أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - يقدّسُ المتخيّلُ الحيوانَ حين ينامُ العقل















المزيد.....

يقدّسُ المتخيّلُ الحيوانَ حين ينامُ العقل


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7923 - 2024 / 3 / 21 - 12:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عبد الجبار الرفاعي
في محاولةٍ للاحتماء من الاغتراب الميتافيزيقي تنشط فاعليةُ المتخيَّل في إنتاج المقدّس، ولا يكفّ المتخيَّلُ الديني عن خلع القداسة على أشياء دنيوية متنوعة، وكأنه كلّما أمعن في هذه الممارسة وأضاف مزيدًا من المقدّسات خفض شعورَ الإنسان المرير بغربته ووحشته في الوجود. أما ما يقدّسُه المتخيَّل فهو: الإنسانَ، والمكان، والزمان، والحيوان، والنبات، وكائناتٍ متنوعة، بل يمكن أن يقدّسَ أيَّ شيء في الأرض والسماء، وفضلات الحيوان، حتى الحيوانات المؤذية كالأفاعي يمكن أن تتقدّس في بعض الأديان.
‏عندما تشتدّ غربةُ الإنسان في العالم، يعيش حالةَ وحشة من الكائنات في الطبيعة، ‏فيلجأ للمتخيَّل الديني ليقدّس هذه الكائنات، خاصة المخيفة منها كالأفاعي مثلًا، ليشعر بالألفة معها، ولا تعود تثير خوفَه واضطرابه واشمئزازه وذعره. بعد تمثّله تخييليًّا يتقدّس الحيوان المخيف، فيشعر الإنسانُ بالأمان لحظة يراه بفضاء مقدّس، ويتمكن عندئذٍ من التناغم والانسجام معه، وان كانت الأفاعي تظلّ بعد تقديسها لا تفتقر لشيءٍ من الهالة والهيبة والرهبة. المتخيَّل يعيد توطينَها وإدراجَها في فضاء يخرجها من وجودها الحقيقي، بعد أن يخلع عليها صورةً تتنكر لطبيعتها السامّة. وكأن المتخيَّلَ يعقد تسويةً بين الإنسان وبينها، يتنازل الإنسانُ لصالحها فيقدّسها ليأمن عدوانيتَها. المتخيَّلُ يفعل ذلك كما لو أنه يعقد تسوية بين غالبٍ ومغلوب، يتنازل فيها الثاني للأول بغية استرضائه واتقاء ما يصدر عنه مما يهدّد حياةَ المغلوب.
الجغرافيا والبيئة المحلية بكلِّ تعبيراتها وتفاصيلها تؤثر في حياة الإنسان العقلية والأخلاقية والروحية، وشكل تديّنه، ورؤيته للعالم، وثقافته. للبيئة والجغرافيا أثرُهما الواضح في كيفية إنتاج المتخيَّل لنمطِ المقدّس وانتشاره، وكيفيةِ تقديس الأماكن والأشخاص والكائنات والأشياء. تنشط فاعليةُ المتخيَّل وتتضاعف قدرتُه على توليدِ المقدّس وتزايدِ نفوذه واشتدادِ حضوره، باستغلالِ مكان مولد مؤسّسي الأديان واحتضانِه لآثارهم وحوارييهم وأتباعهم الأوائل. المكان الذي ينتمي إليه الإنسانُ، إن كان مقدّسًا، يكتسب من يتوطن فيه شيئًا من القداسة بنظر من يؤمن بهذا المقدّس خارج حدود ذلك المكان. إلى ذلك يعود احتفاءُ مجتمعات كثيرة بأشخاص يعيشون في مدن يعتقدون بقدسيتها، بل تكتسب بعضُ الأشياء قدسيتَها من الوقوع في فضاء ذلك المكان.
لم أعاشر الإنسانَ الهندي ولم أتوطن ببلاده، على الرغم من أني قرأت كثيرًا عن هذه البلاد، منذ وقت مبكر في حياتي، ومازلتُ أتابع ما يحدث فيها، الهند طافحة بالتنوع والعجائب والغرائب. يدهشني الاختلافُ الذي يصل حدّ التضادّ بين الأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات والثقافات. تتسع الهندُ لأكبر تجمع بشري على الأرض اليوم ، يعيش التعدّد والتنوع بأديانه وطوائفه ومعتقداته وثقافاته ولغاته في دولة واحدة، من دون حروب أهلية مزمنة، ولا هشاشة في الدولة. يبهرني حضورُ الهند الخلّاق في إثراء وتطوير التكنولوجيات المتقدمة في الكمبيوتر والبرمجيات والذكاء الاصطناعي وأمثالها، وأقدّر ما يقدّمه العقلُ الهندي للبشرية من مكاسب ثمينة في الاختراعات والاكتشافات العلمية، بنحوٍ فرض هذا العقلُ حضورَه الهائل في الأكاديميات ومراكز البحوث والمصانع في الغرب وبلدان العالم المختلفة، فضلًا عن مكاسبه في التطور العلمي والتكنولوجي في موطنه.
حتى الإسلام الهندي تميّز بمسارين متوازيين،كلُّ واحد منهما له بصمةٌ لافتة في مجتمعات عالم الإسلام. صار الأولُ مرجعيةً لبناء المقولات المحورية في الأدبيات الأصولية. مقولات مثل "الحاكمية" وغيرها على وفق صياغة أبي الأعلى المودودي ومدرسته، ابتنت عليها واشتُقَت منها آراء ومفاهيم متنوعة تغلغلت في أدبيات الإسلام السياسي. في المسار الآخر نرى للإسلام الهندي بصمةً مضيئة وتأثيرا واضحا في دعوات ومقولات التجديد في عالم الإسلام، فقد اعتُمِدت آراء محمد إقبال في "ختم النبوة" و "الوحي" و"التجربة الدينية" و"الاجتهاد بوصفه مبدأ الحركة في الإسلام"، لبناء الرؤية التجديدية لدى مفكري الإسلام في العصر الحديد في إيران وغيرها.
كذلك يدهشني إنسانُ هذه البلاد حين أرى اتساع فضاء المقدس في عالمه، وكأنه يولد وتولد معه نزعةٌ ميتافيزيقية تلازمه كلَّ حياته، ويولد معه شغفٌ بتقديس الآلهة والأشخاص والكائنات الحية والأشياء. الشخصية الهندية مركبة عميقة متعدّدة الوجوه، المجتمع الهندي تلتقي فيه الأضداد، ويتجلى ذلك باختلاف الأديان واللغات والثقافات وتنوّعها في الهند. يحفل الفضاءُ الميتافيزيقيُّ بتنوّعٍ وتعدّد ديني مُدهش، وتقديسِ أماكن كثيرة في مساحتها الشاسعة، وتفاقمِ نشاط المتخيَّل بنحوٍ خلع المقدّس فيه غطاءَه حتى على بعض الحيوانات كالبقر، وبعض النباتات والكائنات المختلفة في هذه البلاد. في الدين الهندوسي لا يُقتل أيُّ حيون، يحتفي هذا الدينُ وغيرُه من أديان ذلك الفضاء الروحي بالكائنات الحية ويحميها من الإنسان، مستجيبًا لأثر هذه الكائنات في الأرض، لكنه يغالي في ذلك بشكلٍ مهول وأحيانًا مبتذل، بنحوٍ تصير فيه حياةُ الإنسان وعيشُه وحقوقُه وأمنُه مهدّدةً من فتك كائنات حيّة مؤذية.
الإنسان كائن مدهش، يتوق للاستعباد والعيش في كهوف الظلام حين ينام عقلُه. المفارقة أن الإنسانَ يحاول الهروبَ من غربته في العالم بتقديس الحيوانات، فيتورط في اغتراب وعي مريع.كأن هذا الإنسانَ مشلولُ العقل والإرادة حين يتنازل عن إنسانيته، ويقدّم نفسَه عبدًا ذليلًا لحيوان أعجم. وهو في ذلك يتطوع ليسقط في إرهاقٍ مضنٍ يشتدّ فيه عبثُه بذاته، عندما يضحّي بكرامته، واحتياجاته الروحية والنفسية والأخلاقية والجمالية، وما يتطلبه جسدُه، ويصبح خادمًا لحيوان، كالبقرة المخلوقة لتلبية حاجته للغذاء، ولا يتوقف الأمرُ عند هذا الحد، بل يعبث بمحيطه، ويفرط بأمنه وسلامه وكلِّ شيء، لأجل حيوانات أخرى مؤذية أحيانًا.
كانت الأديانُ في المجتمعات كلها ومازالت منجمًا لإنتاج الرموز وإثرائها بالمعاني المتدفقة على الدوام، دلالات الرمز تتدفق كسيلٍ بلا انقطاع. تغرق الأديانُ في متاهات عندما تمعن في جعل الكائن الحي المؤذي مصونًا، بذريعة أنه يرمز لتقديس الحياة، ولا تكترث بمصادرة فرص عيش الإنسان وغذائه، وسلب أمنه، وإهانة كرامته، والفتك بحياته. يشطح الإنسانُ عندما ينشغل بتأويل الرمز خارج مرجعية العقل، ويتمادى فينسج أوهامًا غير معقولة تحت غطاء التأويل، وأحيانًا يتعسف في اختراع دلالات تهدر كرامتَه. غياب العقل ينتهي إلى تضخمِ اللامعقول في حياة الفرد والمجتمع، وتعطيلِ الإبداع والابتكار والإنتاج والبناء. لا يحدث تفشي التقديس، وانتشارُه المهول في الفضاء العام الذي يشلُّ الحياةَ، إلا بتغييبٍ للعقل، وتعطيلٍ للأسئلة العميقة، وإيقافٍ للتفكير النقدي.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تضخّم المقدّس واتساعه في المتخيّل
- غياب دراسة المتخيَّل في كتابات الإسلاميين
- مَنْ يمتلك وسائلَ إنتاج المتخيَّل يمتلك السلطة
- المخيال الجمعي لا يخضع للعقل النقدي
- المخيلة منجم الابداع البشري
- ينفرد الإنسان بالعقل وبملكة الخيال
- الوجه نافذة الدخول إلى قلب الإنسان
- الكراهية ليست طارئة
- نمط وجودنا في الإنترنت ووسائل التواصل
- وسائل التواصل ليست شرًا مطلقًا
- لا علمَ بلا فلسفة
- مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث
- علي الوردي وفهم المجتمع في أفق رؤية ابن خلدون
- علي الوردي ومركزية الشعر في الثقافة العراقية
- القيم الكونية نسبية في تطبيقاتها لا في ذاتها
- مسرات القراءة ومخاض الكتابة
- قراءة فرديد لهيدغر في أفق فهم كوربن
- ‏ متعة تسوّق الكتب
- غواية اللغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن
- كلما احترقت مكتبة انطفأ شيءٌ من نور العالَم


المزيد.....




- مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية
- -لم توفر بيئة آمنة للطلاب اليهود-.. دعوى قضائية على جامعة كو ...
- البنك الاسلامي للتنمية وافق على اقتراح ايران حول التمويلات ب ...
- استباحة كاملة دون مكاسب جوهرية.. هكذا مرّ عيد الفصح على المس ...
- قائد الثورة الاسلامية سيستقبل حشدا من المعلمين 
- تونس تحصل على 1.2 مليار دولار قرضاً من المؤسسة الدولية الإسل ...
- مين مستعد للضحك واللعب.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 20 ...
- «استقبلها وفرح ولادك»…تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ك ...
- لوموند تتابع رحلة متطرفين يهود يحلمون بإعادة استيطان غزة
- إبادة جماعية على الطريقة اليهودية


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - يقدّسُ المتخيّلُ الحيوانَ حين ينامُ العقل