أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سلام إبراهيم - بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم... الجزء الثاني















المزيد.....



بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم... الجزء الثاني


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1718 - 2006 / 10 / 29 - 11:42
المحور: سيرة ذاتية
    


همستْ بصوت منكسر النبرة لم يستطع إخفاء ألمها:
ـ حبيبي سنصعد إلى موقع ـ الدوشكا ـ.
تخيلتُ الموقع القريب من القمة، والمجاور لنبع الماء والذي يبعد ساعة في صعود وعرٍ بالنسبة للسليم فكيف بحالي؟!. حاولت مساعدتي في النهوض. تمكنتُ متمسكا بذراعيها، لكنني لم أستطع السير سوى خطوات قليلة إذ شعرت بحريق يشب في خصيتي وبين ساقي وتحت إبطيَّ مع كل حركة. همست:
ـ تحملَّ حياتي.. فالبغل بانتظارنا في الساحة!.
رميت خطوي مستندا على كتفها الرحيم. كان النهار صحوا والشمس متلألئة مما زاد من حرقة عيني كلما حاولت فتحهما. أتذكر الآن مدى العناء الذي تجشمتهُ وهي تحاول بمساعدة رفيق إصعادي فوق البغل. جلستُ على السرج. أشتعل ما بين فخذي، فولجتُ في صلب الجحيم. لم يكن أمامي سوى الصمت وكتم الألم في حضرتها، وفكرت بعد التجربة عميقا في سر صمودي إزاء ذاك العذاب، فلم أجد سوى حضرتها محرضي الوحيد كي أبدو قويا.
طوبى لك يا ملكيتي وسر حياتي!.
طوبى لـ ـ ناهدة جابر جاسم ـ جارتي وحبيبتي التي أحبتني بجنون فاق محبة الأب والأم!.
طوبى للمحبة حينما تكون محرضة لتماسك الإنسان في أشد المحن!.
لك صلاة.. كتلك التي صليتها فوق سطح دار أهلي في أول لقاء، وما زلت أركع لك بعد أكثر من ثلاثين عاما هنا في المنفى كل مساء!.
أي رحلة كانت تلك الساعة من موقع الإسناد إلى موقع الدوشكا!.
ماذا أكتب أو أقول؟!.
هل أقول أنها رحلة سيزيف وهو يحمل صخرته إلى القمة لتتدحرج حال بلوغها فينزل ليحملها ثانية ويصعد؟!.
تمنيت نفسي سيزيف القادر على الحمل والصعود والنزول إلى ما لا نهاية!.
حسدت مأساته؟!.

الرحلة تلك كانت مفصلاً في وجودي، فقد كنت أترجح على حافة العالم السفلي والظلام حيث الصمت. قلت معي نفسي والبغل أثناء صعوده العسير يجعلني أحس وكأنني موشك على السقوط مع كل خطوة يخطوها لاهثا من عناء الارتفاع وثقل جسدي:
ـ لو كتب لي الحياة وراء هذه المحنة فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي!.
الرحلة من قاع الوادي وحتى نقطة النبع القريبة من القمة بدت وكأنها دهرا!.
كان أحدهم يسندني في جلوسي على السرج من اليمين وناهدة من اليسار وثالث يقود البغل. كانت تسأل بين الحين والحين عن حالي، فأطمئنها مضطرا كوني بخير. وبغتةً سمعتها تصيح:
ـ رفاق لقد عميت!.
عندها شب ألمي وعراك شب بين من كان يسندني إلى اليمين وكان عربيا والذي يسندني على اليسار وكان كرديا من السرية الخامسة.. فأصر الرفيق الكردي على البقاء لمساعدتها رغم غضب العربي الذي كان يريد إبعاده.. هذا المشهد وصفته بتفصيل في روايتي ـ برازخ وأخيلة ـ التي منعها رقيب أتحاد الكتاب العرب ـ فرع سوريا ـ، ـ الروائي الفلسطيني حسن حميد ـ عام 2002 .. وخدعني الناشر ـ خالد المعالي ـ صاحب ـ دار الجمل ـ بألمانيا إذ وعدني بأنه سوف ينشرها في عام 2004 لكنه لم يفعل.
لا أدري كيف بعد ذلك بلغتُ موقع الدوشكا، لكنني أتذكر بوضوح وجه الرفيق ـ أبو الياس ـ طبيب الأسنان الذي رفض في كردستان ممارسة مهنته كونها تشبه ما يقوم به رجل الأمن لما يعذب المعتقل لا سيما وأن المخدر لم يكن متوفرا فأصبح مقاتلا عاديا. كان يستقبل المصاب الواصل صارخا بحرقة وهو يشير إلى مجرى النبع الضيق الهابط نحو الوادي:
ـ رفيق أنبطح.. أفتح عينيك وغط رأسك في الماء!
فعلت ذلك مرات لا تعد. كان ذلك يخفف قليلا من ألم عيني المحترقتين. صف على طول مجرى النبع منبطحا يغط رأسه في الماء البارد الجاري وكأن ذاك الماء هو الخلاص!. مشهد لم أنسه أبدا. ما زال يتجسد في لحظات وجدي ووحدتي هنا في الدانمارك وتلك الذوات المسكينة الحالمة تتضور بألمها وتغط في ساقية ضحلة برأسها تتأمل العودة إلى وضعها البشري قبيل القصف. كان الصمت حكما فيما عدا صوت ـ أبو الياس ـ المتحمس في صراخه كي نقاوم ونفتح أعيننا في الماء الجاري.
ـ أفتح عينك.. غط رأسك.. غط رفيق غط وأفتح عينك!.
صراخ كان يجلب لنفوسنا شيئا من أملٍ بالتعافي بعد كل غطة بجاري الماء الملامس حدقات عيوننا المحترقة المفتوحة عنوةً، لكن هيهات. كان الوقت قبيل منتصف النهار. أتذكر أن الشمس كانت ساطعة بحيث لما كنت أرفع رأسي من مجرى الساقية وعيناي لم تزل مفتوحتين يجتاحهما الضوء الحارق الذي لا يتيح لي سوى النظر للحظة لذلك المشهد المؤثر، أكثر من ثلاثين مقاتلا ينبطحون على بطونهم.. الرؤوس غاطة في المجرى، يرفع أحدهم الرأس ويغطه على الفور لما يواجه الضوء مستنجدا بالماء.
لا ماء الله كان خلاصا
ولا شمسه.. ولا الهواء
كانت آلهة حديد ـ الدكتاتور ـ قد أدخلتنا في الجحيم!.
نتضور ولا من يخلصنا من أجسادنا لنستريح!.
كلما أخرجت رأسي من الماء أسمع صوتها وهي تستنجد:
ـ رفاق عميت.. عميت!.
وقبل أن أسأل نفسي أين تكون الآن؟.. يهجم عليّ الضوء، فأغط بوجهي في الماء هربا من جحيم عيني!.
لا أتذكر متى أنسحب الضوء من الدنيا، فما أن كففنا عن الماء حتى عمينا تماما. غبت عن الوعي لأستيقظ في المساء، فوجدتُ نفسي في قاعة من الحجر والطين محشودة بصفين متقابلين من الثوار المصابين الصارخين، المتوجعين، الهاذين على ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. لما فتحت عيني ووعيت بكينونة جسدي شبَّ الألم من جديد، فندمت قائلا مع نفسي:
ـ لِمَ لمْ تأخذني يا إلهي؟!.
كنت وفيا لوصيتها، أكتم ألمي منصتا لهذيان الثوار وهم يهبطون في هوة اليأس والألم والعدم:
ـ يمه تعالي أبنك عمه!.
ـ يمه راح أموت وما أشوفك!.
ـ بويه وينك تعال بويه تعال!.
ـ يابوية عيوني!.
ـ يا ياب احترقت ولك ياب طفيني!.
ـ ولكم الهوه يا الله الهوه!.
أفتح عيني بعناء فيطل المشهد للحظات. الأجساد تتلوى على أفرشتها، تتقلب، تستقيم بنصفها العلوي، تلقى نفسها بيأس إلى الفراش هاذية. ليلة كانت اشد عليَّ من ليلة الأمس، كنت وحدي بدون حبيبتي ضائعا في الصراخ والنار المشتعلة في جسدي!.
قضيت ليلة يأتي النوم فيها بعد إعياء الألم، والصحو يلقي بك إلى ساحل الهذيان والتقلب وحرقة العينين وضوء الفانوس والصراخ المبهم
طوبى لصراخ كل من كان معي في تلك الغرف!.
طوبى لشدة تعلق الإنسان بنسمة الهواء والدنيا
طوبى لكل من أستنجد في لحظة اليأس والهذيان بعزيز بعيد
طوبى لضعف الإنسان
طوبى لكل من عاشر لحظتي في تلك الغرفتين.. غرفة أبو علي في الإسناد.. وغرفة في فصيل الدوشكا..
طوبى للألم.. للعذاب..
طوبى لنا نحن البشر!.
ليلة الدوشكا تلك تبدو لي وبدت لي ما أن ملكت نفسي وكأنها ليلة من حكايات الرعب وليالي سوداء من كتاب عراقي لم يدون بعد. تلك الليلة أخذتني إلى ما يشبه الرحلة نحو القيامة صورت كل ما جرى لي فيها في القسم الثالث من روايتي ـ برازخ وأخيلة ـ والتي وصلتني رسالة قبل يومين من الشاعر والمترجم ـ سهيل نجم ـ كونها ترقد لدى الرقيب العراقي في بغداد منذ ما يناهز العام. ذلك العالم الخرافي حاولت مسكه في ذلك النص. كنت فعلا في رحلة هي بين الموت والحياة في البرزخ الضيق فشاهدت نفسي في خلاصة معانيها وهي تواجه الخالق الجليل.
القسم الأخير في الرواية بدا غامضا بسبب عدم عرضي لمجرى الحدث الواقعي الذي أسرده الآن إذ أقتصر على ما جاش في رحلتي وأنا أغيب عن الوعي والـ ما حول وأرحل إلى الطفولة وخلاصة التجارب وكأنني موشك على الموت وولوج العالم الآخر الذي أعتقد به يقيناً. لا أستطيع الآن وبعد ذلك الكم من السنين تذكر كيف مضت تلك الليلة.. الذي في ذاكرتي ظلام وضوء باهت وصراخ وهذيان ينتاب لحظات يقظتي من عالم آخر رحلت فيه. عالم تحولت فيه حبيبي إلى مجرد خاطر عابر مرَّ في العمر وغاب، فهاجت في عالم غيبوبتي كل الهواجس المتعلقة بالفقد والغياب..
ـ وهل يستطع المرء وصف ليلة الجحيم مرتين؟!.
كنت أطفو في الألم إلى حدٍ ليس للزمن فيه معنى. كنت أتحامل بصمت كاتما وجعي، لم أنس أبداً وصيتها:
ـ حبيبي كن قوياً!.
هذه الجملة ستفتح لي آفاق أخرى في تجربة المنفى!.
بدت الليلة وكأنها ليلة من ليالي أبدية الجحيم. استيقظت في الصباح، فوجدت نفسي أرقد تحت كلة سوداء مخرمة وبجواري رفيق لم أتعرف عليه للوهلة الأولى. أخذت نفسا عميقا فجرحَّ الهواء أحشائي. فتحت عيني بعناء ـ بالمناسبة لابد من ذكر أن العمى في القصف الكمياوي يؤدي إلى صعوبة مواجهة الضوء فيفضل المصاب المكوث تحت جفنيه تخلصا من ألم الضوء ـ
الكلة السوداء المخرمة نصبت أمام قاعة. وجدت نفسي شبه عارٍ وإلى جواري يرقد على فراش رث الرفيق ـ أبو رزكار ـ شبه عارٍ أيضا. أسعدني جواره، فهو رفيق حميم يشبهني وكنا قبل عام قد أصدرنا مجموعة قصصية أنصارية مشتركة كانت له ولي قصة فيها. عدا ذلك كان أول من وشجَّ علاقة خاصة معي منذُ أول لقاء لما عرف اهتمامي بالأدب فدأب على جمع الصفحات الثقافية لجريدة الثورة والجمهورية وصحف النظام الأخرى، إذ كان يعمل في التنظيم المدني ويجلبها لي لما يزور المقر الذي كنت فيه. لكن ما أتعسني هو عدم سماعه لما أقوله. حاولت الحوار معه في الليالي التي قضينها معا تحت خيمة شفافة واحدة عاريين موشكين على الغياب.. كررت محاولتي.. دون أن أتمكن من جعله يقول شيء أي شيء، كنت أهتف مع نفسي:
ـ يا إلهي..لو يقول كلمة واحدة.. لو أسمع صوته!. كان يبدو مثل مخدر بعينين نصف مغلقتين يبرك في صمت عالم بعيد، وكأنه يشرع في الشهادة وقول المستحيل. صرخت به رغم جحيم الذي في جسدي:
ـ أبو رزكارـ أني ـ أبو الطيب ـ قل لي كلمة واحدة!.
كان كلامي دون جدوى.. أحسسته يجود بنفسه موشكا على الصعود إلى عالم الرؤيا والخلاص.
حلمت بكلمة واحدة منه.. كلمة واحدة كانت تفضي بنفسي وقتها إلى مسافة حميمة جمعتنا في لهفة اللقاء المتباعد. حلمت رغم وضعي القريب إلى وضعه إذ كنت أيضا على وشك الصعود أيضا إلى العالم الآخر.
لم أستطع حصر الأيام التي قضيتها جواره تحت الكلة السوداء. كان يلزم الصمت عاريا، وجسده مليء بالفقاعات، كلما فتحت عيني أجده يسعى في شهيق عميق بحثا عن الهواء.
ـ أريد أخذه يَمْي!.
استيقظت من كوابيس الألم على صوتها وهي تتحاور مع أحدهم، عرفته على الفور لما سمعت جوابه كان يدعى " ملازم رائد":
ـ لا رفيقة.. حالته صعبة دعي الرفاق يعتنون به!.
كنت أنصت للحوار المتصاعد إلى أن انفجرت صارخة:
ـ لا راح أخذه هسه.. وما لي علاقة بأي قرار!.
قالتها بحزم.. وحدي من يعرف عنادها الجميل وتصميمها الذي لا يقف بوجهه شيء، لا عائلتها التي رفضت زواجها بيّ، ولا القيم وهي تلتقي بيّ كل يوم في بيتنا في ـ الحي العصري ـ أو بيوت الأصدقاء، ولا إصرارها على العمل في التنظيم السري رغم اعتراضي قبيل صعودنا إلى الجبل.
سمعته يردد:
ـ رفيقة ما يجوز.. رفيقة!.
باعدت أجفاني مغالباً ألمها فرأيتها تنحني وترفع حافة الستارة المنسدلة، وتهمس:
ـ ها حبيبي.. أش لونك؟!.
ساعدتني على النهوض. أغمضت عيني مستسلماً ليديها الحانيتين. قادتني لتصعد بيّ المسلك المجاور لساقية النبع الذي بدا ضجيجه يتعالى، فأدركت أننا نقترب منه. أنساني ملمس أصابعها الناعمة جحيمي.
ـ إلى أين تريد بيَّ؟!.
هذا ما لم أفكر فيه وقتها، فأن أكون قربها حتى ولو في الجحيم فذاك حلم الليالي التي افتقدتها. كنت أسير متضايقا من وهج الشمس المشرقة، فأزيد من ضغط أجفاني المطبقة علَّ ذلك يخفف من سعير النار فيهما، مخترقا أجساد تخيلتها منبطحة، جالسة، مكورة على جانبي المجرى وهي تسعل ذلك السعال المخنوق وتطلق صراخ الألم وتشكو بأصوات مبحوحة:
ـ ولكم اختنقت!.
ـ ولكم أحترق جسمي
ـ ولكم عيوني راح تطلع من وجهي!.
من المؤكد أن رفاقي المساكين ليس لديهم من يعني بهم كما هو حالي وحبيبتي تأخذ بيدي صوب مكان حيث ستكون جواري. في ذلك البؤس حسدت نفسي. وصلنا إلى موقع فيه ضجة الماء شديدة، فقدرت أنه جوار فتحة النبع تماماً. طلبتْ مني الاستدارة نحو اليمين ورفع قدمي كي أصعد. فعلتُ ما طلبت مني. لما أصبحت فوق المكان المرتفع بمقدار نصف مترٍ عن الممر باعدت أجفاني فوجدتني داخل ـ كبرة ـ ( مكان مسقف بأغصان البلوط يرتكز على أربعة أو ثلاثة أعمدة من سيقان الأشجار المتينة يستخدم في الصيف قرب القمم لتفادي الحر ). المكان مفروش. طلبت مني الاستلقاء. فقعدتُُ بمساعدتها وانطرحت على ظهري.. حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف ما أصاب جسدي. لم يكن يؤلمني مكان محدد عدا اللهيب القائم في كل لحظة في عينيَّ، إذ كان الألم متساويا في كل قطعة فيه وكأنه صبَّ فيه.
ـ كيف مضى الوقت بعد ذلك؟!.
هذا ما لا أعرفه إلى هذه اللحظة؟!.
سقطتُ في نومٍ ليس مثل نوم البشر، لأرحل مرة أخرى في عالمٍ آخر رأيت فيه الأهوال.. عالم غريب فيه الظلام مرئي.. وكان دوي النبع المجاور لرقدتي مفتاح ذلك العالم..
سقطت في نومٍ جعلني لاحقا أعتقد بأن ثمة عالم ينتظرنا بعد هذا العالم الذي نعيش فيه. باتت قناعتي راسخة بذلك حال عودتي منه. كان خروجي منه جزء منه، فبينما كنت ألهث في ذاك الظلام المرئي سمعت إطلاق رصاص فوجدتني على الفراش. وصوت أم بدر زوجة طبيب أسنان الموقع الموشكة على الوضع وقتها تصرخ:
ـ مات.. مات!.
رحت اسأل:
ـ من.. من.. من؟!.
فأجابتني ناهدة بصوت مكسور:
ـ أبو رزكار أستشهد!.
صحوت تماما وكأن جسدي ليس به شيء. نهضت بنصف جسدي الأعلى صارخا:
ـ لا.. لا.. لا..
ونشجت بصوت مسموع بحرقة. أحاطتني بذراعيها وضمت رأسي إلى صدرها مرددة:
ـ حبيبي بك ما يكيفك.. أرجوك أهدأ!.
شبعت نحيبا على صدرها وأبو رزكار صاحبي ورفيقي سوف لا أراه إلى الأبد.. ظللتُ محتميا بصدرها الساخن النابض إلى أن خف نحيبي فسقطت من جديد في رحبة ذلك العالم الزاخر بكل رموز عمري. لم أكن نائما كما كانت تعتقد.. لم أكن أبدا.. كنت في محنة مختلفة أناضل في الصمت والرؤيا حتى بلغت مكانا كنت فيه عاريا وسط الجموع العارية المحشودة في ساحة واسعة يحرسها صقر الرب الهائل. الواقف في الصف لا يستطيع الالتفات أبدا ـ هذا العالم حاولت تصويره بالكلمات في قسم البرزخ من ـ برازخ وأخيلة ـ.
المرة الثانية التي فتحت فيها عيني خارجا من بهمة ذاك العالم الضاج بصمت وجدت وجهاً يطل عليَّ محدقا فيَّ بصمت. وجه أليف لكنني لم أستطيع تذكره في اللحظة الأولى حتى أنني ظننت أنه وجه من وجوه ذاك العالم الذي كنت فيه فسألته:
ـ من أنت؟!.
فارتسمت على ملامحه الخلاسية ظل بسمه وهمس:
ـ سلام... أنا إبراهيم ـ أبو خوله ـ!.
كان صوته خافتا يقترب من الهمس كمن يخشى أن يسمعه أحدٌ. سحبت جسدي قليلا رافعا رأسي وفاتحا عينيّ فهبطت ملامحه الودودة في نفسي، سألته:
ـ ما الذي أتى بك؟!.
كنت أعرف أنه في موقعٍ يبعد ثلاثة أيام مشيا على الأقدام.
ـ سمعت بما أصابك!.
قالها ومسح بيده السمراء على رأسي. أغمضت عيني مبتهجاً رغم وضعي المتأرجح بين الصعود إلى السماء والبقاء، فإبراهيم حبيب حميم مضى على معرفتي به في ذلك الوقت أكثر عشر سنوات، كان صديق أخي الشهيد كفاح إبراهيم، معه في نفس المرحلة بالجامعة التكنولوجية ببغداد. تعرفت عليه في زيارة للجامعة. من أهالي البصرة، من بقايا ثوار الزنج كما علق الشهيد لحظة تقديمه لي..

إلى يمين الصورة سلام إبراهيم في الوسط إبراهيم عبد الحسين ـ أبو خولة ـ وإلى اليسار الشهيد كفاح إبراهيم 1977
ومن يومها تعاشرنا حبيبين حميمين، لم يكن يتكلم إلا باختصار وعند الضرورة.. التقيت به عام 1979 في دمشق هاربا وأنا في طريق عودتي للعراق من بيروت فقضينا ليلتين في الفندق الذي نزلتُ فيه. وبعد خمس سنوات من ذلك اللقاء وجدته في الجبل يعمل بمفرزة طريق تعبر الثوار من وإلى الأراضي العراقية. ثم عقب الأنفال وضياع المنفى في ـ كييف ـ عاصمة أوكرونيا. لما نلتقي كأننا نلتقي أول مرة، نفس الود والمشاعر الساخنة، لم نزل كذلك هو الآن في ـ أستوكهولم ـ نلتقي بين الحين والحين وكأنه اللقاء الأول في نادي الجامعة التكنولوجية.
سقطت في غيبوة أخرى.. غيبوة مفردة أدق تعبيراً من مفردة النوم. كنت أسبح حتى ذلك الوقت في فضاء لا ألم جسدي فيه، إذ يقتصر الشعور بالجسد فقط في لحظات الصحو النادرة التي أجد فيها أما إبراهيم أو ناهدة جواري.
كم يوم بقيت على هذا الحال؟!.. لا أدري غبت تماما عما يحيط بيَّ عدا وجهيَّ حبيبيَّ المطلين على رقدتي هما وهدير ماء النبع.
لم تكن تلك أياما بل دهورا امتدت وكأنها بلا نهاية إلى أن استيقظتُ يوما شاعراً بمواقع محددة في جسدي تحرقني حرقا، ما بين فخذي، خصيتي، عضوي الجنسي، إبطيَّ، بطني، كتفي الأيمن، مضاف إلى ضيق في التنفس وكأنني أوشك على الاختناق. صار بمقداري فتح عيني مدة أطول فالحرقة فيهما بدأت تخف قليلا.. قليلا بنسبة عكسية مع مواقع جسدي المحروقة التي عادت لسيطرة شعوري. أحسست أنني عبرت مرحلة الخطر وذاك العالم الجحيمي الذي رأيته في كوابيس غيبوبتي لم اعد أراه، لكن ما كان يخيفني هو اختناقي الليلي، إذ أفزَّ بعد دقائق من سقوطي في الغفوة وأنفاسي موشكة على الانقطاع. في صباح مشرق قلت لإبراهيم:
ـ أريد مرآة!.
فأنسلل على المسلك الهابط وعاد بعد دقائق وفي يده مرآة صغيرة. جعلت وجهي بمواجهة الشمس. فتحت فمي على سعته ورفعت المرآة بمستواه فرأيت منظرا شديد البشاعة. في عمق فمي تضخمت اللوزتان حتى كادتا تسدان مجرى فمي. قلت لإبراهيم:
ـ صيح لي الطبيبة فورا!.
فهرع وجاء بأم هندرين. أريتها فمي فقالت:
ـ ماذا أستطيع أن أفعل لك!. ليس لدينا أدوية لهذا النوع من الإصابات!.
قلت لها على الفور:
ـ أليس لديك بنسلين!.
قالت:
ـ نعم لكنه من النوع الزيتي المؤذي وقوته مليون!.
ـ أعطي جرعة فوراً!.
هل أنقذتني تلك الجرعات؟!. لا أدري لكن الورم في جوف فمي خف فأصبح بمقدوري عبّ الهواء بصعوبة أقل.
كل غروب يقودني إبراهيم من يدي، على المسلك المنحدر نحو غرفة الحمام، وفي ظلامه الحالك يجردني من ثوبي الطويل ويدلك جسدي بحذر شديد، أصابعه تمر على جلدي المتقرح بالفقاعات في لمس أكاد لا أحس به قبل أن يدلق عليّ طاسة ماء فاتر، ثم يجفف جسدي بمنشفة طويلة يضعها وينقلها قطعة بعد قطعة دون فرك، يلبسني ثوبي ويعود بيّ إلى الفراش ويظل جالسا جواري حتى سقوطي في النوم بعد أقراص مهدأة أتناولها على وجبات خمس في اليوم. قلت لإبراهيم لما تكرر غياب حبيبتي:
ـ وين صارت؟!.
ـ مشغولة بـ ـ أم بدر ـ فالطفل مات في بطنها ويحاولون إخراجه منذ البارحة وزوجها مثل المجنون يدور من غرفة إلى أخرى يبكي ويهذي!
شبت في جسدي دفعة جديدة من الحرائق وخصوصا بين فخذي وخصيتي وعضوي. رفعت ثوبي ووضعت المرآة ففزعت. كان عضوي متقيحاً. بقيت أياما مشلولا بالألم والرعب دون أن تفعل لي الطبيبة شيء، إلى أن جاء طبيب الفوج الأول ـ باسم ـ ( يعيش الآن في الدنمرك ) فدأب على قشط الجزء المتقيح فتشوغ روحي وتتلاشى، تعود ما أن يبعد المبضع عن قضيبي. كان إبراهيم وناهدة يمسكان بي من الجانبين أثناء عملية القشط التي كان يجريها كل صباح إلى أن جف الجرح ( الدكتور ـ باسم ـ كان يترجم لي في مقابلة موفدة منظمة مساعدة اللاجئين العالمية التي قابلتنا في ـ موسكو ـ في خريف 1991 لما حُصر أكثر من ثلاثمائة عراقي في أعقاب حرب الكويت وهم في طريقهم إلى دول اللجوء. فسردت عليها هذا المسرد ولما وصلت إلى هذا الموقع أشرت نحو ـ باسم ـ المبتسم الواقف بيني وبين المحققة التي كانت من الصدف دنمركية وقلت:
ـ وهذا الطبيب الذي قشط قضيبي!.
فترجم لها جملتي ضاحكاً ومؤكدا كلامي ).
هذه الناهدة.. وهذا الإبراهيم كانا ملاكيَّ الحارسين في تلك المحنة التي أرجحت وجودي على حافته. لما عبرت مرحلتي الحرجة، تشبثت بالدنيا تشبث الأعمى.
هل سأعيش ذات التجربة قبيل لفظ أنفاسي؟!.
هل سأرى عالما يكتظ بكل تلك الوجوه صامتا واضحا متحركا؟!.
بت على يقين بعد عيشي قرابة عشرين عاما على تلك التجربة بأن البرزخ المتخيل موجود وحقيقي ومخيف. وحده العفيف في هذه الدنيا سيمر به دون عناء. ولما لم أكن عفيفا في عمري إلا في طرفه الأخير فسأرى كل تلك الرؤى المرعبة مرة أخرى.
تشبثُ بالدنيا، وكان من أفظع هواجسي هو موتي وترك حبيبتي وسط تلك الظروف المضطربة. الهاجس نفسه كان يمتلكها أيضا، في لهفتها عليَّ، وهي تعني بيّ كطفلها الوحيد. كنا نشعر أن الحياة دون علاقتنا ليس لها معنى.
تعافيت قليلا.. قليلا، وبعد أكثر من شهرين تمكنت من العودة إلى المشي والبدء في ممارسة متطلبات يوم الجبل، أي ما يشبه وضعي قبيل القصف ذاك. فقد كنت أسوء حالة إصابة نجت من موت أكيد. بقيت أثار الجروح والتقرح على جلدي شاخصة حتى الآن، لكنني عدت للحياة بشغف. صحيح أصبحت حركتي أقل حيويةً من قبل لكنني كنت سعيدا بالدنيا وحبيبتي جواري نعني ببعض.. لكن الشيء الذي أقلقني هو تدهور صحة حبيبتي يوما بعد يومٍ. بدأت تنحل بشدة وتسعل بجفاف وتقاوم كشأنها دون شكوى. قلت لها:
ـ يا حبيبتي وضعك يتدهور وجسمك ينحل ونفسك يضيق يجب أن تفاتحي الرفاق كي يبعثوا بك للعلاج أو للفحص على الأقل!.
انصاعت بعد إلحاح، فخرجنا بمفرزة في خريف عام 1987 من زيوة بهدينان إلى لولان. طريق طويل محفوف بالمخاطر. كنت أقود البغل المخصص لها فقد كانت متعبة لا تقوى على السير. الطريق أعرفه فطالما سلكته في مهمات بريدية طوال سنتين. وهناك لما وصلنا إلى مقرات ـ لولان ـ الواقعة في المثلث الحدودي الإيراني العراقي التركي، وحط بنا الرحال، ظهر أن لديها متاعب في الرئتين والكليتين، سيكتشف لاحقا بعد الأنفال وفي معسكرات اللجوء في أقصى الشمال الإيراني بأنها مصابة بالسل الرئوي، بينما

سلام إبراهيم ـ أبو الطيب ـ، وناهدة جابر جاسم ـ بهار ـ في مجمع ـ زيوة ـ للاجئيين في إيران 1988
سقطت أنا فورا مصابا بالتهاب الرئة الحاد الذي سوف يظل لصقي كل العمر، ففي الدنمرك صرت نزيلا أليفا في مستشفى مدينتي Roskilde كل شتاء. وهذا ما كنته أيضا في الشتاءات التي أعقبت إصابتي سواء في كردستان أو محطات اللجوء في دمشق وموسكو.
في وضعي البائس ذاك في مقرات ـ لولان ـ. طلبت مقابلة لجنة طبية تتكون من رفيقين من الأطباء هما ـ أبو يسار ـ و ـ أبو كوران ـ شكوت حالي لهما في غرفة من الحجر والطين في موقع يسمى ـ بيربنان ـ قلت لهم، أنا أحس غير الذي كنته قبل القصف وطلبت منهما مساعدتي.
أكتب هذه التجربة المرة وقبل يومين استمعتُ إلى شهادة رفيق كردي من الاتحاد الوطني الكردستاني لا أتذكر أسمه كان يقول في شهادته أن أطفاله باتوا يخافون من عينيه ولجأ بمساعدة حزبه بعد الإصابة مباشرة إلى هولندا وجلب كل التقارير المؤيدة لذلك.
كنت ومازلت أعتبر الطبيب ساحراً. فهو من يقرر علّه الجسد. لكنني في تلك الغرفة الضيقة وهما يضعان السماعة على صدري العاري وظهري، وينصتان إلى صوت تنفسي ليقولا بعد ذلك:
ـ رفيق ما كو شي.. أنت صاغ سليم!.
خرجت من الغرفة حائرا
ـ هل أنا حقا صاحٍ أم معطوب؟!. فإذا كنت صاحيا ما هذا الضيق في النفس والتهاب الرئة المتكرر والعناء الذي ألقيه عند القيام بواجبات حياة الثوار اليومية.
أثبتت الأيام أني معلول والطبيان حمَّلاني عناء أشد في التجربة إذ أن قرارهما جعلني أبقى بين الثوار حتى نهاية الأنفال وأنا أنوء بنفسي في تلك الظروف التي كانت أشد وأضنى
* * *
أستيقظ باكرا مدندنا:
(آه يا أسمر اللون حياتي الأسمراني)
أستعجل الساعة منتظرا ظهور الطاغية في القفص. وأحبائي الأكراد بوجوههم المغضنة العميقة وتلقائية ما ينطقون به عما تجشموه من أهول وبلغتهم التي أحب وقعها، فطالما أشعرتني بالأمان وأنا أشاركهم خبزهم وفراشهم وغرفهم وجوامع قراهم والمصير.
هذا المشهد هو ذروة في تجربة حياتي.. هاأنذا أجلس مسترخيا وحيدا كل صباح منذ السابعة والنصف وحتى الثالثة، ومن أقعدني وهمش حياتي يطل الآن في قفص بلحية رثة وقسمات ذليلة وجواره وخلفه يجلس من كان أدوات طغيانه ينصتون لفلاح كردي مغضن البشرة كان يافعا لما كنت ورفاقي الثوار في بيته يقدم لنا الخبز والمأوى والماء. أرتب طقوس هذه الصباحات بقلبٍ راقصٍ.
الطاغية في القفص، لا يستطيع أن يتواقح كما فعل في محاكمة الدجيل، فمبرر كونه رئيس دولة تعرض إلى محاولة اغتيال انتفى. ثمة بشر ضيعوا في المقابر الجماعية والقصف الكمياوي، والتهجير دون ذنب سوى أن مناطق عيشهم كانت غير مسيطر عليها من قبل أجهزته.
الأثر البعيد المخرب لحياة البشر لا يدركه الطاغية لأنه ببساطة أمي بالمشاعر أو دون مشاعر حتى. الشاهد الكردي الذي أسهب في تفاصيل شهادته، صاحب الاسمين والتقارير الطبية من هولندا رفع نظراته ليرى المحكمة والمشاهدين عينيه المعطوبتين قائلا:
ـ أطفالي يطلبون مني لبس النظارة لأنهم يخافون من شكل عيني!.
هذا الأثر النفسي العميق الضارب أكثر العلاقات حميمية في الوجود، لا يفهمه إلا من عانى مثل هذه التجربة. ما قاله الشاهد عانيته بشكلٍ أخر مع أبنائي هنا في الدنمرك. فأبني الصغير ـ صلاح ـ المولود هنا في الدنمرك عام 1993 ليس لديه القدرة على فهم ما مررنا به وهو يرى أمه تعمل وناجحة في عملها لكننا نعاني من مأزق اقتصادي مستمر بسبب النظام الاجتماعي هنا. فكلما تقدمت بعملها وزاد مرتبها قلَّ مرتبي باعتباري متقاعدا، هو لا يفهم سبب عجزي عن العمل، ولا يستطيع تصديق وفهم أن ممارستي الرياضة العنيفة يوميا هو للمحافظة على ما تبقى من صحتي ووقف تدهورها.. فقال لي في يومٍ ونحن نخوض في إشكالية وضعنا الاقتصادي المتعب ونحن نجلس حول مائدة الطعام:
ـ بابا ليش ما تشغل حتى تساعد العائلة؟!.
لما أجبته بأنني متقاعد بسبب وضعي الصحي، ردَّ بسخرية:
ـ وهل من يصعد يقود الدراجة الهوائية لساعة، ويسبح ساعة مريض!.
هذه محنة لا يفهمها الدكتاتور أبدا.. فأين له الفهم وهو فاقد الحس بالآخرين.. لذا بدا بليدا وهو ينصت لما قاله ذلك الشاهد عن أولاده الذين أصبحوا يخافون كلما رفع النظارة عن عينيه.
بلعت سخرية أبني وقتها، هو الآن في المدرسة ووحدي أجلس ومن سبب لي كل هذه المحن التي لا تحصى لصغرها وتفاصيلها حتى كنت أتمنى أحيانا لو مّتُ في ذلك القصف وخلصت، يجلس في القفص يتابع قول الشهود.
ليس ما أصابني في القصف ذاك هو فقط سبب متعتي بمشاهدته كل صباح يجلس بذلة، يطرد، ويأتون به كلما قرر الحاكم.. بل هذا الكائن حول حياتي إلى كابوس.. فمنذ أيام حكمه الأولي في عام 1970 اعتقلت أول مرة وأنا لم أبلغ السادسة عشر من عمري وعذبت في أمن الديوانية بشدة، فلقة، ضرب مبرح في كل ما تصله أيدهم من جسدي، كوي بالكهرباء.. وذلك ما جعلني أعيش كابوسا مستمرا تظهر فيه نفس الوجوه التي اعتقلتني أول مرة.. سيتكرر ذلك أربع مرات آخرها عام 1980 لما خطفوني مع صديقين من بار على أبو نؤاس وأروني الويل في صفحة أخرى سأرويها في موضع أخر.
هذا الكائن الهمجي البدوي الجاهل العنيف القاسي، سيقتل أعز أحبائي أخي الأصغر كفاح إبراهيم، أبن عمتي نعيمة،

إلى يمين الصورة الشيهد كفاح عبد إبراهيم، إلى اليسار الشهيد صلاح مهدي الصياح، لم يعثر على رفاتهما في المقابر الجماعيةـ الصورة 1977 في الجامعة التكنولوجية ببغداد
علي عبد الباقي، أبن عمتي سهام صلاح مهدي الصياح، أصدقائي حازم الصمياني، كريم ناصر، حميد هلال، جميل مكط، عدنان حسين، لعيبي مسلم، أستاذي مدرس الفيزياء شاكر داخل والعشرات من الأقرب إلى القلب والروح سوف يقتلون سرا في الأقبية وساحات الإعدام ممن كانوا يقيموها على ملاعب كرة القدم في كل مدينة صورت ذلك في روايتي ـ رؤيا الغائب ـ التي صدرت عام 1996 عن دار المدى. وفصلها الأول ـ في ساحة الإعدام ـ أرشف كوثيقة في موقع الذاكرة العراقية الخاص بجرائم النظام، وسوف لا يعثر على أي جثة من جثثهم في المقابر الجماعية التي نبشت بعد سقوطه.
ليس هذا فحسب، سيسوقني جنديا لأرى الويل في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية منذ 1982. سيغير مجرى حياتي التي ظننت أنها استقرت بعد زواجي عام 1981 من حبيبة عمري. لكنني سأجد نفسي هاربا ضائعا في مدينتي حتى التحاقي سرا بالثوار في الجبل.. لأخوض جحيم آخر، سأحن إلى مدينتي وحبيبتي وأبني فأعود سرا لأعيش جحيم جديد في تجربة أعسر مكتظة بالكوابيس التي صورتها في المفصل الأول (في الأرسي) من ـ برازخ وأخيلة ـ لما اضطررت للمكوث في غرفة علية ضيقة في بيت قديم وسط المدينة وقتها دبرت لي حبيبتي مسدسا كنت عازما على الانتحار ولا الوقوع بين أيديهم مرة أخرى. سأنجح بعد تجربة أخرى في جبهة الحرب في الالتحاق بالثوار مصطحبا حبيبتي وتاركا أبني ـ كفاح ـ الوحيد وقتها المصاب بالربو، لو جلبناه معنا لقضي في القصف بالغازات السامة حتماً. سأعيش هذا المخاض الجديد متفاهما قليلا مع نفسي فأنا كشخص غير ميال للعنف والقتل حتى الثوري.. سأعيش إلى اللحظة التي هبطت علينا آلهة الحديد بالغازات السامة كما صورته في هذا الموضع. سيعتل جسدي ما تبقى من العمر.. وبعد الأنفال سأعيش جحيم معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، والضياع في المنفى، في دمشق، موسكو لأعيش تجارب محتدمة هي جحيم من نوع آخر.
هذا الكائن القروي ابن العوجة قريةً وأماً ـ صدام حسين ـ حول حياتي إلى جحيم في مقتبل عمري وفي شيخوختي، ليس أنا فحسب بل أبناء جيلي ممن لم يقض في التجربة وبقيَّ حيا. أدون هذا القول مكتشفا هذه اللحظة أنه جعلني أعيش الجحيم مرتين مرة في حياتي الواقعية والثانية في المنفى وأنا أجلس كل نهار وحيدا في بيت ريفي في طرف منسي غريبا عن عالمي، أدون ذلك الجحيم في كل مراحله، وأتَعَصَرْ مكتويا بالنار، وكأن ما أكتبه يحدث لي في لحظة الكتابة.
متعتي لا توصف ووجوه الفلاحين الأكراد تظهر تباعا أمامي على الشاشة تفضي بقصة عشت تفاصيلها الصغيرة التي لم ينجحوا في بيان مدى فداحتها قولا، فأثارها المدمرة تفوق ما قالوه وهم يقفون في مواجهة الطاغية. مع ذلك كنت أرقص طربا وأحتسي المزيد من كؤوس الشاي في فترة الاستراحة منتظرا ظهور الطاغية على كرسي مذلته.
أصبح لوصوصة العصافير على أشجار الحديقة نغما مختلفا يأخذني إلى فسحة فرح غير مسبوق مع كل جلسة أرى فيها الطاغية ينصت دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه أمام تلك الشهادات العفوية من فلاحين أكراد لم يعرفوا أبدا لغة التفلسف.
حسدت نفسي قائلا:
ـ أنت محظوظ، مادمت تعرضت لكل ما تعرضت إليه وبقيت حيا إلى حين سقوطه والقبض عليه وظهوره في قفص الاتهام على شاشة التلفاز ذليلا يشكو أحيانا من سجانٍ ضربه أو شتمه أو عامله بقسوة.. أنت محظوظ فالكثير من ضحاياه ماتوا قبل أن يروا هذا اليوم!.
يشكو.. ابن الـ... يشكو وهو الذي ربى جيلا من القتلة.. مشهد لا أنساه لما وقعت بين أيديهم آخر مرة عام 1980 لما تعبوا من التعذيب ولم يكن لديهم دليلا عليَّ أخذوني في جلسة لتدوين أقوالي. ولما أجبت المدون عن سؤال محدد يتعلق بالاتجاه السياسي لصديقي ـ عبد الحسين داخل ـ وقلت: لا أعرف أعتقد أنه مستقل، وهو كذلك. قام المدون الذي كنت ألمح خياله من خلال قطعة القماش المغطية عيني على ضوء مصباح منضدة قوي أمامه، التف وصار فوقي وسحق رأسي بحذائه وهو يصرخ:
ـ أحتركـ فهد بقبرو!.
(وفهد هو مؤسس الحزب الشيوعي العراقي).
لا يدري الطاغية حينما يشكو من حارسٍ ضربه مقدار البهجة التي يجلبها قوله لي ولأمثالي ولكل عراقي ذاق نار حكمه.. دعه لا يدري كي تمتد المتعة!.
ـ حسدت نفسي وتذكرت العديد من أصدقائي الحميمين.. ومن أعزهم صديقي الشاعر ـ عزيز السماوي ـ الذي مات قبل السقوط بعام في منفاه اللندني.. أمي التي كَلتْ من الدعاء عليه فقالت لي:
ـ بعد ما أدعي عليه راح أدعي له!. بلكي الله لا يلبي دعواتي!.
تقول ذلك بمرارة وهي تشاهد المزيد من الفظائع. ستفجع بعدي بابن بنتها أختي الكبيرة ـ وداد إبراهيم ـ مدرسة مادة الكيمياء في إعدادية الديوانية للبنات منذ مطلع السبعينيات، لما يأتون بجثة ابنها المشنوق

الشهيد محمد حازم مرتضى، سلمت جثته في صيف 1995

ـ محمد حازم مرتضى ـ مواليد 1973 إلى باب البيت عام 1995 بعد مشاركته في انتفاضة آذار 1991 وبقائه مختفيا في بغداد وكردستان إلى حين القبض عليه وإعدامه. ستموت بعد عام 1996
في جلستي الممتعة على أريكة صباح دنمركي مشرق تمنيتها حيةً لتستمتع معي في مشاهدة الطاغية التي ضيع أبنها ـ كفاح ـ وشردني وقتل ـ محمد ـ ابن بنتها ذليلا يطرد من القاعة لما يبدي عدم أدبه المفطور عليه.
وأبي الذي كان يسخر وهو يسكر كل مساء من السلطة ورئيسها الذي ينعته بالزعطوط ـ تعبير عراقي يطلق على من هو غير ناضج ـ
الثلاثة لم أرهم منذ أن فارقتهم وكانوا يحلمون بمثل هذا اليوم الذي أستمتع به وحيدا.. أستحضرهم بقدرة من درّبَ خيالهُ على لمسِ أحبة ماتوا وكأن اللمس فيزيقياً. أسرُّ لهم بما يجرى.. بمتعتي وأنا أشاهد الطاغية في قفص. يجري كل ذلك في فترة استراحة الجلسة!.
هذا الطقس البهيج وازن مأساة تجربتي وجعلني أول مرة أخرج من ضيق عالم البؤس الذي أعيشه في المنفى.. فمع كل كلمة يشكو بها الطاغية من سوء المعاملة أهب من الأريكة لأرقص طربا. أرقص وأصرخ مبتهجا:
ـ يشكو.. الناقص يشكو!.. ابن العوجة يشكو.. يشكو!.
وأستعيد بلذة لحظة القبض عليه في حفرة بأرياف قصبة ـ الدور ـ حيث قبضوه بلحية كثة ووضع بائس سيظل رمزا لجبن كل حاكم جائر.. أستعيد بلذة حركة يديه وهو يمسح لحيتة الشيباء القذرة رامقا العدسة ومن قبضوه. كنت مع نفسي أحمد الرب أنه لم يقدم على قتل نفسه، فلو فعل ذلك لتحول إلى رمز.. حمدت الرب رغم أن مجريات الأحداث أثبتت أنه جبان لم يستطع إطلاق الرصاصة على رأسه كي يتخلص من كل الذل الذي هو فيه الآن.. جبان.. جبان تحكم بكل شيء وقادنا إلى حروب وخرب النفوس وخلف العراق كومة بؤس وأسلم البلاد ونفسه للأمريكان طالبا الأمان صارخاً لما اكتشفوا الحفرة التي كان يخبأ نفسه فيها كجرذٍ:
ـ أنا صدام حسين رئيس جمهورية العراق!.
أعيش مهرجان صباحي يحفل بكل أنواع البهجة التي أفقدني إياها الطاغية الجالس في قفصه وهو ينصت لأعز أحبة عاشرتهم في عمري فلاحي الكرد الذين كانوا يقدمون لنا الخبز والفراش والمأوى وحنان عوضنا عن حنان العائلة وأحبتنا في مديننا الجنوبية البعيدة.
أقفز من أريكتي لما يكون قول صاحبي ذو الوجه المغضن مكثفا ومفحما، وأصرخ:
ـ يسلم فمك!.
متمنيا لو أحضنه كما حضنني في تلك الأيام المضنية في بيته الفقير وشاركني الخبز والغطاء والمصير.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- العمة الجميلة*
- النص العراقي والناقد
- أنها الحرب
- اختطاف
- كتّاب كانوا سوط الجلاد الثقافي
- بمناسبة المؤتمر الرابع للطائفة المندائية..يا عراق متى تنصف أ ...
- قالت لي: أنا عندي حنين


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب بنيويورك
- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سلام إبراهيم - بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم... الجزء الثاني