أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - قصي الصافي - متاهة الهوية الفردية في العصر الرقمي















المزيد.....

متاهة الهوية الفردية في العصر الرقمي


قصي الصافي

الحوار المتمدن-العدد: 8063 - 2024 / 8 / 8 - 10:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لو بعث ديكارت في هذا العصر لاستبدل مقولته الشهيرة ( انا افكر اذن انا موجود) بعبارة (انا على الانترنيت اذن انا موجود)
خليل ليواني

من طبيعة الانسان انه يتطلع الى شئء من التميز، يزداد ثقة بذاته عندما يطري الآخرون خصاله الحسنة، ويشعر بالندم اذا ما بدر منه ما يلام عليه ويقلل من شأنه. التميز يمثل جوهر هويتك الفردية، شعورك بانك مختلف عن الآخر وشعورك بانك تتسم بصفات مميزة لك يمنحك هويتك الخاصة، ولا يعني هذا ان هوية المرء شعور ذاتي محض، وإلا لما اشتقت من الضمير ( هو) وليس من الضمير (أنا). الهوية الفردية لا معنى لها خارج التفاعل مع الجماعة، دون ان يعني ذلك بان الجماعة تفرض او تتدخل قسراً في رسم ملامح هويتك الفردية، وانما هويتك تتشكل عبر علاقة مركبة بين الأنا والآخر، فانت تصنعها عبر الآخرين، صفاتك، أفكارك، قدراتك المعرفية والمهنية أو العلمية، نشاطاتك في المجتمع، مواقفك ومجمل سلوكياتك تنعكس لتعود عليك على شكل تقييم جمعي يعطي شرعية لأحساسك بالتفرد النسبي عن الآخرين، كما انك تجدد هويتك الفرديه عبر .التفاعل معهم، فالهويه ليست ساكنه بل هي في حركه وتجدد دائم مع الزمن

الليبراليه الجديده - وباستثمار هيمنتها على الاعلام بكل اشكاله- تعمل على عزل الفرد عن الجماعه عبر ترسيخ الفردانيه، خاصه في مجتمعات الاطراف - على اعتبارها فتوحات جديده لها-، والفردانية في خطاب الليبرالية الجديدة ليست دعوة للحريه والاستقلال النسبي للفرد عن الجماعه، وانما ترسيخ لمفهوم الحريه المطلقه والاستقلال المطلق وانعزال الفرد في كهف الذات. لقد شاعت في الفضاء الالكتروني مقتضبات هلامية المعنى على غرار (كن كما انت ولا تابه للاخرين) او (اذا احسست ان خطواتك تتناغم مع خطى الجماعه فتاكد انك على خطأ وانك سائر مع القطيع)، أو ترديد مقولة سارتر بعد إفراغها من محتواها الفلسفي ( الآخرون هم الجحيم) وما الى ذلك من مقتضبات ترتدي البسة الحكمة الزائفة. الفردانية بصيغتها الليبرالية الجديدة تموضع في كهف الذات بكل رغباتها ونزواتها ونزعاتها وتكريس للأنانية والذاتوية، بهدف استبدال المواطن بكائن اقتصادي مستهلك، وخاصة في مجتمعات الاطراف من اجل اقتحام اسواقها واستثمارها، و لهذا ارتباط وثيق في تصنيع هوية افتراضية زائفة، وترسيخ المفهوم الجديد للهوية بمعزل عن الجماعة، المفهوم الذي يجري تسويقه وتسويغه بنشاط حثيث في الاوساط المتعولمة. الهوية الفردية الأصيلة مشروع بناء دائم التجدد من خلال التواصل عبر شبكة من العلاقات الاجتماعية والاحداث والمواقف، باختصار عبر ممارسة الحياة في الوسط الاجتماعي للفرد، والهوية المكتسبة من الوسط الاجتماعي الحقيقي هوية حقيقية راسخة، بيد أن الرسوخ هنا لايعني السكونية وانما التماسك والديمومة، على عكس .الهوية الرقمية التي تفتقر للاستقرار والتماسك

الهويات الإفتراضية تعوزها الاصالة والواقعية لانها تنتمي الى الواقع الفائق بتعبير الفيلسوف الفرنسي جان بورديار.
يرى بورديار ان الاعلام التقليدي سابقا ما كان ليقدم لنا الواقع كما هو، بل هو يعرض صورة مستنسخة عنه، ومع ذلك فان النسخة المصورة تبقى محتفظة بنوع من العلاقة مع الصورة الاصل، الا ان الاعلام الرقمي اليوم - بفعل التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات- يصنع لنا واقعا بديلا متكاملا يعتمد الصورة والرمز واللغة والتشبيه والمحاكاة، انه الواقع الفائق hyper reality، وهذا الواقع البديل المتخيل لا يزيح الواقع الحقيقي فقط بل يميته ويرسله الى مقبرة النسيان، وهو لا يقتصر على الدعايات التجارية والترويج للاستهلاك المادي، بل يقتحم مسرح السياسة والعلاقات الإجتماعية والفكر وكل مفاصل .الحياة

الهويات الافتراضية في ظل الواقع الفائق هويات وهمية متخيلة، فقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي الفرد حرية شبه مطلقة لبناء بروفايله الخاص، والعمل على مشروع بناء هويته الافتراضية بنفسه، فهو حر في فبركة سيرته المهنية والسياسية والاجتماعية، يصرح، يتنمر، يحابي ويحابى، يحلل ويقيم في كل المجالات، وفي اغلب الاحيان دون رصيد معرفي .او موهبة كافية
الاعلام الرقمي المعولم بامكانه على سبيل المثال ان يصنع لشخصيات سياسية -ابرز ما في هويتها الحقيقية الخرف او الحماقه- هويات افتراضية يظهرون فيها كقادة وسياسيين محنكين، وبهذا يحوزون على حب وتاييد شرائح واسعه من المجتمع، شرائح مغيبة تعيش هي ايضا اوهام الواقع الفائق، خاصة ان لعقل الانسان طبيعة مرنة تجعله عرضة لإعادة تشكيله عبر التأثر بالصورة والرمز والتشبيه والمحاكاة.

للاعلام الرقمي- الموجه من قبل الشركات العملاقة والدول التي تمتلك مفاتيح التحكم ببنك المعلومات والبيانات- آثار خطيره على وجدان وعقل الانسان المعاصر. الابتكارات في مجال تكنولوجيا الاتصالات وتطورها السريع لا يتيح لعقل الانسان فرصة تأمل ومعالجة اثارها السلبية، خاصة ان ذلك لم يكن يوما من اهتمامات الشركات الرقمية التي ينحصر هدفها بالربح وبالمزيد منه.

نسبح في فضاء المنصات الإلكترونية المختلفة كل يوم، نتفاعل مع اناس افتراضيين لا نعرفهم، يتقمص الكثير منهم هويات مستعاره خفية، ومنهم حتى عقول صناعية او جيوش الكترونية موجهة. لكل ذلك اثر كبير على ميولنا ونمط تفكيرنا وفهمنا لانفسنا والاخرين، وبالتالي له اثر بالغ في تشكل هوية رقمية خاصة بنا، هوية متخيلة ترتكز على المحاباة والادعاء والفبركة في كثير من الاحيان، نبدي عواطف واعجابات مبالغ بها ونستقبل مثلها، نظهر صفات لا نمتلكها في الواقع الحقيقي، كأن نظهر مثلا شجاعة التصدي الى حد البذاءة لمن نختلف معه، والتنمر على من نشاء على الانترنيت دون ان نتوقع اي عواقب، .فالآخر المختلف افتراضي، الامر الذي لا نقوى على فعله في الوسط الاجتماعي الحقيقي.

من الظواهر الجلية ايضا لزيف الهويات الرقميه صعود نجم الاغبياء واصحاب المحتويات الهابطة، او اولئك الذين يمتلكون القدره على اثارة عواطف وغرائز الاخرين والتلاعب بافكارهم وميولهم ،تلك المكانه التي يتمتعون بها على الانترنيت قد لا يحلمون بحيازتها في اوساطهم الإجتماعية الحقيقية، فتلك المكانه عادة ما يحتلها في الوسط الاجتماعي الحقيقي العالم والمثقف او الكريم وصاحب الاخلاق الرفيعة والمواقف النبيله او المناضل الوطني الحق.

الهوة الكبيرة بين هويتنا الرقمية المتخيلة وهويتنا الحقيقية تستولد حالات من التوتر النفسي والازدواجية المرضية، تودي بنا الى متاهة وعجز عن ادراك كنه ذواتنا، وذلك بسبب العيش تناوبا بين عالمين متناقضين بشكل حاد، ويشتد التناقض لتعدد الهويات الرقمية التي نتقمصها، فللفرد هويات مختلفة -او لنقل اقنعة مختلفة في كل منصة إلكترونية يشارك فيها- تتناقض مع بعضها البعض من جهة ومع الهوية الاجتماعية الحقيقية من جهة اخرى.

تكنولوجيا الاتصالات والتطبيقات الالكترونيه قد يسّرت الانغماس في الفضاء الالكتروني، مما يعني زحف العالم الرقمي على العالم الحقيقي وتقويضه تدريجيا، بمعنى انحسار تفاعل الفرد مع الوسط الاجتماعي الحقيقي، ولم يعد مشهدا غير مألوف ان نجتمع اجسادا في مكان ما وننعزل فكرا وروحا، اذ ينشغل كل منا بالانغماس في عالم الانترنت ولهذا اثر بالغ في تكيفنا على الاوهام والعيش في عالم الماتريكس، فمن طبيعة الانسان مرونة التكيّف عقلا وعاطفةً.

اللحظات الجميلة والاحداث التي تسعد المرء في الواقع المعاش لحظات حقيقية تظل راسخة في الذاكرة، بينما تتحول في الواقع الافتراضي الى عملية حصد لأيموجيات واعجابات من قبل اناس لا يعرفهم، ولا علاقه لهم بحياته، انها لحظات سعادة عابرة تختفي ما إن يبتعد هو عن لوحة المفاتيح، وهذا ما يستولد ضمأ دائما وتوقا مرضيا وبحثا دائما عن تلك اللحظات، هذا اضافة الى ما يسببه من رغبة دائمة للغوص اكثر بعالم الانترنت والانفصال عن الواقع الحقيقي.

من الجنون طبعا انكار ما قدمته تكنولوجيا الاتصالات من منافع جمة وما وفرته من ادوات متطورة للاستزادة المعرفية وتبادل المعلومات، الا ان الاثار الجانبية على وجدان وفكر الانسان وما يترتب عليه من تفكيك للعلاقات الاجتماعية بحاجه الى اهتمام علماء النفس والاجتماع وعلماء الابستمولوجيا غير المستفيدين من سطوه راس المال واغراءاته، على الاقل للخروج بحصيلة توصيات ودعوات لاصحاب القرار لتشريع وتنفيذ الزامات ومحددات على الشركات المهيمنة على المعلومة وتكنولوجيا .الاتصالات، التي لا يلزمها الآن سوى ضمأها الذي لا يرتوي للارباح.



#قصي_الصافي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسلسل محو الذاكرة الوطنية التقاء التيار العدمي مع الاسلام ال ...
- جون لوك والاستعمار الاستيطاني
- اسرائيل لا تستهدف المؤسسات الصحية أبدا ؟ً ج1
- ما الذي كان سيقوله ماركس عن غزة؟
- بين اللبرالية ودعاتها في العراق
- أزمة أخرى أكبر في طريق الجمهورية الإسلامية في ايران
- تأملات خارج النص
- كيف عمل فريق اوباما- بايدن على تمكين القاعدة في سوريا
- حفاضات أطفال في قبضة السي آي أي
- هل تقودنا الرأسمالية الى الجنون؟ الجواب المختصر : نعم
- شجعت أميركا على الفساد بأفغانستان لعدة سنين وطالبان تدرك ذلك
- الدولة الفاشلة صناعة مشتركة
- أغلال الديون في بلدان الجنوب عبء على كاهل العمال في كل مكان
- لن يهزم أردوغان الكفاح من أجل الديمقراطية في تركيا أبداً
- تركيا تشن حملة وحشية في كردستان
- كيف تخلت المنظمات غير الحكومية عن حركات التغيير الجذري في ال ...
- كيف تخلت المنظمات غير الحكومية عن حركات التغيير الجذري في ال ...
- اطفال الفلوجة: اللغز الطبي في خضم الحرب على العراق
- لنتذكّر كيف تهيمن قوى الاستبداد
- شهر عسل منفّر بين اسرائيل والامارات


المزيد.....




- الدفاع القطرية تثير تفاعلا بفيديو اعتراض الباتريوت لصواريخ إ ...
- شاهد كيف علق مصطفى البرغوثي على إمكانية وجود قوة دولية في ال ...
- الإمارات.. السجن المؤبد للمطعون ضدهم في قضية -تنظيم العدالة ...
- الجيش الأميركي نفذ أكبر إطلاق باتريوت في تاريخه دفاعًا عن قا ...
- مؤسس -أمازون- يقيم حفل زفافه في البندقية وسط زغاريد واحتجاجا ...
- غزة: حين تصبح لقمة العيش مغمسة بالدم
- قمة الاتحاد الأوروبي تفرض حزمة عقوبات جديدة على روسيا
- جامعة إيكس مرسيليا تتحول إلى ملاذ للعلماء الأمريكيين
- آنا وينتر تتنحى عن رئاسة تحرير مجلة فوغ بعد قرابة 40 عاما
- مواجهات عنيفة بين مستوطنين وفلسطينيين في الضفة الغربية


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - قصي الصافي - متاهة الهوية الفردية في العصر الرقمي