أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فيصل علوش - السودان .. ‏ أبعاد الأزمة الراهنة وجذورها العميقة















المزيد.....



السودان .. ‏ أبعاد الأزمة الراهنة وجذورها العميقة


فيصل علوش

الحوار المتمدن-العدد: 7746 - 2023 / 9 / 26 - 15:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
‏ «ملف»‏
السودان..‏
أبعاد الأزمة الراهنة وجذورها العميقة
‏ ‏
فيصل علوش
‏■ تمهيد
‏1- ماضي السودان وجذور الأزمة
‏2- الفشل في بناء الدولة الحديثة
‏3- الوضع القبائلي في السودان
‏4- دارفور.. نموذج السودان المصغَر
‏5- الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
‏6- الجيش السوداني: تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها ‏
‏7- «قوات الدعم السريع» .. يافطة جديدة وانتهاكات مستمرة
‏8- تأثير الدور الخارجي
‏9- رفض الحرب والبدائل الممكنة


أيلول(سبتمبر) 2023‏

تمهيد
‏■ حين انتفض الشعب السوداني، ما بين 2018 و2019، ضد حكم الرئيس السابق عمر حسن البشير، ‏كان يتوخى تحقيق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون. لم يكن بحسبانه أبداً الوصول بالبلاد ‏إلى هذه الحرب المدمرة التي نشهدها الآن، والتي ستكون نتائجها كارثية على مختلف الصعد والمستويات ‏الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والانسانية.. الخ. ‏
الجيش السوداني، وهو القوة المهيمنة على الحكم بشكل شبه متواصل منذ استقلال البلاد- 1956، ‏بالتعاضد مع «قوات الدعم السريع»، (وهي ميليشيا تأسست في ظل النظام السابق، لتقوم بمهام خارج نطاق ‏القانون، تشمل القتل والحرق والاغتصاب والسرقة والتهريب بكل أشكاله)، بادرا، كما هو معروف، إلى قطع ‏الطريق على تحقيق هدف الاحتجاجات العارمة، وذلك عبر الانقلاب على نظام البشير - 11/4/2019، ‏بعد أن أيقنوا أنه لم يعد ممكنا الدفاع عنه أمام غضب الشارع، معتبرين أنّ الإطاحة به «تحقيق لطموح ‏المحتجين»!. ‏
‏■ غير أنه لم يطل الوقت ليتبيّن للجميع أن القادة العسكريين، (بجناحيهما؛ الرسمي والميليشيوي)، أرادوا ‏التخلص من رأس السلطة، (أو التضحية به)، كتمهيد لإعادة إنتاج النظام القديم ذاته بحلّة جديدة. على غرار ‏ما جرى في غير بلد عربي، علماً أنّ لجيوش هذه البلدان دورا تاريخياً مشهودا، منذ استقلالها، في «صناعة ‏الرؤساء». ‏
إتفق هؤلاء القادة بداية مع المكون المدني على «وثيقة دستورية»، وتشكيل حكومة مدنية (ترأسها عبدالله ‏حمدوك)، وكذلك «مجلس سيادة» مشترك، كانت رئاسته أولاً لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، لكنّ الأخير ‏سرعان ما افتعل أزمة سياسية مع ائتلاف «الحرية والتغيير»، وبادر مع نائبه محمد حمدان دقلو، الملقب ‏بـ«حميدتي»، إلى الانقلاب في 25/10/2021، على اتفاقهما الموقع مع القوى السياسية، وذلك عندما ‏اقترب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني. ‏
وما بين الاتفاق والانقلاب لم يوفر العسكر فرصة لوضع العصي في عجلات حكومة حمدوك المدنية، ‏واتهامها بالعجز والفشل والتقصير، بل واتهام كافة الأحزاب المدنية بـ«التكالب على السلطة، وعدم الاهتمام ‏بأوضاع الناس المعيشية والحياتية». إضافة إلى اللعب على مختلف التناقضات والهويات والخلافات؛ فجرى ‏تحريض بعض القبائل وفلول النظام القديم وحركته الإسلامية للتحرك ضد الحكومة. كما تمّ الاعتماد على ‏رموز وفصائل لم تلتحق بالثورة أصلاً، للانضمام إلى الميليشيات المناصرة للعسكر. كلّ ذلك بهدف إغراق ‏المكون المدني وحكومته بفوضى الأزمات المتلاحقة، تمهيدا لتقديم الانقلاب بوصفه «المنقذ الوحيد للبلاد». ‏
‏■ لكن وبعد أكثر من عام على انقلابهما (البرهان وحميدتي)، وتحت ضغط الشارع السوداني والعواصم ‏الغربية والاتحاد الأفريقي، تم التوقيع على ما سميّ بـ«الاتفاق الإطاري» بين القيادة العسكرية ومجموعة من ‏القوى السياسية- 5/12/2022، على أمل أن يجري استكماله والتوقيع النهائي عليه في بداية شهر
‏4/2023، بهدف التأسيس لواقع سياسي جديد يقود إلى إكمال مسار الانتقال الديمقراطي. ‏
وقد أثار هذا الاتفاق كثيراً من الجدل داخل الساحة السياسية السودانية، لكن المهمّ فيه أنه تسبّب في اشتداد ‏التوتر بين قادة الجيش وقائد قوات الدعم السريع، ثم أدّت الخلافات الحادة حول الجوانب الفنية الخاصة ‏بورقة «الإصلاح الأمني والعسكري» ودمج قوات الدعم السريع في الجيش، إلى تفجّر الحرب الدموية الشرسة ‏بين الطرفين. ‏
‏■ ما نقل في هذا الصدد، أفاد بأن الاختلاف تمحور حول مسألة مواقيت دمج قوات الدعم السريع وكيفية ‏تشكيل هيئة القيادة، حيث تمسك الجيش بثلاث سنوات كحد أقصى للدمج، في حين طالب الدعم السريع بـ ‏‏10 سنوات، كذلك اقترح الجيش هيئة قيادة مشكلة من 6 مقاعد يحوز فيها على أربعة وتكون الرئاسة له، ‏بينما تنال قوات الدعم السريع مقعدين، أما الأخيرة فاقترحت إضافة مقعد سابع مخصص لرئيس مجلس ‏السيادة المدني القادم، ويكون رئيساً للهيئة.‏
وكانت ورقة قوات الدعم السريع طالبت، في وقت سابق، بضرورة إيراد نص في الدستور ينأى بالمؤسسة ‏العسكرية عن التدخل في السياسة، ووجود رقابة مدنية على المؤسسة العسكرية، وإخضاع ميزانية الدفاع ‏للمراجعة والمساءلة من البرلمان، كما اعتبرت أن ثمة ضرورة لتصفية القوات المسلحة لعناصر النظام ‏السابق وأصحاب الأيديولوجيات. في حين تحدث الجيش عن «إخضاع استثمارات الدعم السريع لإشراف ‏وزارة المالية، ووقف أي تعاقدات خارجية لتزويدها بالسلاح، وأن يتم ذلك عبر الجيش».‏
‏■ ولكن كلّ هذا لا يكفي وحده لفهم وتفسير أسباب اشتعال فتيل الأزمة ونشوب الحرب على هذا النحو ‏الدموي بين الطرفين. كما لا يكفي كذلك الحديث فقط عن «ازدواجية سلطة»، ووجود قوتين مسلّحتين ‏مستقلتين الواحدة عن الأخرى، من منطلق أنّ ذلك لا يمكن أن يكون أكثر من حالة إنتقالية يتحتّم حسمها ‏لصالح أحد الطرفين في نهاية المطاف.‏
كما لا يكفي أيضاً ما تناقله البعض من أنّ معسكر «الصقور» داخل الجيش، الذي يمثله عضو مجلس ‏السيادة الجنرال شمس الدين الكباشي، هو الذي أشعل الحرب بمهاجمة معسكر قوات الدعم السريع من دون ‏علم الجنرال البرهان، (حتى يضعوه أمام الأمر الواقع)، يدعمهم في ذلك أنصار النظام السابق بقيادة علي ‏كرتي وغيره. ‏
فكل الأسباب السابقة هي عناصر إجرائية وإدارية، أشبه بما يطلق عليه بـ«الشرط اللازم وغير الكافي» في ‏الفلسفة. وعلى سبيل المثال، فعندما كان يطالب المحتجون السودانيون بحل قوات الدعم السريع وعودة ‏الجيش إلى ثكناته، لإفساح المجال أمام نشوء حكم مدني، بل ويحذرون من خطورة تنامي دور الدعم السريع ‏على حساب الجيش، كان قادة الأخير، وخصوصاً البرهان، يبثون التطمينات بأن «الدعم السريع» هي جزء ‏من الجيش وتعمل تحت إمرته، وكثيراً ما أكد قائد الجيش، أنّ من ينتظرون صداماً بين الجيش والدعم ‏السريع سينتظرون طويلاً!‏
‏■ والحال، فإنّ الحرب الدائرة الآن في السودان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، التي بدأت في ‏منتصف نيسان(إبريل) 2002، تمثل نموذجاً «متقدّماً» (بمعنى أكثر خطورة) عن الحروب المتكررة التي ‏شهدها هذا البلد واستغرقت الزمن الأطول من عمر دولته الهشة منذ استقلاله - 1956، وحوّلت بمجملها ‏السودان الذي كان يُعدّ «سلة غذاء العرب»، إلى بلد يعتمد على الإعانات والمساعدات الدولية كأحد أفقر ‏بلدان العالم وأكثرها تخلفاَ. فحروب السودان الداخلية لم تعُدْ استمراراً للسياسة بأشكال أخرى فحسب، كما ‏يقول المفكر العسكري البروسي الشهير كلاوزوڤيتز، بل باتت، هي بحد ذاتها، تجسيداً وترجمة فعلية ‏للممارسة السياسية المتصلة بكيفية التعامل مع الآخر في الداخل، وإدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ‏عموما.‏
‏■ وإذا ما قُيّض لهذه الحرب أن تطول أكثر فأكثر، فهي قد تقوّض، وعلى نحو نهائي، أسس ومرتكزات ‏الوجود المادي والمعنوي للدولة السودانية، ككيان سياسي وجغرافيا موحدة، لأنها ستتحول، كما يرجّح ‏المراقبون، إلى حرب أهلية مفتوحة، تنفجر فيها مختلف أشكال العنف القبلي والمناطقي، إستناداً إلى التركيبة ‏الاجتماعية والديموغرافية المعقدة في السودان، وما تنطوي عليه من تنوع إثني وعرقي وديني وثقافي، وتعدد ‏في المعتقدات واللغات والتقاليد، ما أهّل ويؤهل السودان ليكون بيئة خصبة للعنصرية والصراعات القبلية ‏والمجتمعية، في وقت مثلت فيه سياسات التهميش والإقصاء وإشكالية السلطة و توزيع الثروة والموارد، ‏المتراكبة مع ما يوصف بقضية التمييز بين القبائل والإثنيات، وخصوصاً العربية وغير العربية منها، محورا ‏دائماً للتمردات والحروب الأهلية التي شهدها غير إقليم وجهة فيه. ‏
‏■ إنها حرب خاسرة للجميع، باعتراف قادة الطرفين، وقد وصفها الفريق البرهان بأنها «حرب عبثية»، وقال ‏الفريق حميدتي إن الجميع خاسرون فيها، ومع ذلك فإنها تستمر. والمدهش أكثر أن الأنصار الجدد للحرب، ‏ومعظمهم من أنصار النظام القديم، لم يُعرف لهم موقف واحد ضد قوات الدعم السريع طوال السنوات ‏الأربع الماضية؛ أما المجموعات التي تقف ضد الحرب من حيث المبدأ، فهي في معظمها من أنصار ‏الحركة السياسية المدنية التي ظلت ترفع شعار ضرورة حل قوات الدعم السريع وتكوين جيش وطني موحد. ‏والفرق أنهم يرون أن موضوع حل الميليشيات ودمجها يجب أن يتم عبر عملية سياسية واتفاق ملزم، بدلاً من ‏الحرب التي لن يكسبها أي طرف، والجميع فيها خاسرون. [فيصل محمد صالح/ «حرب السودان: من يخسر ‏أكثر؟»/«الشرق الأوسط»: 24/5/2023]■‏

‏(1)‏
ماضي السودان وجذور الأزمة
‏■ عندما غزا البريطانيون السودان - 1899، كانت البلاد تضطرب على وقع «الثورة المهدية» التي قامت ‏لإنهاء استعمار السلطنة العثمانية. وقد ابتدع البريطانيون إتفاقية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، إذ جعلوا ‏‏«السيادة» على السودان مشتركة بينهم وبين الدولة العثمانية، (ممثلة في مصر)، وأطلقوا على هذه الاتفاقية ‏الفريدة إسم «اتفاقية الحكم الثنائي». ‏
وعلى رغم أن هذه الاتفاقية كانت مجرد إجراء دبلوماسي شكلي، لأن بريطانيا كانت تستعمر كلاً من مصر ‏والسودان في آن، إلا أنّ تأثيرها على السودان كان عميقاً ومزدوجاً. فبموجبها أُتبع ملف السودان إلى وزارة ‏الخارجية البريطانية التي أرسلت حكاماً وإداريين إليه من موظفيها ودبلوماسييها، وجلّهم من خريجي جامعاتها ‏الشهيرة، ويتمتعون بخبرات وعلوم واسعة في الإدارة المدنية ومؤسساتها، على عكس المستعمرات البريطانية ‏الأخرى التي كانت تتبع ملفاتها لوزارة «المستعمرات»، التي ترسل حكاماً وإداريين إليها من موظفيها، ويكون ‏أغلبهم من العسكريين المتقاعدين، أو من الذين لا زالوا في الخدمة، أي أن كفاءتهم تكون أقلّ من نظرائهم ‏الذين ترسلهم الخارجية البريطانية.‏
‏■ وبغرض مساعدتهم على إدارة الدولة ومؤسساتها، ساهم حكام وإداريو السودان بقيام طبقة وسطى ذات ‏تأهيل وواسعة نسبياً، وذلك بفضل انشائهم لمؤسسات تعليمية، ومشاريع اقتصادية ناجحة، وخدمات مدنية ‏ومهنية متميزة، إضافة إلى جمعيات أدبية وثقافية عديدة، وحتى تنظيمات نقابية وسياسية متطورة. هذا كلّه ‏شكل «إرثاً تاريخياً مُحبّاً وداعماً لحكم المؤسسات المدنية، ومتدربا على أساليبها..»، وهذا ما يفسّر، في نظر ‏البعض، قيام إحتجاجات وعصيانات مدنية لاستعادة السلطة من أيدي العسكر، بعد كلّ انقلاب حصل في ‏السودان. فقد تمكن السودانيون من إطاحة الجنرال إبراهيم عبود- 1964، وانهاء حكم الجنرال جعفر ‏النميري- 1985، وكذلك حكم الجنرال عمر حسن البشير- 2019، ويُعدّ هذا دليلًا على رغبتهم في إرساء ‏الديمقراطية، حتى وإن تعذر نجاحهم وتمكنّهم من ذلك.‏
‏■ ولكن، إلى ذلك، فقد ركّز هؤلاء الحكام جلّ اهتمامهم على المدن والمناطق الحضرية، وأهملوا بقية ‏المناطق، وخصوصاً الأقاليم البعيدة، التي ظلت تعيش في مجتمعات بدائية تقليدية، خارج دائرة تأثير ‏الاقتصاد النقدي الحديث ومخرجات الرأسمالية الناشئة، وبقيت ثقافتها تغلب عليها التعاليم الدينية السلفية، ‏والعادات والتقاليد المتوارثة. ويعزو كثيرٌ من المؤرخين مشاكل وأزمات السودان اللاحقة إلى هذا الواقع، لأنه ‏مع مرّ السنين، بدأ أبناء تلك المناطق والمجتمعات المهمشة يشعرون بالفارق الكبير بينهم وبين أبناء ‏العاصمة والمدن الكبيرة القريبة منها. وللحصول على بعض النفوذ، أو الوصول إلى السلطة، فقد وجدوا ‏ضالتهم في الانضمام إلى الجيش، أو التمرد وتشكيل حركات مسلحة تطالب بالمساواة بين جهات وأقاليم ‏السودان المختلفة. [محمد أبو حسبو/ «السودانيون أسقطوا بثورات شعبية كل حكوماتهم العسكرية»/ «الشرق ‏الأوسط»: 4/5/2019].‏
‏■ وقد استمر الحال على هذا المنوال بعد استقلال السودان. إذ أن النخب، (وكانت في معظمها من ‏الجيش)، التي سيطرت على مقاليد الحكم في هذا البلد، وبالتالي على السلطة والثروة فيه، كانت على العموم ‏من المركز (الوسط والشمال)، ومن المنتمين للثقافة العربية الإسلامية. وقد سخّرت هذه النخب ثروات وموارد ‏البلد وإمكاناته الاقتصادية والمادية لخدمة مصالحها، متجاهلةً، مثلها مثل المستعمر البريطاني، متطلبات ‏التنمية الاقتصادية والبشرية والسياسية الشاملة بين ولايات وجهات السودان المتعددة، فاستمرّ تهميش ‏الأطراف، بل وزادت عليه تبنّيها لخطاب تفوق عنصري زائف ضد المكونات السودانية من ذوي الأصول ‏الإفريقية والانتماء الديني غير الإسلامي، وأغلبها يتواجد في «المناطق والأقاليم المهمشة»؛ الجنوب ودارفور ‏وكردفان والنيل الأزرق والبحر الأحمر. ‏
وجرّاء ذلك، حصل تمرد هذه الأطراف والمناطق المهمّشة مُطالبةً بالاقتسام العادل للسلطة والثروة، وهو ما ‏واجهته حكومات الخرطوم عسكريا، وترتب عليه دخولها في حروب أهلية طويلة ومدمرة أسفرت عن تفتيت ‏وحدة السودان الجغرافية؛ واستنزاف الدولة والمجتمع وتعميم الفقر وتدني معدلات التنمية وغياب الاستقرار، ‏هذا فضلاً عن الانتهاكات والفظائع وجرائم الإبادة والتصفية العرقية التي ارتكبت، وخصوصاً في دارفور، ‏التي تبقى الأوضاع فيها مرشحة، في أي لحظة، للاشتعال والانفجار مجددا، كما في كردفان والنيل الأزرق ‏والنوبة. [عمرو حمزاوي/ «عن السودان وأوجاعه»/ «القدس العربي»: 18/4/2023].‏
‏■ ومع حفظ الفارق تبعاً لكل مرحلة تاريخية وملابساتها، فإنّ الحرب الحالية تمثل، في أحد وجوهها، صراعاً ‏بين قوى المركز ممثلة في الجيش السوداني وقائده البرهان، وبين قوى الأطراف المهمّشة ممثلة في قوات ‏الدعم السريع بقيادة حميدتي، على رغم انتمائه العرقي إلى قبائل عربية، ولكن من خارج المركز (دارفور). ‏لكنه يحاول الآن تقديم قواته كـ«مدافع عن مصالح السودانيين المهمّشين»، على رغم تورطها السابق ‏‏(كجنجويد) في الانتهاكات والفظائع التي ارتكبت في حرب دارفور، لصالح المركز (نظام البشير). ولعلّ هذا ‏ما يفسر تحالف بعض فاعليات المركز؛ القبلية والمجتمعية والسياسية في الخرطوم مع قيادة الجيش، في ‏مقابل تحالف بعض فاعليات الأطراف؛ ومن بينها قوى مدرجة في تحالف «الحرية والتغيير»، المُطالب منذ ‏‏2019 بالانتقال الديمقراطي، مع حميدتي وقواته.‏
وقبل ذلك، فإنّ هذه الحرب تمثل نتيجة شبه حتمية، وكارثية، لإخفاق النخب والسلطات المتعاقبة في الخرطوم ‏بالتعامل مع الدولة وتنوعها الإثني والثقافي، وذلك حين كرّست كياناً تتنازعه هويات منقسمة على ذاتها، ‏وأزمات مركبة رافقت نشوءه وتطوره، فبدل أن تكون مهمة الدولة حماية مواطنيها ورعاية حقوقهم كافة، تحولت ‏ههنا إلى «قوة سياسية واجتماعية» تتبنّى خطاباً عنصريا وعرقيا، بشكل صريح أو ضمني، على نحو ينشر ‏مناخاً مشحوناً ومتوتراً يصبح أشبه بقنبلة قابلة للانفجار في أيّ وقت.‏
‏■ وهكذا كانت تنفجر الحروب في السودان بين فترة وأخرى، وكانت أطولها وأكثرها تأثيراً حرب الجنوب التي ‏امتدت على مرحلتين؛ من 1955 إلى 1972، ومن 1983 إلى 2005 (39 عاماً)، وانتهت بالتوقيع على ‏اتفاق سلام عام 2005، قاد فيما بعد إلى تقسيم السودان وتكوين الجنوب لدولته المستقلة- 2011، وكان ‏هذا من أكبر الأثمان التي دفعها السودان جراء هذه الحروب. ‏
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن الرئيس نميري سنّ عام 1983، قوانين أيلول(سبتمبر) «المستمدة من ‏الشريعة الإسلامية». وتسببت هذه القوانين، بعصيان الأوامر العسكرية من قبل قوة تابعة للجيش في الجنوب، ‏فأرسل نميري الضابط جون قرنق لتأديبها، لكنّ الأخير إنضم إليها وقادها مؤسسا «الحركة الشعبية لتحرير ‏السودان». ولم يكتف قرنق بالعمل المسلح فقط، إنما عمل كذلك، إلى جانب سِلڤاكير ميارديت، الضابط ‏السابق في الجيش السوداني أيضاً قبل تمرده، على بناء منظومة سياسية لكسب الرأي العام في داخل ‏السودان وخارجه، وخاصة بعد إعلان نظام البشير «الجهاد في جنوب السودان»، عبر قوات الدفاع الشعبي ‏التي انتظم فيها آلاف الإسلاميين المتشددين. ‏
‏■ وقد تفرّعت عن هذه الحرب حرب أخرى خاضتها «الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال»، ‏‏(بقيادة عبد العزيز الحلو ومالك عقار)، في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودامت قرابة 9 سنوات، وانتهت ‏بتوقيع إتفاقية جزئية مع عقار في شهر 10/2020، فيما بقي الحلو مناوئاً للخرطوم، ومتمترساً في مناطقه ‏التي يصفها بـ«المحرّرة» حتى الآن. [عيدروس عبد العزيز/ «السودان.. سيناريوهات الحرب الخامسة... ماذا ‏تخبيء وراءها؟»/ «الشرق الأوسط»: 17/4/2023].‏
وقبل أن تنتهي حرب الجنوب، إندلعت حرب شرسة أخرى في دارفور - 2003 إلى 2010، بين الجيش ‏السوداني وحركات مسلحة في الإقليم، تسببت هي الأخرى في قتل وتشريد ملايين إضافية من السكان. ‏وخلال هذه الحرب ظهرت ميليشيا «الجنجويد» سيئة السمعة والصيت، التي أصبحت فيما بعد «قوات الدعم ‏السريع»، وباتت قوة موازية للجيش السوداني، وأضيفت إلى مهامها مهام أخرى شملت الحد من الهجرة غير ‏الشرعية، والانتشار على حدود السودان مع ليبيا وإفريقيا الوسطى وتشاد. ‏
وعلى رغم توقيع معظم الجماعات المسلحة في دارفور على اتفاقيات سلام مع نظام البشير والحكومة ‏الانتقالية، إلا أنّ الوضع الأمني في الإقليم سرعان ما انفجر وعاد للاضطراب مجدّداً في الحرب الأخيرة. ‏وإذا كانت الحروب السابقة انطلقت من الأطراف السودانية المهمّشة، فإن الحرب الجديدة اشتعلت في مركز ‏الدولة وعاصمتها، (الخرطوم)، إضافة إلى مدن شمالية أخرى كانت بعيدة عموماً عن نيران الحروب السابقة، ‏ولذلك، يُرجّح المهتمون أن تكون الأخطر على السودان وعلى سلامة أراضيه ومجتمعه، وخصوصاً أنّ كرتها ‏ما زالت تتدحرج غرباً وشرقاً ويميناً وشمالاً، وستكون لها، بالتالي، تداعيات جسيمة على المدنيين والبنية ‏التحتية وعلى مستقبل السودان ودولته عموماً. [عيدروس عبد العزيز/ المصدر السابق]■‏
‏(2)‏
الفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة
‏■ يشكل الوضع في السودان، كمجتمع متخلف ومتعدد إثنياً وثقافياً وديموغرافياً، (وما أفرزه ذلك من ‏منازعات حول هوية الدولة، وتالياً من حروب متناسلة)، نموذجاً للفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة في ‏العالم العربي. فإذا كانت الدولة التي انبثقت بعد معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر، قد قامت أصلاً ‏للحد من الحروب الدموية المدمرة التي شهدتها أوروبا على خلفية دينية (مذهبية) وبطموحات جيوسياسية ‏خلال حرب الثلاثين عاماً - 1618 إلى 1648، فإنها عندنا، (في ظل تشوهاتها البنيوية المتصلة بسياق ‏نشأتها وتكوينها وطبيعة القوى التي اضطلعت بإدارتها)، كانت في كثير من الحالات مصدراً ومنطلقاً لحروب ‏أهلية لا تنتهي. ‏
أحد أهم المقومات التي تبرّر به الدولة نفسها وتحوز من خلاله على شرعيتها الدستورية والسيادية، هو حكم ‏القانون الذي تنفذه عبر أجهزتها وسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، في سياقٍ من الفصل بينها، ولكن ‏في السودان، شأنه شأن العديد من دول العالم العربي والإفريقي، كثيراً ما تعاملت الجماعات المهيمنة على ‏كيان الدولة كغنيمة تمّ الظفر بها بالقوة والغلبة. وعندما تكون الدولة، بما توفره من امتيازات ومكاسب وفرص ‏للنهب، غنيمة (أو إحتكارا)، تصبح دولة متنازعاً عليها بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وساحة ‏لحروب؛ كامنة أو مستعرة، تحول بينها وبين إمكان تحققها كدولة مواطنة ومساواة بين الجميع. [ناصر السيد ‏النور/ «السودان: الحرب والدولة» / «القدس العربي»: 23/6/2023]. ‏
‏■ ويتم تداول فكرة تحطيم «دولة ما بعد الاستقلال السياسي»، (التي تعرف بدولة 1956)، بشكل واسع في ‏السودان، لأن الدولة الموروثة عن الاستعمار بقيت هي هي، لم يطرأ عليها أيّ تغيير جوهري، وظلت النخب ‏السياسية المتعاقبة تتوارث هذه الدولة بعجرها وبجرها، مكتفية بما تحصل عليه من امتيازات ومكاسب على ‏مختلف الصعد والمستويات. وهكذا استمرّت قضية الهامش الفقير والمعزول والمركز الميسور المسيطر، ‏وبقيت معها فكرة «التخلص من دولة 56» مهيمنة على تفكير وبرامج الحركات الثورية والجهوية والإقليمية، ‏التي ولدت وبرزت على خلفية الشعور بـ«المظلومية» التاريخية والجهوية في هذه المناطق. ‏
وبهدف تبرير حربه مع الجيش باعتباره من «فلول» النظام المعزول، وأداة من أدوات الدولة الموروثة من ‏الاستعمار - التي يجب تحطيمها - فقد التقط قائد قوات الدعم السريع، (حميدتي)، هذه الفكرة من الأدبيات ‏السياسية السودانية، وحمّلها على مسألة الانتقال المدني الديمقراطي وإعادة تأسيس دولة ما بعد 1956 ‏والصراع الدائر حولها الآن. [أحمد يونس/ «هل تحطم حرب الجنرالين السودانيين دولة ما بعد الاستقلال»؟/ ‏‏«الشرق الأوسط»: 9/7/2023]. ‏
‏■ وتبعاً لذلك، فإنّ اندلاع الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، مثّل صدمة في العقل الجمعي ‏العام، ووضع الخطاب السياسي السوداني (الرسمي) أمام معضلة تاريخية محرجة، بعد أن أخلّت الحرب ‏الدائرة بمعادلات السياسة والاجتماع المعهودة. فالصراعات التاريخية بين الهامش والمركز كانت حاضناتها ‏الاجتماعية تعود الى مكونات مختلفة ومغايرة لمكونات الدولة المركزية. بينما ترفع الآن مجموعات الدعم ‏السريع الشعارات ذاتها التي رفعتها قوى قاتلتها في السابق!. ولأول مرة يكون (الجنجويد العرب) هم في خانة ‏من تصفهم الدولة (الجيش) بالتمرد أو الدخلاء، وهم قادة من يوصفون عادة بـ«محاولة التمرد العنصرية»، ‏وهو الوصف الذي ترسخ في التعبير السياسي العام، مع ما يستبطنه من أحقاد وضغائن تاريخية. ‏
‏■ ربما غاب عن التفكير المركزي الرسمي وخطاب السلطة الأيديولوجي هو أنّ المكونات العربية نفسها ‏عانت من تهميش مزدوج، كما يسميه باحثون، بين تهميش الهامش والمركز في آن معاً. [ناصر السيد النور/ ‏‏«حرب الجِنجْويِّد والصدمة العِرقيَّة»/ «القدس العربي»: 7/7/2023].‏
والحال، فالنتيجة المرجّحة لوجود وتفاعل جميع هذه العناصر مع بعضها بعضاً، هو إطالة أمد الحرب ‏الدائرة ووضع السودان على حافة مخاطر جسيمة مدمرة، أهمها خطر انهيار الدولة نهائياً، وما سيترتب على ‏ذلك من فوضى وتفكك داخل السودان، وفي جواره الإقليمي كذلك، (بسبب التداخل القبلي وتشابك المصالح ‏الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية بين مختلف الأطراف الفاعلة)، هذا فضلاً عن القضاء حتما على ‏كل فرص التغيير السياسي السلمي والديمقراطي في السودان■ ‏
‏(3)‏
الوضع القبائلي في السودان
‏■ السودان بلد كبير في مساحته (مليون و 882 ألف كم2)، وغنيّ في ثرواته وموارده، كما في تعدّده الإثني ‏والثقافي. يبلغ عدد سكانه أكثر من 45 مليون نسمة، وعدد قبائله قرابة الـ 570 قبيلة، تنقسم إلى 57 ‏مجموعة عرقية وأثنية تتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة. ‏
في ظلّ عدم رغبته الدخول في احتكاكات مع المجتمع السوداني، وتقليل تكاليف إستعماره الإدارية والمالية، ‏لجأ المستعمر البريطاني إلى استخدام القبائل في تثبيت أركان حكمه، وذلك عبر إتباع نظام لا مركزي في ‏إدارة السودان، (أطلق عليه الإدارات الأهلية)، لعب فيه زعماء ووجهاء القبائل دورا كبيرا في فرض الأمن. ‏وكانت هذه الإدارات بمثابة صمام أمان بين الحكام الإنجليز والأهالي، وذلك من خلال تكليفها بالإشراف ‏على القضاء الأهلي (مثل فضّ منازعات الأفراد والأُسر عبر العُرف، جمع الضرائب والجبايات، وتمويل ‏جهاز الحكم). وفي مقابل ذلك، إعترف المستعمر بزعماء القبائل كسلطة محلية، ومنحهم ألقاباً، ووفّر لهم ‏إمتيازات خاصة وإمكانات لبسط سلطتهم ونفوذهم.‏
‏■ شكل إلغاء الإدارة الأهلية في عهد جعفر النميري، سببا من أسباب الصراع في الأطراف والأقاليم، لأنه ‏حرم زعماء وشيوخ القبائل من كثير من الامتيازات السابقة، ومنها مساحات مهمة من الأراضي كان نظام ‏الملكية وحيازة الأرض وفق التقاليد القبلية، يفسح في المجال أمام رجالات السلطة ومشايخ القبائل السيطرة ‏عليها. كما أدّى ظهور الجفاف والمجاعة إلى بروز أسباب إضافية للنزاعات حول الموارد المحدودة. وزاد ‏امتعاض بعض قبائل دارفور- 1994، عندما أعيد تنظيم إقليم دارفور إداريا، وتم خلاله تخصيص مناصب ‏عديدة لأفراد من المجموعات العربية في السلطة الجديدة، وهو ما عدّته قبائل المساليت والفور بمثابة تجاهل ‏أو تغييب لدورها التاريخي في الإقليم.‏
يضاف إلى ذلك، لجوء السلطات في الخرطوم إلى تسليح القبائل في مناطق دارفور وكردفان، المتاخمة ‏لجنوب السودان، وذلك بهدف ظاهري معلن هو «حماية مواشيهم»، في حين أنّ الهدف الحقيقي لذلك كان ‏تعبئة تلك القبائل، للاصطفاف إلى جانب الجيش في محاربة «الحركة الشعبية لتحرير السودان». ‏
‏■ وصل الاستخدام السياسي للقبائل ذروته في حقبة الرئيس عمر البشير، حيث ضغط عليها لمبايعة نظامه ‏ودعمه ومساندته. وقد ساهم تقليص مساحات العمل المدني والسياسي في عهده، في توسّع انتشار الفكر ‏القَبَلي الذي كان لا يزال يسيطر، أصلاً، على عقلية السودانيين بصورة كبيرة. يجدر بالذكر أنّ بعض القوى ‏السياسية التقليدية تعتمد بصورة كبيرة على النفوذ القَبَلي، (مثل حزب الأمة القومي)، الذي يعتبر أنّ مناطق ‏كثيرة في دارفور وكردفان والنيل الأبيض بمثابة دوائر إنتخابية مغلقة لصالحه. [يوسف بشير/ «قبائل ‏السودان.. الظل الذي يتحرك مع كل سلطة»/ «نون بوست»: 2/6/2023].‏
وقد طوّر البشير هذه السياسة في دارفور، حيث وزّع السلاح على القبائل العربية (الرزيقات والمسيرية)، ‏ليقاتلوا بالوكالة عنه الحركات المسلحة التي ينحدر معظم مقاتليها من القبائل الأفريقية. وفي المقابل، لجأ ‏بعض قادة الحركات المسلحة إلى النهج ذاته عبر تسليح قبائل غير عربية، وتشكيل ميليشيات لاستهداف ‏القبائل العربية أو سواها.‏
ومع مرور الوقت، أصبحت العناصر المسلحة في القبائل ترى الحرب نشاطًا معتاداً ونمط حياة طبيعيا، ‏بسبب الإيرادات الكبيرة التي توفّرها لهم من جهة، إلى جانب المكانة الاجتماعية التي باتوا يحظون بها في ‏المجتمع المحلي، من جهة ثانية. وبعد سقوط البشير، سعى قادة الجيش، إضافة إلى قادة الميليشيات ‏الموازية، مثل حميدتي، إلى حشد القبائل لصالحهم، وقدّموا لزعمائها الأموال والسيارات، على الضد من ‏الاصطفاف السياسي الذي يُنادي بمدنية الدولة. ‏
‏■ وفي إطار توظيف القبائل لخدمة أهداف سياسية، يورد يوسف بشير كيف عمد قادة العسكر - ‏أيلول(سبتمبر) 2021، إلى تحريض زعيم قبيلة الهدندوة، محمد الأمين ترك، على فرض حظر على شرق ‏السودان وإغلاق الطرق البرّية التي تربطه بالعاصمة الخرطوم، وإغلاق موانيء البلاد على ساحل البحر ‏الأحمر، إضافة إلى تنظيم اعتصام في محيط القصر الرئاسي شاركت فيه مجموعات باسم قبائلها، وذلك ‏لإظهار حالة من الفلتان الأمني، وتحميل حكومة عبدالله حمدوك مسؤولية ذلك، تمهيداً لانقلابهم العسكري ‏الذي نُفّذ بعد شهر واحد فقط - 25 /10/2021. [يوسف بشير/ المصدر السابق].‏
وفي الحرب الدائرة الآن، دعا زعماء قبائل عربية في جنوب دارفور، وعاصمته نيالا، أتباعهم للانضمام ‏لقوات الدعم السريع وترك الجيش، علماً أن القبائل العربية تشكل غالبية السكان في جنوب وشرق دارفور، ‏كما ينتمي الكثير من ضباط الجيش إلى قبيلة الرزيقات، وهي قبيلة دقلو. وقد يلجأ الجيش رداً على ذلك، ‏إلى تسليح القبائل الأخرى (المناوئة) لتخوض حرباً بالوكالة عنه. [«القبائل العربية في دار فور قد تغيّر ‏الموازين في حرب السودان»/ «القدس العربي»: 6/7/2023]■‏
‏(4)‏
دارفور.. نموذج السودان المصغر
‏■ يعدّ إقليم دارفور نموذجاً مصغّراً عن دولة السودان؛ مساحته كبيرة تبلغ أكثر من 510 آلاف كم2، يتمتع ‏بتركيبة متنوعة عرقياً واجتماعياً وقبلياً، وهذا ما أدّى إلى سلسلة من الصراعات القبلية القديمة والمتجددة فيه ‏منذ أيام سلطنة الفور الإسلامية، التي سبق وخضع الإقليم لحكمها- 1650 إلى 1874. ووقع بعدها تحت ‏حكم السلطنة العثمانية لسنوات ليست طويلة، ثم أصبح بعدها ميدانا لنزاعات قبلية وصراعات إقليمية شبه ‏دائمة.‏
وكان الصراع ينشب فيه عادة على مناطق الكلأ والماء بين القبائل الرعوية، ومعظمها من العرب، والقبائل ‏المستقرة التي تعمل في الزراعة، ومعظمها من القبائل الإفريقية. وتزيد من حدّة هذا الصراع الظروف ‏المناخية المتقلبة وموجات الجفاف والتصحّر التي تجتاح البلاد بين آونة وأخرى، وتجبر الرُعاة على الهجرة ‏إلى المناطق الأكثر خصوبة، التي يتوفر فيها العشب والماء. ‏
ولأنها منطقة بعيدة عن الخرطوم، فقد تعرّضت دارفور للإهمال والتهميش تاريخياً، وما زاد الأمر سوءاً عدم ‏وجود طرق حديثة ووسائل مواصلات سهلة وسريعة بين الإقليم ووسط السودان. فعند خضوع السودان للحكم ‏الثنائي أقامت لندن خطوط سكك حديدية فيه، ولكن الخط المتّجه غرباً تم وقفه عند مدينة الأُبيّض حاضرة ‏شمال كردفان، لكي يأتي بالصمغ العربي اللازم للصناعة البريطانية، ولم يصل إلى الفاشر عاصمة شمال ‏دارفور. [اسماعيل مصطفى عثمان/ «دارفور ماضي حاضر مستقبل»/، دار الأصالة للنشر والتوزيع ‏الإعلامي، القاهرة ، 2006، ص 67].‏
‏ ■ بعد الاستقلال، استمرّت معاناة الإقليم واستمرّ افتقاده لغياب المشروعات الاستثمارية؛ سواءً الزراعية أو ‏الصناعية أو الحيوانية. كما افتقد لوجود خدمات تعليمية وصحيّة واجتماعية. وكانت دارفور أقل مديريات ‏السودان نصيبا في عدد الطلاب أو في عدد المدارس. وحتى تسعينيات ق 20 لم يكن في دارفور مدرسة ‏أهلية واحدة.‏
وبالنظر إلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بينه وبين الشمال، واتباع سياسة التهميش وغياب التنمية ‏والتوزيع غير العادل للثروة، إضافة إلى سياسات القمع ومصادرة الحريات ورفض إشراك الأطراف المهمشة ‏في السلطة، تحول الإقليم وسكانه إلى مركز للعمالة من جهة، والتجنيد في الجيش السوداني من جهة ثانية، ‏ووقود للصراعات والحروب الأهلية عموماً. وعندما تفجّر الصراع فيه وجد العديد من شبابه؛ غير المتعلمين ‏والعاطلين عن العمل، أن الانخراط في التمرّد ضدّ الدولة، أو في الميليشيا التي تقاتل إلى جانب الجيش، ‏يشكّل حلاّ لمعاناتهم.‏
‏■ في حرب عام 2003، تحولت السلطة في الخرطوم إلى طرف في النزاع الدائر، وذلك بعد أن قامت ‏الميليشيات المسلحة لقبائل المساليت والفور والزغاوة المنخرطة في «جيش تحرير السودان» و«حركة العدل ‏والمساواة» بالاستيلاء على مناطق كبيرة من المدن الثلاث الكبرى في الإقليم (الفاشر وجنينة ونيالا)، واحتلت ‏مطار الفاشر. وإتهمت جماعات المتمردين الحكومة بمعاداتها والوقوف بقوة لصالح القبائل العربية، وفي ‏المقابل، إتهمت الحكومة المتمردين بالاستعانة بالقوى الخارجية والأجنبية. ‏
وأسفرت الهجمات والانتهاكات المنهجية للقوات السودانية عن تشريد حوالي مليوني شخص حتى بداية ‏‏2005، وقدّر عدد القرى التي تم تدميرها كليا وجزئيا بحدود 700 قرية، أما عدد سكان دارفور المتضررين ‏من هذا الاقتتال فقدر بحدود 3,5 مليون شخص، أي نحو نصف عدد سكان الإقليم. وقد اتهمت سلطة ‏البشير بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية ما أدى إلى نزوح السكان وتهجيرهم.‏
‏■ خلال النزاع لجأت حكومة البشير إلى تشكيل قوات «الجنجويد»، (وهو الوصف الذي أطلق على ‏المقاتلين الذين ينتمون إلى قبائل عربية). ولقي تشكيل هذه الميليشيا، للقتال إلى جانب الجيش أو بالنيابة ‏عنه، قبولاً مجتمعيا واسعا على أسس عنصرية محضة، قوامها الشكل واللغة في ظلّ النموذج المعياري ‏المتخيل للشخصية السودانية العربية، وذلك في بلد تتفشّى فيه الانتماءات القبلية، وتهيمن على أجهزة الدولة ‏فيه مجموعات عرقية محددة، حوَّلت الدولة المشوّهة إلى أداة للتمييز والاحتكار والنبذ والاستعلاء العرقي. ‏
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية الرئيسية لقوات الدعم السريع، كما يتحدر كثير من عناصر الجيش ‏العاديين (قوات المشاة) منها. ومنذ اندلاع الصراع الجاري عادت الحرب إلى الإقليم بنسخة أشد فتكاً، حيث ‏تشهد مدنه الكبرى مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في العاصمة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ ‏الدعم السريع باتت ترتدي الآن حلة جديدة وتضع على عاتقها مهمة جديدة أيضاً، فهي تقدم الآن خطاباً ‏سياسياً يتقاطع مع خطاب حركات المناطق المهمشة منذ خمسينيات ق 20، وبالتالي مع عذابات ومظلومية ‏الإقليم. [ناصر السيد النور/ «دارفور: من الحرب وإلى الحرب»/ «القدس العربي»: 12/8/2023].‏
‏■ إتخذت الحركات المسلحة في الإقليم موقفاً محايداً من الصراع الدائر. وثمة من يتحدث عن إخفاق ‏الجيش في الحصول على دعمها، علماً أنّ قسماً منها تعدّ حليفاً له، واكتسبت شرعية تواجدها في الإقليم ‏وفي الخرطوم من اتفاقية جوبا للسلام التي وقعتها معه ومع حميدتي. وقد صبّ موقف تلك الحركات لصالح ‏حميدتي، وخصوصاً أنّ بعض القبائل العربية أخذت تعلن ولاءها لقواته، من بينها الرزيقات والمسيرية ‏والفلاتة، بما يمكنها من توسيع نطاق حاضنتها السياسية والعسكرية والاجتماعية. ‏
ومثل هذا الأمر سيمنح قوات الدعم السريع ورقة مهمة تمكنها من التفاوض من موقع قوة؛ إما لتشكيل ‏حكومة مدنية تراعي التمثيل الحقيقي لدارفور، أو انتزاعها للإقليم وعزله عن المركز، وإقامة دولة بديلة إذا ‏عجزت عن تحقيق أهدافها من هذه الحرب. ‏
وقد انتقدت تلك الحركات تصريحات أحد ضباط الجيش، التي استنكر فيها موقف الحياد الذي اتخذته تجاه ‏الحرب الدائرة، مشددةً على «التزامها الحياد ولو كرهها دعاة الحرب وميليشياتهم». وقالت في بيان -‏‏27/7/2023، إن «الحرب الدائرة الآن هي بين شركاء السلطة، مشيرة الى أن المجموعتين اللتين تتقاتلان ‏الآن عرقلتا تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية منذ توقيع وثيقة السلام.‏
وزادت أن «الحركات المسلحة لها قضية وطنية تهدف إلى بناء دولة تسع وتحترم الجميع، وترفع شأن وكرامة ‏الإنسان السوداني». ولفتت إلى أن «خطاب التشكيك بالوطنية وانتقاص سودانية الآخر المختلف ليس ‏جديداً، وإنما هو ضمن الخطابات التي تفكك لحمة ووحدة السودانيين، وتمزّق نسيجهم الاجتماعي، وتخلق ‏هوة بين أقاليمها والوصول بالبلاد والعباد الى حالة الفوضى وحرب الكل ضد الكل فيما يظل ورثة السلطة ‏يستمتعون بالمشاهدة». [محمد الأقرع/ «حميدتي: السلام لن يحدث ما لم يسلّم البرهان ومن معه أنفسهم»/ ‏‏«القدس العربي»: 28/7/2023].‏
‏■ يذكر في هذا الصدد أنه بعد اتفاق جوبا، وفي محاولة لكسب ودّ الحركات المسلحة في دافور، كان قادة ‏الجيش قد عينوا قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، مني أركو مناوي، حاكماً لدارفور. وجاء هذا التعيّين ‏كمحاولة منهم، كذلك، لاحتواء الموقف في الإقليم الذي لا زال يُعانى من الظلال الثقيلة للحرب السابقة وما ‏شهدته من أهوال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ‏
وتزداد الحاجة الآن لتوفير درجة عالية من الهدوء في دارفور، عقب الانقلاب العسكري في النيجر -‏‏26/7/2023، وما يمكن أن يخلفه من تداعيات أمنية على منطقة تحفل بصراعات محلية تتشابك فيها قوى ‏إقليمية ودولية عديدة. [«قوات الدعم السريع تُحكم سيطرتها على دارفور تدريجيّا»/ «العرب»: ‏‏5/8/2023]■‏

‎•‎‏ هامش: أبرز الحركات المسلحة التي عرفها إقليم دارفور
‏1- حركة تحرير السودان
‏■ زعيم الحركة هو المحامي عبد الواحد محمد نور. ويتولى منصب الأمين العام للحركة منى أركي مناوي، ‏وهو من قبيلة الزغاوة واشتهر كقائد ميداني له علاقة وثيقة بالنظام الإريتري، ومعظم القادة العسكريين في ‏صفوف الحركة كانوا من الضباط السابقين في الجيش السوداني أو التشادي. وللحركة جناح عسكري هو ‏‏«جيش تحرير السودان». وكانت عضوية الحركة في البداية تقتصر على أبناء قبيلة الفور، ثم انضم إليها ‏أبناء القبائل الدارفورية الأخرى، مثل الزغاوة و المساليت والفور، وهي من أبرز القبائل الإفريقية بالإقليم. ‏
وهناك حركات جنوبية عدّة لها تأثير في نزاع دارفور؛ أهمها «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي كانت ‏تقدم الدعم اللوجيستي والسياسي لحركة تحرير السودان.‏
‏2- حركة العدل والمساواة
‏■أسس هذه الحركة الدكتور طيّب خليل إبراهيم- 3/2003، وكان مقيما في لندن، ومعظم مقاتلي الحركة ‏من قبيلة الزغاوة، وكذلك الدكتور خليل نفسه، الذي كان إسلامياً أصولياً قبل أن ينتقل إلى الاتجاه العلماني، ‏وتخفت نبرة خطابه الديني لصالح الخطاب الاثني والقبلي. ‏
وتدعو حركة العدل والمساواة لفصل الدين عن الدولة، وخلق سودان ديمقراطي جديد. وتنادي بقيام تحالف ‏من المناطق المهمشة ضد سيطرة الحكومة المركزية، ولم يدعُ زعيم الحركة خليل ابراهيم لأي مواقف ‏انفصالية عن الحكومة السودانية المركزية. [جلال رأفت/ «أبعاد أزمة دارفور السياسية والثقافية»، مجلة
‏«المستقبل العربي»: العدد 312 – شباط(فبراير) 2005]■‏
‏(5)‏
الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
‏■ ظل اقتصاد السودان منذ استقلال البلاد مُستنزفاً في الحروب الداخلية المتلاحقة، ما أن يتعافى قليلا ‏ويبدأ في النمو خلال فترات الاستقرار الهشة، حتى تندلع حرب أخرى تستنزفه من جديد. ‏
وتصبح الصورة قاتمة أكثر إذا رصدنا تأثير إنتشار الفساد المالي والإداري وعمليات التهريب، حيث أصبح ‏الاقتصاد يُعاني من اختلالات هيكلية، ويعتمد بدرجة كبيرة على سلعة واحدة لاستجلاب العملات الصعبة، ‏والصرف على القطاعات الخدمية. ففي السنوات التي أعقبت الاستقلال إعتمد على القطن كمورد رئيسي، ‏ولاحقا على البترول، والآن يعتمد على الذهب.‏
خلال سبعينيات ق 20 – الذي يسمونه «عقد التنمية» في السودان – ضخ البنك الدولي وصناديق ‏الاستثمار العربية الأموال في البلاد، وعندما تعذر تسديد الديون المستحقة، إكتشف وزير المالية أنه لا يوجد ‏حساب مركزي لما تم اقتراضه، ومِمّن، ولأي سبب، أو ما حدث للمال!.‏
‏■ في تسعينيات ق 20، شقّت حكومة البشير طريقاً «إسلامياً» إلى التنمية والحداثة، مُعتمدة أولاً على ‏المحاصيل الزراعية، ثم على تصدير النفط. ولكن، من دون أن يتم احتساب عائدات النفط وإدخالها في ‏الموازنة. كان يمكن الاستدلال إلى حجم هذه العائدات فقط من أبراج المكاتب اللامعة للشركات المملوكة ‏للإسلاميين، والمرتبطة بالأمن، وما يسميه السودانيون بـ«الدولة العميقة». واستمرّ الأمر كذلك إلى أن تلقّى ‏الاقتصاد السوداني صدمة حين حدث إنفصال الجنوب عام 2011، وفقدَ السودان ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي ‏ونصف إيراداته الحكومية، وبدأ بعد ذلك مسلسل انهيار الاقتصاد.‏
‏■ ويقول الخبراء إن نظام البشير أضاع فرصة كبيرة لإحداث نهضة إقتصادية وتنموية شاملة في البلاد، ‏عندما توافرت له موارد هائلة بلغت حوالي 70 مليار-$- في الفترة ما بين 2000-2010 من عائدات ‏البترول، وذلك لو أبدى اهتمامه بتطوير القطاعَين الزراعي والحيواني، لكن هذا لم يحدث، واهتم فقط ‏بالصرف على الأجهزة الأمنية وعلى المنظمات الفئوية التابعة له، بغرض الحفاظ على سلطته، فضلاً عن ‏استغلال عناصر النظام لموارد الدولة لتقوية نفوذًهم في السوق، وبناء اقتصاد ظلٍّ موازي. ‏
يضاف إلى ذلك، ما ألحقته العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية من ‏خسائر فادحة فاقت الـ 50 مليار-$-. وأدت إلى خروج النظام المصرفي السوداني من المنظومة المالية ‏العالمية، وتضرّر قطاع الطيران بحرمانه من قطع الغيار والصيانة الدورية، وفقدان قطاع السكك الحديدية لـ ‏‏83% من بنيته التحتية، كما تأثّر أكثر من 1000 مصنع بشكل مباشر بالعقوبات، بسبب عدم حصولها ‏على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية■‏
‏(5-1)‏
الفساد المالي والسياسي
‏■ عرف السودان في العقود الأخيرة انتشار الفساد بأشكاله المختلفة، وخاصة في ظل تزاوج الفساد السياسي ‏والاقتصادي، ما جعل هذا البلد العربي يتصدّر قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم. وتحدث تقرير، أعدّه ‏فريق من الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الخاصة بإفريقيا، عن أن فجوة المعاملات ‏التجارية العالمية للسودان خلال فترة 2012-2018 بلغت ‏‎30,9‎‏ مليار-$-، وهو مبلغ يمثّل 50% من ‏إجمالي تجارة السودان خلال هذه السنوات. مشيراً إلى أن سبب ذلك هو الفساد والتدفقات المالية غير ‏المشروعة التي تُكلّف السودان ‏‎5,4‎‏ مليار-$- سنويا. وتتمثل هذه التدفقات في عمليات غسيل الأموال والتهرب ‏من الجمارك والضرائب، والتلاعب بالأسعار والفواتير التجارية، وهروب رأس المال المحلي، والممارسات ‏المرتبطة بتعدد سعر الصرف، وجرائم الفساد الكبيرة بواسطة موظفي الدولة وتحويل كل العائدات المترتبة ‏على ذلك إلى حسابات في الخارج.‏
وكمثال على ذلك، يقول السودان إنه حصل خلال هذه الفترة على ‏‎4,8‎‏ مليار-$- من صادرات النفط، فيما ‏يؤكد شركاؤه التجاريون أنهم استوردوا بترول بقيمة ‏‎8,9‎‏ مليار-$-. [يوسف بشير/ «إقتصاد ثري يعطله الفساد ‏والانقلابات»/ «نون بوست»: 1/6/2023]■‏
‏(5-2)‏
‏«أوليغارشية جديدة»‏
‏■ وقد أدى تحالف رجال السلطة ورجال المال والأعمال الجدد إلى خلق طبقة حاكمة جديدة، أو ما يطلق ‏عليه البعض، «طبقة أوليغارشية حديثة»، أثرت وراكمت الثروات مستفيدة من الاستبداد القائم، ثم احتكرت ‏السلطة والمال، وأخرجت البورجوازية التقليدية من السوق، بينما يعاني الشعب من الفقر والتهميش.‏
وكانت بداية تشكل الأوليغارشية مع بدء حكم الرئيس جعفر نميري- 1969 إلى 1985، الذي حاول إحكام ‏سيطرته على مفاصل الدولة وإدارتها كأنها ملكية خاصة له، وذلك عبر تقريب بعض الشخصيات السياسية ‏والعسكرية إليه، إضافة إلى بعض رجال الأعمال، بهدف خلق بطانة إقتصادية تدعمه وتقوي حكمه، في ‏مواجهة محاولات الانقلاب المتكررة ضده. ‏
وفي سبيل ذلك، أصدر مرسوماً بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية»، حدّد بموجبه أهداف المؤسسة ‏العسكرية في أربع نقاط وهي: استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد، وتجويد عيش أفراد ‏القوات المسلحة وأعضاء أسرهم، وتجهيز الجيش بالمعدات والأجهزة اللازمة، وتحسين مستوى الأداء الإداري ‏والتقني لأعضاء الجيش.‏
وقد حول هذا المرسوم الجيش إلى طبقة ذات هوية إقتصادية - إجتماعية ترتبط مصالحها بشكل بنيوي ‏بمصالح النظام القائم، وسمح بظهور فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط، أو أفراد من عائلاتهم، ‏يستغلون بشكل إستباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوافرة للعموم.‏
‏■ تواصل هذا النهج وتكرّس أكثر في عهد عمر البشير، الذي قرب إليه مجموعة من رجال الأعمال - هم ‏في الأصل ضباط في الجيش والمخابرات - للسيطرة على قطاعات الدولة الربحية، وفي مقدّمها قطاع ‏الاتصالات، ما ساهم في إطالة أمد حكمه لأكثر من 3 عقود. ‏
وزادت هيمنة هذه الفئة مع إقرار منظومة «الصناعات الدفاعية»- 2017، التي مكّنت المؤسسة العسكرية، ‏ومن خلفها رجال الأعمال المقربين من السلطة، من التوسع في نشاطاتهم الاقتصادية المدنية. فانتشرت ‏الشركات التي تعود ملكيتها لضباط في الجيش تحولوا إلى رجال أعمال، وشملت مجالات حيوية مثل شركات ‏الأمن الغذائي والكيماويات والخدمات التقنية الطبية المحدودة، والتأمين. وكذلك المجال البنكي، ومنها؛ ‏‏«توباز» للصناعات المعدنية، و«زادنا» للاستثمار الزراعي، و«الخرطوم» للتجارة والملاحة، و«شيكان» ‏للتأمين.‏
وهكذا ترسّخ تحالف قوي بين المال والسلطة، وامتلكت الأوليغارشية الجديدة المحيطة بعمر البشير، ‏استثمارات كبيرة جدا تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وسيطرت سيطرة شبه كاملة على السوق؛ من تجارة ‏دقيق الخبز وصولاً إلى الصناعات الثقيلة، في وقت كان السودان يغرق في الأزمات، وتتناسل فيه الحروب.‏
‏■ بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، كُشفت ملفات فساد عديدة محيطة بهذه الأوليغارشية، ومنها الدور الذي ‏لعبته القروض الحكومية من بنك التنمية الآسيوي، أو من دول الخليج مثل الكويت وقطر والمملكة العربية ‏السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو البنوك الإفريقية في تمويل هذه الطبقة وازدهار أنشطتها الاقتصادية. ‏وفي هذا السياق، برزت أسماء عدد من رموز وأقطاب هذه الفئة؛ مثل نجل عمر البشير بالتبني، أيمن ‏المأمون. ووزير الخارجية علي كرتي، الذي يطلق عليه «إمبراطور الأسمنت والحديد والأخشاب». ‏
ويتهم عمر البشير نفسه باختلاس مليارات الدولارات من خزينة الدولة، وإدارة شركات تابعة له ولأسرته تعمل ‏في استيراد السلع الاستهلاكية والأسمدة والمنتجات النفطية، عن طريق صفقات ممولة من قروض وتسهيلات ‏ائتمانية بلغت مئات ملايين الدولارات حصل عليها السودان من بنك التجارة والتنمية لدول شرق وجنوب ‏إفريقيا. وقد تم مصادرة العديد من الشركات والعقارات والأراضي والفنادق والمراكز التجارية والمزارع التابعة ‏له ولرجاله عقب سقوط نظامه. [عائد عميرة/ «السودان.. كيف تشكلت طبقة الأوليغارشية؟ ومن هم أهم ‏رموزها؟»/ «نون بوست»: 6/9/2022]■‏
‏(5-3)‏
التهريب آفة الاقتصاد
‏■ إضافة إلى ذلك، جرى تهريب 267 طنًّا من الذهب خلال الفترة 2013-2018. ويقول تحقيق ‏استقصائي بثّته شبكة «سي إن إن» في تموز(يوليو) 2022، إن حوالي 90% من إنتاج الذهب في السودان ‏يهرَّب خارج البلاد، ما يعني احتمال خسارة الإيرادات الحكومية نحو ‏‎13,4‎‏ مليار-$-. وتحدّث التقرير عن 16 ‏رحلة جوية روسية معروفة على الأقل هرّبت الذهب من السودان على مدار العام ونصف العام، السابقين ‏لإعداد التقرير، وذلك في مقابل تقديم الدعم السياسي والعسكري للحكّام العسكريين. ‏
وإضافة إلى الذهب، يهرَّب الصمغ العربي، الذي استثنته الولايات المتحدة من حصارها ضد السودان لمدة ‏عشرين عاماً، نظرا لأهميته الطبية والغذائية، حيث ينتج السودان قرابة 75% من الإنتاج العالمي. ‏
إضافة إلى ذلك، يعتبر السودان صاحب ثالث احتياطي من مادة اليورانيوم الخام الداخلة في صناعة ‏الأسلحة النووية، ويصل إلى ‏‎1,5‎‏ مليون طن حسب أرقام غير رسمية. ويوجد هذا المعدن في دارفور وجبال ‏النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر .‏
‏■ وفي ظل هذه الأوضاع كانت تتفاقم ديون البلاد، وبلغت مع فوائدها أكثر من 50 مليار-$-، أي ما يعادل ‏‏200% من إجمالي الناتج المحلي. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن مستوى الفقر قفز من 50% عام 1994 ‏إلى نحو 80% في الأعوام الأخيرة، وبأن دخل الفرد لا يتجاوز ‏‎1,25‎‏-$- يومياً.‏
ويُرجّح أن يشهد اقتصاد السودان إنكماشا كبيرا بسبب الحرب الحالية، التي دمّرت وستدمِّر البنية التحتية ‏للاقتصاد. وتُفيد التقديرات الأجنبية بأن كلفة الاشتباكات الدائرة تتجاوز نصف مليار-$- يومياً. وفي هذه الحالة ‏يتم اللجوء إلى طباعة النقود بكثافة من أجل تمويل الحرب، خاصة في ظل الحصار المالي على الخزينة ‏العامة وضعف القاعدة الضريبية، ما يزيد من تفاقم أزمة التضخم الجامح الموروث أصلًا من عهد البشير. ‏‏[يوسف بشير/ مصدر سابق]■‏
‏(6)‏
الجيش السوداني.. ‏
تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها
‏■ عند استقلال البلاد، جرت سودنة قادة «قوة دفاع السودان» التي شكلها الحكام البريطانيون - 1925، ‏لمساعدتهم في فرض سيطرتهم على البلاد، وتستند إلى قاعدة إجتماعية ضيقة في شمال ووسط البلاد. وكان ‏ذلك إيذانا بميلاد «الجيش الوطني» الذي أظهر فيما بعد ولعاً إستثنائياً بالسلطة ومحاولات الوصول إليها، ‏كما ظل لسنوات طويلة يحارب التمردات الناشبة في أقاليم السودان المهمّشة، إضافة إلى انشغاله الدائم ‏بمغانم السلطة وإدارة الأعمال التجارية. ‏
‏■ نفذ ضباط الجيش عددا كبيرا من الانقلابات العسكرية، نجح ثلاثة منها وتسلم أصحابها السلطة لفترات ‏زمنية طويلة، وانتهت جميعها بثورات شعبية أطاحت بهم:‏
‏1- الانقلاب الناجح الأول قاده قائد الجيش إبراهيم عبود في 17/11/1958، واستمر في الحكم 6 سنوات ‏إلى أن أطاحت به ثورة شعبية في 21/10/1964.‏
‏2- الانقلاب الثاني نفذه تنظيم «الضباط الأحرار» بقيادة جعفر نميري في 25/5/1969، ووجد تأييدا فوريا ‏من الحزب الشيوعي، ولكن سريعا ما دبت الخلافات بينهما ووصلت إلى مرحلة تنظيم ضباط محسوبين على ‏الحزب بقيادة هاشم العطا إنقلابا أطلقوا عليه الحركة التصحيحية في 19/7/1971، حكم ثلاثة أيام قبل أن ‏يعيد نميري فرض سيطرته على البلاد بدعم خارجي. ‏
إستمر نميري في الحكم 17 عاما، متقلبًا من يساري صارخ إلى يميني متشدد، إلى أن سقط بثورة شعبية في ‏‏6/4/1985، عندما أجبر ضباط الرتب الوسيطة وزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب على عزل نميري، ‏ليُشكل مجلسا عسكريا أدار البلاد لمدة عام واحد في فترة إنتقالية إنتهت بتنظيم إنتخابات.‏
‏3- وفي 30/6/1989، نفذ عمر البشير إنقلاباً ناجحاً بالاعتماد على الحركة الإسلامية التي كان يتزعمها ‏آنذاك حسن الترابي، وذلك قبل أن يحدث الافتراق بينهما عام 1999. مكث البشير في السلطة 30 عاماً، ‏إلى أن أطاح به قادة الجيش في 11/4/2019، على خلفية إحتجاجات سلمية إستمرّت لأشهر عدة. ‏
‏■ يلاحظ في هذا التاريخ الحافل بالانقلابات، أن نجاح أي انقلاب كان يتطلب دعماً سياسياً: فعبود إستلم ‏السلطة بمباركة من الزعيمين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، أما نميري فوجد تأييداً من الحزب ‏الشيوعي أولاً ثم من القوميين، فيما خططت الحركة الإسلامية لانقلاب البشير. [يوسف بشير/ «جيش مولع ‏بالسلطة والاقتصاد وسلاح في أيدي المليشيات والقبائل»/ «نون بوست»: 31/5/2023]. ‏
أما البرهان (63 عاماً) فهو ينتمي إلى عائلة دينية من ولاية نهر النيل، شمال البلاد، تتبع طريقة الختمية، ‏وهي من الطرق الصوفية المعروفة في السودان. تخرج من الكلية الحربية، وشارك في حرب الجنوب ‏ودارفور، ضمن قوات المشاة، وانخرط في «حرس الحدود» التي أصبح قائدها لاحقاً. عمل ملحقاً عسكرياً في ‏الصين، وتدرج ليصبح مفتشا عاما للقوات المسلحة السودانية في بداية 2018، قبل نحو عشرة أشهر من ‏اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير.‏
وبعد إعلان استقالة عوض إبن عوف الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، بسبب رفض الشارع توليه رئاسة ‏المجلس العسكري، وتنازل القائد الثاني بعده في التراتبية، كمال عبد المعروف، عن المنصب، أصبح البرهان ‏الذي لم يكن يعرفه السودانيون وقتها، رئيساً للمجلس العسكري وقائداً عاماً للجيش، علماً أنه «ليس شخصية ‏سياسية، ولا يمتلك كاريزما»، بل ويتلعثم في الكلام، (على عكس حميدتي أو البشير من قبله)، كما يقول ‏كثيرون.‏
‏■ وتقول أوساط من داخل القوات المسلحة: «إن حميدتي هو صاحب الفضل في تولي البرهان رئاسة ‏المجلس العسكري ومن ثم رئاسة مجلس السيادة، لأنه مارس ضغوطاً كبيرة داخل المجلس العسكري لإبعاد ‏إبن عوف وعبد المعروف عن المنصب الذى آل إلى البرهان». والسبب في ذلك أنهما يعرفان بعضهما منذ ‏الحرب في دارفور، التي قاتلا فيها جنبا إلى جنب. [وردت لدى ميعاد مبارك: «حرب المدن تضع البلاد على ‏حافة الهاوية»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].‏
وعليه، فبعد تولي البرهان رئاسة مجلس السيادة في الحكومة الانتقالية – 8/2019، تم تعيين حميدتي نائباً ‏له، ومنذ ذلك الوقت شرع الرجل الثاني في الدولة بتوسيع أنشطته الاقتصادية والعسكرية المستقلة، وكذلك ‏ارتباطاته الدولية والإقليمية.‏
‏■ ولكن عقب إنقلاب 25/10/2021 الذي أطاح بالشراكة مع المدنيين والحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، ‏تعقد المشهد السياسي في البلاد وأصبحت الخلافات بين الأطراف تتصاعد يوماً بعد يوم، وسط استمرار ‏التظاهرات الشعبية المطالبة بإنهاء حكم البرهان وحميدتي. ‏
وفي أعقاب التوقيع على «الاتفاق الإطاري»- 5/12/2022، الذي كان من المنتظر أن يقود إلى تسوية ‏تعيد الانتقال الديمقراطي إلى البلاد، تصاعدت بشأنه الخلافات بين الجانبين، وخصوصاً ما تعلق منها بورقة ‏الإصلاح الأمني والعسكري، حيث رفض الجيش مطالب حميدتي بدمج قواته في الجيش خلال عشرة أعوام، ‏وتبعية قواته لرئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية المقبلة، وتمسك الجيش بالدمج خلال سنتين وتبعية قوات ‏الدعم السريع لقيادة الجيش، وكان هذا الخلاف هو السبب المعلن لانفجار الحرب بينهما■‏
‏(6-1)‏
إمبراطورية إقتصادية
‏■ بعد تشكل حكومة عبدالله حمدوك الانتقالية، أبدى قادة الجيش ممانعة قوية لإدارة هذه الحكومة لشركات ‏الجيش التي يُفرض عليها جدار عالٍ من السرية، على الرغم من أن كثيرا منها تعمل في مجالات مدنية ‏حيوية مثل طحن القمح والأدوات الكهربائية والنقل وتشييد الطرق وتصدير المحاصيل الزراعية والحيوانات ‏الحية واللحوم وتجميع السيارات، إضافة إلى شركات منظومة الصناعات الدفاعية.‏
وأعلنت الحكومة الانتقالية في 19/6/2020، عن نتائج مسح الشركات الحكومية، فقالت إنها تبلغ 650 ‏شركة منها 200 شركة تابعة للقطاع العسكري، ومن مجمل هذه الشركات هنالك 12 شركة فقط تساهم في ‏الإيرادات العامة للدولة، وبأنّ وزارة المالية تُدير 18% فقط من أموال الدولة.‏
وقدر وزير التجارة في الحكومة الانتقالية، إبراهيم الشيخ، رأس مال شركات الجيش بـ10 مليارات-$-، ما يعني ‏أن قادة الجيش كانوا مشغولين عموما بتنفيذ الانقلابات العسكرية وإدارة الإمبراطورية الاقتصادية التي شملت ‏حتى البيع بالتجزئة. ومن الواضح أن ثمة رابطاً قوياً بين مصالح الجيش الاقتصادية وعدم تخليه عن السلطة ‏لصالح المدنيين. ‏
‏■ يذكر في هذا الصدد، أنه عندما حصل إنقلاب 25/10/2021، كانت «لجنة إزالة التمكين ومحاربة ‏الفساد»، وهي ذراع مكافحة الفساد في الحكومة المدنية، على وشك نشر تحقيقها في فساد شركات الجيش. ‏وكان أول ما فعله الجنرالات بعد انقلابهم، هو اقتحام مكاتب اللجنة والاستيلاء على وثائقها.‏
وقال الطيب عثمان يوسف، الذي ترأس اللجنة التي قامت بفحص كيفية تفكيك دور القوات العسكرية والأمنية ‏في الاقتصاد، إن الجيش يملك شركات تمثل ربع الناتج المحلي للبلد، أما قوات الدعم السريع فتمثل نصف ‏الناتج المحلي. وقال يوسف إن التحقيق الذي قامت به اللجنة ومخاوف تلك القوات من خسارتها امتيازاتها ‏كان وراء الانقلاب الذي قام به البرهان وحميدتي- 2021. [نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست»/ ابراهيم ‏درويش/ «القدس العربي»: 20/4/2023]. ‏
‏■ وهكذا، فعلى رغم أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ليس لديه مصدر مالي شخصي خاص به لتيسير ‏الصفقات السياسية، وقد أُجبر على المساومة مع رجالات المال العسكريين والمقربين منهم بشأن القرارات ‏المهمة. إلا أنّ نفوذه يستمدّه من شبكة المصالح الهائلة التي يتمتع بها ما يطلق عليه البعض «المجمع ‏العسكري التجاري»، أو ما يسميه الديمقراطيون السودانيون بـ«الدولة العميقة». وهي عبارة عن شبكة من ‏الشركات التي تقوم على المحسوبية، وتضم بنوك وشركات إتصالات يملكها إسلاميون وضباط في الجيش أو ‏الاستخبارات، إضافة إلى شركات يملكها الجيش نفسه في مجالات تصنيع الأسلحة، والبناء، والزراعة، ‏والنقل. [أليكس دي وال/ «إنزلاق السودان نحو الفوضى»/ مقال مترجم من «فورين أفيرز»، ونشر في ‏‏«أندبندنت عربية»: 5/5/2023].‏
كما يستند البرهان كذلك إلى العلاقات التي تربطه ببعض أركان نظام البشير السابق. وليس سراً أن الموالين ‏القدامى للبشير يرون فيه أفضل أداة تعيدهم إلى السلطة. ويرى بعض السودانيين، أن لهؤلاء الموالين من ‏الإسلاميين دوراً في نشوب النزاع بين البرهان وحميدتي، وخصوصاً بعد إعادة بعض رموزهم إلى مؤسسات ‏الدولة، الأمر الذي أثار مخاوف حميدتي الذي يعتبره الإسلاميون عدوهم اللدود، ويحملونه مسؤولية سقوط ‏البشير، فأخذت بعدها تتباعد مواقفه الداخلية والخارجية عن مواقف البرهان، وصار كلٌّ منهما يتربص ‏بالآخر■‏
‏(7)‏
‏«قوات الدعم السريع».. ‏
يافطة جديدة وانتهاكات مستمرة
‏■ يقول الباحث البريطاني أليكس دي وال، المهتم بالشأن السوداني، والذي شارك في تأليف كتاب ‏‏«الديمقراطية غير المكتملة في السودان: الوعد وخيانة ثورة شعبية»، إنه نادراً ما انتصرت القوات المسلحة ‏السودانية في النزاعات العسكرية الطويلة التي خاضتها. ويُرجع ذلك إلى أن «سلك الضباط ينحدر في ‏الغالب من النخبة الحاكمة في الدولة، فيما ينتمي الجنود المشاة إلى الطبقات الفقيرة والأطراف المهمشة، ‏وغالبا ما يفتقر هؤلاء إلى حافز للقتال».‏
لهذا السبب لجأ البشير إلى أداة قتالية قليلة الكلفة ومُجرّبة من قبل، وهي ميليشيا قبلية تحارب نيابة عنه، ‏علماً أن توزيع السلاح على القبائل العربية في مناطق كردفان ودارفور المتاخمة لجنوب السودان، يعود إلى ‏حكومة الصادق المهدي- 1986 إلى 1989. ‏
‏■ وهكذا، تشكلت ميليشيا الجنجويد وشقّت طريقها وسط قرى دارفور بالحرق والنهب والذبح، في حملة ‏وصفت بـ«إبادة جماعية»، واتهمت «الجنجويد» - حسب منظمات حقوقية كثيرة - بعدد لا يحصى من ‏انتهاكات حقوق الإنسان، ووجّهت المحكمة الجنائية الدولية إتهامات لبعض قادتها بارتكاب جرائم ضد ‏الإنسانية. كما صدرت من مجلس الأمن قرارات في هذا الشأن، بما فيها مذكرات اعتقال طالت رأس النظام ‏السابق عمر البشير، وقيادات أخرى متورطة في هذه الجرائم. ‏
وكان نجاحه في سحق التمرد في دارفور، سبباً رئيسياً في قرب حميدتي من البشير، الذي أضفى - 2013 ‏الطابع الرسمي على «الجنجويد»، تحت مسمّى «قوات الدعم السريع». ومنحه رتبة فريق مع أنه لم يخضع ‏لأي تدريب عسكري رسمي. ومع تصاعد الاحتجاجات في الشارع - 12/2018، إستدعى البشير وحدات ‏حميدتي إلى العاصمة كقوة حماية شخصية له، وبات يُطلَق عليها «حمايتي»!‏‎ ‎بيد أن حميدتي خذل سيده ‏وتخلى عنه، وحوّل سقوطه إلى فرصة له، حين شارك مع البرهان في الانقلاب الذي أطاح به، تحت يافطة ‏‏«الانحياز لموقف الشارع والثورة». ‏
‏■ بعد الإطاحة بالبشير، إتُهمت قوات الدعم السريع بارتكاب المزيد من الجرائم، إذ لعبت دوراً مركزياً في ‏مجزرة فض الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم- 6/2019، قُتل خلالها عشرات ‏المعتصمين، كما ارتكبت عشرات حالات الاغتصاب كذلك. وكانت ميليشيا الجنجويد مارست الاعتداءات ‏الجنسية على نطاق واسع في حرب دارفور. [جلبير الأشقر/ «فظائع السودان والدرس التاريخي»/ «القدس ‏العربي»: 17/5/2023]. ‏
وعلى رغم تلقي قوات الدعم السريع، في السنوات الأخيرة، تدريبات عسكرية إحترافية، وتوسّعها قليلاً لكي لا ‏تبقى مقتصرة على لون إثني محدد، إلا أنها ظلت محافظة، في جوهرها، على طابعها القبلي الذي يتمحور ‏حول قبيلة حميدتي، الرزيقات، هذا فضلاً عن قيادتها العائلية، وسلوك مقاتليها الشرس والعنيف وما يرافقه ‏من انتهاكات، وهو الأمر الذي لم يحظَ بقبول الأوساط السياسية السودانية.‏
‏■ ومع ذلك، يحاول حميدتي الآن تقديم نفسه كبطل للمحرومين والمضطهدين في السودان. ويسعى إلى ‏استمالة المجتمعات المهمشة تاريخياً، في دارفور وغيرها من المناطق، عبر تصوير نفسه كمقاتل من أجل ‏العدالة والديمقراطية، وكان أخذ يميز نفسه أولاً عن البرهان، ويحتفظ بمسافة عن مواقفه «المتعنتة في عملية ‏تسليم السلطة للمدنيين»، منذ أن تراجع عن تأييده لانقلاب 2021، ثم ومع اقتراب المواجهة مع البرهان، ‏شرع يدافع علناً عن الحاجة إلى «ديمقراطية حقيقية»، ويسعى إلى كسب ودّ المدنيين بدعوى أنه الوحيد ‏القادر على منع عودة فلول نظام البشير، في إشارة إلى «الإسلاميين»، وهذا يتقاطع أيضاً مع رغبات ‏وتوجهات حلفائه في الخليج. ‏
‏■ لكن، وعلى رغم هوية حميدتي «العربية»، هو وكبار قادة قواته، إلا أنّ هناك فجوة واسعة بينهم وبين ‏النخب السودانية الحضرية، أو «الطبقة السياسية الحاكمة»، التي تنتمي إلى «المركز»، وتستند إلى قاعدة ‏إجتماعية؛ عروبية من جهة (هواها مصري عامة)، ومحافظة دينياً من جهة أخرى، خلافاً لما يصفونه ‏بـ«المجتمعات البدوية الصحراوية»، الجلفة التي تثير خوفهم ومخاوفهم، وفي الوقت نفسه يزدرونها ويسخرون ‏منها، ويصفونها بأنها «أميّة ولا تجيد الكلام المنمق». ‏
يضاف إلى ذلك، أن أغلب مقاتلي الدعم السريع هم من «الرعايا الغاضبين» الذين ينتمون إلى المناطق ‏المهمّشة المحرومة من غنائم الدولة، والذين يصفون سلوك السلطات في الخرطوم تجاههم بـ«السلوك ‏الإمبريالي»، ويحلمون بمن يأتي لتحريرهم من الاضطهاد والغبن التاريخي الذي لحق بهم، مثلهم في ذلك، ‏إلى حد كبير، مثل السودانيين الجنوبيين الذين صوتوا للانفصال. ‏
وعلى ذلك، صار يعرب البعض عن اعتقاده إن قوات الدعم السريع لا تمثل فقط منظمة عسكرية، بل هي ‏كتلة إجتماعية واقتصادية وثقافية، تشكلت خارج الحواضن التقليدية للدولة، مثلها في ذلك مثل مجموعات ‏كثيرة مشابهة في مناطق السودان المختلفة، تمثل إحدى نتائج سياسات التهميش والاستبعاد الاقتصادي ‏والسياسي والاجتماعي. ‏
‏■ ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى أنّ انتصار حميدتي وقواته، لن تنجم عنه سوى سيطرة لصوصية شعبوية لن ‏تستطيع فعل شيء تجاه أزمات الفقر والجوع والبطالة التي يعاني منها أغلب السودانيين في مختلف ‏مناطقهم. [أليكس دي وال/ مصدر سابق].‏
فميزة حميدتي الكبرى ليست في مهاراته القتالية حتى وإن توفرت؛ وليست في اتسامه بالكثير من الحيوية ‏والبراغماتية حتى وإن تمتع بهما؛ كما أنها ليست في قدرته على الخطابة والتحدث باللهجة العامية التي تقربه ‏من الناس العاديين حتى وإن اتصف بذلك؛ ميزته الكبرى التي تميزه عن سواه من قادة الحركات المسلحة ‏الأخرى هي المال. نعم، المال الذي بمقدوره دفعه لمقاتليه ومرتزقته، والذي مكنّه من مضاعفة أعداد مقاتليه ‏الذي بات يبلغ الآن 120 ألفاً، حسب بعض التقديرات، ويمكنّه من شراء ولاء بعض العشائر والقبائل أيضاً. ‏
‏■ لقد كان حميدتي تاجر إبل قبل أن يبدأ صعوده من خلال مشاركته في قوات «الجنجويد». ثم سرعان ما ‏برز نجمه كقطب من أقطاب الأوليغارشية الجديدة التي تشكلت في حقبة البشير. ففي 2017 أطلق البشير ‏العنان له ولجماعته للسيطرة على جبل عامر الغني بالذهب في دارفور، وبفضل الذهب، الذي يعدّ السودان ‏ثالث منتج له في إفريقيا، إكتسب دقلو حلفاء مهمين؛ من الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، المشتري الرئيسي ‏لذهب دقلو، وسنده الرئيسي، وصولاً إلى الرئيس الروسي بوتين، عبر صلة الوصل، شركة ڤاغنر. ‏
وفوق ذلك، فقد منحت الحكومة عقودا ميسرة كثيرة لشركة «الجنادي» التي تتاجر بالذهب وتنقل سبائكه ‏بملايين الدولارات إلى دبي، ويملكها أحد أشقاء حميدتي وأسرته، (عبد الرحيم دقلو وإبنيه)، ويشغل عبد ‏الرحيم منصب نائب قائد الدعم السريع. والشركة هي عبارة عن مجموعة ضخمة تغطي أنشطة الاستثمار ‏والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، وتشرف على أعمال واستثمارات عديدة داخل السودان ‏وخارجه، ولا يُعرف بالضبط حجم أصولها ومواردها. ‏
‏■ كما وضع حميدتي يده على كثير من القطاعات الاقتصادية بما في ذلك الزراعة، خاصة مع وفرة ‏الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستغلة بعد، ووفرة مياه الأنهار والأمطار، حيث تمثل إيرادات القطاع ‏الزراعي ما نسبته 48% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، وفقًا لبيانات رسمية عام 2017.‏
وباتت قواته بمثابة ذراع تنفيذية و«يد ضاربة» لإمبراطوريته التجارية الواسعة. وقد جنى أموالاً طائلة نتيجة قيام ‏تلك القوات بأعمال إجرامية خارجة عن القانون، من قبيل تصفية المعارضين وترويعهم، فضلاً عن ارتكاب ‏مجازر حرب في دارفور. وثمة من يعتبر أن قواته كانت أشبه بـ«مؤسسة مرتزقة خاصة» عابرة للحدود، حيث ‏قامت بتأجير خدماتها لملوك ومشايخ الخليج للقتال في اليمن، وكان لديها تعاملات مع مجموعة ڤاغنر، ‏التي تقوم بحراسة مناجم ذهبه، وتقدم المعدات العسكرية لقواته. ومع الجيش الوطني الليبي وقائده، خليفة ‏حفتر، الذي يزودها بالأسلحة والوقود، ويتبادلان المصالح والمنافع على غير صعيد. [إبراهيم درويش/ ‏‏«إيكونوميست: ماذا ينتظر «حميدتي».. فرصه ضعيفة وسلاحه المال؟»/ «القدس العربي»: 1/6/2023].‏
‏■ وهكذا، فإنّ الثروات الضخمة التي راكمها، والإمبراطورية الاقتصادية الهائلة التي تمكن من تشييدها على ‏مدى قرابة عقدين من الزمن، إضافة إلى السلطات الاستثنائية التي تمتع بها، كلّ ذلك سمح له بمدّ نفوذه ‏داخلياً وخارجياً، وبناء شبكة علاقات خاصة مع الإمارات والسعودية وروسيا، ومكّن حميدتي ليس من أن ‏يصبح دولة داخل الدولة فحسب، بل منحه القدرة وحافز التطلع والمنافسة للسيطرة على مركز السلطة والقرار ‏في السودان. وهو ما أثار، طبعاً، مخاوف الجيش وقائده، لتعارضه مع رغبة البرهان وطموحه للاستئثار ‏كذلك بمقاليد الحكم، وكان هذا من بين أهم أسباب اندلاع الحرب بين الطرفين. [عمر الفاروق/ «رصاصة ‏أولى «مجهولة» تطلق المواجهة المؤجلة بين الجيش السوداني والدعم السريع»/ «القدس العربي»: ‏‏23/4/2023]■ ‏
‏(8)‏
تأثير الدور الخارجي
‏■ مع فشل الرهان الداخلي على الحسم العسكري السريع للحرب، والهروب نحو إشعال المزيد من الحرائق ‏في هشيم التنوع الإثني والقبلي، وتنامي المخاوف من اتساع نطاق الحرب، وعودتها إلى سابق عهدها في ‏دارفور وغيرها، على نحو تعمّ فيه الفوضى مختلف الأقاليم السودانية، في بلد شاسع المساحة وجوار متفجر ‏بحروبه الأهلية الطاحنة، في موازاة ذلك كلّه، تصاعد الحديث في الأوساط المهتمة حول ضرورة التدخل ‏الخارجي في السودان، علماً أنه في ضوء التجربة السابقة، فإن الحرب لم تتوقف في دارفور إلا بعد وصول ‏قوات أممية إلى الإقليم، كان قوامها من القوات الإفريقية بشكل رئيسي.‏
بيد أن تعامل المجتمع الدولي مع الحدث السوداني الراهن يتسم بقدر كبير من الارتباك والتناقض والتلكؤ، ‏ولم يبدِ أيّ طرف استعداده لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والتدخل المباشر لوقف الحرب. ويرجّح ‏محللون عدم التدخل الدولي في الصراع الدائر وذلك بسبب التباين الحاصل في المواقف الإقليمية والدولية، ‏على رغم أنّ إطالة أمد الحرب، والخشية من انفلات الأوضاع الأمنية، يُقلق ويؤذي قوى عديدة داخل ‏السودان وخارجه، بالنظر إلى ما يترتب عليها من نتائج كارثية. ‏
‏■ وإذا كان ثمة أطراف دولية تبدي حرصها على إيقاف الحرب، فإن هنالك أطرافاً أخرى، تبدو الحروب ‏الدائرة والانقلابات الحاصلة هنا أو هناك في القارة السمراء، بمثابة «فرص» أمامها لإعادة رسم خارطة ‏مصالحها ومدّ نفوذها، من السودان شرقا إلى النيجر ومالي غربا. فثمة منافسة قائمة في الأصل بين الدول ‏الغربية التي استعمرت القارة تاريخياً من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، إضافة إلى دول جديدة ‏دخلت على الخط حديثاً، (الصين، روسيا، تركيا، إسرائيل..)، تسعى بكل جهدها لتوسيع مصالحها ونفوذها ‏في القارة.‏
فمنذ صيف 2020 شهدت القارة الإفريقية 7 إنقلابات على أنظمة منتَخبة أو دستورية، (على نحو أو أخر)، ‏من مالي إلى تشاد وغينيا وبوركينا فاسو والسودان والنيجر والغابون أخيراً. وعلى رغم موقف الاتحاد الإفريقي ‏المبدئي الرافض للانقلابات، إلا أنه لم يستطع أن يفعل شيئا إزاءها. ويغالي البعض فيذهب إلى حدّ اعتبار ‏أن «الصراع في دول القارة الإفريقية، في جوهره، يدور بين القوى الكبرى، (ولكن) بواسطة أدوات محلية». ‏‏[رشيد خشانة/ «فرنسا تخسر آخر مستعمراتها في أفريقيا وروسيا تنمو وتتوسع»/ «القدس العربي»: ‏‏6/8/2023].‏
‏■ المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية خرجت منذ بداية الحرب، ولسان حال المجتمع الدولي يقول: ‏‏«نعتذر، لا توجد لدينا حلول». تُرى، هل يعود هذا إلى أنّ السودان لا يندرج على ساحة الاهتمام والأولويات ‏الدولية؟ أم أنّ العواصم الدولية الكبرى والإقليمية الفاعلة باتت تخشى، لأسباب كثيرة، من أيّ تدخل فعلي ‏على الأرض في بلد مثل السودان؟ على رغم أنه بموقعه الاستراتيجي، وبتأثير ما يجري فيه على جواره غير ‏المستقر أيضاً، يُفترض أن لا يُترك هكذا، وأن لا يُسمح له بالتحول إلى دولة أخرى فاشلة، وهذا يُفترض أنّ ‏يكون مدركاً ومعروفاً لدى الجميع أيضا!. ‏
قد يقال الكثير في هذا الصدد، ولكن في المحصلة، ها نحن أمام دولة عربية أخرى يتفشّى فيها القتل ‏والموت، وينهش الدمار والخراب بنيانها وأركانها وأجهزتها ومؤسساتها، ويعيش سكانها هاجس التهجير، أو ‏النزوح المستمر، بحثاً عن مكان آمن، ومع ذلك، تبقى غائبة عن أجندة الاهتمامات والأولويات الدولية. وتبدو ‏الحرب الدائرة فيها، (بعد قرابة خمسة أشهر على اندلاعها)، بعيدة عن أي أمل بوقفٍ قريب، أو إيجاد حل ‏قريب لها. الصمت الدولي يبدو مريباً في نظر البعض، والاستجابات العربية والإفريقية والدولية تجاه ما ‏يجري، أقلّ ما يقال فيها أنها متواضعة ودون المستوى المطلوب.‏
‏■ في الواقع، منذ أن تولّى عبدالله حمدوك رئاسة الحكومة الانتقالية في السودان، فإنه لم يلقَ الدعم اللازم ‏والكافي من واشنطن، لا اقتصاديا ولا سياسياً، مع إدراكها (المُفترض) أنه سيكون بمواجهة تنين «المجمع ‏العسكري - التجاري» للجيش والمليشيات. وبدلاً من ذلك، فوّضت إدارة دونالد ترامب سياستها في القرن ‏الأفريقي لحلفائها المفضلين في الشرق الأوسط؛ السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وإسرائيل، ‏وكلّهنّ إما معاديات للديمقراطية، أو لا يرغبن ولا يعنيهنّ أمر قيام ثورة ديمقراطية في العالم العربي، ولهذا ‏فضلت كلّ دولة منهنّ التحدث مع الجنرال المفضل لديها. ‏
إضافة إلى ذلك، فقد دعمت إدارة ترامب «عقد الصفقات»، فاجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ‏مع البرهان، وانضم السودان إلى اتفاقات أبراهام، وألغت الولايات المتحدة تصنيف السودان كـ«دولة راعية ‏للإرهاب»، ثم رفعت العقوبات، في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب. ‏
‏■ وعلى العموم، فقد كشفت الأزمة السودانية عن عجز الإدارة الأمريكية على المساعدة - حتى الآن على ‏الأقل - في حل الصراع الدموي بين الجنرالات. أو أنّ الموقف الأميركي بدا غير جاد بما يكفي لدفع ‏الطرفين لوقف الحرب والجلوس إلى طاولة المفاوضات فوراً. أما العقوبات الاقتصادية المتخذة، فبدت ‏إجراءات تقليدية غير فعالة، وستخفق على الأرجح، إذ سبق وتعايش معها السودان لسنوات طويلة. ‏
وقد تكون هناك أسباب عديدة تقف خلف ذلك، من أهمها أن السودان ككل ليس مدرجاً على قائمة أولويات ‏إدارة الرئيس جو بايدن، وخاصة في ظلّ انشغال هذه الإدارة بأكثر من ملف؛ أو لنقل أنّ دعم مشروع ‏الانتقال الديمقراطي في السودان، لا يشغل بال واشنطن ولا بال العواصم الغربية عموماً، التي بيّنت التجربة ‏أنها تميل للتعاطي مع الفاعلين العسكريين أكثر من ميلها للتعاطي مع الأحزاب السياسية والحركات ‏الاحتجاجية وقوى المجتمع المدني، على رغم حديثها المتكرر عن الديمقراطية والقيم المتفرعة عنها. والسبب ‏في ذلك، ربما يعود إلى عدم ثقة تلك العواصم بالمدنيين، الذين «لا يستطيعون التوافق على شيء»، ولا ‏يجلبون سوى الفوضى، كما يقول دبلوماسي غربي متحدثاً بلسان حال تلك العواصم. وربما أنّ السبب هو ‏اهتمامهم بمصالحهم أولاً، والحدّ مما يشكل أيّ تهديد لها، (موضوع الهجرة مثلاً). ‏
لكن،إذا كانت الواقعية السياسية (الدولية) قد أوجبت الربط بين الاستقرار ودعم الديكتاتوريات العسكرية في ‏السابق، فقد آن لهذا التفكير أن يتوقف، بعد أن أظهرت الحرب الدموية بين عسكر السودان أن «حملة ‏السلاح هم المشكلة وليسوا الحل». [إبراهيم درويش/ «نيويورك تايمز: السودان بلد ضخم ويجب عدم السماح ‏له بالفشل أو الانزلاق لحرب أهلية»/ «القدس العربي»: 3/5/2023].‏
‏■ وكان نشطاء مؤيدون للديمقراطية في السودان ومنظمات حقوقية دولية إنتقدوا الولايات المتحدة ودولا غربية ‏أخرى لعدم اتخاذها عقوبات ضد القادة العسكريين المسؤولين عن اندلاع الصراع الحالي في السودان. كما ‏وجهوا إنتقادات سابقة لعدم اتخاذ عقوبات أيضاً ضد هؤلاء القادة لمسؤوليتهم عن مذبحة عام 2019 ضد ‏المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، وانقلاب 2021 الذي قلب مسار الانتقال إلى الديمقراطية. وجادلت ‏منظمات المجتمع المدني بأن التزامات واشنطن المعلنة بالتحول الديمقراطي في السودان سيُنظر إليها على ‏أنها «خطب جوفاء» إذا لم تقم بأفعال محددة ردّاً على الانقلاب. [رائد صالحة/ «إدارة بايدن تستعد لفرض ‏عقوبات «متأخرة» على الفصائل العسكرية المتصارعة في السودان»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].‏
وفي الواقع، يميل المرء إلى مشاطرة أليكس دي وال اعتقاده بأن المشكلة الرئيسة في السودان هي داخلية ‏في الدرجة الأولى، قبل أن تكون خارجية، لأن النظام المستبد من جهة، والحركات المسلحة من جهة أخرى، ‏حولوا البلد إلى «ساحة صراع بين طبقة لصوص مدججين بالأسلحة، وكلٌّ منهم مصمم على السطو على ‏الحصة الأكبر من الغنائم، وعلى ضمان أمنه كذلك من هجمات المنافسين». [أليكس دي وال/ مصدر ‏سابق]. ‏
‏■ ومع ذلك، فإنه لا يجانب الصواب أيضاً الاعتقاد الرائج على نطاق واسع، داخل السودان وخارجه، بأن ‏الحرب الحالية في السودان غذّتها أطراف خارجية، وانخرطت فيها مجموعة من القوى الإقليمية، مثل ‏السعودية والإمارات... فالنظام الانتقالي الذي هيمنَ عليه كل من البرهان وحميدتي، دُعم بمليارات الدولارات ‏من قبل الإمارات والسعودية. وزادت مصر من دعمها للقوات السودانية المسلحة وقائدها البرهان، في حين ‏حافظت قطر وتركيا على علاقاتهما بالإسلاميين من الحرس القديم الذين كانوا ركيزة لنظام البشير.. الخ. ‏‏[إبراهيم درويش/ «واشنطن بوست: قوى دولية وإقليمية غذت خلاف البرهان وحميدتي»/ «القدس العربي»: ‏‏18/4/2023].‏
وتعدّ الآن دولة الإمارات من أهم اللاعبين في السودان. وعندما أطيح بنظام البشير، سارعت مع السعودية ‏لتقديم دعم بـ3 مليارات-$- لمساعدة السودان في الوقوف على قدميه. ولكن تدخلها ساهم، بطريقة أو بأخرى، ‏في خنق فرص التحول نحو دولة ديمقراطية في السودان.‏
ومن ناحية رسمية، لم تقف أبو ظبي مع طرف في القتال الجاري، وهي جزء من المجموعة الرباعية التي ‏تضم السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة، لدفع عملية الانتقال الديمقراطي في هذا البلد، إلا أنّ كثيراً من ‏المصادر تشير إلى أنّها أسهمت في تقوية حميدتي وقواته العسكرية. وطلبت منه - 2018، إرسال الآلاف ‏من مقاتليه إلى اليمن، مقابل أموال طائلة. ولعب الذهب الذي كان يتم تهريبه إلى دبي، قبل أن يكمل طريقه ‏إلى موسكو، دوراً إضافياً في تعميق علاقة الإمارات مع حميدتي. ‏
‏■ وفي المقابل، وقفت القاهرة بشكل واضح مع عبد الفتاح البرهان، من موقع إيثارها أن يُحكم السودان من ‏خلال المؤسسة العسكرية، على رغم العلاقة الملتبسة بين البرهان والإسلاميين. وعلى رغم اتجاه البلدَين إلى ‏التعاون المشترك عبر الاتفاقيات التي كرست قاعدة «الحريات الأربعة»: حرية التملُّك والتنقل والعمل ‏والإقامة لمواطني السودان في مصر، ومواطني مصر في السودان، إلا أن العلاقات بينهما غالباً ما أخذت ‏طابعاً متوتراً، وخاصة إثر محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس حسني مبارك في إثيوبيا- 1995، التي وجِّهت ‏أصابع الاتهام فيها إلى إحدى الجماعات المدعومة من نظام البشير. [يوسف بشير/ «كيف تتدخل دول ‏جوار السودان في شؤونه الداخلية؟»/ «نون بوست»: 7/6/2023]. ‏
‏■ إضافة إلى الإمارات ومصر، فقد دخلت إسرائيل على الخط أيضاً. وكانت قد وقّعت، بدعم أمريكي، على ‏اتفاقية تطبيع – 2020، حصل بموجبها بنيامين نتنياهو على ما يريده من جنرالات السودان، وهو الاعتراف ‏بإسرائيل. وفي عام 2022، زار وفد من الموساد السودان والتقى مع قادة أمنيين والجنرال حميدتي، الذي ‏عرض التعاون في مكافحة الإرهاب والمعلومات الأمنية، بحسب مسؤولين غربيين. ‏
أما بشأن الدول الإفريقية المجاورة، فقد خضعت علاقات السودان معها لاعتبارات عدة، أهمها الاضطرابات ‏السياسية والحروب الممتدة التي شهدتها وتشهدها هذه الدول، وانعكاس هذه الاضطرابات وتأثيرها السلبي ‏المحتمل على بعضها البعض. ‏
‏■ ويتحكم التداخل القَبَلي ومحاولة كل دولة دعم المعارضة المسلحة لجارتها في علاقات السودان بكل من ‏تشاد وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا. ولذلك ظلت علاقاته مع هذه الدول غير مستقرة، ويتسم بعضها ‏بالعداوة في معظم الأحيان.‏
فبعد انفصال جنوب السودان، على سبيل المثال، دعمت الخرطوم الحركات المسلحة المعارضة لحكم ‏الرئيس سلڤاكير ميارديت، وهو ما قوبل بالمثل أيضاً، فدعمت جنوب السودان حركات التمرد في إقليم ‏دارفور. وهي تؤوي حاليا رئيس «حركة تحرير السودان»، عبد الواحد محمد نور، الذي يمتلك فيها قاعدة ‏عسكرية لتدريب قواته، علاوة على دعمها غير المحدود والمستمر لـ«الحركة الشعبية - شمال» بزعامة عبد ‏العزيز الحلو، نظرا إلى الروابط التاريخية بين الجانبَين.‏
والأمر نفسه ينسحب على علاقة السودان وتشاد، حيث يبقى التداخل القَبَلي بينهما أشبه بقنبلة موقوتة يمكن ‏أن تنفجر في أي وقت، خاصة أن هذا التداخل يشكّل قاعدة إجتماعية صلبة للحركات المسلحة التي ‏تستطيع بسهولة اختراق الحدود المشتركة. [يوسف بشير/ «كيف تتدخل دول جوار السودان في شؤونه ‏الداخلية؟»/ «نون بوست»: 7/6/2023]■ ‏
‏(9)‏
رفض الحرب والبدائل الممكنة
‏■ يعجّ الفضاء السوداني العام بالعديد من المبادرات التي تسعى لتوحيد القوى المدنية السودانية في جبهة ‏واسعة تعمل من أجل وقف الحرب، واستعادة المسار المدني الديمقراطي للعملية السياسية.‏
وتضطر الأصوات الداعية إلى وقف الحرب إلى تقديم الكثير من التوضيحات بشأن موقفها؛ بالنظر إلى أنّ ‏مؤيدي كل طرف في هذه الحرب يُجرّمون كل من يطالب بوقفها، ويستخدمون اللغة نفسها التي استخدموها ‏خلال الحرب الأهلية في الجنوب وفي دارفور، معتبرين أنها «حرب وطنية مقدسة»!. ولذلك، تقول تلك ‏الأصوات إنّ موقفها لا يعني الوقوف مع طرف ضد طرف آخر، بل يعني رفض الحرب والقتل وتدمير البلاد ‏بشكل مطلق، ورفض أن يكون الاقتتال بديلاً للحوار والتفاوض لحل الخلافات مهما بلغت من الحدة ‏والتعقيد.‏
وتزيد على ذلك، بأن رفض الحرب لا يعني استدعاء التدخل الخارجي، الإقليمي أو الدولي، لأن حلول أزمات ‏السودان لن تأتي من خارجه، إنما تكمن داخله وعبر مساهمات كافة أبنائه. وأحدها هو التقيد بمبدأ حلّ كافة ‏الميليشيات وجيوش الحركات المسلحة، ودمج أفرادها وعناصرها المؤهلين داخل المؤسسة العسكرية، ‏وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، حتى يكون للسودان جيشه الوطني المهني الموحد الذي يحمي حدود ‏البلاد ودستورها في إطار الحكم المدني الديمقراطي. [الشفيع خضر سعيد/ «السودان: هل ستنجح «الجبهة ‏المدنية» بإيقاف الحرب؟»/ «القدس العربي»: 17/7/2023].‏
‏■ ويضيف محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السوداني السابق، أنّ الحرب الدائرة الآن تمثل حرب ‏الدولة السودانية المأزومة بأزماتها المركبة والمتداخلة، وخصوصاً قضايا هوية الدولة ونظام الحكم والإدارة ‏العامة، وكيفية بناء الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك المؤسستين العسكرية والأمنية، وعلاقة كلّ ذلك بالدين، ‏وسبل إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومفهوم الحقوق والواجبات.. الخ؟ وبالتالي، فإن تبني نهج «لا ‏للحرب»، يتطلب الاعتراف بجذور هذه الحرب وأسبابها، ثم ضمان وقفها، والوصول إلى صيغة شاملة ‏للمصالحة الوطنية. والسعي من ثم، لإيجاد معالجات نهائية للأسباب الجذرية للصراعات المسلحة في ‏السودان، والتي تتمثل في الصراع على السلطة والنفوذ، والموارد والهوية وطبيعة الدولة. والمعالجة الجذرية ‏والجريئة لهذه القضايا يُفترض أن تقود إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين السودانيين بمختلف أطيافهم ‏ومكوناتهم، وبناء جمهورية ثانية بديلة عن الجمهورية الموروثة منذ العام 1956. [محمد حسن التعايشي/ ‏‏«حروب الدولة السودانية وحرب الخامس عشر من أبريل»/ «العرب»: 2023/6/23].‏
‏■ وفي إطار الحديث حول ضرورة تشكيل أوسع جبهة مدنية موحّدة ضد الحرب، والتمهيد لاختيار شرعية ‏جديدة بعيداً من القوى العسكرية المتحاربة، ينوّه البعض إلى الدور الذي تلعبه بعض المنظمات المدنية في ‏الدعوة إلى وقف الحرب ودعم التحول المدني الديمقراطي، عبر طرح مشروع وطني جامع، والتمسك بأن ‏الشعب السوداني بمختلف مكوناته وأطيافه هو صاحب القرار الأول والأخير في رسم مستقبل دولته، ووضع ‏أسس ولبنات المشروع الوطني المُغيّب. ‏
وفي إطار المحاولات المبذولة لوقف الحرب هناك من يطرح تشكيل حكومة طواريء، على أن تشارك فيها ‏كافة المكونات السياسية في البلد، وأن يكون أعضاؤها من ذوي الكفاءة والخبرة في مجال الإدارة والعمل ‏المؤسسي، وممن يميلون لتغليب الرؤية الوطنية على المصالح الفئوية، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار التمثيل ‏المتساوي للأقاليم. [الشفيع خضر سعيد/ «هل ستوقف حكومة الطواريء الحرب في السودان؟»/ «القدس ‏العربي»: 14/8/2023].‏
‏■ قبل انفجار الحرب الأخيرة، أخذ البعض على القوى المدنية أنها لم تدرك جيداً مدى خطورة انتشار ‏السلاح في ولايات السودان، وتجاهل حقيقة أن الأحزاب والقوى السياسية التي تتمتع بوجود ظهير عسكري، ‏ومنها حركات التمرد السابقة في كردفان ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، أصبحت تلعب دورا محوريا في ‏عملية اتخاذ القرار السياسي، وخصوصا بعد انضمام عدد من قياداتها إلى التشكيل الجديد لمجلس السيادة ‏الانتقالي، بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة حمدوك. ‏
وشدّد هؤلاء على أنّ حصر السلاح بيد الدولة كان يجب أن يكون الهدف الأولى للمرحلة الانتقالية، وحرمان ‏أي قوة أخرى من حمل السلاح واستخدامه حتى انتهاء العملية السياسية، مشيرين إلى أنّ العمل الوطني في ‏السودان يواجه أربعة تحديات رئيسية وهي: غلبة نزعة العسكرة على السياسة، وغلبة الروح القبلية على ‏المواطنة، وغلبة المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وضعف الإرادة الدولية والإقليمية. [إبراهيم نوار/ ‏‏«أحراش السياسة في السودان: مرحلة إنتقالية ممتدة تحت سلاح العسكر والميليشيات»/ «القدس العربي»: ‏‏8/4/2023]. ‏
ولكن يبدو أننا سننتظر بعد حتى تنضج الظروف وتصبح مواتية لنجاح المبادرات الداعية إلى وقف الحرب، ‏فقد فشلت وساطات دولية وإقليمية وإفريقية كثيرة، ومنها وساطة منظمة «إيغاد»، التي تضم السودان نفسه ‏مع جنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي، إثر تولي الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو رئاستها، على خلفية ‏المواقف المتباينة لأعضائها إزاء طرفي الصراع الدائر في السودان.‏
‏■ وإلى ذلك، فقد دخلت أطراف داخلية وخارجية عدة على خط المعارك الدائرة، فالإسلاميون تطوعوا لدعم ‏الجيش، فيما اعتمدت قوات الدعم السريع على «تعبئة القبائل العربية في دارفور». وتشير التقارير إلى وجود ‏ميداني كبير لكتائب الظل؛ الأمن الشعبي والدفاع الشعبي وهيئة عمليات جهاز الأمن، التي تتبع الحركة ‏الإسلامية (عناصر النظام السابق)، وتعمل على الأرض بشكل واضح كـ«ذراع مساندة للجيش».‏
ويقول محللون: إن القوى الإسلامية ترمي بثقلها في هذه المعركة، لأنها معركة حياة أو موت بالنسبة إليها، ‏منطلقةً من أن عودة العملية السياسية (المدنية) تعني نهاية حتمية لها. وكانت الحركة الإسلامية قاعدة ‏الاستناد الرئيسة للرئيس البشير في بناء الجيش السوداني طوال 30 عاماً من حكمه. وبسبب ذلك، والضغوط ‏التي يمارسها عليه كبار الضباط المواليين لهذه «الحركة»، فإنّ البرهان لا يستطيع، كما يرى المحللون، ‏المضي كثيراً في اتجاه القوى المدنية.‏
‏■ وفي المقابل، فإن عددا من قوى «الحرية والتغيير»، إضافة إلى القوى الإقليمية المناهضة للإسلاميين، ‏‏(مثل الإمارات)، ترى بحميدتي وقواته «حاجز صدّ» ضد عودة الحركة الإسلامية وحلفائها في الجيش، وكان ‏حميدتي تمسك بأنه لن يدمج قواته قبل عزل الإسلاميين من قيادة الجيش. ‏
ومع التقديرات التي تشير إلى أن غالبية الشارع السوداني لن تسامح حميدتي على دوره في مذبحة الخرطوم ‏‏- 6/2019. ولا تنسى كذلك دعمه للبرهان في انقلاب 2021، إلا أنه قام في شهر 10/2022، بتعيين ‏يوسف عزت مستشاراً له، وبادر إلى فتح حوار مع قوى «الحرية والتغيير»، وأصبح حميدتي لاحقا داعما ‏رئيسيا للاتفاق الإطاري، واعترف بأن انقلاب شهر 10/2021، كان خطأ. [إبراهيم درويش / «السودان يقف ‏على حرب شاملة لها تداعيات غير مسبوقة على الاستقرار»/ «القدس العربي»: 17/4/2023].‏
‏■ وفي هذا الصدد، يعتقد الباحث أليكس دي وال أن «ما كسبه الدعم السريع عسكرياً، خسر مقابله ‏سياسياً»، إذ إن قواته «فقدت بشكل نهائي تعاطف الشارع بسبب الفظاعات التي ارتكبتها من إعدامات بدون ‏محاكمة واغتصاب ونهب». وبأن البرهان «كسب سياسياً»، ولكن ليس لكفاءته، إنما فقط بسبب الرفض ‏الشعبي لخصومه. [«فتش عن الذهب.. حرب السودان قد تستمر لسنوات»/ «القدس العربي»: ‏‏11/8/2023].‏
وبالنسبة للرأي العام، فإن انتصار البرهان أو حميدتي يعني استمرار السياسات التي حاولت ثورة 2018- ‏‏2019 القضاء عليها. فانتصار الأول سيعيد، على الأرجح، إنتاج النظام الإسلاموي السابق، في حين أنّ ‏انتصار الثاني قد يفضي إلى الاعتماد على القوى السياسية الديمقراطية، التي يرفع حميدتي شعاراتها ‏ويافطتها الآن، ولكن سيكون له، في المقابل، تداعياته السلبية البالغة على «اللحمة الوطنية»، حيث يُرجّح ‏أن تظهر في إثره تناقضات إثنية وجهوية بين مجموعات ما يسمى بـ«أولاد البحر» و«أولاد الغرب»، أي أبناء ‏الشمال والغرب. ‏
‏■ بيد أنّ السيناريو الأسوأ، بالنسبة للجميع، هو حرب طويلة ممتدة، بدون منتصر، وتقود إلى تقسيم البلد إلى ‏كانتونات وجيوب تسيطر عليها ميليشيات متحاربة، وسط مستويات غير مسبوقة من الفوضى وعدم الاستقرار، ‏كما حصل في ليبيا واليمن وسوريا. ‏
وفي كل الأحوال والسيناريوهات، فإذا كان ثمة ما يمكن أن نستفيد منه ونتعلمه من هذه الحرب، ومن تجربة ‏الحروب شه المتواصلة في السودان، هو أنه لا يمكن أن تبقى القضايا الإشكالية معلّقة ومؤجلة حلولها إلى ‏الأبد، وأن «صورة الدولة لا يمكن أن تعوّض عن الوجود الفعلي والحقيقي لهذه الدولة»!.‏
فلعلّ هذه الحرب، والتجربة السودانية عامة، تكون حافزا للتعلم من تجارب الماضي وإخفاقاته، والبدء في ‏تقديم معالجات حقيقية وجذرية للقضايا الإشكالية المطروحة، بما ينهي دوامة الانقلابات وعسكرة السياسة، ‏ويضمن تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء لكيان الدولة السودانية بمختلف أقاليمها وجهاتها، وبما يرسخ كذلك ‏النظام الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة. ‏
تحقيق ذلك وحده، سيتكفل بانعتاق السودان من قيود التخلف الذي أصابه، وسيضمن له توظيف موارده ‏الضخمة لتحقيق تنمية شاملة ومتوازنة تنهض بكل أطرافه ومناطقه ومكوناته. [عثمان ميرغني/ «الأسئلة ‏الصعبة في حرب السودان»/ «الشرق الأوسط»: 11/5/2023]■‏

أيلول(سبتمبر) 2023‏



#فيصل_علوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السودان.. محطة تاريخية وسط تحديات صعبة!
- السودان.. جذور الخلاف بين الشمال والجنوب
- هندوراس.. الانقلابات العسكرية في طريق مسدود
- جابر عصفور: زمن الثقافة العربية وسؤال المستقبل
- في معنى عودة أورتيغا إلى الرئاسة ثانية
- في مراجعة التجربة الناصرية
- الحبر الأعظم والإمبراطور البيزنطي... الدور والعكاز
- في الذكرى الخامسة لزلزال أيلول : أي سبيل لمحاربة الإرهاب وال ...
- الفقراء يقتلهم الإهمال.. والاستئثار بالسلطة
- السقف الواطئ وسياسة فن الممكن
- مقاربة لتفاصيل القرار الدولي 1701
- كلفة ليست باهظة
- الشرق الأوسط الجديد» الآلام الموجعة لمخاض الحمل الكاذب
- وجاهة المنطق في منطق المواجهة وضده
- تصاعد العمليات الإرهابية في المملكة السعودية خلفية التطرف وج ...
- أحزاب مغربية تندمج في -الاشتراكي الموحد-... سباحة ضد التيار ...
- الثقافة لا تكون معزولة عن السياسة أبداً


المزيد.....




- السعودية.. القبض على مواطن بتهمة ابتزاز قاصرين على شبكات الت ...
- ما هي مطالب طلاب الجامعات الأمريكية بخصوص الحرب في غزة؟
- عشرات الملايين يستخدمون تطبيق واتساب سرا في الدول التي تحظره ...
- بسبب دعمه لحماس على تطبيق واتساب.. ضابط شرطة بريطاني يواجه ت ...
- ترمب يستغل توقف محاكمته لاستئناف حملته الانتخابية
- تركيا تعتقل 41 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بتنظيم -داعش-
- قراءة في المتن على هامش -انتفاضة الجامعات الأميركية-
- صحف عالمية: نتنياهو تائه وكمين إستراتيجي ينتظره برفح
- ما سيارات أشهر وأهم الشخصيات في عالم التقنية الآن؟
- محكمة إسرائيلية ترفض التماسا للأسير مروان البرغوثي


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فيصل علوش - السودان .. ‏ أبعاد الأزمة الراهنة وجذورها العميقة