|
الله يخرب بيتك يا عبده، أيها الغبي
محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 7708 - 2023 / 8 / 19 - 12:24
المحور:
الادب والفن
بقلم محمد زكريا توفيق
عبد الموجود وزميله رؤوف، مجندان في الجيش المصري في منتصف الستينات. كانا يجلسان داخل عربة، بها فنطاس كبير لنقل الماء، لزوم شرب الكتيبة، التي كانت تقوم بمناورات تدريبية بالذخيرة الحية في الصحراء الغربية، في منتصف ليلة، بداية الخريف.
الظلام دامس. والصحراء أثناء الليل تنعم بالهواء الجاف وطراوة الجو. بين الفينة والفينة، مع هبات النسيم البحري، ينتشر أريج زهور البرتقال واليوسفي من حدائق لابد أنها قريبة من المكان. تعبئ الجو بالكولونيا والبارفان. عطر منعش، يضخمه ويزيد من روعته اعتدال الجو في فصل الخريف.
الغمام في السماء يحجب جزءا من النجوم والأبراج أثناء الليل. لا بد أنهما يتجهان غربا. لأنه، على يمين الشاحنة، يمكن أن ترى النجم القطبي، يرتفع 30 درجة فوق خط الأفق. مواقع نجوم الدب الأكبر في الشمال، تبين أن الوقت بعد منتصف الليل.
عبد الموجود، يقود الشاحنة. مؤهل متوسط. متزوج، له طفلان. مسلم ملتزم، زبيبة الصلاة بارزه على جبهته. يفسر كل شيء بالقضاء والقدر والمشيئة الإلهية. لا يخطو خطوة قبل أن يقول الدعاء الخاص بها.
كل ثقافته ومعلوماته، جاءت عن طريق شيخ الجامع. يتمنى الشهادة حتى يستمتع بالحور العين، الاثنين وسبعين، وأنهار الخمر واللبن والعسل المصفى.
يطيع الأوامر ولا يتعب مخه. فغيره قد فكر له واهتدى. وما عليه سوى أخذ المعلومة جاهزة معلبة مثل السردين المحفوظ.
رؤوف، على النقيض، مهندس مجند. غير ملتزم دينيا. يشرب ويلعب الميسر، ولا يمانع من زيارة بائعات الهوى. لكنه أمين صادق مع نفسه وأصدقائه. لا يكذب أو يغدر أو يسرق. مثقف له فكر ليبرالي لا يخفيه.
يؤمن بأن لكل شيء سبب منطقي. ولا دخل للقدر أو المشيئة في الموضوع. يحب القراءة والاطلاع، ولا يقبل أي معلومة إلا إذا كانت معقولة، لا تتعارض أو تتصادم مع المنطق والفطرة السليمة.
الشاحنة كانت تسير في الظلام الدامس، في مؤخرة رتل من المركبات بسرعة متوسطة. تهتدي وسط هذه العتمة، بنور لمبة صغيرة مطلية باللون الأزرق، مثبتة بين العجلتين الخلفيتين للمركبة أمامها. متأخرة قليلا عن باقي المركبات، بسبب ثقلها ووعورة الأرض.
رؤوف يراقب الضوء الخافت أمامه ويسلي نفسه بالحديث مع عبد الموجود. الحديث ممل بسبب عدم التكافؤ الثقافي بين الطرفين. لكن هذا لم يمنع، رؤوف من جر شكل زميله عبد الموجود من حين لآخر، ومناقشته في الدين والعقيدة. لكنه كان يتجنب الكلام في السياسة أخذا بالأحوط.
رؤوف: تقول لي عذاب القبر والثعبان الأقرع. هو البني آدم بعد ما يموت ويبدأ جسمه في التحلل بفعل الديدان والباكتيريا، يقدر يحس بأي شيء؟ وهل الروح، إن وجدت، تظل سجينة في حفرة؟ هل تصدق هذا الكلام يا عبده؟
عبد الموجود: استغفر الله العظيم. أنت كفرت يا رؤوف. ألم تسمع بأن النبي، عليه الصلاة والسلام، مر على قبرين فقال: "إنهما يعذبان. وما يعذبان في كبير..."
رؤوف: يا أخ عبده، الإنسان عشان يتعذب، لازم الجسد يبقى سليما والجهاز العصبي سليما والوعي كاملا. لكن الإنسان بعد الموت، وبعد تحلل الجسد، لا يشعر بشيء. فكيف يتعذب؟
كمان، أنت لا تحتاج إلى الحرق بالنار في الآخرة، إذا كان الهدف هو تعذيب الإنسان. يكفي، إعادة تركيب خلايا المخ بطريقة تسبب الألم المؤقت أو الدائم.
لذلك، أنت لا تحتاج إلى جنة أو نار في الحياة الأخرى برضه. كل ما تحتاجه هو إعادة خلق جديدة تجعل المغضوب عليهم تعساء، والمرضي عنهم سعداء. وبس.
بدلا من الجلود التي تتجدد، والنار التي وقودها الناس والحجارة، والدود الذي لا يموت، والزبانية وصقر والحور العين، وأنهار الخمر والعسل، ...إلخ.
يكفي إعادة تركيب خلايا المخ، بحيث تعطيك السعادة والانشراح، أو الألم المستدام. ولو أنني لا أفهم الحكمة من العقاب الأبدي، أو حتى المؤقت في الحياة الأخرى. فهمت يا عبده؟
عبد الموجود: ستنا عائشة قالت إن الرسول قال: "نعم، عذاب القبر حق" فليس هناك أوضح من ذلك. الناس اللي في قلوبهم مرض، هم بس اللي ينكروا الأحاديث، عشان يضللوا المسلمين.
رؤوف: بص يا أخ عبد الموجود. الأحاديث دي موش صحيحة. وأعتقد أنها موضوعة. دليلي على ذلك أنها لا تعقل ولا تتفق مع المنطق. ولو صدقناها واتبعناها، حتودينا في ستين داهية.
عبد الموجود: ممكن تسيبني أسوق العربية. أنت بأفكارك الشيطانية دي، ح تتسبب في مصيبة لينا. نحن نرجو ربنا وندعوه عشان ننهي هذه التدريبات على خير، وأنت ح تكفرنا وتركبنا ذنوب من غير لازمة.
ممكن تغير الموضوع وتتركني أسوق وأخلي بالي من النور الخافت أمامي؟ أنا خايف نفقده. عشان ارتفاعات وانخفاضات الطريق، النور يختفي لحظات وبعدين يظهر. خايف نفقده على طول.
رؤوف: خلي بالك على النور أمامك اعمل معروف، موش ناقصين مشاكل. وأعدك بتغيير الموضوع. إبه رأيك في الكلام عن الحب؟
عبد الموجود: لا مانع بس ابعد عن فحش الكلام.
رؤوف: يا أخي بقولك كلام عن الحب. الحب يا بني آدم. هل تزوجت عن حب يا عبده؟
عبد الموجود: أبدا. عندما بلغت، جوزني أبويا من بنت عمي. هي بنت طيبة موش متعلمة. تبذل كل جهدها في خدمتي وخدمة أولادنا. عاوزة ترضيني بكل الطرق. بنت حلال خالص، تحمل مني الإساءة ولا تشتكي.
رؤوف: بتحس من ناحيتها بالحب؟ النور قدامنا اختفى من مدة وموش باين.
عبد الموجود: لا تخف. ح يبان تاني. أهو بان. سلم أمرك لله. إن شاء الله مستورة معانا. بالنسبة لموضوع الحب، الحب بتاع السيما والروايات، لا أعرفه.
أنا تعودت على مراتي، وهي تعودت علي. العلاقة الحميمة اللي بينا، روتين ممل. هي تحاول إرضائي كل مرة، لكني لم أشعر أبدا أنها تفعلها برغبتها. كأنها تعد الثواني في انتظار انتهائها. فهل كل النسوان كده يا رؤوف؟
رؤوف: بصراحة، لا. كل النسوان موش كده. لا تنس إن مراتك نشأت في بيئة تخاف وتحتقر الجنس. هي تعتبره حق للزوج، يطلبه عندما يعوز. وطالما أنت سعيد بالحياة دي، وهي لا تشتكي، فإيه المشكلة؟
عبد الموجود: يا رؤوف أنا عاوز مشاركة. كلمني عن باقي النسوان. موش كلهن زي بعض، وخصوصا في الضلمة لما تطفي النور؟
رؤوف: لا يا عبده. موش صحيح. النسوان موش زي بعضهن في الضلمة. هن زي الزهور في ريحتهن وملمسهن. كمان يدبلن بسرعة زي الورود. في الضلمة، لكل منهن شخصيتها وبصمتها الفريدة التي لا تنسى.
كمان يا عبده، صوتها وطريقة حديثها وذكاؤها وتنهيداتها وسحرها ولون بشرتها وشعرها وعيونها وريحتها ودموعها والكهربة اللي بتطلع من جسدها.
فيه بيت شعر لامرئ القيس، يصف فيه رائحة نسوانه يقول:
"إِذَا قَـامَـتَا تَـضَـوَّعَ الـمِــسْـكُ مِـنْـهُـمَا - نَـسِـيْـمَ الصَّـبَا جَـاءَتْ بِـرَيَّـا القَـرَنْفُلِ"
وفيه بيت تاني في نفس المعلقة، يصف فيه تأثير دموع المرأة، يقول:
"وَمَـا ذَرَفَـتْ عَـيْـنَـاكِ إلاَّ لِـتَـضْـرِبِــي - بِـسَـهْـمَـيْـكِ فِـي أعْـشَـارِ قَـلْـبٍ مُـقَتَّلِ"
عبد الموجود: طيب لما هو أنت فالح كده، ليه خبت في حبك.
رؤوف: مشكلتي يا عبده إني حبيت بجد. بالطبع كان الحب الأول. بعد ما شفت فيلم الوسادة الخالية، قصة إحسان عبد القدوس، وسمعت إنه لا يعترف بالحب الأول، قلت في نفسي الراجل ده ما بيفهمش حاجة خالص.
الحب الأول يا عبده، حب حقيقي موجود. وهو بصراحة الحب الأول والأخير. وزي ما قال أبو تمام: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى—ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى—وحنينه أبدا لأول منزل
الباقي تقليد لا يرقى للأصل. أنا اتكلم عن الحب الحقيقي، موش لعب العيال بتاع المراهقة.
الحب الأول شيء لا يمكن وصفه أو تفسيره. شيء كده زي القضاء والقدر. يصيبنا فجأة بدون سابق إنذار. موجود يا عبده، لكن لا يشعر بيه إلا اللي واقع فيه، وغرقان لشوشته.
عبد الموجود: الحب الأول زي القضاء والقدر. مصيبة يعني؟
رؤوف: هو من ناحية مصيبة، أيوه صحيح. لكن مصيبة لذيذة. ده مجرد تشبيه يا عبده. الحب الأول شيء حقيقي. حصل لي وذقت الأمرين بسببه.
عبد الموجود: وبعدين؟ ولماذا فشلت؟
رؤوف: كنت طالبا، وكانت هي طالبة أصغر مني بسنة. شفتها أول مرة لما كنت أزور عائلة تربطني بها قرابة من بعيد. فتحت لي باب الشقة برشاقة وابتسامة وقالت: أهلا.
كلمة أهلا دي يا عبده، كانت رصاصة ورشقت في قلبي. ثم سرت في باقي جسمي مثل الكهرباء. أصبح جسدي ودماغي وكلي متكهرب. لما أفكر فيها، أشعر بتيار وخدر لذيذ بيسري في أوصالي، لا أريده أن يتوقف.
كنت أتحين الفرص وأخلق الأعذار كي أزور عائلتها. عندما كنت أراها وأتحدث إليها، كانت سعادتي لا توصف. ذات مرة، لم تكن موجودة بالمنزل، لمحت بلوفر من ملابسها.
وجدت نفسي ألمس البلوفر وكأنني ألمسها هي. الغريب أنني لم أكن أفكر فيها جنسيا على الإطلاق. إنما كنت فقط أريد أن أراها وأسمع صوتها. كنت عاوز أكون جنبها على طول. فقط لا غير، يا عبده.
صارحتها بحبي، وصارحتني بأنها تبادلني نفس الشعور. حاولت حثها على مقابلتي خارج بيت العائلة، لكنها رفضت. عندما وجدت أنها تشغل 90% من تفكيري، وتؤثر على دراستي، قررت الامتناع عن زيارة الأسرة وتأجيل الموضوع إلى حين التخرج. ربما كانت هذه غلطتي التي لا أغفرها لنفسي.
بعد عامين، حاولت مقابلتها، لكنها رفضت المقابلة خارج البيت. بعد التخرج، وصلتني أخبار مهببة. لقد تمت خطبة الفتاة التي احببتها من كل قلبي من ضابط كبير بالجيش، يكبرها ب 15 سنة على الأقل.
أصبت بالجنون، وطلبت مقابلة أبوها، وهو موظف كبير في الحكومة. كنت في ذلك الوقت قد تخرجت واشتغلت بوظيفتي الحالية، وهي وظيفة موش بطالة لها مستقبل.
لطعني أبوها على الناصية، في يوم شتاء شديد البرد، زمهرير. والريح تعصف بي، بدون رحمة، من كل جانب، وأنا واقف في الشارع ما يقرب من ساعة. قبل ما يتكرم سيادته ويأتي لكي يزف إلي خبر خطبة ابنته.
قال لي في كلامه، شروط العريس اللقطة، وهي أن تقعد مراته بعد الزواج في البيت. وأنا أقول بيني وبين نفسي، وكمان بيشرط. عندما أخبرت أبوها بسبب طلبي مقابلته، وأنني، يا عمي، أحبها ومستعد للزواج منها اليوم قبل الغد، اعتذر بالكلام المعتاد: لماذا لم تتقدم من قبل؟ ثم ألمح لي بما معناه أنني لسه متخرج وفقير دقه، ولم أكوّن نفسي بعد. أي مفلس وعلى الحديدة.
وهي للأسف حقيقة، لا أستطيع إنكارها أو إخفاءها. أخبرني أيضا أنه لا يزال أمامي متسعا من الوقت للزواج بمن هي أفضل من ابنته، أو الوقوع في جوازة سقع، مثل التي وقع فيها هو وابنته. ثم ودعني في الطريق ومشى كالطاووس، يختال فخرا عائدا إلى عمله، وأنا أرقبه من بعيد حتى اختفى وسط الزحام.
حدث كل هذا على قارعة الطريق. لم يفكر حتى في دعوتي للجلوس في قهوة بلدي، وطلب زجاجة بيبسي كولا ساقعة، تخفف من هول الصدمة في نفسي. منتهى القسوة من أب يرفض من يطلب يد ابنته بصدق وأمانة وإخلاص. حاولت أن أبكي فلم أستطع. كنت أدخن، فألقيت بعلبة السجاير في سلة المهملات، وقلت هذا آخر عهدي بك، ولا أدري لماذا. ربما لأنها كانت تمثل شيئا أحببته وتعلقت به وعشت معه. مشيت إلى عملي لا أدري كيف، فقد كنت لا أرى الطريق وما به من عربات. الدنيا اسودت في وجهي يا عبده.
جلست على المكتب وطلبت من عفيفي عامل البوفيه فنجال قهوة. أخرجت ورقة وقلم من درج المكتب. كتبت فيها الآتي: لا لن أنهار. أنا أقوى من أي إعصار. سأصبح إنسانا جديدا. لن يقف شيء في سبيل مستقبلي. لن أقع في الحب مرة ثانية.
عبد الموجود: يا حرام. لقد صعبت عليّ. وبعدين.
رؤوف: خلي عينك على الطريق يا عبده. أنا موش شايف النور منذ مدة. وبعدين، قبل ما أطلب في الجيش، بلغني بعد سنتين أن الخطبة فشلت.
حاول أبوها إرسال المراسيل. كلم عمي وعمتي وابن خالتي. وعندما قابلني صدفة، دعاني لزيارته في المنزل بحجة مساعدتي في إيجاد عمل إضافي. وكلها تمحيكات لكي أتـقدم لخطبة ابنته من جديد، فتاتي وحبي الوحيد.
عبد الموجود: أهو فرصتك وما كنت تتمناه، قد جاء لغاية عندك.
رؤوف: أبدا يا عبده. لم أستطع. صعبت على نفسي قوي. وتذكرت الألم واليأس والبكاء المكتوم الذي كابدته لمدة سنتين منذ رفض والدها لي. أقسمت أن لا أعود إليها أبدا. لقد رفضتها وأنا أحبها حب عبادة.
فهل يلومني أحد على ذلك؟ تسألني هل لازلت تحبها، فأجيبك بكل صراحة، نعم. لكنني لا أستطيع أن أتزوجها. الجرح عميق وغائر. كرامتي تنقح علي يا عبده.
كما أنني لم أتأكد من صدق حبها لي. ربما لم تكن تفكر في بالمرة. لقد تركتها لكي تتزوج من آخر، ربما ضابط أيضا. لقد فقدتها مرتين: الأولى رغما عني، والثانية بمحض اختياري. وكده نبقى خالصين.
ثم بدأت مغامراتي النسائية بعد ذلك. صرت أبدلهن كما تبدل أنت ملابسك. علاقات حسية فقط، لا حياة فيها ولا روح. كل علاقة تدفن ما قبلها بدون ألم أو دموع أو عزاء. لأن قلبي لم يكن إلا مع الحب الأول. الكلام أخذنا يا عبده. أنا موش شايف النور منذ مدة.
عبد الموجود: ح يبان حالا.
رؤوف: ح يبان إمتى؟ من ساعة ما بدأت قصة حبي الفاشلة، وأنا موش شايف النور أمامنا. أرجو أن لا نكون قد تهنا وسط الصحراء الغربية. هذه الصحراء، تاه فيها جيش قنبيز الفارسي من قبل، وفني عن آخره.
وتاه فيها أيضا الاسكندر الأكبر، هو وجيشه. ولولا أن بعث له الإله آمون سربا من الغربان كي يدله على الطريق لواحة سيوة، لفني جيش الاسكندر هو الآخر مثل جيش قنبيز.
عبد الموجود: فال الله ولا فالك. ح نشوف النور إن شاء الله.
رؤوف: موش ممكن نمشي في الضلمة كدة من غير دليل. وقف العربية أو نوّر الكشافات الضعيفة.
عبد الموجود: التعليمات بتقول، لا تتوقف أو تضئ الكشافات.
رؤوف: لكننا تايهين دلوقت يا عبده، التعليمات تنطبق على مركبات الرتل اللي ماشية في طريقها المرسوم.
عبد الموجود: ما اقدرش أوقف الشاحنة أو أنوّر الكشافات. بعد شوية سنرى النور أمامنا.
رؤوف: بينما كنا نتكلم، يمكن تكون المركبات حودت يمين أو شمال من غير ما ناخد بالنا. احنا دلوقتي ماشيين من غير هاد في سكة ثانية خالص. وقف قبل ما تحصل لنا مصيبة.
حاول رؤوف إيقاف العربة بالقوة، أو وضع أنوارها، لكن منعه عبد الموجود باستماتة.
عبد الموجود: بص، لولا إنك صاحبي، وأكلنا عيش وملح مع بعض، كنت رميتك بره العربية وكملت أنا. لو حاولت تاني، ح أبلغ عنك.
رؤوف: بتهمة إيه؟ عشان بقول لك وقف العربية لأننا تهنا؟
عبد الموجود: التعليمات بتقول كده. ما اقدرش أخالف التعليمات. فهمت؟
رؤوف: هي التعليمات قرآن يا عالم؟ أجيب لك منين فهامة تفهمك إن حياتنا في خطر؟ وقف العربية يا عبده قبل ما تندم. ما عدناش بنشم ريحة زهور البرتقال. يظهر إننا توغلنا في الصحراء وبعدنا عن العمار.
بدأت العربة المحملة بفنطاس الماء ترتفع وتنخفض بشدة بسبب أحجار الطريق ووعورة الأرض. أبطأ عبد الموجود السائق من سرعتها وحاول التحكم في عجلة قيادتها بكل قوته، لكنها ارتفعت عاليا فجأة ثم هبطت وسقطت في حفرة وتوقفت عن السير.
رؤوف: قلت لك وقف العربية، وانت دماغك زي الجزمة. انزل نشوف إيه المصيبة دي كمان. ولع لنا كشاف العربية عشان نشوف الحفرة اللي وقعنا فيها شكلها إيه.
عبد الموجود: لا. ممنوع إضاءة الكشافات. نحن في حالة تدريب بالذخيرة الحية وممنوع الإنارة. أنا مسؤول عن العربية زي ما انت مسؤول عن فنطاس المية.
ظل عبد الموجود ورؤوف بجوار عربة المياه في الظلام الدامس ينتظران وينتظران. بعد ما يقرب من ساعة تقريبا، وجدا عربة جيب صغير تقترب منهما وهي تسير في ضوء كشافات ضعيفة مطلية باللون الأزرق.
توقفت العربة ونزل منها ضابط ملازم، بادرهم قائلا: "انتم هنا ونحن نبحث عنكم؟"
عبد الموجود: لقد تهنا عن الضوء الهادي في المركبة أمامنا، يا حضرت الضابط. وأنا رفضت استعمال كشافات الشاحنة أو التوقف، كما تقول التعليمات. لغاية ما غرزت في الحفرة دية.
الضابط: دعونا نرى عمق الحفرة التي وقعتم فيها.
أضاء الضابط كشافات العربة الجيب القوية، وإذا بهم يرون مشهدًا جعل الجميع تقشعر له أبدانهم، وكادوا يسقطون على الأرض من هول ما رأوا أمامهم. لقد رأوا أن العربة كانت على سفح تل، يبعد خطوات من حافة منحدر رأسي لا يقل عمقه عن مئة متر.
لو استمرت عربة المياه في طريقها مدة ثانية واحدة، قبل أن تقع في الحفرة الصغيرة، لسقطت من ربوة التل وانفجرت ولاقى عبد الموجود ورؤوف حتفيهما بالتأكيد.
ظل رؤوف يرتعد من هول الصدمة ولا يستطيع الوقوف على قدميه، وهو يقول: الله يخرب بيتك يا عبده. أيها الغبي. كنت ح تودينا في ستين داهية بعنادك ونشفان دماغك.
أما عبد الموجود، فقد كان هادئا راضيا، فخورا بما فعل. لقد أدى واجبه بإخلاص وأمانة، وأطاع الأوامر حرفيا كما ينبغي.
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تاريخ إنجلترا – 08 إدوارد الثاني والثالث
-
تاريخ إنجلترا – 07 هنري الثالث
-
تاريخ إنجلترا – 06 ريتشارد قلب الأسد
-
تاريخ إنجلترا – 05 ستيفن وهنري الثاني
-
تاريخ إنجلترا – 04 ويليام روفوس وهنري الأول
-
تاريخ إنجلترا – 03 الغزو النورماندي
-
تاريخ إنجلترا – 02 غزاة الشمال
-
تاريخ إنجلترا - 01 الغزو الروماني
-
تاريخ فرنسا 33 – حرق باريس
-
تاريخ فرنسا 32 – الجمهورية والإمبراطورية الثانية
-
تاريخ فرنسا 31 – شارل العاشر ولويس فيليب
-
تاريخ فرنسا 30 – نابليون بونابرت
-
تاريخ فرنسا 29 – الثورة الفرنسية العظيمة
-
تاريخ فرنسا 28 – إعدام لويس السادس عشر
-
تاريخ فرنسا 27 – لويس الخامس عشر
-
تاريخ فرنسا 26 – لويس الرابع عشر، ملك الشمس
-
تاريخ فرنسا 25 – لويس الثالث عشر
-
تاريخ فرنسا 24 – هنري الرابع
-
تاريخ فرنسا 23 – هنري الثالث الملك البائس
-
تاريخ فرنسا 22 – شارل التاسع ومذبحة الهوجونوت
المزيد.....
-
أ-يام قليلة تفصلنا عن عرض فيلم “Hain”
-
أيمن زيدان اعتذر.. إليكم ردود أفعال فنانين سوريين على -تحرير
...
-
6 أفلام جسدت سقوط طغاة وانهيار أنظمة استبدادية
-
احتفالات وسخرية واعتذار.. هكذا تفاعل فنانو سوريا مع سقوط بشا
...
-
دمشق الفيحاء في عيون الشعراء
-
اضبط تردد قناة روتانا سينما عبر الأقمار الصناعية لمتابعة أجد
...
-
سكونية الثقافة وقلق الشعب والوطن
-
العُثَّةُ… رواية جديدة للكاتب يوسف أبو الفوز
-
موسيقى الاحد: هندل وثيودورا
-
-فكيف ليلُ فتى الفتيان في حلبِ؟-.. مختارات القصيد من أشعار ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|