العالم، التي تقدم "استمارات أمنية" مجانية لمن يرغب ما يجعلها مستباحة ومفتوحة على مصراعيها أو على القبلي أو البحري بالعامية المصرية"، وتجعل تلك القبضة الفولاذية كرتونية وبلاستيكية وليست ذات قيمة جاعلة جهود رجالاتها قبض ريح وهباءً منثوراً....
( لا يتبـع)
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟