|
كأسُ أمي… وابتسامةُ العالم!!!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 8094 - 2024 / 9 / 8 - 10:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial اليوم ٥ سبتمبر في التاسعة مساءً، سوف تموت أمي، ولا شيء في الحياة سيظلُّ على حاله. سوف تكتسي الأشياءُ بغمامة رقيقة من الإعتام، فتصيرُ الألوانُ باهتةً لا إشراق فيها. لكنَّ ثمة شيئًا إيجابيًّا سوف يحدثُ رغم هذا. شيءٌ رحيم. شيءٌ مُطَمْئِن. شيءٌ مريح. اختفاءُ الخوف من رحيلها. لأنها رحلت. أرحمُ ما في موت الأمّهات، أنهنّ لن يمُتن مرّةً أخرى. تموتُ الأمهاتُ مرةً واحدة، فقط، وينتهي الأمر. هو مُرٌّ علقمٌ تتجرّعه كأسًا واحدةً جَرعةً واحدةً، ثم يزولُ الرعبُ السابقُ له، وتستمرُّ المرارةُ اللاحقةُ له. سيدرك كلامي مَن يرتبط بأمّه كثيرًا، حيث هي الصخرةُ والسندُ والحضنُ والملاذ. هذا الإنسانُ يظلُّ يعيشُ حالاً دائمة من القلق من فكرة فَقدِ أمّه. ولا يتوقفُ ذاك القلقُ إلا حين تذهبُ الأمُّ إلى فردوس الأمهات، فيتحرّرُ من الخوف. تلك هي الرحمةُ الوحيدة في موت الأمهات. يوم غدرتني "سهير" وغادرتني قبل سنوات، كتبتُ في زاويتي هنا بجريدة "المصري اليوم" مقالا عنوانه: “صوتُ أمي لا يطيرُ مرّتين". واسيتُ فيه نفسي بأن الرعبَ من فكرة "فقد أمي"، قد رحل مع رحيلها. فقدتُها وانتهى الأمرُ ولن أفقدها مجدّدًا. فلا أحد يموتُ مرتين. منذ طفولتي وأنا أعيش ذلك القلق: “ماذا لو اختفت ماما؟". فقد كانت السندَ الوحيد لي في هذا العالم. ولكن، بعد مرور بضعة أيام على رحيلها، سرعان ما اكتشفتُ الخدعةَ التي واسيتُ بها نفسي؛ إذْ أيقنتُ أن أمي لم تمُت مرةً واحدة كما أوهمتني، بل تموتُ كلما احتجتُ إليها فلا أجدها حولي. كلما رفعتُ الهاتفَ لأكلمها، ولا ترد، كلما طُفتُ ببيتها ولا أجد سيارتها البيضاء العجوز، كلما رفعتُ عيني نحو شرفتها وأبصرتُها مغلقة. كلما داهمتني مشكلةٌ، أركضُ إليها، فأكتشفُ أنها لم تعد هناك!! وأتجرعُ كأسَ فقدها من جديد. بعد هذا الكشف الحزين اعتذرتُ لنفسي وللقراء بمقال حزين عنوانه: “أمي تموتُ كلَّ يوم"، نقضتُ فيه مقالي القديم وتساءلتُ: “هل اختفى صوت أمي للأبد؟" وسألتُ الَله يائسةً على استحياء، أن يصنعَ معجزةً ما ويُعيد لي أمي! كان ضربًا من جنون الخيال أتوسّلُه لكي أقوى على مواصلة الحياة. في ذلك اليوم حدث أمرٌ عجيب. وقعت عدّة مصادفات عبثية، لا تحدثُ إلا في الأفلام الهندية؛ ووجدتُ في حياتي فجأةً أمًّا رائعة منحتني حنانًا لم أجرؤ على الحلم به. إنها هدايا الله المستحيلة التي يعجزُ العقلُ البشريُّ المحدود عن تصوّرها أو استيعابها. نطلبُ من الله شيئًا عصيَّ المنال ونحن ندرك في لا-وعينا أنه مستحيل، فيمنحُنا اللهُ ما يفوق أحلامَنا. سنواتٍ طوالاً، منحتني تلك الأمُّ الروحية ما يصعُب حكيه. كانت السندَ والرحمةَ والفرحَ والحُبَّ والرعاية، ورقصتْ على لساني من جديد أجملُ الكلمات وأشهاها: “ماما". وبعد سنوات من السلوى، رحلت تلك الأمُّ الطيبة، وتذوّقتُ كأسَ اليُتْم من جديد. وتعلّمتُ أن أقسى وأقصى ألوان الحرمان، يأتي بعد المنح. ولكي أوقفَ نزفَ هذا المقال الحزين، وكاعتذار لك أيها القارئ الكريم؛ إذ جعلتك تتذوق معي مرارةَ الكأس، دعوني أختتم المقالَ بشيء مرح من طرائف أمي، السيدة الجادّة التي كانت قلّما تبتسم. في أحد صباحات عام ٢٠٠٦، استيقظتُ على رنين الهاتف، وإذا بأمي تصرخ: (العالم كلّه ضدك؟!!!! يا نهار أسود!!!! كتبتي ايه؟!) انتفضتُ من السرير فزعةً؛ إذْ أعلمُ عن أمي الجديّة وعدم المزاح. (مش فاهمة يا ماما بتتكلمي عن ايه؟ إهدي طيب وفهّميني! ) أجابت بهلع: (مانشيت في "الأهرام" النهارده بيقول: “العالم يُحذّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد!). وبدأتْ في قراءة متن الخبر بصوت مُتهدِّج: (صدر مؤخرًا للشاعرة "فاطمة ناعوت" كتابٌ جديد بعنوان "الكتابة بالطباشير”. ويقول المفكرُ الكبير "محمود أمين العالم” في تصدير الكتاب: "أيها القارئ العزيز، حـذارِ أن تصدِّقَ عنوانَ هذا الكتاب! فكتابتُه لم تتحقق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشير! فهي ليست بالكتابة السَّطحية التي يمكن أن تُمسح أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحق كتابةٌ بالحفر العميق في حقائقَ وظواهرَ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثية والمعاصرة...”). وبعدما تحققت أمي من أن الأستاذ يمتدحُ كتابي، راحت تضحك من قلبها، ثم قالت: (النهارده هاقرأ الكتاب.) أغفل المانشيت وضع الكسرة تحت حرف "اللام"، فقرأتها أمي: “العالَم، بدلا من العالِم". وظنّت أن العالم ضدي! ألم أقل لكم إن "المقال لا يُقرأ من عنوانه"؟! رحم الله أمي والعالم، أستاذي العظيم. ملحوظة: “تعمدتُ وضع عنوان مراوغ للمقال، لكي أثبتَ الفكرةَ التي طرحتُها في مقالي يوم الاثنين الماضي: "المقالُ" لا يُفهم من عنوانه. "الكتابُ" لا يُقرأ من عنوانه. "الفيلم" لا يُشاهَدُ من عنوانه.
***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الملحد-... والمغالطات المنطقية
-
-لعبةُ النهاية- … العبثُ المخيف!!
-
-سميرة- العسراء … وأغسطس!
-
“سُميّة رمضان-… والذين معها
-
أقدمُ لكم ... أبي
-
“العيال فهمت- … إشراقةُ المسرح الكوميدي
-
حاجة تخوّف… المعذّبون أمام المرآة!
-
“جريمة بيضاء-… في محكمة الضمير!
-
ماكبث… إلكترا … رؤى حداثية مدهشة
-
“سميحة أيوب”... إشراقة مهرجان المسرح المصري
-
-شلبي- … الناس ال كلّ حاجة
-
-ماسبيرو- … هرمُ مصرَ الرابع
-
الموتُ … الفقدُ…. غيابُ الأمل
-
١٨٠ درجة … -لا تُهمِلِ الموهبةَ التي فيك-
-
محمود العلايلي إليك (سنبلةَ) القمح
-
هدايا لم تُفضّ أغلفتُها بعد
-
هداياك التي لم تفضّ أغلفتَها بعد (١)
-
النبلُ … صوتُ الدفاع عن حقّ الآخر
-
فتحُ الكنائس للمذاكرة… هل ثمرة المُحبّ جريمة؟!!
-
المذاكرةُ في بيوت الله… من دفتر المحبة
المزيد.....
-
فلسطين.. ملثمون يعتدون بالضرب على رئيس بلدية الخليل أثناء خر
...
-
سوريا: وزيرا الداخلية والعدل يتعهدان بمحاسبة المتورطين في حا
...
-
وفاة شاب داخل المسجد الأموي بدمشق.. والداخلية السورية تعلّق
...
-
اعتقال حاخامات يهود خلال احتجاجات في واشنطن ونيويورك للمطالب
...
-
زياد الرحباني.. خاطب الوعي وانتقد الطائفية بأعماله الفنية
-
وزير التراث الإسرائيلي يدعو لاحتلال قطاع غزة كاملا والتخلي ع
...
-
خارج الحدود.. الإخوان يعيدون تشغيل -ماكينة التحريض- ضد مصر
-
قصة النفوذ اليهودي في بنما
-
موقع أميركي: الكنيسة العالمية فشلت بواجبها إزاء الإبادة في غ
...
-
منذ “الربيع العربي”.. هل تمكنت دول الخليج من تحييد الإسلام ا
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|