أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد ماجلوار - مع السلامة: في رثاء بول أوستر















المزيد.....

مع السلامة: في رثاء بول أوستر


أحمد ماجلوار
كاتب

(Magloire)


الحوار المتمدن-العدد: 7988 - 2024 / 5 / 25 - 12:23
المحور: الادب والفن
    


بول أوستر... لم يمت.
كيف يموت وهو حي بكتبه في بيوت قراءه في كل العالم؟ وأظن أن مظاهرات الحب والوفاء التي ملئت الأنترنت بكل اللغات منذ الثلاثون من أبريل قد أوفت الرجل المتواضع جزءاً من حقه. فماذا يضيرنا أن يموت جسده إذن إذا كان قلمه من القوة بمكان لدرجة أن اسمه قد أصبح مثل العبير الذي يستدعي علي الفور مجموعة المعاني الأوسترية التي لا شبيه لها أدبياً إلا نفسها. كل ما حدث هو أن محفظته الأدبية قد انغلقت. لنقل اكتملت. بدافع من اعتبار "بومجارتنر" رواية وداع بطبعها.
ربما يكون مدهشاً برغم عمر قراءتي لأدب أوستر الذي يمتد الآن لخمسة عشرة عاماً، إلا أنني لا أهتم في أدبه، قدر ما اهتممت بصوته الأدبي. لقد وقعت تحت صدي هذا الصوت الرنان منذ أول عمل قرأته له، عمل متواضع، هي رواية (غير مرئي)، وبالطبع فأن الصور التي جذبت انتباهي هي نفسها ما تكررت بعد ذلك مع كل عمل له، الشاب الجامعي الجاد، فرنسا، الأعمال الأدبية الكبيرة، السجائر، المجلات الأدبية، إلخ. اما باقي الأدب في الرواية فلم يكن مهماً، وأمكنني بعد ذلك إتمام ذلك الاستخلاص دائماً من كل أعماله، حيث تعلمت مثلاً مبكراً حب الأقلام والكراسات، ولا زلت أعمال إلي اليوم بيديّ بتأثير منه. وفي كل عام عندما أتسوق لمفكرة جديدة وقلم جديد، يكون هو حاضراً.
وأفهم تماماً الآن أحاديثه التي كان يقول فيها بعدم استخدامه للبريد الإليكتروني أو أي جهاز إليكتروني، الأمر الذي لم أكن استوعبه كاملاً في بدايات شبابي. لم يحب أحداً الأغراض الأدبية مثله، ولم يجعل أحداً الأمر حقيقياً مجرداً خالياً من التكنولوجيا مثله. أذكر أنه كان يقول عن الكتابة أنها فعلاً جسدياً، كان يتكلم دائماً كما لو كان شرفاً للإنسان أن يحمل قلماً صوّالاً، لكنه شرفاً مختلفاً عن ذلك الشرف التقليدي الذي رفعه سارتر، كان شرفاً سرياً لو جاز القول، ليس شرفاً كوسام علي الصدر، بل الشرف الحقيقي، بين الإنسان ونفسه فقط.
وقعت أيضاً تحت تأثير صور أوستر الأدبية، أقصد صوره الشخصية، التي كنت انتعلها علي حساباتي الإليكترونية طيلة بدايات شبابي، حتي صارت كأنها صورتي الشخصية. كان بالتأكيد جميلاً، لافتاً، بسيطاً وحقيقياً.
وكانت عيناه تحملان دائماً بريقاً لطيفاً بالغ التأثير. قليل من الكتاب من لديهم مثل ذلك البريق الجذاب، حيث الأغلبية ذوي بريق عدائي منفر، لكنه -وأظن هذا هو ما صنع له جاذبيته الأوروبية- كان متعاطفاً متقبلاً ومحباً. وكان برغم المعاناة التي شهدها بحياته، سلامياً زاهداً متسامحاً.
قدرة كتبه علي "تخفيف التأثير" كانت مذهلة. لا تزال غادة إلي الآن حين تشعر بضيق ما، تقول أنها تحتاج إلي شراء رواية جديدة له وأن تجلس لتقرأها في المقهي لكي تهدأها قليلاً! لازلت أذكر كيف احتملت يوماً صعباً جداً في الخدمة العسكرية بسبب أنس ذكراه وهو علي باخرة البترول يقوم بأعمال يدوية صعبة في بداية حياته. كنت قد نشأت في كنف والديّ حتي التخرج من الجامعة، ولم تصدمني الحياة بقسوتها بعد. لكنني شعرت أنه ما دام أوستر العظيم قد احتمل هذه المعاناة، فلا بأس عليّ ببعض منها.
أدخلني إلي الأدب الفرنسي، رغم أنني أوجدت طريقي فيه بعد ذلك بمعزل عنه، لكنه صاحب البذرة الأولي، وكانت لرؤيته وهو يتحدث الفرنسية بطلاقة في شبابه علي التليفزيون الفرنسي، وفي كبره أثناء جولة ترويجية بفرنسا، متعة وجذالة أدبية رائعين.
كان دائماً خير الرفيق. تلك الليلة التي بدأت فيها قراءة (لا مرئي)، ولم أكن أعرف قبلها شيئاً عنه، ولم تكن أيّ من كتبه قد ترجمت علي نطاق واسع في العالم العربي مثلما جري بعد ذلك، كانت ليلة ضيق و غم. ومن هنا اكتشفت القدرات العجيبة لصوته الأدبي علي العلاج والتخفيف. رغم المآزق العالية التي تقع فيها شخصياته طوال الوقت، ورغم نظرته التشاؤمية حول مصير الإنسان في العالم الحديث، ولكن هناك بصيص غامض من الأمل في رواياته. هو ليس تماماً مثل بيكيت كما يصر بعض القراء. بيكيت كأنه يريدك أن تنتحر، لكن شخصيات أوستر تتشبث دائماً بعمل شئ ما كأنه زفرة أخيرة باعتبار أنه أهم شئ سيعملونه في حياتهم قبل الموت، مهما بلغت تفاهة ذلك العمل، الذي يكون غالباً هو الكتابة المحمومة في مفكرة لن يقرأها في النهاية سوي شخص واحد فقط. دائماً ما أشعرني كأن فعل الكتابة في المفكرة هو بمثابة نشر من نوع ما.
لكنه يبقي أمل. بقاء. يقول بنفسه عن (حماقات بروكلين)، أحدي اعمالة الاخري قليلة المستوي، انها رواية عن البقاء. حسناً، أليست كل أعماله عن ذلك؟
في احدي الروايات التي تخونني الذاكرة الآن عن تذكر أيها، أهي ليلة التنبؤ؟، ينحبس البطل في نفق أرضي مع العمل الذي قضي العمر في تجميعه وتشكيله، والذي غالباً ما يكون علي غرار جمع وتقصّي أرقام دليل الهاتف الأرضي في المجر أو بولندا قبل الغزو النازي. بعد انحباس البطل في ذلك النفق ينقطع النور عنه ويغرق في الظلام، لكن أوستر يمنحه شئ ما هنالك. عوداً من الثقاب. رمزاً واهياً للبقاء. للتشبث بأطراف الحياة الماحقة. أصبح متخصصاً في ذلك.
لا يمكنني الحديث عن رواياته كلها في مقالة. لكنني أذكر بتأثر تمبوكتو، التي قرأتها أول مرة علي هاتف البلاك بيري، وأذكر صباح العيد وأنا جالس بصلاة العيد مشغولاً باستراق النظر إلي كلمات القصة بالغة الرقة والعذوبة والحنان. ولازلت أشعر إلي الآن بالنزعة إلي تسمية كل كلب أقابله بمستر بونز، إحالة إلي هذه القصة الرائعة.
ثلاثية نيويورك لن يتسع المجال للكلام عنها، لكنها عمل لن يتكرر، وهو لا مثيل له في أصالته وقوته وجنون رموزه.. وحزنه.
واما كتاباته الأخري غير الروائية فهي أكثر عمقاً وتأثيراً ربما من أدبه الروائي. في فترة الجامعة كنت أجول بكتاب نثرياته المجمعة، كانت صحة المرء تساعده علي التجول بمثل هذه الكتب العملاقة. قصة فطيرة البصل. وقصة الآلة الكاتبة. كتابيه عن والديه. أقول أنه أفضل وأجمل مرشد أدبي قد يحظي به المرء في سن صغيرة. ذلك التمهل الرائع في العالم بالغ السرعة. تلك الملاحظات الثاقبة في صميم الروح. ذلك الشرف الأدبي الفريد الذي تكلمت عنه. وأيضاً وهو المهم: التواضع أمام رياح الحياة العاتية. لا يمكن ان أصف أهمية تلك النقطة الأخيرة بالنسبة لشاب تختلط في ذهنه آمال الحياة.
تطوف أمامي منشورات الناس علي الإنترنت بخصوصه. كلماتهم في تأبينه، كيف ان كل الناس تحبه! وكيف كان محبوباً خارج أمريكا أكثر من أي كاتب أمريكي آخر. وصوره النبيلة -مرة أخري- التي ينشرها الناس في كل مكان. كم كان مكرساً ومخلصاً لمهنة واحدة. كنت مرتاحاً وسعيداً أنا الذي تربيت علي كتاباته عن معاناة العيش بأجر قليل من الكتابة، أن أراه في عمره المتقدم يتكلم من داخل منزله الحجري في بروكلين علي الفيديو. غرفة السفرة الجميلة. تلك المنضدة الحمراء اللامعة! حلمت بأمتلاك واحدة مثلها في بيتي مثلما حلمت بامتلاك نوتة حمراء من أجل "نوتة أوستر الحمراء".
لكنه لم يُخلق للظهور الإعلامي المكثف، حتي عندما صرح غاضباً وقت تولي ترامب فترته الرئاسية الأولي انه سوف يتكلم علناً كثيراً بقدر استطاعته، لا أذكر انني رأيته بعد ذلك قط إلا ربما بمقالة في Lithub وقت الكورونا حول رحلته المثيرة إلي شرق أوروبا باحثاً عن جذور أسرته، حيث جرت له وقائع قصة -كالعادة- أوسترية جداً في أحداثها! بسيطة بل بالغة البساطة، ومع ذلك شديدة التأثير والقوة والعفوية بلا إدعاء.
لم يف إذن بوعده بشأن الظهور العلني، ولكنه ظل مخلصاً لما أجاده حقاً، الجلوس، مواجهة الجدار، والكتابة. وسرعان ما فاجئنا بعمل مثل (فتي متقد) الذي أسعدني نشره أكثر من غيره كونه تحقيق غير روائي عن سيرة الشاعر الأمريكي ستيفن كرين، لأنه لم يكتب في هذه الناحية من قبل، ولم يشر كثيراً في أعماله الأدبية إلي ستفين كرين -قدر إشاراته واحترامه المبجل لوالت وايتمان- كذلك كون هذا موضعاً للمداعبة العلنية بينه و بين زوجته سيري التي تكتب وتنشر الكثير من التحقيقات والأبحاث غير الروائية. لذا أنا ممتن له أنه انجز ذلك العمل في حياته، خاصة انه من القطع الكبير مثل 4321. وهذه أبلغ إشارة إلي قوة عزيمته في أواخر حياته، رغم الظروف المعروفة التي صاحبت وفاه ابنه وحفيدته المأساويين.
لم يتركه الألم قط طيلة حياته. لكنه بقلمه صنع أمله الخاص، وصنع سعادة صغيرة توازنت مع ذلك الألم الممتد، فخلقتا معاً هدوءاً منساباً هو علامته الأدبية الفارقة.



#أحمد_ماجلوار (هاشتاغ)       Magloire#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (مدار السرطان دائماً وأبداً): إعادة زيارة هنري ميللر
- (Pnin) البروفيسور المتأخر: مقدمة إلي حياة نابوكوف وأدبه.
- ملاحظة علي حياة د.اليكس جورج العامة وكتابه عِش جيداً كل يوم
- إدوارد لويس


المزيد.....




- مستقبل السعودية..فنانة تتخيل بصور الذكاء الاصطناعي شكل الممل ...
- عمرو دياب في ضيافة ميقاتي.. ما كواليس اللقاء؟
- في عيد الأضحى.. شريف منير -يذبح بطيخة- ليذكر بألوان علم فلسط ...
- ممثل مصري يشارك في مسلسل مع إسرائيليين.. وتعليق من نقيب المم ...
- فنانة مصرية تبكي على الهواء في أول لقاء يجمعها بشقيقتها
- فيلم -Inside Out 2- يتصدر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية مح ...
- أحدث المسلسلات والأفلام على المنصات الإلكترونية في العيد
- السعودية: الوصول لـ20 مليون مستفيد ومستمع لترجمة خطبة عيد ال ...
- ولاد رزق 3 وقاضية أفشة يتصدر إرادات شباك التذاكر وعصابة الما ...
- -معطف الريح لم يعمل-!.. إعلام عبري يقدم رواية جديدة عن مقتل ...


المزيد.....

- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد ماجلوار - مع السلامة: في رثاء بول أوستر