أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - العصفور














المزيد.....

العصفور


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1752 - 2006 / 12 / 2 - 07:28
المحور: الادب والفن
    


كنتُ أحلم بالبيت عندما فتحت عيني. رذاذ النوم لم يزل طرياً على أجفاني. اتكأتُ على مسند سريري. بان لعيني امتداد القاعة الطويلة. الجنود يغفون ملتحفين أغطية وسخة.. أنوء كل يوم بحمل حذاء ثقيل وبدلة من الكاكي الخشن، ووجه ضابط جلف يأتي عند أول نقطة للفجر يثقل وجوهنا.. القاعة غارقة بالعتمة، والمصباح الخافت المعلق في نهايتها لا يضيء إلا عدة أسرة قريبة منه. تلمستُ وجهي. نزلت من السرير. احتذيت بسطالي الثقيل. مشيت بممر القاعة.. أقف كل يوم مصلوباً على خشبة من الهواء.. عند الغبش أقف.. مع غناء العصافير على أشجار الله أقف.. متصالباً.. متوجساً من صبغ بسطالي، كي ملابسي، طول شعرة من رأسي.. حابساً أنفاسي.. أفكر في الناسخ والمنسوخ، والظالم والمظلوم. سرت بين صفوف الجنود الغافية قاصداً باب القاعة. نفذت خارجاً. لفحتني برودة آخر الليل القارسة. ارتجفتُ. تأملتُ الحديقة الصغيرة الممتدة بامتداد القاعة والتي زرعناها بالإكراه والشتائم. فركتُ كفي، وخبأتهما بجيبي بنطالي.. ذكرني الفجر بالسقف الصفيحي المثقب لسوق مدينتي، والمقاهي ووجوه الأصدقاء.. جرفني الشوق. أسندت ظهري إلى جدار القاعة. رفعتُ عيني إلى السماء.. جئنا إلى الجندية كل منا لا يشبه الآخر وبعد مرور أسبوع.. أسبوع لا أكثر عدنا لا يميز أحدنا الآخر، الملابس نفسها، الاهتمام نفسه، الخوف والخشوع والخواء ومراقبة خطى الضابط وصفارة التدريب والتعداد والأكل. سنونا كصخور سنت بالماء، فلم يعد أحدنا يعرف صاحبه إلا بصعوبة. خطوط الفجر انتشرت بأحشاء الظلمة التي راحت تلملم أطرافها وتسري عن السماء.. فتح لي سكون الفجر نافذة على سيل من الغسق لا ينقطع.. حالماً أقف.. غريباً أقف.. والغسق قدّ امرأة طالما حلمتُ بها.. حلمت بكل النساء.. والغسق تحت قدمي كلب أليف.. سر يلف وجهي الطفل.. غرقتُ.. غرقتُ مقترباً من نافذتي، منفصلاً عن جدار القاعة.. هممتُ بإلقاء نفسي خلالها.. و.. و.. رأيتها تتكسر أمام عيني وصوت الصفارة انطلق حاداً.. ملعوناً، يمد لنا درباً إلى صفوف منتظمة، وخوف يومي، يتبعه لغط الجنود الراكضين. استعدينا على صراخ العريف:
ـ استاعد.
مسبلين أذرعنا بامتداد سيقاننا كقتيل ينام على خشبة ساكناً.. جامداً. قدم الضابط من طرف الشارع الذي يقطع وقفتنا متأبطاً عصاه الغليظة. سهوتُ أرقب عصافير ملونة تتقافز بين أغصان السدر مزقزقة.. تتزاوج في كل لحظة، ملتذة بالغبش ومطلع الشمس. وقف الضابط يحدجنا وهو يهز عصاه بعصبية وضيق. فتشنا واحداً واحداً، متفحصاً من أسفل أقدامنا حتى الرأس المحلوق، وقلوبنا تخفق باضطراب خوفاً من الشتيمة والسجن. اجتذبَ عينيّ عصفورٌ طار من شجرة السدر، وانطلق أفقياً. اصطدم بمرآة القاعة الكبيرة المعلقة في جدار الطارمة، وهوى عمودياً على الأرض، وقبل أن يبلغها، ضرب جنحيه مجدفاً في الهواء، وطار حاطاً على إطارها الخشبي العلوي، استدار بجنحيه وطار إلى إطارها العلوي ثانية. استدار مدلياً رأسه. اكتشفتُ اللعبة. كدت أترك الصف وأركض إليه، أمسكه بكفي، أدفئه. سألتُ نفسي:
ـ ماله وأشياء المرآة.. له الفضاء كله.. والأوطان.. والأجنحة.
كان عنيداً يخدش سطح المرآة، وهي تكيل صفعات موجعة لجسده الصغير. تململتُ وقلتُ للجندي الواقف إلى يميني:
ـ أنظر إلى ذلك العصفور وراقب ما يفعله.
ـ أي.. أرقبه منذ لحظات.
قلتُ:
ـ إنه يعتقد بالمرآة فضاء غير هذا.
ضحك وقال:
ـ إنه مجنون.
قطع حوارنا صياح العريف:
ـ اقطع الكلام.
لزمنا الصمت.. وذهبتُ إلى العصفور ناسياً نفسي.. كدت أركض عندما التقطتْ عيناي نقاطاً صغيرة من الدم، انتشرتْ على جسد المرآة، والعصفور منهكاً يسقط على البلاط. نسيتُ الصف والضابط والجندية ونفسي عندما حاول الطيران إليها فارداً جنحيه اللذين خفقا بلاط الطارمة.. وبغتة وجدت نفسي أفقد توازني هاوياً إلى إسفلت الساحة، وصوت الضابط يخدش سمعي:
ـ كلب سـِرْ مع الآخرين.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حصار يوسف
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال عندما أدخلني ...
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- العمة الجميلة*
- النص العراقي والناقد
- أنها الحرب
- اختطاف
- كتّاب كانوا سوط الجلاد الثقافي
- بمناسبة المؤتمر الرابع للطائفة المندائية..يا عراق متى تنصف أ ...
- قالت لي: أنا عندي حنين


المزيد.....




- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...
- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- ليبيا.. إطلاق فعاليات بنغازي -عاصمة الثقافة الإسلامية- عام 2 ...
- حقق إيرادات عالية… مشاهدة فيلم السرب 2024 كامل بطولة أحمد ال ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - العصفور