أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صالح سليمان عبدالعظيم - أنماط معاصرة من المثقفين















المزيد.....


أنماط معاصرة من المثقفين


صالح سليمان عبدالعظيم

الحوار المتمدن-العدد: 1754 - 2006 / 12 / 4 - 10:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يعايش العالم العربي الآن أنماطاً مختلفة من المثقفين الذين يرتبطون بصناعة الأفكار وتداولها وانتشارها. وإذا كان لكل مرحلة مثقفوها، فإن ما يمر به العالم العربي الآن من تحولات علي مستوى البنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية قد ارتبط بظهور نوعيات جديدة من المثقفين، بخصائص جديدة أقرب ما تكون لما يحدث في مؤسسات المجتمع الأخرى. فالمثقفون الجدد إذا جاز استخدام هذا التوصيف¬ لم يستطيعوا أن يميزوا أنفسهم عن باقي الشرائح المجتمعية الأخرى، بل علي العكس، أصبحوا في كثير من مواقع إنتاج الثقافة المختلفة، والجامعات منها بشكل خاص، أقرب في ممارساتهم وسلوكياتهم لعقلية الموظف والتاجر ورجل الشارع العادي.

وأنا هنا لا أنطلق من موقف متعالي للثقافة علي باقي مؤسسات المجتمع وشرائحه الاجتماعية الأخري، قدر ماأنطلق من موقف يؤكد علي خصوصية إنتاج الثقافة وعلي خصوصية منتجيها، الأمر الذي يمنحهم هذه القدرات الخاصة بهم علي صناعة الأفكار، وتشكيل أطر الوعي المختلفة، والتأثير علي البنيات الاجتماعية، وتحولات المجتمع المستقبلية. فالمثقف في النهاية، رغم أنه عضو فاعل في المجتمع مثله مثل غيره من باقي أعضاء المجتمع، إلا أنه يتميز عن الآخرين بأنه من صناع الأفكار والضمير الجمعي، حيث لا يشبهه في هذا السياق أي عضو آخر في المجتمع. من هنا تنبع خصوصيته، كما تنبع أيضا الأعباء الملقاة علي كاهلة، والواجبات المنوطة به.

وحينما يتحول المثقف إلي مجرد موظف بيروقراطي يهتم بملفات العمل، وساعات الحضور والانصراف، وشكل المكتب الذي يجلس عليه، أو إلي تاجر تشغله أسعار العملات، والأسهم، والعقارات، والمشروعات، أو إلي رجل الشارع العادي الذي لا تشغله سوي هموم الحياة اليومية من مأكل وملبس وتربية أبناء، فإننا نشهد نوعية جديدة من المثقفين ذات أنماط معينة وأدوار جد مختلفة. فالمختلط بالمثقفين في مؤسسات صناعة الثقافة مثل الجامعات، وأجهزة الإعلام، والصحافة، والمنتديات السياسية، والمراكز الأدبية، والجمعيات النسائية، والندوات والمؤتمرات الفكرية، يمكنه أن يقف عند أشكال وأنواع جديدة من المثقفين طفت وطغت علي السطح بفعل عوامل عديدة، البعض منها يرجع إلي ضغوط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والبعض الآخر لا يرجع إلا إلي المثقفين أنفسهم وبنية تشكيلاتهم المعاصرة.

والأنماط التالية من المثقفين هي أنماط لا يتم التعاطي معها من منطلق التنميطات الكبري مثلما كان الحديث في مراحل تاريخية سابقة عن مثقف السلطة، أو المثقف المعارض، أوالمثقف اليساري، أوالمثقف الليبرالي، لكنها أنماط يتم تحديدها من خلال الممارسات الحياتية اليومية للمثقفين. وترتبط حالة الاهتراء التي يشهدها واقعنا العربي من جانب، وأوضاع المثقفين العرب المتدهورة من جانب آخر بأنماط جديدة من المثقفين أقرب ماتكون إلي أنماط الشرائح المجتمعية الأخري، بحيث يمكن القول أن الحديث عن التنميطات الكبري للمثقفين، إما أنه يرتد بنا إلى الحديث عن فترات تاريخية سابقة خاصة بالمثقفين العرب، وإما أنه يؤكد علي تصنيفات لا تمت بصلة للواقع، وإما أنه يتحدث عن الاستثناءات وليس عن القاعدة العريضة من هؤلاء المثقفين.

أولاً: المثقف التاجر

من أبرز الأنماط المنتشرة بين المثقفين الآن نمط المثقف التاجر، وهو نمط ليس بالجديد على الساحة، لكنه انتشر بفعل عوامل عديدة وكثيرة، ومتناقضة في الوقت نفسه. فمن التناقضات المرتبطة بشيوع هذا النمط، أنه اسشتشري بفعل ضعف العوائد المالية الناجمة عن العمل في حقل الإنتاج الثقافي من ناحية، وزيادتها من ناحية أخرى.

فمع ضعف العوائد المالية سوِّق المثقف نفسه كسلعة قابلة للمساومة والمقايضة والتثمين. حيث أصبحت كلمة "هتدفعوا كام" هي الأثيرة لديه قبل الذهاب إلي ندوة هنا أومؤتمر هناك، أو حتي قبل المساهمة في كتابة شيئ ما. لا ينفصل عن ذلك سؤاله عن طبيعة الإقامة ونوع الفنادق والطعام...إلخ. وفي هذا السياق، نجد أنه من المألوف أن يكتب المثقف في كل مكان، وفي كل الموضوعات، وأن يعيد مايكتبه هنا وهناك مع بعض التغيير الطفيف تارة، وبنفس الطريقة تارة أخرى. ويشبه هذا النوع من المثقفين الفنانين والفنانات الذين يغنون في الملاهي الليلية، حيث يعيدون نفس الأغنية/النمرة في كل مكان يغنون فيه. وعلي المرء أن ينظر إلي أي مؤتمر، أو يتصحف أي من المجلات أوالدوريات، حيث سيجد نفس الوجوه، ونفس الأقلام في كل مكان، وعلي صدر كل الصفحات.

إضافة إلي ذلك، خلقت الوفورات النفطية في مرحلة مابعد النفط شريحة من المثقفين التجاريين في العالم العربي أقرب إلي التاجر بمعناه الحقيقي. فما من مرة تجلس مع أحد من هؤلاء إلا وتحدث معك عن أسعار الدولار الأمريكي، ودائما الأمريكي! وعن أسعار السيارات والأسهم والشحن والعقارات، وعن الرغبة في فتح مشروع، غالباً ما يكون بعيداً تماماً عن مجالات وحقول الثقافة. وهذه النوعية الأخيرة قد استشرت بشكلي كبير، حيث لم يعد لديها ذلك الإحساس بأهمية الثقافة من ناحية، والإحساس الخاص بتمايزها عن باقي الشرائح الإجتماعية من ناحية أخري. وفي إطار هذا التوجه التجاري نفسه، تستدعي هذه النوعية من المثقفين وضعيتها المجتمعية فقط حينما تتعامل مع الشرائح المجتمعية الأخري، المتنفذة منها بشكلي خاص، بالطبع من موقع الدونية، أو حينما يرتبط هذا الإستدعاء بفائدة ما، غالبا ماتكون مادية، حيث يبادر المثقف قائلاً أنا الدكتور فلان، أو أنا الصحفي علان. ويلاحظ المرء هنا، أنه بديلاً عن أن يسوّق المثقف بضاعته، إذا جاز استخدام كلمة التسويق عند الحديث عن المنتجات الثقافية والفكرية، إذا به يسوّق نفسه، محتفظاً غالباً ببطاقة تعريف يضع فيها ألقابه، والمؤسسة التي ينتمي إليها، والعديد من أرقام التليفونات، والفاكسات، إضافة إلي البريد الالكتروني لزوم التحديث والعصرنة.

ويعيش الكثيرون من هؤلاء المثقفين حالة من الازدواجية النفسية بين كونهم مثقفين، على الأقل بالقوة، وبين كونهم تجاراً بالفعل، الأمر الذي يقودنا إلي النمط الآخر، الأكثر انتشاراً، والأكثر خطورة في الوقت نفسه: أقصد به نمط المثقف المدعي.




ثانياً: المثقف المدعي

أكثر ما يمارسه هذا المثقف هو الإدعاء الدائم أنه أفضل من الآخرين، وأن أقرانه يقومون بكذا وكذا بينما هو ينأي بنفسه عما يقومون به. وتزداد حدة الإدعاء هنا عند الحديث عن مستواه الثقافي والفكري الذي يبز به الآخرين من ناحية، وبأنه لم يجني مادياً مثلما فعل قرناؤه المثقفون من ناحية أخري.

وتتصاعد حدة المفارقة هنا عند الحديث عن الجوانب المادية، حيث يطالعك هذا النمط من المثقفين أن غيره يمتلك كذا وكذا، بينما هو مازال يعيش في شقته التي لا تتعدي قيمتها مئات الآلاف من الجنيهات، أو أنه مازال يحتفظ بنفس السيارة منذ ثلاث سنوات، أوبنفس الشقة في إحدي المدن الساحلية. والمشكلة الخاصة بهذا المثقف أن لا أحد يطالبه بالحديث عن نفسه، أو عن أوضاعه الثقافية أو المالية، لكنها وكما قلت آنفا هذه الازدواجية النفسية وحالة الصراع التي لا يستطيع أن يحسمها أو يتغلب عليه.

يمارس هذا المثقف إدعاءه أيضا في مجال الثقافة، المجال الأصلي الذي ينتمي إليه، حيث تجده من أكثر الناس إلماماً بعناوين الكتب الجديدة، فقط العناوين. كما يلوك لسانه بمجموعة من المفاهيم المتواترة في الساحة، مثل العولمة، وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ، والحداثة، والتفكيكية، إضافة إلي مجموعة أخري من الأسماء اللامعة وبشكل خاص الغربية منها، مثل أدورنو، وهابيرماس، وبورديو، وبارت. كما أن هذا المثقف كثيرا ما يدعي أنه يعرف العديد من الكتاب والمثقفين الكبار، فهذا صديقه، وهذا قابله في أحد المؤتمرات، وثالث قضي معه بعض الأوقات في منزله، حيث تربطه به صداقة عائلية.

يرتبط هذا الإدعاء بقدر كبير من الكذب، الأمر الذي يقود هذا المثقف إلي تغيير ما يقوله من شخص لآخر، ومن حديث لآخر، ومن مؤتمر لآخر. والشيئ اللافت للنظر هنا أن هذا المثقف قد يغير آراءه في الجلسة الواحدة، بطريقة قد تثير اندهاش الحضور، وتستدعي الريبة والشك فيما يقول. لا يهتم هذا النوع من المثقفين بما يقوله الآخرون ويتصورونه عنه، فالمهم بالنسبة له هو الذيوع والانتشار من خلال الكتابة الكثيرة، في كل شيئ، وفي أي موضوع. ومن خلال نظرة هذا المثقف المتدنية للثقافة والفكر من جانب، ولنفسه من جانب ثاني، وربما لمجتمعه من جانب ثالث، يتصور أن الجميع يتعاملون مع الثقافة مثلما يتعامل هو، حيث لا يمل من تحقير الآخرين والتقليل من شأنهم في كل مناسبة.

ثالثاً:المثقف المؤسسة

ويرتبط بموضوع الذيوع والانتشار نمط المثقف/المؤسسة، حيث يصعب الفصل هنا بين المثقف وبين المؤسسة التي يديرها، او يترأسها. فمع الارتباط القوي الذي حدث في عالمنا العربي بين السلطات السياسية من ناحية، وبين المثقفين من ناحية أخري منذ ما يزيد علي نصف القرن وحتي الآن، لجأت هذه السلطات إلي تعيين العديد من المثقفين لرئاسة المؤسسات الثقافية الخاضعة لسلطة الدولة في النهاية. كما أنه، ومع انتشار الجمعيات والمنظمات والهيئات والمراكز الثقافية والأدبية والخاصة بحقوق الإنسان في عالمنا العربي، والمرتبطة بالدعوات القوية لدور حقيقي وفاعل للمجتمع المدني، ظهرت مجموعة أخري من المثقفين التي اكتسبت وجودها وأهميتها من علاقتها بهذه المؤسسات والهيئات والمراكز والمنظمات.

وفي كلا النوعين من هذه المؤسسات العامة منها والخاصة، ذاع وانتشر هذا النوع من المثقفين الذي بمجرد أن يذكر اسمه، حتي يذكر اسم المؤسسة التي يترأسها، أو المجلة التي يرأس تحريرها. بالطبع هناك البعض الذي أضاف إلي هذه المؤسسات، وطور من أدائها وتأثيراتها المجتمعية، لكن، وفي مقابل ذلك، هناك البعض الآخر الذي ارتبطت رئاسته لهذه المؤسسات إما بظروف الوظيفة والترقية، وإما بشبكة العلاقات الشخصية، وإما بدافع المصلحة والوجاهة الاجتماعية مثلما يحدث الآن في العديد من منظمات حقوق الإنسان، والجمعيات النسائية. وهذا النوع الأخير ربما أضر بالثقافة أكثر مما أفادها؛ فمعظم هذه المؤسسات الجديدة أصبحت أقرب للشركات التجارية التي ترسل مندوبيها للترويج لمنتجاتها، بغض النظر عن النوعية أو الأهمية أو التأثير. وللأسف الشديد فإن هذا النوع هو الأكثر انتشاراً وهيمنة علي الحياة الثقافية، إلي الحد الذي يمكن معه القول، أنه يغذي كلا النمطين السابقين، نمط المثقف التاجر والمدعي، كما يؤمن لهما عناصر الاستمرار والبقاء، ويساعد علي تفريخ أنماط جديدة من المثقفين أكثر اهتراءً وتدهوراً.

رابعاً: المثقف الحبوب

وفي ضوء الارتباط الواسع المدي بالمؤسسات العامة والخاصة انتشر نمط المثقف الاجتماعي/الحبوب الذي تجده حاضرا في كل ندوة، أو مؤتمر، أوتجمع للمثقفين. ويرتبط هذا المثقف بمجموعة من الآليات تسهل له انتشاريته من ناحية، وتدعم له شبكة علاقاته الاجتماعية من ناحية أخري. فهو مثلا يعتمد علي نعومته الحوارية، ودبلوماسيته، وفي أحيان كثيرة أناقته ووسامته الشكلية في تدعيم شبكة علاقاته، واقترابه من ذوي الحظوة والنفوذ الثقافيين.

يتماس هذا النمط من المثقفين مع فئة الممثلين والممثلات؛ فهو أقرب في سلوكياته وتوجهاته ورغبته في الظهورعلي صفحات الجرائد والمجلات وعلي شاشات القنوات التليفزيونية المحلية والفضائية إلي شريحة الممثلين والممثلات منه إلي عالم الفكر والثقافة. ويشيع هذا النمط من المثقفين بين النساء بشكل خاص، حيث التركيز علي المظهر يصبح في كثير من الأحيان هو عماد وأساس دخول الحياة الثقافية والفكرية. ولايقدم هذا المثقف أي منتج ثقافي حقيقي يعتد به، لكنه رغم ذلك يحظي بانتشار واسع المدي، معتمدا في ذلك علي علاقاته الواسعة والمرنة من جانب، وعلي الكثير من الخدمات المادية، والمعنوية، والترفيهية، التي يقدمها للآخرين.

خامساً: المثقف المطيباتي

وفي هذا السياق ظهرت مجموعة أخري من المثقفين الأكثر ارتباطاً بمقاييس اللحظة التاريخية الراهنة، وتحولاتها البالغة. فهناك نمط المثقف المطيباتي، الذي تجده في وسط الجماعة المثقفة يرضي هذا، ويخفف عن ذاك، لا لون له ولا طعم ولا رائحة، كل هدفه إرضاء الجميع، بدون أن يخلق أية توترات فكرية، أو يكون له موقف محدد. شعار هذه النوعية من المثقفين "حلّق وماتحوشي"، بمعني أنه يظهر في الصورة يتكلم ويشارك هنا وهناك، بدون أن يكون له موقف واضح ومحدد، حتي إذا ماتمخض النقاش عن اشكاليات جمة، فإن باقي أطراف الحوار لا تستطيع أن تتهمه بالتخاذل أو الجبن، كما أن الأطراف المتنازعة لن تستطيع أن تتخذ منه خصماً، علي الأقل في مرحلة النزاع والشقاق. فلن يستطيع أحد أن يُلزمه بموقف فكري معين، أو يصنفه ضمن إطار أيديولوجي ما، فهو رجل كا المواقف ونصير كل الأيديولوجيات والمشترك العالم بين كل التحولات والفترات التاريخية المختلفة.

ويختلف نمط المثقف المطيباتي عن نمط المثقف الطيب، فالأخير قد يكون طيباً فعلاً، لاينطوي علي نوايا خبيثة أو سيئة، لكنه أيضا يشبه النمط المطيباتي من حيث أن حضوره يشبه غيابه. ومشكلة المثقف الطيب أن الجميع يؤكدون علي طيبته، ويدركون نواياه المخلصة، لكنه، وبسبب من ضعفه الشخصي، يضر بالمؤسسات التي يعمل من خلالها أكثر ممايفيد، بسبب محاولاته المضنية والمتواترة من أجل العمل علي ارضاء الجميع، واكتساب رضاهم.

سادساً: المثقف الصفيق

وارتباطا بالنمط الطيب والمطيباتي، ظهر نمط جديد مخالف لهما هو نمط المثقف الصفيق. شاع هذا النمط مع سيولة البني والمؤسسات الثقافية، وبشكل خاص الجامعية منها، والتي استقطبت أفراداً هم أبعد مايكونون عن البنيات الثقافية ومتطلباتها. فالكثيرون من هؤلاء التحقوا بالعمل الجامعي بعد أن كبروا في العمر، وبعد أن تطبعوا بطباع الحياة العملية المدنية وغير المدنية، وممارساتها، وبشكل خاص عقلية الموظف الروتينية الجامدة، التي تتعارض في كثير من أوجهها مع اعتبارات الحياة الأكاديمية الجامعية. وما ينطبق علي الجامعة ينطبق أيضاً علي باقي جوانب الحياة الثقافية والفكرية، حيث هناك العديد ممن امتهنوا الصحافة قد دخلوها من خلال المجاملات الاجتماعية، أو من خلال اعتماد مبدأ التوريث العائلي، بدون أن يعكس ذلك أي قدر من الموهبة الصحفية. إضافة إلي ذلك، هناك العديدون ممن دخلوا عالم الإبداع بالعافية من ناحية، أو من خلال ثرواتهم من ناحية ثانية، أم من خلال تقديم منافع وتسهيلات من ناحية ثالثة.

ومن سمات هذا النمط أنه لايمتلك من الثقافة سوي المسمي الوظيفي حيث يمارس أدواره بالقوة، ورغم أنف الجميع. حيث أصبح سلاح هذا النمط من المثقفين يتمثل في حدة لسانه، وصفاقة أساليبه، وشخصيته السيكوباتية. والصفاقة التي نعنيها هنا لاترتبط فقط بحدة اللسان، بل إن البعض من هؤلاء المثقفين قد اعتمد علي قدراته الجسمانية في تحجيم الآخرين عن محاولة نقده أوالدخول معه في نقاش، أقصد اشتباك من أي نوع.

فالتوقعات غير السارة المرتبطة بهذا النمط من المثقفين والتي يعيها المحيطون بهم دفعت الكثيرون إلي تجنب هذا النمط مما يؤدي بالتبعية إلي استشراء نفوذه وانفراده بالساحة الثقافية والفكرية. كما أن هذا النوع من المثقفين لايخفي علاقاته بذوي النفوذ، الذين يمكن أن يقدموا له كافة التسهيلات والخدمات، والوقوف بجانبه عند وقوعه في مشكلة ما، أو عند افتضاح أمره من خلال ممارساته غير المشروعة. ومن خلال ذلك، يستطيع هذا النمط، رغم صفاقته التي يعرفها الجميع، أن يقدم العديد من الخدمات لزملاء العمل، مما يعطيه حيثية كبيرة بينهم، الأمر الذي يدعم من مكانته، بغض النظر عن صفاقته، حيث تتشابك المصالح وتتداخل، عملا بالمبدأ الشائع "اللي مش هنحتاجه النهارده، هنحتاجه بكرة"، أو تحقيقا لتوجهات بالغة الانتهازية تتمثل في المثل القائل "اللي يجي منه أحسن من وشه".

سابعاً: المثقف الأستاذ الدكتور

وهناك نمط المثقف الأستاذ الدكتور، وهو نمط لاتحركه في تعاملاته اليومية مع الآخرين سوي ذلك الإحساس بأستاذيته ودرجاته الجامعية. وتظهر مشاعر الأستاذية هذه بشكل خاص أمام أصحاب الدرجات العلمية الأقل، حيث تنتفض أحاسيس ومشاعر هذا الألف دال أمام من هم أقل مرتبة منه، حتي لو كانوا أكثر منه علماً وإلماماً بموضوع النقاش أو الحوار.

ويصل الأمر بأصحاب هذا النمط إلي أنهم يعارضون أقرانهم الذين يتساهلون في معاملاتهم مع أصحاب الدرجات العلمية الأقل. حيث يرون في ذلك شكلاً من أشكال التسيب والغاء للمسافات بينهم وبين من يلونهم في المكانة العلمية. يتسم هذا النوع من المثقفين بالكآبة الشديدة، حيث تحركه دائماً وأبداً هرمونات الأستاذية، التي تذكره دائما بأنه ألف دال، لذا فإنه من الضروري الاحتفاظ بمسافة ما بينه وبين الآخرين من حوله، كما أنه لاينبغي به التبسط في علاقاته مع من يقلون عنه في الدرجة العلمية، أوحتي يقفون معه عند نفس الدرجة.

انتشر هذا النوع من المثقفين بشكلٍ كبير بحكم الترقي الجامعي الوظيفي الذي لا يعكس في جوهره نقلة فكرية وثقافية هامة ومؤثرة. وتساعد الجامعات العربية في كافة أنحاء الوطن العربي على التفريخ المتزايد لهذه النوعية من المثقفين، إذا جاز توصيفهم بذلك، والعمل على انتشارهم في كافة مؤسسات المجتمع الأخرى. ورغم أن الوظيفة الأساسية للجامعة تتمثل في العمل على التطوير المجتمعي الدائم، وعلى رأس ذلك، التطوير الثقافي والفكري، فإنها تقوم هنا، وعن طريق انتاج هذه النوعية من المثقفين، بإعادة انتاج التخلف، وتكريس بنية الجمود والباترياركية المتسلطة.

ثامناً: المثقف الزوجة

تطالعنا الساحة الثقافية بنمط جديد من المثقفين يمكن أن نطلق عليه نمط المثقف الزوجة. وهو ذلك المثقف الذي يستمد رؤاه وعالمه من توجهات زوجته التي غالباً ماترتكز إلي رؤي جامدة وربما متخلفة عن الواقع الاجتماعي. حيث يندهش المرء من طبيعة الأحاديث والرؤي التي ينطوي عليها هذا النوع من المثقفين، فمن حديث عن الأثاث المنزلي، وزواج البنات، والتدين المظهري، والخوف الشديد من الحسد والقر والكذب المستمر..الخ من هذه القائمة التي يستغرب المرء لأول وهلة متي وكيف مارسها ويمارسها هذا المثقف بمثل هذا الإسهاب والتكريس.

لايجد المرء تفسيرا لهذه السلوكيات إلا إذا شاءت الأقدار وجمعته بعلاقات بأسرة هذا المثقف حيث يكتشف أنه يردد حرفياً رؤي وسلوكيات وأفكار زوجته. وربما يفسر ذلك سر التحولات الغريبة التي تعتري أصدقاءنا الذين تباعد بيننا وبينهم الأسفار والسنون، حيث تفاجئنا شخصياتهم والتحولات المختلفة التي أصابتها. فمن رؤي واسعة ومنفتحة للعالم، إلي رؤي ضيقة وجامدة له، ومن سلوكيات جماعية وغيرية، إلي أخري فردية وأنانية.
وفي أحيان كثيرة نجد أن هؤلاء المثقفين، وتحت وطأة البنيات الزواجية، قد اكتسبوا صفات جديدة مثل الكذب والخداع والريبة والشك في الآخرين، الأمر الذي يقود إلي تفكيك الكثير من الصداقات القديمة التي شيدها هذا المثقف، وبناء صداقات جديدة تتفق وأهواء السيدة زوجته. ويخضع هذا النوع من المثقفين عبر المؤسسات الزواجية لعمليات خصاء عقلي ونفسي، بل وحتي اجتماعي، تؤدي في النهاية إلي تشويه مفرط في شخصياتهم، مما ينعكس لامحالة علي جملة أعمالهم من جانب، وتوجهاتهم الأيديولوجية من جانب آخر.

لا يعني ذلك توصيف جنسي للمرأة العربية بالتخلف والجمود، بقدر ما يعني أن مواصفات البنى العربية الراهنة ذاتها هى ما يصيب المرأة بمثل هذا الجمود والتخلف، الأمر الذي ينعكس لا محالة على بنية الأسرة والجوانب المرتبطة بها. فالمرأة في النهاية، مثلها مثل الرجل، نتاج لواقع اجتماعي معين، وإن كانت تتعرض لمؤثراته السلبية بشكلٍ أكبر مما يتعرض له الرجل. إضافة إلى ذلك، فالكثير من المثقفين الذكور، إذا جاز الفصل هنا بين الذكور والإناث في مسألة الثقافة والجوانب المرتبطة بها، يرتبطون أيضاً بمثل هذه البنى الأكثر تخلفاً وتدهوراً وجموداً في المجتمعات العربية المعاصرة.

وفي تقديري أن هذه الأنماط التي عرضنا لها سابقاً قد أصبحت أكثر تسيداً في الحياة الثقافية العربية، ولعل هذا مايكشف عن طبيعة التدهور الفكري الذي يواجهنا علي كافة الأصعدة المجتمعية، كما أنه يكشف عن مدي صعوبات التغيير الاجتماعي والسياسي التي تواجهنا في عالمنا العربي. فلنا أن نتخيل عبر مجمل هذه التشويهات التي أصابت قطاعاً كبير من المثقفين مستقبل الدور الذي يمكن للمثقفين أن يقوموا به، ومستقبل التغييرات التي نتوخاها في مرحلة الإصلاحات الشرق أوسطية الأمريكية الإسرائيلية الجديدة.



#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثقافة المفتاح العربية
- كوندوليزا رايس والقيم البيضاء
- هرمونات كرسي السلطة في العالم العربي
- لماذا نكتب؟
- أزمة الثقة في المجتمعات العربية
- أزمة الثقة في المجتمعات العربية
- قضاة يرفضون بيت الطاعة
- الإنترنت مهد الكراهية
- ليبراليون جدد أم مكارثيون جدد
- تفعيل الكراهية
- للمرأة الفلسطينية كل الإجلال
- قراءة في بيان الليبرالية الجديدة
- الشخصية العربية المعاصرة، قراءة أولية
- 11 سؤال عن 11 سبتمبر
- إدوارد سعيد ونقد -الاستشراق-


المزيد.....




- بعيدا عن الكاميرا.. بايدن يتحدث عن السعودية والدول العربية و ...
- دراسة تحذر من خطر صحي ينجم عن تناول الإيبوبروفين بكثرة
- منعطفٌ إلى الأبد
- خبير عسكري: لندن وواشنطن تجندان إرهاببين عبر قناة -صوت خراسا ...
- -متحرش بالنساء-.. شاهدات عيان يكشفن معلومات جديدة عن أحد إره ...
- تتشاركان برأسين وقلبين.. زواج أشهر توأم ملتصق في العالم (صور ...
- حريق ضخم يلتهم مبنى شاهقا في البرازيل (فيديو)
- الدفاعات الروسية تسقط 15 صاروخا أوكرانيا استهدفت بيلغورود
- اغتيال زعيم يكره القهوة برصاصة صدئة!
- زاخاروفا: صمت مجلس أوروبا على هجوم -كروكوس- الإرهابي وصمة عا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صالح سليمان عبدالعظيم - أنماط معاصرة من المثقفين