أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - وسائل التواصل ليست شرًا مطلقًا















المزيد.....

وسائل التواصل ليست شرًا مطلقًا


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7826 - 2023 / 12 / 15 - 22:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


وسائل التواصل ليست شرًا مطلقً

عبد الجبار الرفاعي

‏هجاءُ الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة والتكنولوجيات الجديدة والتقدّم لا يختصّ بعصرٍ دون غيره. الإنسان يخاف من تغييرِ نمط حياته، خاصة إذا كان هذا التغييرُ ينقله إلى طورٍ وجودي بديل، ‏لذلك يسارع إلى الإعلان عن خوفه وتحذيره من كلِّ ما هو جديد. يلازم هذا التحذيرَ على الدوام مديح، غالبًا ما يكون غارقًا برسم صورةٍ رومانسية متخيَّلة لكلَّ شيء ينتمي إلى الماضي مهما كان، ويشتدّ هذا المديحُ إن كان الماضي موغِلا في القدم. ‏أكثر الناس في مختلف العصور مسكونين بـ "وهم الزمن الجميل" الذي مضى. يرون بشاعةَ الزمن الذي يعيشون فيه، ويصفونه على الدوام بأنه أسوأ الأزمنة، ‏ويتوهمون أن الناسَ الذين سبقوهم محظوظون بوصفهم عاشوا زمنًا جميلًا، كان العيشُ فيه سهلًا، وحياةُ الإنسان سعيدة، خلافًا لعيشهم الشاقّ وحياتهم الشقية في زمانهم الراهن.
لا يعلمون أن العيشَ دائمًا كان صعبًا، ممارسةُ الإنسان للمهن كانت قاسية، لأنه يستعمل الآلات اليدوية في الزراعة والحرف اليدوية والصناعات المتنوعة قبل اختراع الماكنة البخارية. أحيانًا يأخذ الموقفُ من تبجيل كلِّ شيء في الماضي طابعًا دينيًا، فيصدر تحريمٌ باستعمال التكنولوجيات الجديدة،كما صدر في وقتٍ مبكر في السلطنة العثمانية تحريمٌ بطباعة القرآن الكريم في المطبعة ، ‏وتوالى التحريمُ لاستعمال الراديو والتلفزيون والفيديو وغير ذلك من بعض الفقهاء في أزمنة لاحقة. ‏في كلِّ هذه الحالات تتوالد صورٌ فاتنة متخيَّلة للماضي، ويقع تحت تأثيرِ هذا النوع من الصور المفتعلة كثيرٌ من الناس، الذين لا يعرفون ما تقدّمه العلومُ والمعارفُ والتكنولوجيا لتيسيرِ حياة الإنسان، وتحسينِ ظروفه المعيشية وأحواله الحياتية المتنوعة. التكنولوجيا الجديدة تنتج سلسلةَ مشكلات على شاكلتها، عندما تقضي على نمطِ إنتاج سابق تحدث أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وقيمية وثقافية ونفسية متنوعة،كما حدث بتصفية المهن والحرف اليدوية بالتدريج بعد اختراع الآلة البخارية.
كانت العصورُ الماضية عصورَ استعباد وخضوع، كان الإنسانُ مكلفًا بالطاعة العمياء للسلطان.كي يتمتع الإنسان برعاية السلطان وحمايته عليه ان يكون عبدًا مطيعًا لا ينطق بكلمة "لا" أبدًا. لا أحدَ يتمتع بالحقوق والحريات ذلك الزمان إلا السلطان، السلطان يتكلم والرعية وظيفتها السمع والطاعة. في العصر الحديث ظهرت الحريات والحقوق. الحقوق والحريات تعمل باتجاهين متضادين،كما تسمح للإنسان أن يكون إنسانيًا، تسمح له أن يكون متوحشًا.
أرى من الضروري إعادةَ النظر بتعميم توصيف عصر "التفاهة" للواقع الراهن. الغريبُ أن مصطلحَ "التفاهة" صار لافتةً تُلصق على ما يسود حياةَ الإنسان اليوم، يستعملها كثيرون بأسلوب مبتذل. إذا كان هذا راهنَ وجود الإنسان في العالم، ولكلِّ عصر نمطُ وجودٍ تنكشف فيه كينونةُ الإنسان ويتحقّق نمط وجوده الخاص فيه، فكيف نظهر أنه عصرُ تفاهة، ونضمر الحنينَ لعصور ذهبية متخيَّلة.كان يقال: "دوام الحال من المُحال"، وأضيف إلى ذلك: "عودة الحال إلى الماضي مُحال". لا يتمكن الإنسانُ من استئناف ماضيه مهما امتلك من إمكانات ووسائل، كلّما حاول العودةَ قبض عليه الواقعُ الذي يعيش فيه وحبسه وعطلّه عن إدراك الأمس واستئنافه كما هو، ومهما فعل سينهك حياتَه ويضيّع مستقبلَه من دون أن يستأنف الأمس.
توصيف عصرنا بـ "التفاهة" يحيل إلى أن العصورَ الماضية كانت ذهبية، وكأن لا موضع فيها للبؤس والشقاء. يتجاهل من يتحدث عن تسيّد "التفاهة" وتغلبها على كلِّ شيء اليوم ذلك البؤسَ والشقاء عندما جرى اجتثاتُ وإبادةُ حضارات الأمريكتين، بعد اكتشاف كولمبس للعالم الجديد سنة 1492، وما تلاه في القرون التالية من تغوّلِ ظاهرة الاستعمار المتوحشة، واسترقاقِ شعوب أستراليا وأفريقيا وآسيا ونهبِ ثرواتها، ومآسي الحربَين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين، وسقوطِ عشرات ملايين الضحايا الأبرياء، وتدميرِ المدن وإنهاكِ كثيرٍ منها، وجريمةِ الكيان الصهيوني باغتصاب فلسطين، وما جرى ويجري من قتل وتشريد أهلها حتى اليوم.
‏أتحدث عن التخويفِ المبالغ فيه من استعمال وسائل الاتصال والتطبيقات الجديدة في الإنترنت، والتشديدِ على أنها شرٌّ مطلق. ولا أريد الغوصَ بعيدًا في ضوء الموقف الفلسفي للفيلسوف الشهير هيدغر بخصوص ميتافيزيقا التكنولوجيا، وما يختبئ فيها من قدرةٍ مهولة على تغيير منظومات المعتقدات والقيم ورؤى العالم والأفكار.
من مكاسب عصر الإنترنت وشيوع وسائل التواصل القضاءُ على "طبقية التعليم".كلُّ شيء يريد الإنسانُ تعلّمَه اليوم متاحٌ للجميع بمختلف المراحل العمرية، يعلّمه أمهرُ المعلمين بأحدث الوسائل مجانًا. قبل هذا العصر كان أبناءُ الفقراء أمثالي، يوم كنتُ تلميذًا، عاجزين عن تعلّم اللغات والمهارات المتنوعة. أتألم كلّما تذكرت أمنيةً ضائعة في نفسي، بعد تخرجي في الثانوية قبل نصف قرن عندما كنتُ طالبًا ببغداد، شعرتُ بحاجة ماسة لتعلّمِ اللغة الإنجليزية وإتقانِها. سألتُ زملائي الطلاب، أخبروني بأن مَن يريد إتقانَ الإنجليزية عليه الالتحاقُ بدورات مكثفة في "المعهد البريطاني" في منطقة الوزيرية ببغداد، سألتُ عن أجور كلِّ دورةٍ فعلمتُ بضرورةِ دفع مبلغ باهض، لا أستطيع تأمينَه تلك الأيام. لم تتكرّر مثلُ هذه الفرصة، فضاعت هذه الأمنيةُ وأُضيفت إلى ما ضاع من أمنياتي. بعد سنوات طويلة كان باستطاعتي دفعُ المبلغ وقت توفر المال، لكن لم تعد الرغبةُ ممكنةَ التنفيذ، بعد أن ساقتني الأقدارُ بعيدًا عن مثل هذه الأحلام الجميلة.
سألتُ ولدي علي قبل أيام بعد مناقشته الماجستير، ماذا تفعل هذه المدة؟ فقال: انخرطتُ في معهد أونلاين لتعلم أجود طريقةٍ لتحميص القهوة وتحضيرها. قلتُ له: أعرف أنك خبيرٌ في هذه الصنعة، بعد دوراتٍ متعدّدة على أيدي خبراء محترفين، وممارسةِ المهنة منذ سنوات عمليًا، فلماذا تفعل ذلك؟ قال: أدرس في معهد استرالي متقدّم لتعليم تحضير أجود أنواع القهوة وأغلاها ثمنًا، يتولى التعليمُ فيه أكاديميون متخصصون في هذه الصنعة. هذا المعهد من أفضل المؤسسات التعليمية في هذا المضمار، يدرس فيه أونلاين عشرات الآلاف من قارات عديدة، شهادته معتبرة في كل أنحاء العالم، وأجور التعليم لديهم ليست فاحشة. فوجئت بوجود مثل هذا المعهد، فبادرتُ بسؤال: ومَن يريد تعلمَ صنعة أخرى هل هناك مثل هذا المعهد؟ فقال:كلُّ مَن يرغب بإتقان مهنة مهما كانت، يستطيع التعلّمَ وهو في بيته عبر الإنترنت، وكثيرًا ما يكون التعليمُ مجانًا. أردفتُ بسؤال إنكاري: هل تحضيرُ القهوة يتطلب وجودَ مهارات وتأهيلَ متخصّص لا يتقنه إلا مَن يتعلم في مثل هذه المؤسسة الأكاديمية المختصة؟ فأجاب: حجم التداول في سوق القهوة عشرات المليارات، الجيل الجديد مسحور بالقهوة، لم يعد أكثرُهم يشرب الشاي، القهوة شرابُه المفضل في كلِّ الأوقات. عندما رجعتُ إلى محرك البحث لأتحقّق من حجم التداول، قرأتُ تصريحًا لخبيرٍ بسوق القهوة، جاء فيه: "أكد علي الإبراهيم، المؤسس والمدير التنفيذي لتطبيق COFE، وهو عبارة عن سوق إلكترونية للقهوة، أن سوق القهوة العالمية التي يبلغ حجمها اليوم 150 مليار دولار، ستنمو بعشر مرات خلال السنوات الخمس المقبلة، على الرغم من مشكلة الجفاف، وتقطّع سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار البن مؤخراً" .
من المكاسب الأخرى لعصرِ الإنترنت وشيوعِ وسائل التواصل الحدُّ من تضخمِ "طبقية العلاقات الاجتماعية" وأرستقراطيتها الممقوتة، وعيشِ الطبقة العليا في حصون منيعة بعيدًا عن المجتمع. وسائل التواصل كسرت حصونَ الأسوار المغلقة، وفكّكت كثيرًا من شكليات البروتوكولات الزائفة، وحاصرت الشخصياتِ السياسية والاجتماعية والثقافية في قصورهم وأبراجهم العاجية، واضطرتهم للخروج والعودة لحياة المجتمع والتواصل مع شؤون الناس وهمومهم.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا علمَ بلا فلسفة
- مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث
- علي الوردي وفهم المجتمع في أفق رؤية ابن خلدون
- علي الوردي ومركزية الشعر في الثقافة العراقية
- القيم الكونية نسبية في تطبيقاتها لا في ذاتها
- مسرات القراءة ومخاض الكتابة
- قراءة فرديد لهيدغر في أفق فهم كوربن
- ‏ متعة تسوّق الكتب
- غواية اللغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن
- كلما احترقت مكتبة انطفأ شيءٌ من نور العالَم
- مكتباتنا أرشيف ذكرياتنا
- الكتابة الأيديولوجية
- الكتابة في عصر الإنترنت
- الكتابة بوصفها سلطة
- محطات القراءة المبكرة
- دعوة لإعادة اكتشافِ فكر العلامة الأمين
- الوقوع في أسر الكتب
- تفسيرُ كلِّ شيء بشيءٍ واحد
- القراءة العشوائية
- مواجع الكتابة


المزيد.....




- البنك الاسلامي للتنمية وافق على اقتراح ايران حول التمويلات ب ...
- استباحة كاملة دون مكاسب جوهرية.. هكذا مرّ عيد الفصح على المس ...
- قائد الثورة الاسلامية سيستقبل حشدا من المعلمين 
- تونس تحصل على 1.2 مليار دولار قرضاً من المؤسسة الدولية الإسل ...
- مين مستعد للضحك واللعب.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 20 ...
- «استقبلها وفرح ولادك»…تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ك ...
- لوموند تتابع رحلة متطرفين يهود يحلمون بإعادة استيطان غزة
- إبادة جماعية على الطريقة اليهودية
- المبادرة المصرية تحمِّل الجهات الأمنية مسؤولية الاعتداءات ال ...
- الجزائر.. اليوم المريمي الإسلامي المسيحي


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - وسائل التواصل ليست شرًا مطلقًا