أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صالح سليمان عبدالعظيم - -عراق على الوردي وثقافة -الكسار















المزيد.....

-عراق على الوردي وثقافة -الكسار


صالح سليمان عبدالعظيم

الحوار المتمدن-العدد: 1755 - 2006 / 12 / 5 - 10:39
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يقول على الوردي، عالم الاجتماع العراقي الشهير، في دراسته الرائعة عن طبيعة المجتمع العراقي 1965، إن "من أهم أساليب اللهو واللعب التي يتعاطاها الأطفال في أزقة العراق هو "الكسار". ومعناها أن يؤلف أطفال كل محلة عصابة ليعاركوا بها أطفال المحلات الأخرى. وهم يفتخرون بذلك، فإذا خرجوا من معركة منتصرين رجعوا إلى محلتهم فرحين يهزجون، فيهتف فريق منهم هل غلبتموهم؟ فيجيبه الفريق الأول أى والله!. ثم يهتف الفريق الأول مرة أخرى هل غلبوكم؟ فيكون الجواب لا والله!... إلخ." ويردف الوردي قائلاً، إن العداء كثيرا ما يستفحل بين أطفال المحلات المتجاورة. وتستخدم الهراوات والأحجار والمعاليق في معاركهم، وقد تستخدم الخناجر أو السكاكين فيها أحياناً، لا سيما إذا جرت بين الأطفال الكبار والصبية اليافعين.

يتربي الطفل العراقي وفقا لثقافة "الكسار" هذه مشمولاً بما يُطلق عليه الوردي صفة "التغالب". هذه الصفة تصحبه إلى مرحلة البلوغ والنضج حيث تأخذ أشكال جديدة ومتنوعة حسب تغير السياقات التاريخية والاجتماعية. ويعني ذلك أن صفة التغالب تظل ملمحاً أساسيا من ملامح الشخصية العراقية رغم الأشكال المتعددة التي تظهر من خلالها عبر الفترات الزمنية المختلفة. فقد تأخذ شكلاً عفويا انفعاليا، وقد تأخذ شكلا عقليا جدليا، وقد تأخذ شكلا دينيا، وقد تأخذ شكلا دمويا، لكنها في التحليل الأخير لا تنمحي ولا تزول.

وتعني صفة التغالب ضرورة أن يتغلب العراقي على الآخرين، فالضعف مذموم، والغلبة معيار تقدير الفرد وميزان أهميته. لذلك لا يحب العراقي أن يكون في موضع إحساس بفضل الآخرين عليه، لكنه يحب أن تكون له اليد الطولى في العطاء والسيطرة والهيمنة. لا يعني ذلك، أن العراقي يعيش حياته نهباً لفرض سيطرته على الآخرين وتسلطه عليهم، فبقدر صفات التفاخر والرجولة والعزة الضاربة في العقلية العراقية، هناك أيضاً صفات الوفاء والنجدة ومساعدة الآخرين. لكن ما بين هذا وذاك يظل العراقي محباً وشغوفاً للهيمنة والقبض على زمام الأمور، لذلك لا ينجح في العراق الحاكم الضعيف، حيث يستهزأ به العراقيون، ويصبح مدعاة للتندر والاستهزاء.

ويربط الوردي بين صفة التغالب هذه وبين الطبيعة البدوية السائدة في المجتمع العراقي، حيث يصير البدوي وهاباً ونهاباً في الوقت ذاته، حيث تغلب قوانين الغلبة والزهو والتفاخر والرجولة. وعلى ما يبدو أن ثقافة "الكسار" هذه تمثل ركيزة أساسية من ركائز المجتمع العراقي المعاصر، وهى تمنحنا امكانية لتفسير شلالات الدم الهادرة في عراق اليوم الرازح تحت وطأة الاحتلال الأمريكي.

فمع سقوط صدام حسين، انفكت القبضة الغالبة على عموم العراق، هذه القبضة التي قمعت بشكل أو بآخر قيمة التغالب المسيطرة على عقول السواد الأعظم من العراقيين. لذلك، سواء أحب العراقيون صدام أو كرهوه، فقد نجح في قمع القيمة الأثيرة لديهم لفترة طويلة من الزمن، وهى قيمة التغالب. ورغم ما لاقاه العديد من العراقيين على أيدي زبانية النظام البعثي من عنت وقهر، إلا أن هذا النظام قد قمع قطاعاً كبير منهم بخصوص قيمة التغالب هذه، من حيث خضوعهم للنظام البعثي من ناحية، وتقديرهم لقيمة التغالب التي ينطوي عليها من ناحية أخرى. وحينما سقط النظام البعثي، انفرطت قيمة التغالب البعثية القهرية، وظهرت العديد من القوى الأخرى الباحثة عن قيم تغالبها الخاصة بها، والتي وجدت متنفسها في مرحلة ما بعد سقوط النظام البعثي، وتفسخ العراق الحالي. ومن خلال تعارضات ممارسات المغالبة الحادثة الآن تحول العراق إلى ساحة "كسار" ضخمة يمارس فيها كل من هب ودب رغبته المكبوتة في مغالبة الآخرين.

من هنا فإن الذين يتحدثون ليل نهار عن الإرهاب في العراق، ويضخمون من حجم الزرقاوي وتنظيم القاعدة، وأدوارهما في شلالات الدم الهادرة الآن في العراق، يجهلون أو يتجاهلون ذلك الانفلات الحادث الآن بخصوص قيمة التغالب الأثيرة لدي الشخصية العراقية بمختلف قبائلها وطوائفها وشرائحها الاجتماعية المختلفة. فنظراً لغلبة العقلية البدوية ذات النظرة الولائية الضيقة، ونظرا لغلبة قيم التفاخر والرجولة، تصبح مسألة القتل اليومي الذي نشاهده في العراق منذ الاحتلال الأمريكي له، مسألة مرتبطة بتحقيق قيمة المغالبة بغض النظر عن نتائجها المأساوية. فمن يشاركون في هذه المجازر اليومية، هم أبطال يستحقون المدح والتمجيد أمام ذويهم وأبناء عشائرهم ورؤسائهم. فمن ناحية، ووفقاً للقيم البدوية السائدة، يُنظر لهؤلاء على أنهم هم الذين بدءوا بالقتل ولم يبادئهم الآخرون به، ومن ناحية أخرى يصب هذا المنحى في الإعلاء من شأن القبيلة ورموزها وتأثيراتها السياسية المستقبلية في فعل التغالب السياسي، وليس كما يظن البعض فعل الحوار السياسي.

يُنهي الوردي كتابه بفقرة بالغة الدلالة والتركيز حول توقعاته لمستقبل العراق، في وقت كانت فيه الأمور أكثر تماسكاً وتجانساً عما عليه الحال الآن، حيث يقول "إن الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر باستثناء لبنان، وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية، ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!

كتب على الوردي هذه الأفكار وعبر عن هذه الهواجس منذ ما يزيد على الأربعة عقود، ورغم ما في كتاباته من تعميمات واسعة النطاق وسيولة منهجية مفرطة، ربما ترتبط بصعوبة الحديث عن موضوع بنية الشعب العراقي، إلا أنه قد وقف على أسس فارقة بخصوص التطورات التي لحقت بهذا الشعب وأثرت على بنيته الاجتماعية منذ ظهور الإسلام وحتى الآن. وعلى ما يبدو أن على الوردي وهو يطرح الحل الديمقراطي والنسبية العددية الخاصة بمشكلة الصراع القبلي والطائفي والقومي في العراق لم يكن متفائلاً بطروحاته المقترحة، لكنه آثر أن ينهي كتابه بما يراه متوافقاً مع وضعية التركيبة العراقية القائمة على مبدأ التغالب من ناحية، وبما جاء متوافقاً مع توجهاته الليبرالية في أبرز تجلياتها المرتكزة على فهم حقيقي لوضعية المجتمعات العربية بعامة، والمجتمع العراقي بخاصة.

بالطبع يمكننا القول أنه بعد مرور أربعة عقود على ما كتبه الوردي أن أحداً لم يعتبر بالتجارب الماضية، كما أنه يمكن القول أيضاً بأن أحداً لم يسمع ما قاله الوردي، فما زال العراق ينتقل من أسوأ إلى أسوأ، ومن تدهور إلى آخر. فالقانون الحاكم الآن في العراق، ليس هو الإرهاب كما قد يظن البعض، لكنه نزعة التغالب التي انطلقت من عقالها، لتجد متنفسها في العديد من الطوائف والقبائل والنزعات الدينية الضيقة. وإلى أن يظهر من يستطيع لجم نزعة التغالب هذه على المستوى القومي، ستظل انفلاتات هذه النزعة تتوالد يوماً بعد يوم عبر المزيد من الانقسامات الجديدة، والتفسخات المهلكة، وممارسات القتل التي لا تنتهي.



#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنماط معاصرة من المثقفين
- ثقافة المفتاح العربية
- كوندوليزا رايس والقيم البيضاء
- هرمونات كرسي السلطة في العالم العربي
- لماذا نكتب؟
- أزمة الثقة في المجتمعات العربية
- أزمة الثقة في المجتمعات العربية
- قضاة يرفضون بيت الطاعة
- الإنترنت مهد الكراهية
- ليبراليون جدد أم مكارثيون جدد
- تفعيل الكراهية
- للمرأة الفلسطينية كل الإجلال
- قراءة في بيان الليبرالية الجديدة
- الشخصية العربية المعاصرة، قراءة أولية
- 11 سؤال عن 11 سبتمبر
- إدوارد سعيد ونقد -الاستشراق-


المزيد.....




- ولاية أمريكية تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة
- الملك السعودي يغادر المستشفى
- بعد فتح تحقيق ضد زوجته.. رئيس وزراء إسبانيا يفكر في تقديم اس ...
- بعد هدف يامين جمال الملغى في مرمى الريال.. برشلونة يلجأ إلى ...
- النظر إلى وجهك أثناء مكالمات الفيديو يؤدي إلى الإرهاق العقلي ...
- غالانت: قتلنا نصف قادة حزب الله والنصف الآخر مختبئ
- بايدن يوقع قانون مساعدات كبيرة لأوكرانيا والمساعدات تبدأ بال ...
- موقع أمريكي ينشر تقريرا عن اجتماع لكبار المسؤولين الإسرائيلي ...
- واشنطن.. التربح على حساب أمن العالم
- السفارة الروسية لدى سويسرا: موسكو لن تفاوض برن بشأن أصول روس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صالح سليمان عبدالعظيم - -عراق على الوردي وثقافة -الكسار