|
ميسون شقير تكتبنا في صورة تسند الجدار
كمال جمال بك
شاعر وإعلامي
(Kamal Gamal Beg)
الحوار المتمدن-العدد: 7811 - 2023 / 11 / 30 - 19:48
المحور:
الادب والفن
يا سندي. تسيل بدفق معان على اللسان. قد تقال بوفرة أو قلة، وربّما لغواً أو بامتلاء. لا يحيط بعلمها نهر من الإدراك إلا بفعل يتجاوز المنطوق إلى الأعماق. وحين تفقد حتَّى بريقها اللغوي، تبحث في وحدتك وحواليك عن متكئء إنساني فلا تجد سوى جدار قابل للتداعي، بعدما كان طيناً وفخَّارا مشويَّا كبيت أسرار لكلّ متعب وموجوع.
يا سندي: على مفترق جماليات الألم، وزلزلة الكارثة السورية، وارتدادتها في الموت والانهيارات النفسيّة والعلاقات الاجتماعية والمنفى، تقف الصديقة الشاعرة ميسون شقير نازفةً مجموعتها الشعرية "صورة تسند الجدار"، من قلب شجرة مدماة، وترفعها بخفة أصابع من رماد، وتلقي بها بين أيادينا أجنحةً لها ثقلُ جدارٍ تحجَّر بالذكريات ونوم الموتى والأحلام والحنين والحب والأزهار والدموع. وفي العنوان الصادم: الجدار معرّف كواحد وكثير، وصورة تسند: معروفة للذات، ومتعدّدة في متن المجموعة، وتتلاقى مع صورِ كلّ فاقدٍ في العام. منذ بداياتها الشعرية حين التقيتها منتصف الثمانينات تمشّط ميسون القصيدة وتكثّف ضفائر لغتها، وتمسحها بصور مقطَّرة من ماء الوجدان، وتغنّي لها بصوت رخيم، ثم تذهب رفقتها إلى المدرسة. وحين نلتقيهما، يكشفنا بيانها بأنَّنا نتلو قصائدها بصوتها، كما يسكن فيها حضور الشجن:
"القصيدة أم حين يغرق أولادها الهاربون من الموت تكوي عينيها بالملح وتطعم قلبها لفراخ الأسماك الصغيرة"
وفي خصوصية بذرتها الشعريّة لا يخلو نص من طفلة تمدّ يدها لملامسة القمر، بعينين ناضجتين، وفطنة أمّ خبرت أدوارها في امتصاص إسفنجة الألم، لكأنَّ الحزن هو الحبل السريّ الذي مازال يربطها بالحياة. في العمق الوجودي هنا تتقابل لحظتان تاريخيتان في سرديتين مفترقتين بينهما مذابح مشتركة، روائية قصصية لجان بول سارتر "الجدار" (Le Mur ) عام 1939، وشعرية "صورة تسند الجدار"لميسون شقير 2022. في جداره تناول سارتر في خمس قصص مشكلات اجتماعية ونفسية خلال الحرب الأهلية الإسبانية. ووصف في الأولى ليلة لثلاثة معتقلين ضد الفاشيين في زنزانة. قيل لهم إنهم سيُطلقون الرصاص عليهم في الصباح. فيتمحور الحديث حول مواجهة الموت وجها لوجه وما يخالج المحكوم من مشاعر. وفي "جداريتها" تعلّق ميسون 55 كرتونة ما كان لها في الوقت من رفاهية لرفعها، فوق دمار الحرب في سورية. وتتناوب أمكنتها بين السويداء والشام وإسبانيا، وأزمنتها بين الطفولة محمولةً على الذكريات، وبين الزمن الثوري الأول 2011، وبين زمن الخذلان والخيبات اللاحقة حتى المنفى، وبين زمن القلق المجهول! وإلى هذا الخليط مِن فَقْدِ عصافير فرَّت من هول الفاجعة عند ميسون، يلاحظ بابلو أحد شخصيات سارتر كيف أن مواجهة الموت بالموت يغيّر بشكل جذري الأشياء المألوفة والأشخاص والأصدقاء والغرباء والذكريات والرغبات وموقفه من ذلك وانعكاسه على حياته فيقول: " في تلك اللحظة شعرت أن حياتي كلَّها أمامي، وفكرت، إَّنها كذبة ملعونه" قد يلمح الجدار إلى عدة حواجز: فهو يفصل الحياة عن الموت، ويفصل الأفراد عن بعضهم البعض. ويمنعنا من فهم واضح لما هو الموت. وما بين الجدارين حوار طويل تستلزمه وقفة نقدية مقارنة، لا ندَّعيها في هذه القراءة الأولية لبعض مفاتيح المجموعة. فهنا وهناك، أيّ هناك، مداخل ومخارج وجوانب وزوايا كثيرة. وفي تعدد القراءات غنى. على قاعدة نقدية أن النصوص تتعدَّد بتعدّد متلقّيها.
يا سندي! من يسند من؟ من كان أخا صار صورة باستشهاده، ومن كانت أختاً صارت جداراً تضمّه وساماً؟ من كان أباً وصار مفتاح باب بيت بعيد، ومن علَّقت عينيها على مسمار صورة جدّها، ورحلت، وصار عمرها خمسين دمية مقطوعة الرأس ومازالت تنتظر حكاياته قبل النوم؟ من كانت أمّا تغطيها بغيمة الحلم، ومن صارت أمّا هنا وقلبها هناك في خزانة أمّها زر صغير؟ من يسند الروح وينقذها من خرابها وبلادها بعدما اختبرت كلَّ أشكال القتل والتعذيب والتغييب والتدمير والجوع والنزوح واللجوء والموت داخلاً وخارجاً؟ من يروي عطشها، ويهدهد فقدان توازنها من آثار ما بعد الصدمة والترويع في الإبادة الجماعية؟ بالحب والشعر والأغنية، والشاعرة تبدأ بهم فاتحة الخلاص الفردي بإهداء دلالي مفتاحه (الوحيد) لرفيق عمرها: " إليك أسامة جداري الوحيد" وتغلف الجدار الأخير بأغنية على أمل في الخلاص الجماعي:
" تلك المرأة كل ليلة في المقبرة ليست امرأة مجنونة هي فقط تعرف أن الصغار لا ينامون دون أغاني"
* صورة تسند جدار 120 ص، عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع العراق 2022. * ميسون شقير شاعرة وصيدلانية سورية 1969 مدينة السويداء. لها ثلاثة أعمال شعرية، الأولى مترجمة إلى الفرنسية. ومجموعة قصصية. حصلت على العديد من الجوائز الشعرية.
#كمال_جمال_بك (هاشتاغ)
Kamal_Gamal_Beg#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكبر من قيامة أصغر من كارثة
-
قيامة جسر
-
حشيشُ الحميرِ يمحو طريقَ الحرير!
-
فروة (حتَّى) المثقوبة
-
نعشٌ يطيرُ بلا أجنحة
-
ماري عطر الشّرق
-
جعبة لا رصاص بها
-
بنت الشَّمس الكمأة
-
في مدار الفضول
-
الكوفيات ليست للزينة
-
ما للثريَّا والحروب؟!
-
وجه الخير وبريد ساحة الكرامة
-
الصادق مسيلمة الحافظ
-
ثم عادت مطفأة
-
الحاضرون أمانة
-
أسلاك بَكْرةٍ شائكة
-
العزيز ون الخيّر ون
-
بلاد لضحكة ليلى
-
أطفال عبّاد الشّمس
-
الرحلة المتأخرة
المزيد.....
-
عروض عالمية وقصص إنسانية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي
-
هجرات وأوقاف ونضال مشترك.. تاريخ الجزائريين في بيت المقدس وف
...
-
جينيفر لوبيز تحدثت عن زياتها للسعودية وكواليس دورها بفيلم Un
...
-
من منبر مهرجان مراكش.. الممثل الأميركي شون بن يفتح النار على
...
-
ورد الطائف يُزهر في قائمة التراث العالمي لليونسكو والحناء تل
...
-
معرض العراق الدولي للكتاب يستقطب الشخصيات الثقافية والرسمية
...
-
فايزة أحمد الفنانة الجريئة التي مُنعت أشهر أغنياتها لأكثر من
...
-
صور| إبداع فوق الخشبة: طلبة معهد فنون الكرخ يتألقون في معرض
...
-
دار مزادات ألمانية تعرض لوحة فنية -فارغة- بمليون ونصف دولار!
...
-
-الشتاء في ضواحي موسكو- يقدم مواعيد عروضه الجليدية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|