أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري فوزي أبوحسين - كتاب الديوان للعقاد والمازني: قراءة في نقد النقد















المزيد.....



كتاب الديوان للعقاد والمازني: قراءة في نقد النقد


صبري فوزي أبوحسين

الحوار المتمدن-العدد: 7918 - 2024 / 3 / 16 - 09:58
المحور: الادب والفن
    


مر على كتاب الديوان مائة عام وما زال معطاء، ومعلما، في قاعات الدرس العلمي المتنوعة، وفي منتديات الثقافة الكثيرة، وفي كتابات كبار الباحثين والباحثات، وكثيرا ما كنت أقرأ عن كتاب الديوان هذا! أو أسمع به، أو أطالعه مطالعة جزئية عجلى، إلى أن أتيح لي أن أقرأه وأقرأ فيه مع طلابي بالفرقة الثانية من تمهيدي الماجستير بكلية الدراسات العليا لهذا العام الجامعي، ومن عجيب القدر أن تكون هذه القراءة يوم وفاة عملاقنا العقاد! قرأناه سويا قراءات متنوعة؛ قراءة تعرف، وقراءة وصف، وقراءة تحليل، وقراءة نقد، فخرجت بجملة أسئلة عن هذا الكتاب الذي وجدته شائكا وشائقا، منها:
-ما سبب تسمية هذا الكتاب بهذا العنوان؟
- ما السياق العام الذي ألف فيه هذا الكتاب؟
- ما الدافع على تأليفه؟
- ما مكانة الكتاب في خط سير النقد الأدبي العربي في العصر الحديث؟
- ما الجديد في هذا الكتاب؟
- ما المآخذ على هذا الكتاب؟
- كيف يستثمر الفكر النقدي الموجود في هذا الكتاب؟
- كيف تلقى الأدباء والنقاد والمثقفون هذا الكتاب؟
والحق أن هذه إشكاليات كبرى يثيرها هذا الكتاب ومؤلفاه، وأن الإجابة عن هذه الأسئلة، وأن تقديم الحلول لهذه الإشكاليات تحتاج جهدا كبيرا، لا يفي به قالب المقالة، بل ينبغي أن يصب هذا الجهد في بحث علمي دقيق في منهجه، وعميق في رؤيته، ومنداح في مصادره ومراجعه.
وأكتفي في هذا المقال بجملة الرؤى الآتية حوله:
عتبة العنوان:
-----------------
عنوان الكتاب الذي ارتضاه مؤلفاه هو (الديوان في الأدب والنقد)، كما يتضح من غلافه في طبعاته الكثيرة، وهو عنوان طريف ومثير، وهو جملة اسمية مكونة من مبتدأ (الديوان) وخبر شبه جملة، (في الأدب والنقد)، فلفظة (الديوان) خاصة بالكتاب الذي يجمع بين دفتيه الشعر، على النحو الذي نراه عند الشعراء عامة، وعند العقاد الذي سمى مجموعة شعرية له بعنوان(ديوان من الدواوين) وقد صدرت سنة ١٩٥٨م، والذي قال في مقدمته:" اسم هذه المجموعة يدل على موضوعها؛ لأنها ديوان مقتبس من دواوين الناظم، وهي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وأعاصير مغرب، وبعد الأعاصير، وما يلي من شعر نظم بعد صدور هذا الديوان الأخير".
وهنا في هذا الكتاب تأتي هذه اللفظة لتدل على كتاب خاص بالأدب والنقد عامة! ولم يشر المؤلفان في مقدمة الكتاب ولا في مباحثه إلى سبب هذا العنوان، ومن ثم كان لابد من السؤال عن سبب التسمية، لكأني بالمؤلفين أرادا أن يجذبا القراء بهذه المفارقة وهذا الانزياح، فقد رجعا باللفظة إلى معناها اللغوي، وهذا ما أكده لي سعادة أ.د كمال لاشين، محقق الكتاب، في مهاتفة طيبة بناءة وعميقة؛ فالدِّيوانُ في معاجم الفصحى لفظة معربة مستعملة منذ بدايات القرن الأول الهجري، وتدور حول دلالات: ديوانُ العطاء، ديوان الخراج، ديوان الجُنودِ، و السِّجِلُّ تُكْتَبُ فيهِ أَسْماءُ الجُنودِ وَأَماكِنُ وُجودِهِمْ، وأهل العطاء َما يَتَقاضَوْنَهُ مِنْ مَعاشٍ، والديوان الكتبة، أو مكان الكَتَبة وموظَّفي الدَّولة ديوان الموظَّفين، ويطلق كذلك على كل كتاب، وأطلقه رواة الشعر الأول على الكتاب الذي يجمع فيه الشعر، ويقال في كتب الإنشاء والتعبير: ديوان الإنشاء، لا سيما في أخريات العصر العباسي، وما يتبعه من دول وإمارات! وفي التعبير الإعلامي المحدث قولهم: الدِّيوانُ الْمَلَكِيُّ، وهو: إِدارَةٌ تابِعَةٌ لِسُلْطَةِ الْمَلِكِ يَشْتَغِلُ فيها مُوَظَّفونَ سامونَ يُرَتِّبونَ أَعْمالَهُ وَشُؤُونَهُ وَقَضايا الدَّوْلَةِ....فلفظة (الديوان) تجمع في دلالتها بين كونها كتابا وكونها مبنى، ولعل المؤلفين هذا الكتاب(الديوان في الأدب والنقد) قصدا إلى ذلك قصدا؛ فهما يهدفان إلى أن هذا الكتاب يمثل المصدر المكتوب الفخم الأصيل الجامع لمذهبهما الجديد الذي دعيا إليه في هذا الكتاب، في أجناس الأدب قاطبة، وقضايا النقد وإشكالياته!
كما لعلهما قصدا إلى أن يكون هذه الكتاب كالمبنى الجامع لمدرستهما جمعا فكريا وجمعا بشريا، أو جمعا عقليا وجمعا حسيا، ودليل ذلك أنهما ذكرا في المقدمة أنه سيكون في عشرة أجزاء... ولعلهما قصدا التعريض بالديوان الأكبر والأشهر والأسير حينئذ، ديوان أمير الشعراء أحمد شوقي، كأني بهما يقولان: حقيقة هذا الديوان في هذا الكتاب! وتلك الرؤية من ثمار محاورتي مع أستاذنا إبراهيم راشد-الأستاذ المتفرغ بجامعة الأزهر- حول هذا الكتاب وتسميته!
ولعل مما يؤيد هذه الرؤية قول العقاد في المقالة الأولى(شوقي في الميزان) بضمير الجماعة:" كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتًا كما نمر بغيرها من الضجات في البلد، لا استضخامًا لشهرته ولا لمنعة في أدبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهينات. ولكن تعففًا عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح، وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها طي الضريح، ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا ازدروا شيئًا لسبب يقنعهم، لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به، فلا يعنينا من شوقي وضجته أن يكون لهما في كل يوم زفة، وعلى كل باب وقفة. وقد كان يكون هذا شأننا معه اليوم وغدًا، لولا أن الحرص المقيت أو الوجل على شهرته المصطنعة تصرف به تصرفًا يستثير الحاسة الأخلاقية من كل إنسان، وذهب به مذهبًا تعافه النفس...."!
وشبه الجملة في عنوان ذلكم الكتاب (في الأدب والنقد) يشير إلى المجالين الفكريين الذي يدور فيهما المؤلفان، فهو كتاب يضم بين دفتيه مقالات في نقد الأدب شعرا ونثرا، ونقد النقد ذاته!
عتبة المقدمة:
---------------
عندما نقرأ مقدمة المؤلفين للكتاب نجد أنها جاءت في صفحتين دارتا حول الدوافع على تأليفهما هذا الكتاب! وتمثلت في الآتي:
-العمل على نهضة الأدب ومحاربة الأدعياء والمأجورين، يقولان:
تجددت دواعٍ للكتابة في أصوله وفنونه، أخصها الأمل في تقدمه؛ لالتفات الأذهان إلى شتى الموضوعات ومتنوع المباحث، والحذر عليه من الانتكاس لاجتراء الأدعياء والفضوليين عليه، وتسلل الأقلام المغموزة والمآرب المتهمة إلى حظيرته. وكتابنا هذا مقصود به مجاراة ذلك الأمل وتوقي تلك العلل.
-التعريف بمدرسة الديوان، يقولان: وهو كتاب يتم في عشرة أجزاء. موضوعه الأدب عامة، ووجهته الإبانة عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة، وقد سمع الناس كثيرًا عن هذا المذهب في بضع السنوات الأخيرة ورأوا بعض آثاره، وتهيأت الأذهان الفتية المتهذبة لفهمه والتسليم بالعيوب التي تؤخذ على شعراء الجيل الماضي وكتَّابه ومن سبقهم من المقلدين.
-الفصل التاريخي والفني بين المدرسة التقليدية من أدباء الجيل الماضي(جيل القرن التاسع عشر) والمدرسة الجديدة(وليدة مطلع القرن العشرين)، يقولان:
وأوجز ما نصف به عملنا — إن أفلحنا فيه — إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي: إنساني؛ لأنه من ناحية يترجم عن طبع الإنسان خالصًا من تقليد الصناعة المشوهة؛ ولأنه من ناحية أخرى ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة، ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة، ومصري؛ لأن دعاته مصريون تؤثر فيهم الحياة المصرية، وعربي؛ لأن لغته العربية، فهو بهذه المثابة أتم نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت، إذ لم يكن أدبنا الموروث في أهم مظاهره إلا عربيًّا بحتًا يدير بصره إلى عصر الجاهلية.
-تحطيم أصنام التقليد ورسم الطريق المستقيم للتجديد، يقولان: مضى التاريخ بسرعة لا تتبدل، وقضى أن تحطم كل عقيدة أصنامًا عبدت قبلها، وربما كان نقد ما ليس صحيحًا أوجب وأيسر من وضع قسطاس الصحيح، وتعريفه في جميع حالاته، فلهذا اخترنا أن نقدم تحطيم الأصنام الباقية على تفصيل المبادئ الحديثة، ووقفنا الأجزاء الأولى على هذا الغرض، وسنردفها بنماذج للأدب الراجح من كل لغة، وقواعد تكون كالمسبار وكالميزان لأقدارها....
وبتدبر هذه النصوص من المقدمة يتضح لنا أن الكتاب ثوري تمردي، وليس إصلاحيا، وهو- كما يرى الدكتور كمال لاشين – نتاج السياق السياسي الخاص بثورة ١٩١٩م التي كانت تهدف إلى هدم النظام القائم، وبناء نظام جديد، وأن هذا الكتاب في نهجه مثل كتب أخرى مثيرة مثل كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبدالرازق، الصادر سنة ١٩٢٥م! وكتاب في الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين، الصادر سنة ١٩٢٦م، فهذا الكتاب(الديوان في الأدب والنقد) من توابع زلزال ثورة ١٩١٩م! في العقول المصرية الشابة عصرئذ!
ولم يظهر من كتاب(الديوان في الأدب و النقد) إلا جزءان، طبع أولهما في يناير وثانيهما في فبراير سنة ١٩٢١م، وأُعيد طبعهما بعد شهرين، ثم طبعا طبعات كثيرة فيما بعد!
عتبة الهيكل الفكري:
---------------------
جاء الكتاب في ست وتسعين ومائة صفحة من القطع المتوسط، وتكون من مقدمة وسبع عشرة مقالة: عشر بقلم العقاد، وسبع بقلم المازني!
جاء الجزء الأول في ست وسبعين صفحة، وفيه مقدمة وسبع مقالات: ست للعقاد، وواحدة للمازني. وجاء الجزء الثاني في مائة وعشرين صفحة، وتكون من عشر مقالات: ست للمازني، وأربع للعقاد! وبهذا العرض يكون للعقاد عشر مقالات في الجزأين، معظمها في الجزء الأول، وللمازني سبع مقالات، معظمها في الجزء الثاني!
أما عشر العقاد فجاءت تسع منها حول شعر شوقي وشخصيته وعلاقاته، وعناوينها: شوقي في الميزا(١)، رثاء فريد، رثاء عثمان غالب، استقبال أعضاء الوفد الجديد، النشيد، النشيد القومي. وهذه الست في الجزء الأول. وفي الجزء الثاني ثلاث مقالات، هي: شوقي في الميزان(٢)، رثاء مصطفى كامل، رثاء الأميرة فاطمة. وكانت المقالة العاشرة للعقاد عن مصطفى صادق الرافعي ناقدا والرافعي مبدعا للنشيد الوطني، وفيها اتهام للرافعي بسرقة نقد العقاد لنشيد شوقي الوطني، وتعديله نشيده الوطني متأثرا بهذا النقد! وهي بعنوان: ما هذا يا أبا عمرو؟!
أما المقالات السبع للمازني فخمس منها عن أدب المنفلوطي وشخصيته وأسلوبه، وقصصه، وترجمته الشخصية! وعناوينها: أدب الضعف، ترجمة المنفلوطي، الحلاوة والنعومة والأنوثة، العبرات: قصة اليتيم، أسلوب المنفلوطي. وتكاد تكون المقالة الأول(أدب الضعف) عامة في لغتها، نقدها ضمني كنائي، لم يذكر فيها اسم المنفلوطي صراحة، فهي كالتمهيد للنقد الصريح له في بقية المقالات!
ومن عجب أن يصب المازني جام غضبه على زميلهما (عبدالرحمن شكري) في هذا الكتاب في مقالتيه: (صنم الألاعيب(١)، بالجزء الأول، و(صنم الألاعيب(٢) بنهاية الجزء الثاني!
وعندما نترك العتبات الرئيسة في الكتاب ونعيش مع متنه، نلحظ الآتي:
١هذا الكتاب تجربة فريدة في مجال النقد التطبيقي، ويعد علامة فارقة في هذا الميدان، لا يضاهيه فيه إلا كتابات الأديبين الكبيرين مصطفى صادق الرافعي في (على السفود)، ومحمود شاكر في(نمط صعب ونمط غريب)!
٢هذا الكتاب أسس وأثمر مدرسة نقدية رائدة تمثل التيار الرومانسي أصدق تمثيل، كما أن له تأثيرا في ميخائيل نعيمة والمهجريين وغيرهم!
٣ هذا الكتاب بثوريته صدم المحافظين ونبههم إلى ضرورة دخولهم مجال التجديد، ولا أكون مبالغا إذا قلت: إنه نسق مضمر، ودافع خفي وراء كل تجديد تم في شعر شوقي بعد صدوره، ولعل من يوازن بين شخصية شوقي وشعره قبل صدور كتاب الديوان وبعد صدوره، يحس بذلك، ويقف على أدلة عليه!
٤ هذا الكتاب يحتوي على نقد للشعر، ونقد للنشيد الوطني، ونقد للترجمة الشخصية، ونقد للقصة القصيرة، ونقد للمقال النقدي، ونقد للحالة النقدية الضعيفة أو المحابية في هذه الفترة!
٥ هذا الكتاب يحتوي على تنظيرات نقدية عميقة ورائدة، أوجزها في النصوص الآتية:
• في قضية قيمة النقد الأدبي:
------------------------
يقول الأستاذ العقاد من مقالته الأولى(شوقي في الميزان):
على قدر استفاضة الشهرة المدحوضة يكون نفع النقد ولزومه، فإن أبلغ ما يكون العيب إذا كان فاشيًا، وأضر ما يكون إذا كان متخذًا نموذجًا للإحسان وقياسًا للإتقان. وليس قصارى الأمر أن يقول عامة القراء تلك قصيدة جيدة ونقول نحن إنها قصيدة رديئة، فإن الذوق والتمييز إذا اختلَّا لم يكن اختلالهما في الأدب وحده. وأنت إذا استطعت أن تهدي الطبقة المتأدبة من أمة إلى القياس الصحيح في تقدير الشعر، فقد هديتهم إلى القياس الصحيح في كل شيء، ومنحتهم ما لا مزيد لمانح عليه. وإن الأمم تختلف ما تختلف في الرقي والصلاحية، ثم يرجع اختلافها أجمعه إلى فرق واحد: هو الفرق في الحالة النفسية أو بالحري الفرق في الشعور وفي صحة تمييز صميمه من زيفه إذا عرض عليها فكرًا وقولًا أو صناعة وعملًا.فليس إصلاح نماذج الآداب بالأمر المحدود أو القاصر على القشور، ولكنه من أعم أنواع الإصلاح وأعمقها....
• قضية معالم جودة التشبيه:
--------------------
وفي مقال العقاد الثاني (رثاء فريد)يقول:
اعلم، أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به، وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان كدك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان؛ فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس. وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطربًا مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نورًا؛ فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودًا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسًا بوجوده. وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذيةُ على الدم، ونفحاتُ الزهر إلى عنصر العطر؛ فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية. وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما إخال غيره كلامًا أشرف منه بكم الحيوان الأعجم.
• إشكالية الوعي العميق بمقصد النص الشعري:
ففي المقال الثالث (رثاء عثمان غالب) يقول الأستاذ العقاد:
من فساد الذوق أن يقصد المرء المدح فيقذع في الهجاء، أو ينوي الذم فيأتي بما ليس يفهم منه غير الثناء، وأشد من ذلك إيغالًا في سقم الذوق وتغلغلًا في رداءة الطبع شاعر يهزل من حيث أراد البكاء، وتخفى عليه مظان الضحك وهو في موقف التأبين والرثاء والعبرة بالفناء.
• قضية بناء النص الشعري التراثي:
---------------------
يقول الأستاذ العقاد من مقالة(استقبال أعضاء الوفد):
لقد كان الرجل من الجاهلية يقضي حياته على سفر: لا يقيم إلا على نية الرحيل، ولا يزال العمر بين تخييم وتحميل، بين نُؤى تهيج ذكراه، ومعاهد صبوة تذكي هواه، هجيراه كلما راح أو غدا حبيبة يحن إلى لقائها، أو صاحبة يترنم بموقف وداعها. فإذا راح ينظم الشعر في الأغراض التي من أجلها يتابع النوى ويحتمل المشقة، ثم تقدم بين يدي ذلك بالنسيب والتشبيب، فقد جرى لسانه بعفو السليقة لا خلط فيه ولا بهتان.
ولما تعود شعراء العرب التكسب بشعرهم صاروا يخرجون من جوف الصحراء إلى ملوك الحيرة وغسان وفارس، وينتجعون الأمراء والأجواد في أقاصي بقاع الجزيرة، يحملون إليهم المدائح، يبدءونها أحيانًا بوصف ما تجشموه في سبيل الممدوح من فراق الأحبة وألم الشوق وطول الشقة، وأحيانًا كانوا يصفون الناقة التي تقلهم وخفة سيرها وصبرها على الظمأ والطوى ومواصلتها الليل بالنهار سعيًا إلى الممدوح؛ كناية عن الشوق إلى لقائه، وكان الغرض في الحالتين واحدًا، وهو تعظيم شأنه وتكبير الأمل في مثوبته، فكأن الابتداء بالغزل ووصف المطي في قصائد نظمت في المديح وما شاكله من أغراض حياتهم المتشابهة لا يعد من باب اللغو والتقليد.
ثم نشأت الصناعة فيمن نشأ بعد هؤلاء، ومن عادة الصانع أن يحتاج إلى النموذج والأستاذ، فأقاموا المتقدمين أساتذة، واتخذوا طرائقهم نماذج لا يبدلون فيها، وكان شعراء البادية لا يزالون يفدون على الأمصار، فينهجون نهج أسلافهم مطبوعين أو مقتدين، فكان يختلط المطبوع بالمصنوع في هذا العهد ويتقاربان حتى لا ينتبه الأدباء إلى الفرق بينهما، ومن شعراء الحضر من تقدم تقدمًا حسنًا فنعى على المتقدمين بكاء الدمن والطلول، وأفرد كثيرًا من الغزل في قصائد قائمة بذاتها، وأشهر هؤلاء أبو نواس. ومنهم من كان يفتتح مدائحه بالنسيب، ويتجنب ذلك في العظائم
*مقاييس مُثلى في النشيد الوطني:
--------------------
يقول من مقالة النشيد:
وليكن قياسنا إيَّاه أن نلتمس فيه أبسط الخصال، التي هي قوام كل نشيد، ولا يجوز أن تخلو منها الأناشيد القومية. ويشترط في النشيد القومي قوة العبارة وسهولتها، وألا يكون وعظًا بل حماسة ونخوة، وأن يكون موضوعًا على لسان الشعب وموافقًا لكل زمان، وهذا أبسط ما يطلب في أناشيد الأمم. فهل نشيد شوقي على هذا الوجه؟ وهل اتسقت فيه كل هذه الشروط أو بعضها؟
خطورة القصص الخيالي:
--------------------
يقول الأستاذ المازني:
وأذكر على سبيل التمثيل لتأثير هذه القصص المنحوسة، أني أعرف رجلًا بلغ من استيلاء «سنكلر» وضروب احتياله على نفسه وهواه في صدر أيامه؛ أن ظل سنين وليس له غاية يطلبها سوى أن يكون على رأس فرقة من «البوليس» السري يطارد المجرمين؛ ذلك لأن هذه القصص الكاذبة الصور المستحيلة الوقائع تحدث الاضطراب في نضوج الإحساسات الطبيعية في نفوس الشبان، وأخصها الحب، بتنبيهها مركز التوليد قبل الأوان، وقبل أن يكون الباعث على الحب هو النضوج الجنسي في الفرد
*مقاييس الأسلوب العالي:
---------------------
يقول الأستاذ المازني في مقالته(أسلوب المنفلوطي):
ومعلوم أن الكلام لا قيمة له من أجل حروفه، فإن الألفاظ كلها سواء من حيث هي ألفاظ، وإنما قيمته وفصاحته وبلاغته وتأثيره تكون من التأليف الذي تقع به المزية في معناه لا من أجل جرسه وصداه، وإلا لكان ينبغي ألا يكون للجملة من النثر أو البيت من الشعر فضل مثلًا على تفسير المفسر له. ومعلوم كذلك أن الألفاظ ليست إلا واسطة للأداء، فلا بد أن يكون وراءها شيء، وأن المرء يرتب المعاني أولًا في نفسه ثم يحذو على ترتيبها الألفاظ، وأن كل زيادة في اللفظ لا تفيد زيادة مطلوبة في المعنى وفضلًا معقولًا فليست سوى هذيان يطلبه من أخذ عن نفسه، وغيب عن عقله، وأبلغ من ضلال الرأي أن راح يحسب أن تأليف الألفاظ تأليفًا طبيعيًّا مطردًا خاليًا من العكس والقلب منزهًا عن الحشو والحشر؛ يذهب برونق الكلام ويفقده المزية والتأثير. وينسى المسكين أن كلَّ كلمة يستطيع القارئ أن يسقطها بدون خسارة في المعنى أو تعويق لتحدر الإحساسات أو إفقار لغناها؛ كلَّ لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلةٌ للكاتب، فإن العالم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ويصبر عليه، وليس شيء أحق بأن يثير عقل العاقل من عدم اكتراث الكاتب لوقته ومجهوده، وكم من كاتب أضرَّ به هذا الداء، وآخر ضئيل الشأن والحال لم يحيه من المزايا غير حبك الأداء، ولكن هذا كلام لا يفهمه المنفلوطي؛ لأن اللغة عنده ليست إلا زينة يعرضها، وحلي يخيل بها لا أداة لنقل معنًى أو تصوير إحساس أو رسم فكرة. ومن أين له أن ينزل اللغة هذه المنزلة وهو لا معنى في صدره ولا فكرة في ذهنه؟!
*العيوب المعنوية في النص:
-----------------------
يقول الأستاذ العقاد في مقالته رثاء مصطفى كامل ، وقد حددها في أربع: التفكك، الإحالة، التقليد، الولع بالأعراض:
العيوب المعنوية التي يكثر وقوع شوقي وأضرابه فيها عديدة مختلفة الشيات والمداخل، ولكن أشهرها وأقربها إلى الظهور وأجمعها لأغلاطهم عيوب أربعة؛ وهي بالإيجاز: التفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر، وهذه العيوب هي التي صيرتهم أبعد عن الشعر الحقيقي الرفيع المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود؛ من الزنجي عن المدنية من صور الأبسطة والسجاجيد، كما يقول ماكولي عن نفائس الصور الفنية: ولكل من العيوب الآنفة أثر ظاهر في هذه القصيدة، قد لا تجده في غيرها من القصائد إلا مزويًّا أو دقيقًا عن فهم الكثيرين. وسنرى بعد سبر هذه القصيدة بهذا المسبار أن من نقائص الشعر ما لا يمنع أن يلمح له رواء معجب يستهوي البسطاء، بل ربما زادته جمالًا في الظاهر كالحلي المزيفة؛ فإنها في الغالب أجمل من كريم الحلي والجواهر، ولكنها تمنع أن يكون للشعر قيمة غالية...ثم أخذ الأستاذ العقاد يوضحها في الآتي....
مفهوم التفكك والوحدة العضوية:
----------------------------
التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعًا مبددًا من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية، وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة؛ إذ كانت القصائد ذات الأوزان والقوافي المتشابهة أكثر من أن تحصى؛ فإذا اعتبرنا التشابه في الأعاريض وأحرف القافية وحدة معنوية، جاز إذن أن ننقل البيت من قصيدة إلى مثلها دون أن يخل ذلك بالمعنى أو الموضوع، وهو ما لا يجوز. ولتوفية البيان نقول: إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها؛ فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة. أو هي كالبيت المقسم، لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها، ولا قوام لفن بغير ذلك، حتى فنون الهمج المتأبدين، فإنك تراهم يلائمون بين ألوان الخرز وأقداره في تنسيق عقودهم وحليهم ولا ينظمونه جزافًا، إلا حيث تنزل بهم عماية الوحشية إلى حضيضها الأدنى، وليس دون ذلك غاية في الجهالة ودمامة الفطرة. ومتى طلبت هذه الوحدة المعنوية في الشعر فلم تجدها؛ فاعلم أنه ألفاظ لا تنطوي على خاطر مطرد أو شعور كامل الحياة، بل هو كأمشاج الجنين المخدج بعضها شبيه ببعض، أو كأجزاء الخلايا الحيوية الدنيئة لا يتميز لها عضو ولا تنقسم فيها وظائف وأجهزة، وكلما استقل الشيء في مرتبة الخلق صعب التمييز بين أجزائه؛ فالجماد كل ذرة منه شبيهة بأخواتها في اللون والتركيب، صالحة لأن تحل في أي مكان من البنية التي هي فيها، فإذا ارتقيت إلى النبات ألفيت للورق شكلًا خلاف شكل الجذوع، وللألياف وظيفة غير وظيفة النوار، وهكذا حتى يبلغ التباين أتمه في أشرف المخلوقات وأحسنها تركيبًا وتقويمًا، وهي سنة تتمشى في أجناس الناس كما تتمشى في أنواع المخلوقات
مفهوم التقليد في المعاني:
----------------
أما التقليد فأظهره تكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني، وأيسره على المقلد الاقتباس المفيد والسرقة، وأعز أبيات هذه المرثاة على المعجبين بها مسروقة مطروقة؛ فهذا البيت:
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان
مقتضب من بيت المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما فاته وفضول العيش أشغال
مفهوم الإحالة في المعاني:
-------------------
أما الإحالة فهي فساد المعنى، وهي ضروب؛ فمنها الاعتساف والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه، وشواهدها كثيرة في هذه القصيدة خاصة. فمن ذلك قوله:
السكة الكبرى حيال رباهما
منكوسة الأعلام والقضبان
وقضبان السكك الحديد لا تنكس؛ لأنها لا تقام على أرجل، وإنما تطرح على الأرض كما يعلم شوقي، اللهم إلا إذا ظن أنها أعمدة تلغراف! على أنها لو كانت مما يقف أو ينكس لما كان في المعنى طائل؛ إذ ما غناء قول القائل في رثاء العظماء: إن الجدران أو العمد مثلًا نكست رءوسها لأجله؟!
إشكالية الولع بالأعراض دون الجواهر:
ويشبه الإحالة من عيوب المقلدين ولعهم بالأعراض دون الجواهر؛ وهو العيب الرابع الذي اخترنا الكلام عليه من عيوب هذه القصيدة الدالة على أنماط التقليد ومذاهبه، بيد أن الفرق بينهما كالفرق بين الخطأ واللعب والسخف والعبث، ولكل منهما سبب يمت به إلى الآخر، إذا تشابها في الصدور عن طبع أعوج وعقل فارغ. وقد يسهل التفطن إلى الإحالة، ولكن التفطن إلى هذا الضرب من العبث عسير على من لا يدركه بالبداهة، كما يعسر على الأطفال إدراك رزانة الرجال، انظر أيها القارئ إلى هذا البيت:
دقات قلب المرء قائلة له:
إن الحياة دقائق وثوان
فإنه بيت القصيد في رأي عشاق شوقي، فعلى أي معنًى تراه يشتمل؟ معناه أن السنة أو مائة السنة التي قد يعيشها الإنسان مؤلفة من دقائق وثوان، وهذا هو جوهر البيت، فهل إذا قال قائل إن اليوم أربع وعشرون ساعة، والساعة ستون دقيقة؛ يكون في عرف قراء شوقي قد أتى بالحكمة الرائعة؟ ولكنهم يقولون لك: إنه قرن بين دقات القلب ودقات الساعة، وهذه هي البراعة التي تعجبنا، وبها هدانا إلى واجب الضن بالحياة. وهنا يبدو للنظر في قصر المسافة التي يذهبون إليها في إعجابهم، وأن بلاغتهم المزورة لا تتعلق بالحقائق الجوهرية والمعاني النفسية، بل بمشابهات الحس العارضة. وإلا فلو قورن بين الساعة والقلب أيام كان يقاس الوقت بالساعات المائية أو الرملية، فهل يفهم لهذه المقارنة معنًى؟ وهل لدقات القلب الخالدة علاقة حقيقية بدقات الدقائق والثواني، يستنبط منها الإنسان سر الحياة؟
أبهذه العوارض يقدر الأحياء نفاسة حياتهم؟ وهل يتوقف المعنى الذي ينظم في الحياة الإنسانية على علاقة سطحية باختراع طارئ؟! ولقد قلنا في نقدنا لرثاء فريد: «أن الحقائق الخالدة لا تتعلق بلفظ أو لغة؛ لأنها حقائق الإنسانية بأسرها: قديمها وحديثها، عربيها وأعجميها.» ونعيد هذه الكلمة هنا، ونزيد عليها أن الحقائق الخالدة لا تتعلق بفترة محدودة، ولا تقوم على مشابهة زائلة....
وهكذا نجد في كتاب الديوان للعقاد والمازني رؤى نقدية تنظيرية عميقة، وممارسات تطبيقية جريئة، تبشر بمذهب جديد في الأدب والنقد، ولكن ككل عمل بشري أبى الله عز وجل أن يتم كتاب إلا كتابه!
ففي هذا الكتاب جملة مثالب تتمثل في الآتي:
١التنمر النقدي:
-----------------
ويتمثل ذلك في تحامل هذين الناقدين الشابين على أعلام المدرسة المحافظة وشيوخها شعرا ونثرا: شوقي، المنفلوطي، الرافعي، ومحاولة تحطيمهم وتشويههم، وسلب أية مزية أو مكانة لهم، وجعل إبداعهم كإبداع الشحاذين والمخبولين!
٢التذوق الخاطئ:
-----------------------
وترى ذلك في زعم العقاد أن نشيد عبدالرحمن صدقي أجمل من نشيد شوقي، والموازن بين النشيدين يجد بونا شاسعا لصالح شوقي فكريا وإيقاعيا وعاطفيا، وهذه الموازنة تحتاج بحثا خاصا!
كما ترى ذلك في تطبيق العقاد الوحدة العضوية على قصيدة شوقي في رثاء مصطفى كامل؛ فقد رفض كثير ممن قرأوا الكتاب هذه الممارسة التطبيقية، ورأوا فيها تجنيا وافتراء واختلاقا، وقرروا أن الوحدة العضوية أنسب بالشعر القصصي والمسرحي في المقام الأول، وأنه لا يمكن تطبيقها على الشعر الغنائي والوجداني، وأن شعر العقاد نفسه أو المازني أو شكري، لا ينطبق عليه هذا المقياس النقدي الصارم، ومن ثم فقد العقاد في خطيئة مطالبة او محاكمة شعر شوقي بمقياس لا يخصه ولا يوجد فيه، ولا يضير شعر شوقي أو غيره من الغنائيين أن يفتقد الوحدة العصوية، فما دام متماسكا، وما دام ذا وحدة موضوعية فهذا كافيه...
٣هدم قطب من أقطاب المدرسة الناشئة:
------------------------------------
كيف لكتاب يؤسس لمذهب جديد يتضمن نقدا بل نقضا لأحد أقطاب هذا المذهب، وهو الشاعر الكبير عبدالرحمن شكري، الذي ناله تنمر نقدي في مقالين للمازني بعنوان(صنم الألاعيب)...
٤ العنف في لغة النقد الأدبي:
------------------
كما يلحظ كل قارئ للكتاب عنفا وحدة في لغة النقد الأدبي، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
-وصف العقاد شوقيا في المقالة الثالثة، بأنه: "من لا يفكر إلا سهوًا، ولا يشعر إلا لهوًا، ولا يمارس أسرار الحياة وقضاياها الغامضة إلا عفوًا؛ لحريٌّ أن يجهل الفرق بين التفكير والإحساس، كما جهل الفرق بين مقام السخرية ومقام التعزية".
-وقول المازني في مقالته (صنم الألاعيب١) واصفا شكريا بالصنم، وأشعاره بالألاعيب:
"شكري صنم ولا كالأصنام، ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم؛ صنم تتمثل فيه سخرية الله المُرة وتهكم «أرستفانيز السماء» مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس وسلوانهم. ولم لا يخلق الله المضحكات وقد آتى النفوس الإحساس بها وأشعرها الحاجة إليها، ولم يلتزم في الإنسان ما لا يتوخى في سواه من وزن واحد وقافية مطردة؟ هنالك إذن على ساحل البحر شاءت الفكاهة الإلهية أن ترمي بهذا الصنم...".
-وفي مقالة (أدب الضعف) يقول عن المنفلوطي ساخرا مستهزئا:
"وقد لقينا من التشجيع ما يغرينا بالاسترسال، ووجدنا من الإقبال ما قوى الآمال في صلاح الحال، وهاكم صنمًا آخر من معبودات الضئال نهدمه ونلقي به بين الأطلال وبعد، فماذا في كتابات المنفلوطي مما يستحق أن يعد من أجله كاتبًا وأدبيًا، إلا إذا كان الأدب كله عبثًا في عبث لا طائل تحته؟ سمعت بعض السخفاء من شيوخنا المائقين يقول: «إن في أسلوبه حلاوة.» ولو أنه قال «نعومة» لكان أقرب إلى الصواب، ولو قال «أنوثة» لأصاب المحز"!
-وفي مقالة (الحلاوة والنعومة والأنوثة) يقول:
"ولست بواجد شيئًا من هذه الحلاوة في كلام المنفلوطي، سواء في ذلك شعره ونثره؛ لأنه متكلف متعمل يتصنع العاطفة كما يتصنع العبارة عنها..."
-وفي مقالة(ما هذا يا أبا عمرو؟)، وفي ختام الكتاب يقول الأستاذ العقاد:
"إيه يا خفافيش الأدب. أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم. السوط في اليد وجلودكم لمثل هذا السوط خلقت، وسنفرغ لكم أيها الثقلان، فأكثروا من مساوئكم، فإنكم بهذه المساوئ تعملون للأدب والحقيقة أضعاف ما عملت لها حسناتكم، إن كانت لكم حسنة يحسها الأدب والحقيقة"....
وقد أحس العقاد بمخاطر ذلك العنف اللغوي الانتقاصي، فقال في مقالته(شوقي في الميزان ٢)، وهو يرد على منتقديهما: أما ثاني الاعتقادين فهو أننا أغلظنا العصا لشوقي وشددنا عليه النكير. ولهؤلاء نقول: إننا لا نهدم خطأ مؤسسًا على البرهان فننقضه بالبرهان وحده، ولكننا نهدم الوهم المطبق والدسائس المتراكبة، وما أحوج البرهان في هذه إلى الشدة، وما أقل ما يغني فيه اللين والهوادة!". وهذا التبرير في رأيي غير مقنع منطقيا أو نقديا، فليست الشدة حلا وليست محمدة، بل إن الرقة والهدوء والأدب مصدر كل خير، وأساس كل علاج!
وفي قادم الوقفات مع هذا الكتاب الفذ والفاتح، أحاول أن أزيده تضويئا وتنويرا، بغية الإفادة الآنية والمستقبلية منه، إن شاء الله تعالى.



#صبري_فوزي_أبوحسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عصمت رضوان إنسانا ومبدعا أزهريا
- مقاربة أيكولوجية في خريدة (الرجل البدائي) الجيمية للشاعر عبد ...
- كيف تحلل نصا أدبيا؟
- كيف تعد خطة موضوع لنيل درجة الماجستير؟
- عمدة التحقيق الأزهري للتراث الأدبي: العلامة النبوي شعلا
- ريادة طه حسين في فن السيرة
- كتاب الغربال لميخائيل نعيمة شكلا ورؤية -- إعداد الطالبة إيثا ...
- أبجديات تحليل النص الأدبي
- الشيخ سيد درويش في مرآة الأستاذ العقاد
- مفهوم الأدب المعاصر
- آراء مؤرخي الأدب في تحديد العصر الحديث
- أدلة على حياة الأدب العربي في العصر العثماني
- سيمياء الأهواء في ديوان أشجان الناي لمحمد دياب غزاوي
- وظائف الشعر في المجتمع
- كيف تكتب مقالا؟
- رِيادةُ الشيخِ رِفاعة الطهطاوي في تجديدِ الأدب العربيِّ
- نَحْو إستراتيجية ناجعةٍ في الحِوارِ الوطنيِ الاقتصاديِّ
- العتبات الخارجية في لمحات من عبق التراث للأستاذة نوال مهنى
- عبدُالنَّاصِرِ في مِرآةِ الشعرِ العُروبيِّ
- المسيح -عليه السلام- ورحلته المُبارَكة في الشعرِ المصري


المزيد.....




- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري فوزي أبوحسين - كتاب الديوان للعقاد والمازني: قراءة في نقد النقد