|
الإنسان والتاريخ في (حارس المنارة). رواية الأديب فخري أمين
جاسم الفارس
الحوار المتمدن-العدد: 7861 - 2024 / 1 / 19 - 12:26
المحور:
الادب والفن
ا
تسهم الرواية في صنع الحضارة، وتمهد لها. وتصنع الثورة، وتمهد لها. فالروائي خالق عالم جديد، يلتقي فيه الخيال بالواقع، والحلم باليقظة والتاريخ بالحقيقة، وبهذا فالرواية فعل التحرر من قيود الحياة، وفعل إعادة بناء الإنسان على وفق أسس الجمال و الفكر والرؤى الخلاقة. فهي تعطي الإنسان ما لا تعطي له الفلسفة. إنها تكشف عن أعماق النفس الإنسانية بأدوات الجمال، وتحرر الواقع من السكون، وتضيف عبر الخيال عوالم. لفظية جديدة إلى الحياة، وفي إطار تعاملها مع التاريخ، فإنها تكشف عن صيرورة الوجود الإنساني وتحولاته ومعاناته، كما في رواية (الحرب والسلام). رائعة تولستوي و (كوخ العم توم) لهارييت ستاو، التي مهدت لثورة العبيد في أمريكا، وإذا ما دخلت عالم العقل، تسرد مواجهاته الوجودية، تحول تعقيدات الفلسفة والفكر إلى لحظات حب تألف العقل وتستأنس بحضوره الخلاق، ولنا في (حي بن يقضان) خير مثل على ذلك، أما الحب فهو رفيقها الأثير الذي معه تحل مشاكل الحياة الوجودية بحب خلاق. إن السرد بأنواعه كافة. وهو يعالج عناصر الحياة في الحب والعقل والتاريخ، والذات في مسيرتها الحياتية والموت، إنما هو إعادة الصياغة لإرادة الحياة، والانتصار على كل ما يضطهد الإنسان. ويهين العقل والحرية والجمال. في (حارس المنارة) تمكن الروائي فخري أمين من امتلاك هذه الإرادة السردية، من خلال رصد العلاقة بين الحارس والمنارة، الإنسان والتاريخ، وهم البؤرتان المضيئتان في الرواية، إذ يتوحد الإنسان والتاريخ والزمن. في حركة حميمة، ترسم صورة حياة عنيدة تعبر عن مواصلة الحياة ومواجهة قوى الشر. (أنا عامل بسيط. بيتي جوار الجامع الكبير، ليس ملكي. أمضيت سنوات نسيت عددها أحرس منارة تشيخ، أجمع الأحجار المتساقطة منها، وقطع الملاط، وأعيدها إليها في عملية صيانة وترميم مستمرة، تلك مهمة انتقلت إليّ لما مات أبي أنا ابنه الأوحد. هي إرث باق لعائلتنا، ومصدر تشريف وقداسة لها، بيد أني لم أنجب. تزوجت أربع نساء، ولم أنجب. لحكمة ما. لا يعلمها إلا الله. أصاب العقم سلالتنا، وكان ذلك سببا في شقاء وعذاب لا ينتهيان لي ولعائلتي). إنه المدخل الذي يتكثف فيه فضاء الرواية، الحارس والمنارة والتاريخ والعقم، وما ترتب على هذا من نتائج. طغت الرؤية العجائبية على كثير من أحداثها، وهي الميزة الفنية للرواية. يضع تودروف ثلاث شروط للنص العجائبي. 1- أن يحمل النص القارئ على اعتبار الشخصية، كما لو أنها أشخاص أحياء، وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق طبيعي للأحداث المروية. ويندرج هذا الشرط في المظهر اللفظي: الرؤى، باعتبار العجائبي حالة خاصة من المقولة الاعم والتي هي الرؤية الغامضة. 2 - قد يكون هذا التردد محسوسا بالمثل من طرف شخصية ، فيكون دور القارئ مفوضا إليها، ويمكن بذلك أن يكون التردد واحدة من موضوعات الأثر، مما يجعل القارئ - في حالة قراءة ساذجة - يتماهى مع الشخصية، ويندرج هذا الشرط في المظهر التركيبي من جهة وجود نمط شكلي للوحدات، (ردود الفعل) الراجعة إلى حكم الشخصيات على الأحداث وفي المظهر الدلالي من جهة أخرى. حيث نجد الموضوعة الممثلة المتعلقة بالإدراك وتضمينه. أو إيحاءه. أو اقتضاء. 3 - ضرورة اختيار القارئ. لطريقة خاصة في القراءة من بين عدة أشكال ومستويات تعبر أي طريقة نحو موقف نوعي، يقصي التأويلين المجازي والشعري الحرفي غير المرجعي، ويستغرق العجائب ليدخل في أحد الجنسين المجاورين جنس الغريب. إذا قرر القارئ أن قوانين الواقع تظل سليمة وتسمح بتفسير الظواهر الموصوفة، أو جنس العجيب، إذا قرر أنه ينبغي قبول قوانين جديدة للطبيعة، يمكن تفسير الظواهر بها. مدخل الى الادب العجائبي - تزفتيان تودروف- ترجمة الصديق بو علام، تقديم محمد برادة( ص 18/19 ) ا لقد تجلت هذه الشروط في الرواية كثيرا. (زارني ذات ليلة طيف غريب، امرأة من حجر لم أبصر في حياتي جمالا، يضاهي جمالها، ولا سحرا يشبه سحرها، ولا مهابة تقارب مهابتها. لا أعرف كيف وقع في فكري أنها المنارة. تردد في سمعي صوت له نداوة الماء، وصلادة الحجر. أيقنت أنه صوتها. أخبرتني بأن لا أفرط في الحزن لأني باق إلى جوارها ما بقيت منتصبة هنا، بهلالها ورقوشها، وسحر حكاياتها فائضة بالظل والحب والجمال. هتفت مستهولا كيف؟ وحين استيقظت كان قلبي يخفق بقوة، وجسدي كله يرتعش). وعندما يزور الشيخ ابن عربي الجامع الكبير، (يحدث في المدينة أمر عجيب، تتحدث النسوة. بركات عجيبة حلت بمخازن المؤونة في بيوتهن، فما بعد تنقص، الدهن في زيره كان بين أيديهن يفور ويعود إلى مستواه، كلما أخذت منه، وقيل الكثير عن الخفة في إعداد ذلك العشاء، قلن شعرن بأيادي خفية كانت تمتد إلى كل شيء، فيصبح جاهزا وكاملا على أحسن وجه). وعند اقتراب أجل المرأة الصالحة، (بعد غيبوبة دقائق، انفتحت عيونها وأخذت شفتاها بالتحرك متمتمة بصوت خفيض، ثم نهضت بكامل عافيتها. قالت رأيتهن رأيت أنواعا من الملائم أفواج من الملائكة تحلق مثل أسراب من الطيور حول المنارة. أردت اللحاق بهم، لكني أرضية ثقيلة، وبلا أجنحة، توسلت بهم أن يأخذوني معهم. تضرعت إليهم أنا امرأة محترقة بالأشواق خذوني معكم، لكن صوتا قويا غير قابل للوصف. جاءني إن الوقت لم يحن بعد. اذهبي يا بنيتي لتستريحي بعض الوقت على الأرض، وكابدي المزيد من الأشواق، حتى تخف روحك وتنبت لها الأجنحة وتستطيل.) وتستمر هذه المشاهد عبر الرواية، وعلى لسان الحارس الذي يسرد علاقته بالمنارة، لتكشف لنا هذه العلاقة عن الصيرورة التاريخية التي مرت بها المدينة من خلال الأحداث التي شهدها الحارس. والتي تبدأ من لحظة اختياره من قبل (نور الدين زنكي) لبناء الجامع الكبير، ومنارته الشامخة، إلى لحظة هدمها من قبل قوى الشر. المنارة تاريخ يتحول عبر الزمن يعكسه سرد الحارس لمجريات ذلك التاريخ. أثناء جلسته اليومية غير الحذرة، على حافة الطرف الجنوبي لقاعدة المنارة. حين يتحول الهواء أمامه إلى مرآة هائلة في عمقها، تجري أغرب الأحداث، يطل من ارتفاع ذلك المكان على ميراث الزمان، ووقائع الحدثان، إذ يرى قوافل البشر تسير مثل نمل في خطوط متعرجة، ثم في لحظة تبتلعهم الأرض، ثم تقترب الرؤية وتغور في تفاصيل مشاهد أخرى، ويأتي صوت محذرا. إنه الماضي لا يحسن المساس به، إنه الماضي الذي وحد بين طفولة المنارة، وطفولة الحارس الذي انكشف أمامه. ذات ضحى، مشهد صادم. بنأيه وغوره في الأزل، تنبسط أمام الحارس المدينة تتوسطها فجوة هائلة كأنها بقية حادث كوني. تسور الفجوة، نبوءة شيطانية، أي يد تمتد إليها بأذى تشل أي رجل يفكر بإصلاحها في ذات الليلة يموت، ذلك أن حكاية انتشرت بين الناس أن الموصل هبطت من السماء، وهي لحظة في الصعود إليها، وهي محطة في الصعود إليها. وصلة بينها وبين الأرض، ومن هنا جاء اسمها، و نبعت فكرتها، وتأسست حكايتها. كان ذلك قبل خلقها و الحدوث والشهود قبل أن تصير مدينة في باطن علم الله وفي ظاهر علمه، كانت هناك في السماء. قبل ظهورها على الأرض . يرسم الراوي صورة أخرى معاكسة لهذه المدينة، إذ أن هناك حكاية تنص أيضا على ان تلك الفجوة كانت بالأصل سكنا لقوم ملعونين من الجن طردوا في يوم موغل في القدم من ملكوت الله، وفي خرائبها، يقيم آخر من تبقى منهم. إنها مكونات التاريخ التي ستتجلى زمنا بعد آخر، في أفعال ومواقف متناقضة تعكس ما ستؤول إليه المنارة من خلال قرار إلغاء الفجوة والخرائب. لتبدأ مرحلة صراع الأضداد بين سكان المدينة ذوي الدماء الملائكية، وبين سكان الخرائب ذوي الدماء الشيطانية، يشكل الصراع بعدا مهما في الرواية، من خلال المواجهة بين شخصية (المعمار إبراهيم) وبين(الملاء) الموكل بالإشراف على بناء الجامع. فيما يتعلق بمواصلة بناء المنارة، يمثل الملاء النقل باعتماده مسائل دينية في رؤيته للحياة ، يقول الملاء (إنني قمت بأداء صلاة الاستخارة هذه الليلة قبل الخلود إلى النوم، وجاءتني في المنام إشارة فهمت منها أن الوقت صار مناسبا لاستئناف العمل)، بينما كان للمعمار إبراهيم رأي آخر، رأي العقل قال :(إن الإشارة التي يترقبها للبدء بالعمل هي ذوبان الجليد، وليونة الأرض، وهي لا تختلف عن إشارتك المنامية، إنها مسألة أيام لا أكثر) . نقل هذا الكلام، بتقرير جديد إلى السلطان بطريقة خبيثة، الأمر الذي أزعج السلطان من موقف المعمار، وقرر أن الدرج الذي سيحمل إبراهيم إلى أعلى المنارة يوم اكتمال بنائها لن ينزله، قسما غامضا أقض مضجع المدينة، غير أن المعمار تلقاه بهدوء. وثقة بإمكاناته العقلية، التي فاجأت السلطان يوم افتتاح الجامع، فقد أقام المعمار إبراهيم درجا سريا لم يعلن عنه، وحين صعد إبراهيم المعمار إلى المنارة بأمر السلطان وسط حشد من الناس الحزانى على ما سيحل بالمعمار يعتصرهم القلق والخوف والترقب، والمعمار في شرفة المنارة يدور حولها ويحيي السلطان والحشود الصامتة. وحين صعد الجنود المنارة بأمر السلطان لم يجدوا المعمار أي أثر ليظهر مبتسما عند قاعدة المنارة. انحنى محييا السلطان والجمهور. إنها لحظة انتصار العقل والخبرة. طلب من السلطان أن يقترب من القاعدة، حينها قاده المعمار إلى الدرج السري الذي يسير بطريقة معاكسة لدرجة الصعود ولا يلتقي به. قال له (مولاي هذا عملته من أجل قسمك، الدرج الذي استخدمته في الصعود، لم أنزل منه)، إنه انتصار العقل يتألق الخيال في الرواية ليرسم لنا مشاهد تعكس القيمة التاريخية والجمالية للجامع الكبير. ومنارته الشامخة، مثل مشهد حضور الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. فيصف الراوي، حركة المدينة الإستثنائية يوم دخول ابن عربي إليها، وصار اسمه يتردد على كل الألسنة من فم إلى فم، ومن بيت إلى بيت، ومن زقاق إلى زقاق يجري في الأسواق، ويتوقف لدى التكيات ومجالس السماع. والمقاهي. بعض النسوة لم يطقن البقاء في بيوتهن، والشيخ الأكبر يؤم المصلين في الجامع الكبير. كان البعض من غير المسلمين قد حضروا أيضا، .
يفيق الحارس من كابوس ثقيل، رأى فيه منارة في منطقة ما، تعرضت لعاصفة هوجاء، تقترب منها غيمة سوداء شيطانية، وتطلق عليها صاعقة هائلة. بتارة مثل السيف تطيح بالجزء العلوي من المنارة، يفيق مرعوبا من ذلك المشهد الذي اعتصر روحه وهو يتخيل مشهد الطيور المرعوبة تتجه نحو الجبال، تخيلهم بشرا، فقدوا مأواهم، وبكل هذا الخوف الذي كان يعصف به. احتضن منارته. وعجز عن منع نفسه من تقبيل حجارتها، ومنذ ذلك اليوم أصبح تقبيل المنارة حاجة متأصلة في نفسه. إنه التماهي بين الحارس والمنارة، بين الإنسان والتاريخ. فمنارة الجامع الكبير قوية بقوة احتضان محيطيها من الأهالي وعشاقها من العباد الأتقياء، الأنقياء الصالحين. تكمن في الرواية طاقة شعرية تبدو جلية من خلال اللغة التي يصف بها الحارس حبه للمنارة، ووصفه لجمال المكان. (أنصت إلى النسوة، يتحدثن بإعجاب يشبه الذهول من رائحة الجمبد في حديقة الجامع، لكل لون من ورداته عطر مختلف حتى في الشجرة الواحدة، هكذا تبدو عطوره مرتبطة بالألوان، ولكنها تختلط في الهواء مشكلة سحابات من رائحة زكية مجنحة تحلق في الهواء، وتملأ بأثر من نشوتها وسحرها كل مرفق من مرافق الجامع. وتتألق اللغة ثانية في وصف مشهد سيطرة قوى الشر والظلام على المدينة. (كانت صور شوارع الفجر الخاوية، والأرض العراء، واليباب، وحرائق التصفية، والأدخنة، والهباب، والقرية المفرغة من سكانها... الثقوب والعناكب والفئران. العفونة والطحالب تتفاعل مفرداتها مع أبخرة قلق وهلع مثيرة أثارتها كلمات الخليفة المبشرة بالموت والمحو والخراب). اعتمد الكاتب تقنية فنية جميلة باعتماده توالد الأحداث المحيطة بالمنارة، حتى أنها تبدو للقراءة الأولى أنها قصص قائمة بذاتها، في حين هي مشدودة بحبل المنارة، مثل مشهد ظهور المعتوه الغريب وهو يتسلق جسد المنارة، هذا المعتوه المعروف بهدوئه وسكوته الدائمين، وثقل وبطء حركته، لدرجة أن لا أحد لولا مشاكسة الأطفال له يشعر بوجوده، عثروا عليه تحت قاعدة المنارة فجر أحد الأيام. كومة من أسمال متحركة لها هيئة بشر، لا أحد يعرف عنه أي شيء، من أين جاء. كان هذا المعتوه يتسلق المنارة بكفاءة، وعند كل حلقة من حلقاتها السبع، ينزع جزءاً من ملابسه ويرمي بها إلى الناس، وقد شدهم الذهول بما يفعله هذا المعتوه. شكل هذا المقطع مشهدا أسطوريا للوعي الشعبي الذي بدأ يتشكل عن المنارة وحضورها في أذهان الناس. بدأت تحولات الوعي تأخذ شكلا جديدا، ستؤثر في حركة تاريخ المدينة. (ظل أهل المدينة لعقود طوال. يتداولون حكاية المعتوه وصعوده منها إلى السماء، يختلفون في رسم تفسير مقبول، أو تأويل معقول لحقيقة هذا المخلوق). ويتجلى الوعي ذاته في مقطع النسوة اللواتي يأتين من محلات الموصل البعيدة والقريبة إلى الجامع الكبير، (ويسرعن بحملة تنظيف تشمل كل مرافق الجامع، و يتقربن إلى قبور الاربعين الصالحين، ولا أحد يعرف سر تلك القبور. وما يشاع حولها من فانتازيات تتسع لأغلب المفارقات). يرسم المخيال الشعبي صورة للجامع الكبير. ومقبرته ومنارته، من خلال ما تبثه النسوة من تصورات للمكان. المكان مليء بالأصداء، أصداء تبدو كأنها حبيسة في فراغ الجدران، أو تحت الأشجار، وهي ربما تخرج من شق ما في الأرض من تحتها أصوات هائمة في حب الله. مسبحة له، و مرتلة لمجده الأبدي بأنغام ملائكية. بعض النسوة يذهبن أبعد في زعمهن، أنهن يرون حشودا من أرواح رقيقة تسبح في الهواء و أنهن يعتقدن أن تحت هذه الأرض ثمة أسرار مقدسة. لقد عبرت النسوة بسلوكهن وموقفهن من الجامع الذي لم يستجبن لمنعهن من دخوله خوف الغواية، وخشية أن تعود تلك الأرواح الشريرة التي طردت من الجامع. تتوالى هذه المقاطع التي تعكس الطبيعة الاجتماعية والثقافية والعقائدية لسكان المدينة الذين كانوا يربطون بين موت رجل طيب بظاهرة طبيعية كخسوف القمر الذي تحاك حوله الحكايات والأساطير، وازدادت قدسية الحارس الذي أصبح ملاذا آمنا. للمدينة، بمجرد أن يلمس مريضهم، يشفى، هكذا يتصورون، ويتصرفون، صار حديث حديث المجالس، ومحل انشغال الجميع. صار شخصية عامة في نظر معظم سكان المدينة، والبعض ينسب إليه قدرات خارقة. صار سلطة تنافس سلطة الولاة والسلاطين، وصار اسمه الرجل المبارك، ورغم ذلك لم ينج من مواجهة صراع آخر. هذه المرة مع الرجل الذي كان يقوم بأعمال الرقية مقابل ثمن، فقد ترك الناس مراجعته، واكتفوا بالرجل المبارك. أخذ صاحب الرقية القديم يوجه طلقات حقده على الحارس، يبث حوله الإشاعات، يشكك بتاريخه، بأخلاقه، غير أن كل جهوده ومن معه باءت بالفشل، ذلك لأن قوى الخير أسست لقواعد وأخلاق الحب والتسامح والانسجام، ولأن حارس المنارة كان قد أسس علاقة وجودية مع المنارة، انتقلت إلى الناس فصار أي شرخ فيها يحسونه شرخا في اجسادهم، لأن المنارة لم تكن بالنسبة للسكان مجرد بناية من بلاط وحجارة وأجر خاضعة لمعايير هندسية عادية ومعروفة. إنها مخلوق من نفس طينة أجسادهم، من نفس حجارة بيوتهم. من ضياء نهاراتهم، ونجوم وأقمار لياليهم، ومن أثير أحلامهم، ويقظة رؤاهم، فهي تقطن أحلامهم، تعود مرضاهم، تواسيهم في الكوارث، وتمدهم بالقوة والعزيمة في الملمات. كل ما ينشر تقرير جديد عن ازدياد ميلان المنارة وارتفاع درجات خطر الانهيار تأتيهم في منامهم، تزورهم واحدا واحدا لطمأنتهم. إنها نوع غير عادي من الأمهات، تحتضنهم بحنان الجدات، البعيدات، القويات، ومحبة الأسلاف الكبار الأشداء. يتألق الروائي فخري أمين في هذا المقطع الذي يعكس فيه أنسنة المنارة وتوحدها مع الحارس والسكان، لتصبح كيانا حضاريا وجماليا يعبر عن القيمة الوجودية لوحدة الإنسان والتاريخ في صناعة وحدة المجتمع وتماسكه وانسجامه، غير أن هذه الوحدة لم ترق لصانعي الفرقة والحقد وقاتلي الجمال الذين يغزون المدينة، قاصدين رمزه الخالد في وحدة الحارس/ المنارة، أي الإنسان/ التاريخ. تتألق الرواية في نهايتها المأساوية، حين تقرر قوى الظلام قتل الحارس وتدمير المنارة، يقول الحارس (طلبوا مني أن أنحني لينفذ الحكم بقطع الرأس. قلت له لن أنحني... قلت لك، أنحني لينفذ حكم الله فيك. وتموت مسلما. لم أفهم كيف حدث ذلك، فتصورت نفسي في تلك اللحظة المنارة، المنارة لا تنحني لأحد غير خالقها، وحتى لو انحنت قليلا، يظل رأسها مرفوعا، متطلعا في شوق أبدي إلى السماء، قلت له نفذوا حكمكم بهكذا، وأنا واقف، المنارة لا تنحني للجلاد. لم يفهم الجلاد مغزى كلامي، ظن أنني أهذي من الخوف، كان صوتي قويا بصورة أثارت الاستغراب لدي. شعرت أن صوت رجل آخر، أو ربما عدد كبير من الرجال، كان يعلو على صوت الجلاد والقاضي ويصل بوضوح إلى مسامع الأهالي لآخر مرة. أقول لك انحني، لكني لم أفعل. تقدم أحدهم وطعن بطني بسكين كبيرة. إنحنيت لأمسك أمعائي قام الجلاد في تلك اللحظة بضرب عنقي بطريقة خاطفة. شعرت برأسي ينفصل عن جسدي، ورأيت الساحة تموج، وصوت الرصاص يعلو، والألوف يتساقطون. أبصرت بالسماء تنهار بثقلها علي، والشمس تتشظى مثل مصباح وتنهار، والمنارة تنهار، وظلمة حجرية ثقيلة تطمر العالم. لقد أفلح فخري أمين في بناء نص روائي جميل، وعجائبي توحدت فيه اللغة وتركيب الأحداث والدلالة، فتألقت الحبكة السردية، وتحققت كفاءة استبطان نفسية الشخصيات، لاسيما شخصية الحارس و وصف ملامحها بدقة، ومقاربة المكان من خلال الوصفة والانتقال من لحظة تاريخية إلى أخرى... حارس المنارة رواية تسهم في صناعة الحياة.
#جاسم_الفارس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن التنوير والتنويرين
-
وقفةعلى عتبات الظما للشاعر ماجد الحسيني
-
نشوة التحول الحضاري - قراءة في فلسفة داريوش شايغان
-
العراق الذي نستحقه
-
النهضة والثقافة والتاريخ -قراءة في مشروع مالك بن نبي الحضاري
-
قراءة في كتاب (جدلية نهج التنمية البشرية المستدامة ..منابع ا
...
المزيد.....
-
الجزائر.. قضية الفنانة جميلة وسلاح -المادة 87 مكرر-
-
بمشاركة قطرية.. افتتاح منتدى BRICS+ Fashion Summit الدولي لل
...
-
معرض الرياض للكتاب يناقش إشكالات المؤلفين وهمومهم
-
الرئيس الايراني: نأمل ان نشهد تعزيز العلاقات الثقافية والسيا
...
-
-الآداب المرتحلة- في الرباط بمشاركة 40 كاتبا من 16 دولة
-
جوامع الجزائر.. فن معماري وإرث ديني خالد
-
-قيامة ليّام تقترب-.. الصور الأولى من الفيلم السعودي -هوبال-
...
-
الدوحة.. إسدال الستار على ملتقى السرد الخليجي الخامس وتكريم
...
-
فنانون عرب يطلقون مبادرات لدعم اللبنانيين المتضررين من العدو
...
-
عمرو دياب يعلن اعتزال الغناء في الأفراح بعد أشهر من واقعة -ا
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|