أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سلام إبراهيم - بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم_ الجزء الاول















المزيد.....



بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم_ الجزء الاول


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1717 - 2006 / 10 / 28 - 09:49
المحور: سيرة ذاتية
    


ننصت أنا والطاغية
هو في دهشة وامتعاض
وأنا في نشوة وطرب
هو في قفص
وأنا في فضاء

منذ بدء محاكمة الدكتاتور ـ صدام حسين ـ في قضية ( الأنفال ) دأبت على متابعة التفاصيل كلها. أستيقظ مبكرا، رائق المزاج. أعد الفطور وأنا أترنم بأغنية يوسف عمر:
آه يا الأسمر اللون حياتي الأسمراني
حبيبي وعيونه سود والله الكحله رباني

يذهب من في البيت إلى العمل والمدرسة، فأبقى وحدي مع الصمت والعصافير الضاجة على أشجار الحديقة. هذا الطقس اليومي ثابت، مكرر منذ وصولي إلى الدانمارك عام 1992 بعد رحلة شاقة في معسكرات اللجوء الإيرانية والتركية والضياع في دمشق وموسكو. إذ لم أكتشف مدى العطب الذي أصاب رئتيَّ إلا لما وصلت إلى هنا، رغم تكرار ملازمتي الفراش وأنا على وشك الاختناق كل شتاء في السنين التي أعقبت قصف يوم 5 ـ 6 ـ 1987 بموقع زيوة خلف العمادية.. أو في معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، أو في دمشق حيث أسقط كل شتاء متأرجحا أحلم بالهواء، أو في فترة تصعلكي في موسكو وضياعي في السكر وسقوط حلم ـ مدينة ماركس ـ حيث نقلتني سيارة الإسعاف مرتين إلى مستشفيات موسكو لكن بعد كل الفحوص والأشعات يقول لي الطبيب:
ـ ليس لديك شيء، مجرد نزلة برد!.
فأهب من السرير ناسيا وهني لأغرق في ذروة تلك الأيام لكن لما راجعت طبيبي الخاص ( تتمتع كل عائلة تعيش في الدانمارك بضمان صحي يكفل الفحص والعلاج المجاني ـ وضع كنا نحلم به ـ نحن المؤمنين بالمدن الفاضلة لأبناء العراق ). شَخَصَ نحوي. أنصت لصخب تنفسي. سحب شيئا من درج منضدته. قربه من يدي. كان أنبوبا أسطوانيا قصيرا مخروما من الوسط، وعلى الخرم مثلث دقيق. أرجعه حتى النقطة القريبة من الفم. طلب مني النفخ نفخة واحدة قدر ما أستطيع. عببتُ نفسا عميقا ونفخت بكل ما لدي من قوة. امسك طبيبي الفارع القامة المقياس من طرفه، وحدق نحوي بذهول قبل أن يُرجِع المثلث الصغير إلى الحافة ويطلب مني معاودة النفخ. فعلت ذلك. تناول المقياس من بين يدي وحملق به طويلا، ثم رفع رأسه وقال بالدنمركية كلاما ترجمه المترجم فوراً:
ـ الطبيب يقول.. ماذا هل أنت ميت؟!.
أرسلني فورا إلى مستشفى " Rosklide " المدينة التي أسكن فيها وما زلت. وهنالك أُجريَّ ليّ فحصٌ شاملٌ. لا أريد الخوض في تفاصيل قد لا تعني للقارئ شيئا. لكن ما يهمني ويهمه هو اللقاء الأخير مع بروفيسور دنمركي طاعن في السن مختص بأمراض الرئة، رتب لي لقاءً بصحبة مترجم فلسطيني سمين ينوء بحمل جسده، وشخصيا طلبت من صديق نضال قديم كان معي في تجربة الجبل لفترة قصيرة ـ قحطان المالكي ـ حضور ذلك اللقاء فحضر وكان شاهداً. أخبرني المترجم أنني مصاب بعجز بوظائف الرئة بنسبة 60% بسبب القصف بالغازات السامة في كردستان. صمت المترجم والطبيب وكأنهما ينتظران ما أقوله. سألت:
ـ ما العلاج؟!.
ترجم المترجم قولي، رمقني البروفيسور بعينين حانيتين وقال:
ـ لا يوجد علاج بل أدوية تساعد على التنفس!
صمت برهة بدت لي طويلة وأضاف:
ـ التدخين صفر!.
شرط وقتها كان من أصعب الشروط عليّ. إذ كنت من عبيد التدخين!. وأردف قائلا:
ـ أنت غير صالح لسوق العمل!.
صمتُ منتظرا وهو يضيف:
ـ من حسن حظك أنك وصلت الدانمارك فالقوانين هنا تكفل لك العيش، بالإضافة إلى أن البيئة نظيفة لدينا، لو كنت في بلد من بلدانكم لكان عمرك قصير.
كنت أستمع مذهولا لما كان ينطق به المترجم الفلسطيني، غير عارف بما سيؤدي إليه هذا الكلام واللقاء.
سألته:
ـ وما الحل؟!.
قال:
ـ سأطلب لك التقاعد!.
وفعلا منذ منتصف عام1993 أصبحت كذلك، ليس لدي من عمل سوى التأمل والكتابة، ممارسة الرياضة وتناول الأدوية اليومية التي تساعدني على البقاء حيا بين أنفاس الأحبة. كتبت ما كتبت من قصص وروايات ودراسات نقدية ومقالات.. أصدرت منها كتباً ثلاثة.

* * *

مع بدء محاكمة صدام في قضية الأنفال تركت القراءة والكتابة، أستيقظ منذ بكرة الصباح. أضع قوري الشاي على الشمعة ليخدر بهدوء منتظرا اللحظة البهيجة لما يظهر صدام وعلي كمياوي، وبقية الزمرة التي كانت تجلس على قمةِ هرمٍ كان من المستحيل عليّ تخيل علوه وأنا أنوء في قعره مضغوطا بذلك الكم الهائل من البشر القساة في الجيش لما كنت جنديا في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية، أو لما حللت نزيلاً في أقبيتهم لمرات عديدة، معصوب العينين، مكبل بالحديد، مضروب، مهان، أحلم بشم هواء الدنيا والسير في شارع.
مهرجان خاص جدا بالنسبة ليَّ. أبتهجُ وحيدا مسترخيا على أريكة وثيرة في صالة أنيقة، إلى يميني نافذة عريضة تطل على حديقة البيت بأشجارها وعشبها وعصافيرها، وإلى يساري نافذة أصغر تطل على حقل يمتد حتى الأفق في بلد تستطيع فيه، النوم في الشارع دون أن يسألك أحدٌ.. بلد أمضيت فيه حتى لحظة الكتابة أكثر من أربعة عشر عاما دون أن يسألني شرطي عن هويتي. أجلس مستمعا.. مستمتعا بوجه الدكتاتور الملتحي المنصت لسرد الضحايا الأكراد ممن كانوا معي في تلك الأمكنة.. غارقا في مسرة خالصة تأخذني إلى نشوة ما بعدها نشوة.. تفوقُ ذروة المضاجعة. فهذه ذروةٌ مركبةٌ، فكلما ظهر وجه صدام في لقطة مقربة منصتا لسرد الضحايا.. أرى نفسي في قمة الهرم وهو في أسفله، أما لما يظهر وجه فلاح كردي وهو يسرد ببساطة ووضوح عن حدث القصف والقتل والتشرد فانه يذهب بيّ إلى أسعد لحظات حياتي لما هربت من جبهة الحرب في 8 /1982 متخلصا من هاجس الموت الحائم في لحظتي على مدار الساعة، في الصحو والنوم، في البيت والمقهى، في الخندق ومدى الجبهة المفتوح شرق البصرة. هاجس مكين لا يأتي فقط من القصف والقذائف فقط بل من وجه ضابط الاستخبارات وحضيرة أمن الوحدة العسكرية التي يا ما ضيعت جنود شبان بوشاية.. نزعت خاطر الموت غيلة أو رغما عني في حومة حرب غير مقتنع بها، أو في عتمة زنزانة، حال وصولي إلى أول قرية يسيطر عليها البيشمركة، حللتُ ضيفا في بيت أحد هؤلاء الفلاحين الواقفين برباطة جأش أمام الطاغية. صرت واحدا منهم، لا بل أكثر لما كانوا يعرفون أنني عربي من الجنوب.
في بيت هذا الفلاح الكردي الواقف بشموخ متحدثا بلغته القومية شاركته الخبز والملح والماء، وكان يقدم كل ما لديه، ولما نشبع تقتاد الزوجة والأطفال على ما يتبقى.
ننصت أنا والطاغية
هو في دهشة وامتعاض
وأنا في نشوة وطرب
هو في قفص
وأنا في فضاء
وهذا الإنسان البسيط يقول بعفوية ما هو أبلغ من قول المحامي والقاضي والحضور. لم يتلكأ أو يبحث عن تسلسلٍ ما، يروي وكأنه يشاهد ما يرويه تلك اللحظة لا قبل قرابة عشرين عاما.. وكيف له النسيان؟!.. وهو يفقد البيت، القرية، الأب، الابن، الزوجة، الأطفال، ويضيع في المنافي أو يعطب جسده فيتغير مسار حياته كلها كما حدث معي..
ـ كيف له النسيان؟!.
يروي رابط الجأش.. لم ينفعل.. ولم يبدو حاقدا.. يشهر بتلك الأهوال والفقدان بروية وكأنه نبي الله أيوب "ع" فمن يفقد عائلته كلها ولا يجد حتى رفاتهم في مقبرة جماعية لديه من حبيب العراقيين ونبيهم "أيوب" شيئاً.

* * *

بغتةً، ظهرت رفيقتي القديمة ـ كاترين ميخائيل ـ ( دكتورة سعاد ) في مواجهة الطاغية لتدلي بشهادتها، فأخذتني إلى تلك التجربة وهي تذكرني باسمي الحركي وقتها ـ أبو الطبيب ـ كيف أصبت بشدة وأنا أهب مع رفيقين لإطفاء الحريق الذي شب في المقبرة الممتدة على تلٍ أعلى الوادي.. أخذتني إلى ذلك الغروب الرائق من يوم 5 ـ 6 ـ 1987. كان كل شيء هادئ في ذلك الوادي العميق الواقع على مجرى نهر ـ الزاب الأعلى ـ، فالوقت جاوز وقت قصف الطائرات الذي عاد روتينيا، إذ لا يكاد يمر أسبوع دون قصف، وكان لدينا كل ما يحمينا منه، مدافع مقاومة الطائرات تربض على القمم المحيطة بالوادي، ملاجئ، كهوف، يضاف لصعوبة تضاريس المكان، فالحوض عميق وضيق يحاذي الحدود التركية. الغروب كان رائقا، وكنا نلعب كرة القدم في الساحة الصغيرة التي رتبناها على فسحة حقل زراعي أمام غرف وقاعات القاعدة المحاذية لحواف سفوح وسط الحوض. كنت ألعب عندما نادتني حبيبتي ورفيقتي ـ ناهدة جابر جاسم ـ التي كان أسمها ـ بهار ـ كي أذهب إلى الحمام. قالت أنها سخنت قدر الماء وجهزت كل شيء وذكرتني بقرب وجبة العشاء. تركت الساحة مقتربا منها، حامدا في سري خالق الكون على وجود هذه المرأة الحانية الساخنة جواري في وسط موحش، صعب، يعج بالمخاطر. صرت جوارها وغرت في عينيها الواسعتين الضاحكتين قبل أن تستدير أمامي وتخطو نحو الحمام. كنت أتأمل قامتها الرامحة النشطة شاعرا بغبطة سرية تجعلني أسير خلفها شبه سكران.
لحظتها كنت سعيدا، سعادةً خارقةً خاصةً تشبهُ سعادتي هذه اللحظةِ وأنا أجلسُ وحيدا أستمتع بوجه الطاغية الملتحي ذليلا في القفص.
دفعت الباب الخشبي فاحتوتنا عتمة الحمام وبخاره. حضنتها وقطفت من شفتيها قبلة، تمنعت بغنج ودفعتني قائلة:
ـ مجنون والله مجنون!.
تعريت فيما كانت تفتح الباب قائلة:
ـ سأجلب لك ملابس نظيفة!.
لما أطبقت الباب سقطت في عتمة مباغتة، راح تخف قليلا بالضوء الخافت المتسرب من نافذة مستديرة صغيرة مسدودة بالنايلون لا تضيء سوى مسافة كف عن حافتها. كنا نعرف هذه الغرفة جيدا دون الحاجة للضوء، إذ نستخدمها منذ أكثر من سنتين ونعرف بأصابعنا مكان القدر، والطاسة، والتختة الخشبية الصغيرة، والصابون. عددت ست خطوات من الباب وهبطت متلمسا التختة الخشبية وقعدتُ عليها. غرفتُ الماءَ من القدرِ ودلقتهُ على جسدي الناضح.. وقتها كنت في أعماقي سعيدا أشد السعادة، لا أفكر في الغد.. بل أعيش اللحظة.. أدلق الماء وأتخيل صحن العشاء وخلوة المساء مع حبيبتي في غرفتنا المنزوية أسفل سفح خلف طبابة الموقع. أفرك جلدي بالصابون راحلا عن ضجيج الرفاق في الساحة مستمتعا بالحرية وجوار حبيبة تحنو عليَّ دون خوف من هاجس خطف من شارع أو بيت أو مقهى وضياع إلى الأبد في أقبية وزنازين كما حدث مع أعز أحبابي.. كنت غارقا في تلك المتعة الخالصة عندما أقتحم ضجيج طائرات تنقض قريبة وكأنها تمس سطح الحمام الواطئ، ضجيج مثل جدار أخترق جسدي، جعلني أقفز مذعورا من التخت الخشبي حتى ضرب رأسي السقف، لأندفع غريزيا ما أن لمست قدمي الأرض فاتحا الباب وراكضا بجسدي العاري المصوبون بالرغوة صوب أقرب ملجأ شقي لأقفز إلى جوفه. هبطت على لحم حار ينبض. لم يخفِ الشق سوى نصفي الأسفل. جلست فوق تلك الأجساد مفزوعا مجبرا على التحديق نحو الوادي المواجه للملجأ والفاصل بين غرف الضيافة وقاعات القاطع، أتتبع بعيني خيط رفع من الدخان يتصاعد من القاع عالياً حتى جاوز قمة الجبل لينتشر هالة سوداء بلون الفحم راحت تهبط رويدا.. رويدا. حدث ذلك بلحظة خاطفة هي لحظة رؤيتي وأنا الغور بجسدي العاري في كتلة اللحم النابضة تحتي. كنت أحملق بخيوط أخرى من الدخان الرشيق بدأت تنتشر خلفي وإلى يميني وإلى شمالي، وضجيج الطائرات صاخبا دانيا وكأن جسد الطائرة سيلتصق بجسد الوادي حيث نختبئ، لكن لما يخف ونبقى أحياء نعرف أن الصاروخ سقط في مكان بعيد.. لاحقا عرفنا أن الطائرات نشرت قذائفها بشكل دائري غطي صحن الوادي بالكامل. أكرر: ـ ما أرويه حدث للحظات خاطفات!. فما أن غاب ضجيج الطائرات حتى هرع الجميع من الملاجئ والغرف والكهوف لرؤية ما حدث. عدت فورا إلى الحمام. غسلت جسدي من الصابون. نشفته، وارتديت ملابسي. خرجت شبه مجنون.. أبحث عن حبيبتي ـ بهار ـ أكذب على القارئ إذا قلت أنني كنت أفكر بشيء آخر يتعلق بالرفاق أو الفكر أو أي شيْ سواها. كنت أتأرجح من حافة العقل باحثا بعيني الملهوفتين عنها وسط الهرج والمرج الذي أعقب القصف بلحظات، فبين مغادرتها الحمام وانقضاض آلهة الحديد الشريرة من سماء الله ليس غير دقيقة.. مثل مخبول أقف في الفسحة أمام مطبخ وقاعة فصيل الإدارة أدور عيني في الأركان، في الوادي، في الساحة خلفي، في القاعة، المطبخ، فوهات الملاجئ، ولما لم يقع ناظري عليها تشنج جسدي وأختض كمصابٍ بالصرع، وفيما كنت موشكا على السقوط سمعتها تنادي:
ـ أبو الطيب!.
التفتُ نحوها، كانت تركض مقبلة من تحت شجرة الجوز الشاهقة على حافة الساحة. هرعت إليها مستعيدا حيويتي. ارتمينا بأحضان بعضٍ ورحنا نتلمس جسدينا بأصابعنا قطعة.. قطعة بلهفة وجنون ولما تأكدنا من سلامتنا.. ابتعدنا منفصلين منتبهين لما حدث. أول ما وقع بصري عليه وأنا أنفصل عن جسد حبيبتي مشهدا لم ولن أنساه أبدا فهاهو متجسد بتفاصيله المرئية والصوتية أمامي وكأن لم يمر قرابة عشرين عاما عليه.. لهاث الشهيد أبو رزكار ( عجيل ريبز ) ـ الذي تحدثت عنه الشاهدة ـ كاترين ميخائيل ـ طويلا في جلسة محاكمة الدكتاتور، ولهاث رفيق أخر من أشوري العراق الشجعان ـ أبو ليلى ـ وهما يحملان راكضين الرفيق ـ أبو فؤاد ( جوقي سعدون ) ـ المحترق إذ أن القذيفة التي رأيت عمودها الدخاني سقطت على مبعدة أمتار من جلسته على صخرة في مسيل الوادي. تسمرت مذهولا في مكاني أتتبع لهاث الراكضين وقدم ـ أبو فؤاد ـ اليسرى المتدلية وكأنها مفصولة عن الساق، ووجهة الذي أسّوَدَ تماما وذراعية الملتفين حول عنقي أبي ليلى ورزكار. مروا خطفا من أمامي ليستدروا صوب بناية الطبابة القريبة من حافة السفح. حملقتُ بذهول في وجه ـ أبي فؤاد ـ، في قسماته التي بدت ضائعة، فأيقنتُ بموته. عضضت شفتي لوعة. عيناه بدتا فارغتين وكأنه لا يرى شيئا، كانتا تحملقان في البعيد، في عالم غير عالمنا، أخذتني إلى قصة هذا الإنسان المحمول مدلى القدم شبه أعمى، مستعيدا لحظات التحاقي الأولى إلى الجبل بصحبة حبية عمري ـ بهار ـ. فهو من أوصلنا من قاعدة للأنصار في ـ كلي مراني ـ بسلسة كارا إلى قاعدة في ـ كلي حصبة ـ بسلسلة متين. كان مرحا عنيف العاطفة، شجاعا خفف قلقي لما دخلنا قرية تقع على الشارع العام تحت هضبة فيها مواقع للجيش.. هدأ روعي وهمس:
ـ رفيق لا تخف! أنا معك!.
كان صوته يجلب لنفسي السكينة أنا القادم من هول الجنوب العراقي وشدة السلطة وكلابها. سوف لن أراه منذ ذلك اليوم إلى أن جاءنا بعد سنة ونصف بالكاد يستطيع الوقوف، منهكا، يسعل بين لحظة وأخرى، عسيرا عليه النفس، لم يجب لما سألته:
ـ ماذا بك؟!.
عرفت بعد رحيله في طريقه إلى إيران للعلاج أن رفيقا كان عميلا للسلطة قدم له طعاما مسموما لما حلَّ ببيته.
الأمر الذي تفتقده محاكمة الطاغية هو أن سلطة صدام كانت تبث السموم لقرى ومواقع الأنصار والمقاومين عن طريق عملائها طوال الوقت، بتسريب مواد غذائية مسمومة، مثل حليب النيدو، وصفائح السمن النباتي وغيرها، أو تبعث بعملاء أو رفاق يقعوا في قبضتهم كي يسمموا حبوب الماء، المواد الغذائية المخزونة، وقد قضى الكثير من الثوار بهذه الطريقة.
كان الشهيد عائدا من رحلة علاج قضاها في مستشفيات إيران للقاء عائلته بعد أكثر من سنة. وعائلته تسكن في قرية جوار قاعدة ـ كلي مراني ـ أقيمت حديثا لعوائل الرفاق اليزيدين الأنصار التي هجرتها السلطة من قراها في دشت الموصل، لكن ذاك اللقاء صار مستحيلا فقد غادرنا الشهيد إلى ملكوت الرب في ساعة متأخرة من تلك الليلة.. هذا ما أخُبرت به لاحقا.. لكنني لا أستطيع نسيان مشهد سوف يتجلى أمامي كلما وقع بصري على لوحة لمريم وهي تحضن المسيح في لحظة وجدٍ في الكنائس أو الألبومات، أمام غرفة الطبابة جلس ـ أبو رزكار ـ متربعا على الأرض واضعا رأس ـ أبو فؤاد ـ في حضنه ومنحنيا عليه يهمس بشيء ما كأم تحنو على وليدها.. وقسمات ـ أبو فؤاد ـ بدأت تسود شيئا فشيئا وكأنها حرقت بفرن.
ـ في الأنفال بعد سنة من حادث القصف أي في الشهر الثامن من عام 1988 ستعتقل عائلة أبو فؤاد كلها وتضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد ـ.
كل شيء كان مرتبكا. الجميع يركض في شتى الاتجاهات،سمعت هرجا ومرجا يأتي من عمق الوادي الجانبي حيث المكتب السياسي. كان أحدهم ينادي من هناك طالبا المساعدة. هببتُ نحو المنادي فوجدتُ ـ عباس رش ـ النحيل يتلوى على الأرض ماسكاً بساقه الأيمن الدامي. مزقنا السروال على عجل بحربه فظهر بطة القدم ممزقة بشظية. حملناه على عجل نحو الطبابة. وضعناه على مسافة قريبة من ـ أبو فؤاد ـ كانت زوجتي ـ بهار ـ ورفيقة من حزب تودة الإيراني أسمها ـ كانياوا ـ يقومن بقص شعر ـ أبو فؤاد ـ المحترق. بينما هرع رفيق له معرفة بسيطة بالتطبيب ـ أبو كاوة ـ والطبيبة ـ أم هندرين ـ بدت شديدة الارتباك فهي من ناحية لم تواجه مثل هذه الإصابة من قبل، ومن ناحية أخرى ليس لديها اللوازم الطبية. كنا نمسك بساق ـ عباس ـ الممزقة بينما شرع ـ أبو كاوة ـ بخياطتها بعد أن أخذ الإذن من ـ أم هندرين ـ كنت أتابع الإبرة المعقوفة النهاية وهي تُغرز في الساق السمراء بدون تخدير، فأشخص نحو وجه ـ عباس ـ الذي يتصلب محاولا إخفاء ألمه بشجاعة رادا على نظراتي المتعاطفة وعيناي توشكان على البكاء وهو يردد:
ـ ولا يهمك يا رفيق.. ولا يهمك!.
لما أكمل خياطة الجرح الممتد من تحت الركبة إلى ما فوق الكاحل، لف الساق بلفافة طويلة ظلت تنز دما رغم متانتها. كنت في داخلي غير مقتنع بالطريقة التي عالجا بها جرح ـ عباس ـ فقبل التحاقي كنت في جبهة معارك ـ مجنون ـ شمال شرق البصرة ورأيت عشرات الحالات المشابهة لجنود أصيبوا بشظايا. كان الطبيب المسعف ينظف الجرح ويعقمه ويملأه شاشاً نظيفا معقما كي يوقف النزف قبل أن يخيط الجرح لكن لم يكن بوسعي التدخل. فأسفت في داخلي لـ ـ عباس رش ـ الشجاع الذي لم يبدِ أبدا أي علامة ألم أو شكوى وكأنه قُدَّ من حجرٍ لا من لحمٍ ودمٍ.
أحدهم رفيق كان ضيفا من قاطع أربيل لا أتذكر أسمه، يبدو انه عاش أولى تجارب قصف طائرات الدكتاتور بالأسلحة الكيمائية لموقع وادي ـ بليسان ـ الذي جاء ذكره من قبل الفلاحين الأكراد في الجلستين الأولى والثانية من محاكمة الدكتاتور، كان يصرخ:
ـ رفاق هذا قصف كيماوي، قصف كيماوي!.
لم ينصت إليه إلا القلة، فيصيح:
ـ ألا تشمون رائحة التفاح المتعفن والثوم!.
رأيته مثل مجنون يركض خلف الرفاق الراكضين يمنة ويسرة مرددا نفس الجملتين دون جدوى. أنا من الذين لم يأخذوا كلامه مأخذا جديا، بينما زوجتي ـ بهارـ قالت لي:
ـ أبو الطيب اكو ريحة مو طبيعية!.
سخرت من كلامها، فقامت بنقع منديلها بالماء ووضعته حول فمها وأنفها. وضعتُ قدم ـ عباس ـ على البطانية المنقوعة بدمه مفكرا في مساعدة جريح محتمل آخر.. في تلك اللحظة بالضبط سمعت جلبة أقدم تهبط على الممر النازل من ربوة فصيل الإسناد التفت فطالعني وجه شديد الوسامة، ناعم التقاطيع، أبيض يميل إلى الاحمرار قليلا، متوسط القامة، نشيط الحركة وحوله أربع أو خمس يحملون حقائب سوداء ويسعون في دائرة هو مركزها. ألقى التحية دون أن يحدق صوبنا. كان يشخص نحو ـ عباس ـ وسأله بعربية ناصعة عما أصابه، فأخبره مؤشراً نحو ساقه التي لم ينقطع نزفها رغم لفة الشاش المتين. تبادل مع ـ أم هندرين ـ كلاما مختصرا بالكردية قدرت أنه سألها عما فعلته.
ـ هل ثمة بشر هم أصلا ملائكة هبطوا من السماء ليخففوا من وجع الدنيا قليلا؟!.
هذه التجربة جعلتني على يقين من الإجابة بنعم على
هذا السؤال!. هاأنذا بعد قرابة عشرين عاما أرى المشهد ذاك وكأنه البارحة.. اللحظة التي هبط بها ذلك الطبيب الكردي الشاب الذي عرفت أسمه لاحقا ـ نوزاد ـ أستعيد صرامة الوجه، براءة الملامح، حركة الجسد الواثقة.
ـ الطبيب ـ نوزاد ـ كان من الاتحاد الوطني الكردستاني ـ أوك ـ هو ملاك سرعان ما عاد إلى مملكته بعد سنتين من الأحداث!.
كان في زيارة لقواعدهم في منطقة ـ بهدينان ـ لما حدث القصف ذلك اليوم. التفت نحو ـ عباس ـ وقال شيئا لمساعديه، فتحلقوا حوله. أزالوا لفة الشاش، وغرزوا أبراً حول الجرح وأعلى الساق. رأيت بعدها عباس يسترخي طوال وقت تنظيف الجرح وترتيبه دون الحاجة للتجلد وكتم الألم، كما كان يجري للجنود في جبهة الحرب.
قلت معي نفسي:
ـ عباس الخالق لم ينسك.. هبط ملاكك الحارس!.
وفعلا ـ عباس رش ـ لم يزل حيا. كان معي بعد أكثر من سنة لما وصلت حملة الأنفال إلى مناطق ـ بهدينان ـ وزحف الجيش العراقي على مواقع الثوار والقرى المحررة. كان معي في ـ أوردكاه خوي زرعان ـ في شمال أورمية الواقعة في أقصى الشمال الإيراني. ولا أدري الآن أين رستْ بهِ عواصف البحث عن ملجأ آمن، لكن هو يتذكر وأنا أن ملاكا هبط من سماء الله أسمه ـ نوزاد ـ جعله يواصل أيام عمره ويمده بالحياة قليلا.
أقول ملاكاً.. وأقول عن كل من يمكث في الدنيا أقصر مدة.
أقول ملاكا، و د. نوزاد سيمر بالصدفة أيضا بمقر الثوار في ـ كلي حصبة ـ ويعالج أبن مدينتي ومحلتي ـ جابر ـ (أبو نصار ) الذين أصيب في معركة قرب قصبة ـ بامرني ـ برصاصة متشظية حار في وضعه طبيب الموقع ـ أبو تضامن ـ الذي كان مختصا بأمراض النسائية وليس له خبرة بجروح الحرب، فكاد ـ جابر ـ أن يموت والقنقرينا تصعد بساقه ولم يفعل طبيب الموقع إلا لف الساق المصابة باللفافات، فأسعفه ـ نوزاد ـ بأجراء عملية بترٍ ساقه لمرتين الأولى من تحت الركبة على أمل بقاء مفصل الركبة، لكن القنقرينا صعدت فمرَّ بعد أسبوع ليقطع الساق من أعلى الركبة وينقذ حياة ـ جابر ( أبو نصار ) ـ الذي كانت زوجته ـ أم نصار ـ حامل وقتها، ورزقت بطفلتهما ـ لهيب ـ قبل الهجوم الأخير لقوات النظام بأيام وكانت معنا في ذلك الطريق الطويل الذي أفضى بنا إلى تركيا والمنفى.
ـ جابر ـ وـ عباس ـ أحياء الآن أما الملاك الكردي ـ نوزاد ـ فقد قتل في حادث سير بعد ذلك بسنة.. عاد الملاك إلى جناحيه سابحاً في يم ما قبل الخلق جوار العرش إلى الأبد.
أعود إلى تلك اللحظات القصار والمساء بدأ يرش عتمته قليلا.. قليلا. كنا لم نزل في اللجة مضطربين بين اليقين وعدمه كون القصف كمياويا أم عاديا. كنت وقتها أتمتع بقوة جسدٍ رياضيٍ متينٍ يضاف لرغبة متأصلة في مساعدة الآخرين لحظات المحنة، لذا تطوعتُ لإطفاء الحرائق التي شبت في المقبرة الكائنة على ربوة فوق فصيل الضيافة مع رفيقين الأول ـ أيار ـ والآخر كان ضيفا من قاطع أربيل قصير القامة ـ الدكتور زكي ـ. صعدنا مخلفين تحتنا الموقع الذي بدا من أعلى تل المقبرة مغطىً بالدخان ورشيش المساء الخافت. بدأنا بإطفاء الحرائق التي لم تكن حرائق بالمعنى المألوف. إذ كان ينبعث من مكان اللهب الشبه خافت دخان كثيف يثقل أنفاسنا. كنا شديدي الاندفاع نتنادى في حمل التراب بواسطة معاول يدوية لإلقائه على ألسنة النار المدخنة. بقينا أكثر من ساعة. أتذكر إلى الآن كيف نادى علي ـ الدكتور ـ كي أشاهد صاروخا أستقر في حفرة قبر ولم ينفجر. مددت كفي عميقا في الهوة وتلمسته بفضول لم أفهم سببه حتى هذه اللحظة وأعجب من فضولي الغريب إذ كان من الممكن أن ينفجر ويبدد جسدي وما حولي. كان ساخنا صلبا قاسيا.
ـ هل كنت مجنونا؟!.
هذا ما بِتُ لا أشك به أبدا!.
قبيل الانحدار صوب القاعدة. كنت أفكر بتلقائية حياة الثوار اليومية ولم أدرك أن ذلك المساء سيشكل مفصلا حاسما في حياتي كلها وحياة الثوار أيضا. لذا حملت على كتفي ساق شجرة بلوط قطعها القصف، فغدا 6 ـ 6 ـ 1987 دوري في طبخ وجبات الفصيل. كانت ثقيلة. وضعتها جوار غرفتنا المنزوية عند السفح، وبحثت عن حبيبتي ـ بهار ـ فوجدتها تساعد الطبيبة في معالج رفاق جرحوا جروحا خفيفة. عدنا إلى غرفتنا الضيقة والظلمة هبطت بكثافة على صحن الوادي وأشياء الثوار الرثة.
كنت متعبا فاستلقيت على فراشنا الذي يشغل اكثر من نصف مساحة الغرفة. تركتني قائلة:
ـ سأذهب لمساعدة الجرحى!.
بقيت وحيدا. إلى تلك اللحظة لم أشعر سوى بضيق في التنفس وما يشبه الاحتقان في وجهي، وهذا يحدث لي غالبا قبيل النوم لكثرة التدخين والإنهاك من متطلبات يوم الثوار في الجبل. تناولت كتاب وحاولت القراءة. بعد عدت سطور شعرت بحرقة شديدة في عيني، فرحت أفركهما فيزداد سعير الحرق، قلت مع نفسي:
ـ لأنام قليلا!.
وضعت الكتاب على المنضدة الخشبية الصغيرة الواطئة بارتفاع متر، وأغمضت عيني. سكنت الحرقة قليلا، لكنها بعد دقائق هجمت عليَّ بشدة. فعدتُ لا أستطيع مباعدة أجفاني إلا بصعوبة. أنهضت جسدي وتربعت على الفراش. تناولت مرآة صغيرة، وفتحتُ عيني بعناء وجدتهما كقطعتين ساخنتين من الدم. تفحصت وجهي. كان محتقنا، منتفخا. أغمضتهما مرخيا رأسي إلى الجدار المغطى بالنايلون. شعرت بهما تتصلبان لحظة بعد لحظة لتتحولا إلى قطعتي حجر. غَمْدتُ رأسي بالوسادة وبقيت هكذا مدة، لكن الألم بدأ يزداد وينتشر في أرجاء جسدي قطعة.. قطعة. لم يعد بمقدوري الاستمرار مستلقياً على بطني. ارتكزت على كوعيَّ وجلست طاويا ركبتي تحت ثقل جسدي.. تَلَويّتُ. نهضت واقفا. حاولت أن أخطو نحو باب الغرفة، لكن شدة الألم عطلت قدميَّ. هويت ثانية إلى الفراش. لا أدري كم بقيت هكذا.. أصارع بصمت الحريق الذي شب في كل قطعة من جسدي.. بدأت بالأنين الخافت.. أقوم أخطو خطوتين.. أقعد.. أستلقي. أقوم من جديد.. أحاول فتح عيني فتهب على أبواب جهنم. كنت أقول مع نفسي:
ـ متى تعودين يا بهار؟!.. متى؟!.
صارت حبيبتي مثل حلم في بحر الألم الذي ضعتُ فيه. تصورت وقتها أن مجيئها وحده سيسكن آلامي. وبينما كنت أدور في تلك اللجة دفعت الباب، وصرخت:
ـ أش بيك حبيبي؟!.
وراحت تتلمس جسدي فكنت أصرخ من ملمس أصابعها، راحت تتوسل وتناديني باسمي الحقيقي:
ـ أفتح عينك حبيبي سلام!.. أرجوك أفتح عينك!.
كنت أردد من بين أنيني:
ـ ما أقدر.. ما أقدر نار بعيوني!.
ـ حاول حبيبي.. حاول.. أرجوك.. أرجوك!.
كانت توشك على البكاء. وكنت أتلوى من أجلها ومن جسدي. حملت نفسي بكل ما تبقى بيّ وباعدت أجفاني كمن يرفع صخرة هائلة الحجم. على ضوء الفانوس الشحيح، في اللحظة الخاطفة تلك رأيت مدى الرعب الذي طعن قسماتها الجميلة. قالت:
ـ اهدأ دقيقة وراجعه!.
سمعتها تفتح الباب. وتغلقه خلفها.. فسقطتُ في بحر ألمي الذي أستعرَ من جديد ما أن اختفت، .. لا أدري كم من الوقت طوّلَ غيابها؟!.. لا أدري فالزمن صار غير هذا الزمن.. الثانية فيه تساوي دهرا، بقيت وحدي أجود بنفسي وسط النار ولا من منقذ أو أمل.. بقيت مثل ضال تُرك في جهنم إلى أن فُتِحَ الباب. كانت بصحبة الدكتورة ـ أم هندرين ـ التي أزاحت قميص سروالي وتفحصتني بصمت لتقول:
ـ خذيه إلى فصيل الإسناد!.
وخرجتْ.
قالت حبيبتي:
ـ أصبر.. سأجمع وثائقنا ونصعد!.
ألبستني الحذاء، وقادتني من يدي. كنت مغمض العينين. عند العتبة قالت:
ـ أعبر!.
رفعت قدمي، ووطأتُ خلف العتبة، فهجمت رائحة الحرائق والدخان الخانق. أزداد ضيق تنفسي، فجعلت أشهق بعمق باحثا عن الهواء دون جدوى. سرنا على ممر ضيق أعرفه جيدا يصعد بمحاذاة صف من الأشجار يفضي إلى ربوة حيث غرفة السجن، وقاعة فصيل الإسناد، وغرفة الرفيق ـ أبو علي وزوجته ـ. المسافة لا تتعدى الخمسين مترا. كنت أتضور فيها بألمي واختناقي. أنقل خطوي بجهد متوجعا ويداها الحانيتان تمسكان بيدي وتسحباني بأناة وببطء شديد. وقتها كنت أحس أنني سائرٌ نحو المجهول.. فلا مشفى ولا طبيب وليل دامس طويل وأنا أتلظى في بحر جهنم. أحسستُ بالأرض تستوي تحت قدمي، معنى ذلك أننا بلغنا الفسحة الواسعة التي هي عبارة عن حقل محاط بالأشجار من ثلاث جهات تحول إلى ساحة للعب كرة الطائرة. لم أسمع سوى وقع أقدامنا وحفيف أرديتنا ولهاث حبيبتي. قطعنا عدة أقدام، ثم أوقفتني قائلة:
ـ أجلس هنا!.
باعدت أجفاني رغم الحرقة. فطالعني المشهد. حول لهب نار مضطرمة تحلق الثوار في دائرة كبيرة. أول وجه وقع بصري المضطرب عليه كان وجه ـ توما توماس ـ بقسماته الشائخة الحمراء، وشعره الأشيب الطويل المنسدل حتى منتصف الكتف ( من الشخصيات اليسارية العراقية المعروفة التي ساهمت في النضال المسلح ضد سلطة البعث منذ الستينات وحتى حملة الأنفال، مات في المنفى في السنين الأخيرة ). كان ساكنا يجلس لافا ساعديه حول ركبتيه ويحملق في الشعلة بصمت، وعلى جانبيه أصطف جلوساً الثوار وكأنهم في طقس بدائي. كنت أغمض عيني وأفتحها بين ثانية وأخرى والحرقة تزداد شدة. تركت يديّ وقالت:
ـ سيموت يا الله.. سيموت!.
رغم ألمي سألتها:
ـ من.. من؟!.
فقالت:
ـ أبو ماهر!.
وأبو ماهر هو ـ ثابت حبيب العاني ـ ( من شخصيات اليسار المعروفة وكان صاحب أمتياز صحيفة طريق الشعب العلنية خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي مات في المنفى في السنين الأخيرة ) فتذكرت أنه كان يقيم في غرفة جوار قاعة الضيافة. أي في مكان يبعد عن تلك القذيفة التي أعمت ـ أبو فؤاد ـ عشرين متراً. وهو شيخ كبير أختلف مع قيادة حزبه ورفض مغادرة كردستان إلى الخارج. فعزل عن العمل وبقى في مقرنا. وكان مريضا في القلب. فتحت عيني، وحدقت نحوها وهي تخطو مقتربة من ـ أبو ماهر ـ الذي كان مستلقيا على بعد ثلاثة أمتار. وعلى ضوء النيران لمحتُ ملامحه المحتقنة وهو يحاول التنفس دون جدوى فبدأ بالشخير وكأني يعالج سكراته دافعا بذراعيه إلى الجانبين ورفسا برجليه المتصلبتين. آخر ما أتذكره من ذلك المشهد هو أن ـ ناهدة ـ هرعت مع رفيق آخر لتجلس جوار رأسه وترفع جذعه الأعلى وتسنده واضعةً رأسه المتشنج إلى كتفها فبدأ بالتقيؤ والسعال بينما هرع رفيق آخر لمناداة الطبيبة. شعرت بالموت دانيا منه ومني ومن هذا الجمع من الثوار الحالمين الذي عاشرتهم سنين طوال. خنقتني العبرة وذرفت الدموع ناسيا جحيم جسدي. كنت أبكي بصمت والسعال بات يأتي من أطراف ووسط الدائرة يصحبه أصوات هواع.. وكأنهم يحاولون التقيؤ دون جدوى.. نار ووجوه ساكنة في ألمها تحدق بصمت وأخرى تسعل وأخرى تتقيأ واللحظات أمتدت وكأنها الأبدية. صرختُ مع نفسي:
ـ كيف الخلاص من كل هذا؟!.
عندها بدأ الجحيم من جديد يستعر في كل قطعة من جسدي حد لا أتذكر من مشهد دائرة النار شيئا. إذ وجدت نفسي أحبو متمرغا مثل طفل على حصير غرفة مكتظة بالرفاق الصارخين الناحبين فانتحبتُ أنا أيضا بصوت مسموع ورحت أصرخ مستنجدا مثل الجميع:
ـ أخ سأموت!.
ـ أني أحترق!.
ـ يا يمة!... يا بويه!.
ـ بويه تعالي بويه!
ـ ولكم أريد شويه هوه!
ـ عيوني يمه عميت
الهذيان مصحوب بصراخ ألم، وسعال وقيئ. كنت أفتح عيني بين الحين والحين فيقع ناظري على أجساد مطروحة جالسة نصف واقفة مضببة تحت ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. لم أستطيع التعرف على أقرب رفيق يتلوى جواري.. وكأنني دخلت دائرة في الألم والعذاب جديدة، إذ أن الشعور بدنو الآجل صار شديد الوضوح، كنت أجود بنفسي متمنيا لو أن أحدهم يجهز عليّ ويخلصني من ذلك الجحيم، شعور راودني من قبل لما كنت معتقلا في الشهر السادس من عام 1980 في الآمن العامة ببغداد، إذ خطفوني وصديقين أحدهم كان متخفيا عن أنظار السلطة يدعى " ميثم جواد " من أهالي كربلاء، خريج إدارة واقتصاد جامعة المستنصرية أعدم لاحقاً. لما يأخذونني إلى حفلة المساء، ويبدأ التعذيب يتصاعد من الفلقة إلى رجة السلك الكهربائي، كنت أتحمل ذلك وأصرخ، لكن لما كانوا يغطون برأسي في حوض الماء ويطيلون المدة رويدا.. رويدا أشعر بأن بروحي تكاد تخرج من حلقي في جحيم الماء الذي يشبه جحيم الحرق في تلك الغرفة المكتظة بالصارخين وكأنهم ينتظرون أمام بوابة جهنم. كنت معصوب العينين في غرفة شاحبة الضوء ممسوكا بأيادٍ غليظة قاسية أصرخ طالبا الموت في متاهة أقبية الأمن العامة. رحت أصرخ طالبا الموت أيضا فيضيع صوتي في ضجيج صراخ وهذيان الرفاق. في تلك اللحظة أحسستها تمسك بذراعي بقوة كي أكف عن التلوي والصراخ والبكاء، هامسة بصوتها العذب باسمي الحقيقي:
ـ سلام حبيبي.. كن قويا.. أرجوك!.
ـ سلام لا تضعف حبيبي!.
وقعت في حيرة.. فهاهي حبيبتي تدعوني لأكن قدر الألم وهو لا يطاق. أتذكر تلك اللحظة وكأنها جرت بالأمس. كيف عضضت على أسناني بكل ما بيّ؟!. فتصلبت قسماتي حابسا صراخي وكاتما جحيم النار في نفسي، منصتا لصوتها العذب المتوسل كي لا أقول شيئا وأتحمل وأصبر. لما تجاوزت المحنة فكرت طويلا بموقفها الشجاع وصلابة روحها المقدامة فقد خلصتني من الكثير من التعليقات الساخرة التي أعقبت ذلك، وعلمتني شيئا جوهريا عن الوجود البشري.. فالموت لابد منه، لكن ثمة فرق كبير من أن يموت الإنسان وهو يصرخ بضعف وأخر يموت بشجاعو وصمت. حمدت الدنيا التي منحتني نعمة جوارها، فهي ساعدتني كثيرا لما كنت مختفيا في المدن، إذ كانت تلتقي بيّ سرا وتشد من أزري، ولما كاد أن يلقى القبض علينا في شباط 1985 رتبت عملية التحاقنا بالثوار في الجبل بكل هدوء وتركت كل شيء خلفها حتى أبننا الوحيد وقتها ـ كفاح ـ.
لم أعد أتذكر كيف مرّتْ تلك الليلة؟!.
كانت تتركني بين الحين والحين.. تغيب وتعود فيما كنت احبس صراخي وألمي منصتا لهذيان وصراخ الكتل البشرية المحشودة المتلاصقة في الغرفة، تتلمس جسدي المشتعل كاشفة عن ظهري وصدري وساقيَّ، وتقول كلاما تصبرني فيه وتشّد من عزمي. كان الألم يبلغ بيّ حده الأقصى بحيث أعود لا أحس بشيء فأسقط في شبه إغماءه لأصحو على صوتها وأصابعها الحانية تجوب لامسة جروحي. في الأيام التالية أخبرتني أين كانت تذهب فروت لي كيف كانت تنزل إلى الطبابة لتساعد الطبيبة ـ أم هندرين ـ وهي تحاول أن تفعل شيئا لأبي فؤاد، قالت:
ـ كان محترقا أعمى يتقيأ كل لحظة. فيما وضعت الطبيبة صحن كبير وعميق في حضنه كي لا ينثر القيء على ملابسه. اختفت أهدابه. فرغت عيناه. تشنجت قسماته. كان يحاول أن ينهض بجسده دون جدوى فيرفع يديه المسودتين إلى أعلى وكأنه يحاول الإمساك بشيء. خنقتني الرائحة المنبعثة من كتلته، فبللت منديلي ووضعته على أنفي وفمي. مسحنا جروحه بالشاش المعقم، لم ينطق بحرف واحد، لم تصدر عنه سوى أنة واحدة طويلة قبيل لفظ أنفاسه ليستقر رأسه بلا حراك على كتفي!. عندها صرخنا أنا والطبيبة ورحنا في عويل طويل فهرع نحونا الرفاق القريبين ليحملونه ويضعوه على فراش منزوٍ في طرف الغرفة!.
استيقظت على صوتها يناديني:
ـ ها حبيبي سلام أش لونك؟!.
وجدتُ الصمتَ مقيما ومن بعيد يأتي صوت زقزقة عصافير. فتحتُ عينيَّ رغم النار التي شبت فيهما وأجلت الطرف. على ضوء الفجر رأيت الأجساد التي كانت تتضور طوال الليل صارخة هاذية تغفو أيضا أو تسقط في غيبوبة الألم كما حدث معي.. ذكرتني بأشلاء الجنود في جبهة الحرب العراقية الإيرانية التي تخلفها معركة ليلٍ ضاريةٍ. أغمضت عينيَّ منصتا لزقزقة العصافير. حاولت أن أسحب نفسا عميقا. لم أستطع فالهواء يشعل بلعومي فأسعل سعالاً جافاً طويلاً. همستْ بصوت منكسر النبرة لم يستطع إخفاء ألمها:
ـ حبيبي سنصعد إلى موقع ـ الدوشكا ـ.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العمة الجميلة*
- النص العراقي والناقد
- أنها الحرب
- اختطاف
- كتّاب كانوا سوط الجلاد الثقافي
- بمناسبة المؤتمر الرابع للطائفة المندائية..يا عراق متى تنصف أ ...
- قالت لي: أنا عندي حنين


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سلام إبراهيم - بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم_ الجزء الاول