أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الصباغ - فلسفة الغضب















المزيد.....



فلسفة الغضب


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 7658 - 2023 / 6 / 30 - 01:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أغنيس كالارد
ترجمة محمود الصباغ
استلال
الأصل في تعريف الغضب، أخلاقياً، القول أنه رذيلة، لكن الأصل أيضاً، منطقياً، القول أنه صحيح تماماً. فهو من الناحية الأخلاقية يعبر عن عاطفة ملتبسة ذو خصائص حسية ومعرفية، سواء عبرنا عنه بطرق صحيحة أم لا، فإذا كان غضبنا استجابة أخلاقية لظلم وقع علينا، فهو من ناحية أخرى نتاج عاطفي منبعه "الضغينة" وهي بلا شك أسهل طريق للانتقام. غير أنه يمكن توظيف الغضب بتحويله "عقلانياً" نحو مطارح بعيدة عن الانتقام، مثلما يحدث في الفضاء السياسي حين يستفاد من الغضب لتحقيق مكاسب اجتماعية وسياسية. غير أنه حين يقع ضحايا الظلم تحت تأثير الغضب الأخلاقي سوف يتحول هذا الغضب إلى عنف وهوما يراه البعض أمر طبيعي في المجتمعات (قديمها وحديثها)، من الناحية الأنثروبولوجية على الأقل. فعدم الغضب أو الاحتجاج يفقد المرء احترامه لذاته وهذا أمر مازال الإنسان الاجتماعي ملزماً بالحفاظ عليه، وثمة موقف متناقض هنا، فالغضب بوابة الاحتجاج ضد الظلم وهو صحيح تماماً (حسب ما ذكرناه في بداية القول) غير أنه رذيلة (كذلك حسبما ذكرناه في بداية القول).. وإذن كلما اكتسبنا مزيداً من الغضب، فقدنا احترامنا لذواتنا أكثر.. وهكذا إلى أن نجد أنفسنا في نهاية المطاف فاقدين لقيمنا الأخلاقية الناظمة لحياتنا.
طيب شو الحل؟
لا شك أن حكم القيمة حول احترام الذات يعتمد على مدى قدرتنا في مراقبة غضبنا، فالسكوت على الظلم يكشف عن قصور أخلاقي واضح، وهذا ما نراه في "ازدواجية المعايير" لدى الكثير من المجتمعات المختلفة أو حتى فئات معينة داخل المجتمع الواحد. ويتطلب عدم السكوت على الظلم نقل "الغضب" من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية أي الجمهور ومضاهاة تعريفه الأخلاقي بوظيفته السياسية وهذا يعني "انتقال" معنى الغضب من "رذيلة" إلى معاني ومواصفات "الكرامة" والامتثال لحقيقة مشاعر وهوية المطالب الجماعية التي استوجبت الإعلان عن غضبها، فمن يعاني من القهر لديه من الأسباب المقتنعة ما تكفي للغضب.
من ناحية أخرى/ وهي على درجة عالية من الأهمية، قد نجد البعض يحتفظ بعدم التعبير عن غضبه لأسباب عديدة، إذ نحتاج في حالات كثيرة إلى الذكاء أكثر من الغضب لمواجهة أسباب الظلم وهذا يعني الابتعاد عن إطلاق أحكام قاطعة ضد أولئك الذين لا يعبرون، أولا يرغبون في التعبير، عن غضبهم. فكم هي حالات كتمان الغضب التي مرت بنا أو لاحظناها عند غيرنا من مواقف كنا نرى فيها ضرورة التعبير عن الغضب، سواء بالقول أو بالفعل، للحفاظ على الكرامة الذاتية.
ولعل هذا يعني، من بين أشياء عديدة، الكف عن التفكير نيابة عن هؤلاء والسعي للتفكير معهم بما يتطلب منا تقديم نماذج واضحة غير ملتبسة من الأخلاق سواء على صعيد الذات أو المجتمع أو السياسة.
ورحم الله من قال
"أصبحَ الصبرُ تعبْ
فاغضبوني واغضبوني واغضبوا
تشتهي الثورةُ لحظاتِ الغضبْ"
.....
فلسفة الغضب
لنفترض إني سرقت منك شيء ما يوم الاثنين، ثم اكتشفتَ السرقة يوم الثلاثاء فأصبتَ بنوبة من الغضب.
طيب.. لنفترض من جديد إني راجعتُ نفسي وقررتُ إعادة ما سرقت يوم الأربعاء؛ ثم أحاولُ تعويضكَ عن الضرر الذي قد أكون تسببتُ لكَ به خلال اليومين الفائتين؛ ولتأكيد حسن النوايا تجاهكَ فقد قررتُ أيضاً تقديم بعض الهدايا الإضافية كإشارة اعتذار عن سرقتي التي قمت بها في لحظة ضعف. وسوف أعدكَ، أخيراً، بعدم تكرار ذلك مرة أخرى.. ثم افترض، فوق كل هذا، أنك آمنت واقتنعت بصدق اعتذاري وأنني سأفي بوعدي وأحافظ عليه.
والآن، هل يبدو منطقياً أن تكون غاضباً في اليوم التالي؟ أي يوم الخميس؟ وأن تعيش لحظة غضب كتلك التي عشتَها يوم الثلاثاء؟
وهل يبدو منطقياً أيضاً البدء في التفكير بسرقتي، كنوع من الانتقام.
وماذا لو لم تتوقف عند سرقة واحدة: هل من المنطق بشيء الاستمرار وسرقتي وسرقتي إلى ما لا أعلم؟
على الرغم من قبول غضبك الأولي، إلا أننا نميل إلى اعتبار الانتقام غير المتكافئ أو غير المتناسب سياسة نموذجية للاعقلانية. فمهما حصل لنا، علينا المضي قدماً في هذه الحياة، كما قيل لنا، وترك الماضي وراءنا، ونحوّل رغبتنا في الانتقام إلى شعور أكثر صحة أو أكثر احتراماً.
أثارت مثل هذه الأفكار نقاشاً بين الفلاسفة في الأروقة الأكاديمية حول قيمة الغضب.
هل يجب تثمين الغضب من حيث هو غضب حقيقي نعبر عنه في لحظات استجابتنا الأولية للسخط والاستياء؟ أم يجب إشهاره من منطلق الانتقام المبني على الضغينة المستمرة؟.
سأشرح كيف ستسير هذا السجال، لكنني لن أحاول تفكيكه. بل سأقوم بإظهاره لكشف ما يكمن وراءه من أسرار وألغاز:
وإذن لقد كنا نتناقش في مسألة خاطئة. إذ يتعلق النقاش الحقيقي بالأسئلة الثلاثة حول الغضب والعقلانية في فقرتي الثانية، والتي ليست استفهامية، والتي قد تكون الإجابة عليها: نعم، نعم، ونعم.
أولا، فخوى النقاش الأكاديمي. في أحد الجوانب، يتمثل في أولئك الذين يعتقدون بوجود عالم أفضل أخلاقياً فيما لو تمكنا من القضاء على الغضب تماماً. وتعود جذور هذا الإرث إلى الفلسفة الرواقية القديمة وكذلك البوذية. كتب الفيلسوف ورجل الدولة الروماني سينيكا في القرن الأول الميلادي أن الغضب شكل من أشكال الجنون. وقام بتأليف كتاباً كاملاً بعنوان " عن الغضب De Ira"، ويدور، كما يبدو، حول كيفية التعامل مع آثار الغضب السلبية. كما حثّ الفيلسوف والراهب الهندي شانتديفا في القرن الثامن الميلادي الراغبين في السعي نحو التنوير والإلهام على التخلص حتى من أصغر بذور الغضب، باعتبار أن العواطف الكاملة يمكنها التسبب ببعض الأذى.
وفي زمننا المعاصر، تعتمد الفيلسوفة مارثا نوسباوم على سينيكا وعلى التقليد الرواقي للقول بخطأ الغضب كموقف جوهري، لأنه ملوثاً بـ "رغبة الانتقام" التي لطالما تنظر إلى الماضي وتكون مشبعة بدوافع انتقامية وتدميرية. وهي تعتقد، إن الاستجابة الصحيحة لأي انتكاسة أو عقبة أو ظلم تظل استجابة استشرافية تنزع نحو المستقبل، بمعنى العمل على منع وقوع أحداث مماثلة في المستقبل. وعلى هذا المنوال، يرى أوين فلاناغان، الذي يعتمد على كل من بوذية شانتديفا والميتافيزيقيا الكونفوشيوسية، ليقول أن الغضب عبارة عن موقف عدائي جوهري، يفترض بصورة خاطئة وجود ميتافيزيقيا أنانية للأفراد الذين يمتلكون "نوايا قاسية أو يصبحوا بموجبها قساة، مما يتسبب ذلك بالمزيد من الضرر أو الشر". وعلى الجانب الآخر من النقاش، يقف من يتصورون الغضب -إلى حد ما- كجزء أساسي وقيِّم من الذخيرة الأخلاقية للفرد: فالغضب هو ما يحثنا على الإحساس بالظلم ويحفزنا للدفاع عن العدالة. فأن تكون غاضباً مني يوم الثلاثاء، أي في اليوم التالي للسرقة، فإنك تؤسس بلا شك نظاماً تطالب بموجبه بالشروط التي يجب بمقتضاها أن أوافق و"أصلح الأمور" يوم الأربعاء. ومثل هذا الموقف المؤيد للغضب له جذوره في وجهة نظر أرسطو القائلة بأن المشاعر (المدربة جيداً) هي التي تسمح لـ "عين الروح" إدراك القيمة الأخلاقية، وتجد تعبيرها الكامل في منظومة الأخلاقيات العاطفية البريطانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ويعتقد كل من إيرل شافتسبري، وفرانسيس هتشسون، وديفيد هيوم، وآدم سميث أن مشاعرنا هي بالضبط ما تجعلنا نشعر بالحساسية نحو الاعتبارات الأخلاقية. وفي وقت لاحق، قدم بحث بيتر ستراوسون الهام "الحرية والاستياء" (1960) دفقاً جديداً للمسألة المؤيدة للغضب من خلال جعل العواطف آلية أساسية للمساءلة الأخلاقية. يطور ستراوسون رؤية سميث بأن مكانتنا ككائنات أخلاقية تعتمد على حقيقة أننا نهتم -على المستوى العاطفي- بما نفكر به فيما بيننا. ويفهم ستراوسون المشاعر السلبية في عائلة الغضب كتعابير نموذجية للتقويم الأخلاقي. يتعامل الغضب مع هدفه باعتباره شخصاً قادراً على إدراك ما ارتكبه من خطأ ويجب مقارنته مع اللامبالاة أو الحذر الذي قد نتفاعل به مع شخص لا نرى أملًا في إعادة دمجه في المجتمع الأخلاقي.
يظهر تأثير ستراوسون المستمر في أعمال الفلاسفة المعاصرين مثل آر جاي والاس وجيسي برينز وألان جيبارد وباميلا هيرونيمي وجين هامبتون. وعلى الرغم من اختلاف استنتاجاتهم والعديد من الخطوات في كتاباتهم، فقد افترضوا جميعهم بأن العواطف تكمن في أساس ممارساتنا لتحمل بعضنا المسؤولية الأخلاقية. فالعواطف هي الطريقة التي نتعامل بها نحن البشر مع الأخلاق. ولكن لكن هل هذان المعسكران -الرواقيون مقابل العاطفيون- متعارضان حقاً؟
يجب على كل فريق الاستجابة للبيانات التي تحفز الطرف الآخر، وعندما يفعلون ذلك، فإنهم يقومون ببعض التحركات المفاجئة نحو المصالحة.
لننظر إلى بيانات الجانب الرافض للغضب. الذين يميزون خللين بارزين في الغضب: أولاً، الميل إلى التشبث بالغضب، أو حمل ضغينة صماء لأي صوت معقول للمصالحة أو الاعتذار أو التعويض؛ ثانياً، الميل إلى الانتقام (غالباً غير المتناسب). بينما ينحت مؤيدو الغضب هذه الظواهر كأمراض واضطرابات نفسية غير مرتبطة أساساً بالغضب. ويستخدمون كلمات خاصة مثل "السخط" و "الاستياء" للإشارة إلى الغضب النقي من بين مثل هذه الدوافع والرغبات. ويرون في الغضب النقي احتجاج على الظلم ولكنه احتجاج خالِ من دوافع ورغبات الانتقام، ويستجيب على الفور للأسباب الموجبة للتخلي عنه، أي الغضب. (في هذا المصطلح التقني، يُستخدم مصطلح "الاستياء" عادةً للإشارة إلى الاحتجاج نيابةً عن الفرد، في حين أن "السخط" هو للاحتجاج نيابةً عن شخص آخر.) هذه الخطوة -إزالة الجانب المظلم- تشبه إلى حد كبير خطوة رافضي الغضب عندما يواجهون الجانب المعنوي الذي يمكن أن نطلق عليه "الجانب الأخلاقي أو المعنوي" للغضب. فعلى سبيل المثال، يقر فلاناغان ونوسباوم بأن من يفشل في الرد على الشر الجسيم الواقع عليه يعرض نفسه لخطر الإذعان له، ويقران أيضاً بأهمية الإحساس الأخلاقي الذي من شأنه قيادة الشخص إلى الاعتراض على التعامل غير اللائق معه، لكنهما يعتقدان بإمكانية هذه الاستجابة دون سخط. ويستخدم فلاناغان كلمة "السخط الصالح" للإشارة إلى "الحكم على أن هذا الوضع السيء غاية في الخطأ، ويجب تصحيحه، ووجود ميول عاطفية قوية للرغبة في المشاركة في تصحيحه دون غضب". بينما تتحدث نوسباوم عن "الغضب التحولي أو الانتقالي"، الذي لا يعني الغضب بالضبط بقدر ما هو "شبه غضب أو نصف غضب": "المحتوى بأكمله للعاطفة هو:" يا له من أمر مشين! يجب فعل شيء حيال ذلك".
لاحظ ما حدث: ما بدأ كمعركة حول الغضب انتهى باتفاق الجميع على تجنب استخدام تلك الكلمة. بدلاً من ذلك، يفضل كلا الجانبين فصل "الجانب الأخلاقي" للغضب (غضب الثلاثاء، الذي يتخذ شكل احتجاج عقلاني ومبرر على الظلم) عن "الجانب المظلم" (غضب الخميس، الذي يتخذ شكل ضغائن غير عقلانية وانتقام غير مبرر). لا يهم ما إذا كنا نتبع موقف ستراوسون الفلسفي ونطلق على هذا الجانب الأخلاقي "السخط / الاستياء" ، أو ما إذا كنا نستخدم مصطلحات نوسباوم وفلاناغان لـ "الغضب الانتقالي" أو "السخط الصالح".
الآن، عندما يفشل الفلاسفة في الاختلاف حول أي مسألة مادية جوهرية، فلابد أن ثمة هناك من يخفي شيئاً ما. في هذه الحالة، أعتقد أن الحرب الزائفة قد شتت انتباهنا -والمقاتلين أنفسهم- عن الخلاف الحاد بالافتراض الذي يتم قبوله من جميع الأطراف. يفترض الجميع أنه يمكننا الاحتفاظ بالجانب الأخلاقي للغضب مع إبعاد أنفسنا عن ظواهر العداء النموذجية غير العقلانية وغير المبررة مثل الضغائن والانتقام. لكن ماذا لو لم يكن الأمر كذلك؟ ماذا لو كنا نتبع نحن البشر الأخلاق من خلال هذه الضغائن وذلك الانتقام؟ إنها حقيقة من حقائق الحياة أن البشر لديهم ضعف عاطفي مباشر تجاه الطريقة التي يعامَلون بها، لذلك عندما تظلم شخصاً ما، فإنك تُلحق به ألماً مميزاً للمعاملة غير العادلة. ويتم تضمين هذا الحس الأخلاقي لديهم في المعنى الحقيقي لما يعنيه "إيذاء شخص ما"، ولعل جزء من سبب الظلم في إيذاء الناس هو أنهم يلاحظون ذلك. ومن حقائق الحياة أيضاً أن الناس يميلون إلى استخلاص استنتاجات تنطوي على الضغينة والعداء والانتقام من مقدمات تنطوي على حقائق أخلاقية حقيقية حول الظلم والسلوك الخاطئ. وأعتقد أنه ينبغي عدم تسرعنا في التعامل مع هذا الاستنتاج أو تصنيفه أو رفضه باعتباره محض تشنج نفسي أو عادة. وسوف أقوم بتقديم حجتين -حجة الضغائن وحجة الانتقام- لربط تلك المقدمات المنطقية بتلك الاستنتاجات وأشير إلى أن المنطق المعني، في الواقع، صحيح بوصفه استدلالاً مطروحاً. وإذا لم نتمكن من تنقية الأخلاق، فلا يمكننا، إذن، من تنقية الغضب.
والآن، لنعد إلى مثالنا الأصلي. هل يعقل أن تظل غاضباً مني يوم الخميس بعد كل ما قمت به من عمل شاق لاستعادة العدالة؟ سينفي ذلك كل من الرواقيين الجدد مثل نوسباوم والعاطفيين الجدد مثل ستراوسون. سيقول هؤلاء بضرورة الأخذ في الاعتبار كيفية التعامل مع السلوك الخاطئ مصدر غضبك، من خلال الرد والتعويض المادي والاعتذار والوعد. لقد عوّضت عن ظلمي بكل طريقة ممكنة لتصحيح الخطأ؛ فإذا كنت لا تزال غاضباً كما كنت، فلعل ذلك يعود، كما يجادلون، لعدم حساسيتك بشكل غير عقلاني تجاه تلك التصويبات. إن الميل إلى التشبث بالغضب من خلال الاعتذارات والتعويضات، لعدة سنوات في بعض الأحيان وعلى حساب جميع الأطراف المعنية، يتم رفضه بشكل روتيني باعتباره غير عقلاني وغير منطقي. وغالباً ما يُفترض، على وجه التحديد، أن "عدم التخلي" عن الغضب يجب أن يشير إلى متعة معاكسة في هذا الغضب. (وهكذا، يقول الشاعر روبرت بيرنز في العام 1790: "حيث تجلس سيدتنا المتجهمة الكئيبة / تجمع حواجبها كما تجمع العاصفة / تمقت غضبها لتبقيه حياً دافئاً**". لكن هذه الفكرة تتجاهل حقيقة أن هناك أسباباً للبقاء غاضباً. وليس من الصعب العثور على الأسباب: فهي نفس أسباب الغضب التي جعلتك تغضب مني منذ البداية. الاعتذارات والتعويضات وجميع الإجراءات الباقية لا تلغي أو تغير من حقيقة أنني سرقتك، ولا من حقيقة أنه يجب أن لا أسرق. تلك الحقائق كانت أسباب غضبك. وبما أنها لا تتغير من خلال أشكال التصويبات التي قمت بها - الاعتذار، والتعويض، وما إلى ذلك - فلا يزال لديك، حتى بعد تفعيل هذه التصويبات، نفس الأسباب التي تجعلك تشعر بالغضب تماماً. فالغضب، بعد كل شيء، ليس رغبة في إصلاح شيء ما ولكنه طريقة لفهم حقيقة أنه مكسور. أنت غاضب من شيء حدث في الماضي، وليس ثمة ما يمكنك فعله حيال ذلك. وما فعلته سيختلف دائماً عما يجب عليّ فعله، بغض النظر عما سأفعله بعد ذلك.
هناك، بالطبع، العديد من الطرق غير العقلانية التي قد ينتهي بها غضبك: فقد تموت، أو تصاب بفقدان الذاكرة، أو يمكن أن يتلاشى غضبك بمرور الوقت. لنفترض أنك يوماً ما قررت هكذا فجأة وببساطة أن تضع غضبك جانباً وتتجاهله، ولنفترض أنك نجحت. عندها قد نحكم على هذا القرار بأنه "عقلاني" إلى حد ما -فمن يرغب منا أن يقضي عمره بأكمله غاضباً- ولكن ليس بمعنى أن سبب غضبك قد تم معالجته. لم يكن الأمر كذلك ولن يكون قط. بمجرد أن يكون لديك سبب للغضب، فهذا يعني أنه لديك سبب لأن تبقى غاضباً إلى الأبد. هذه هي حجة الضغائن أو العداوات.
لننتقل الآن إلى حجة الانتقام. إن رغبتك في الانتقام، مثل الاحتفاظ بضغينة أو عداوة دائمة، عادة ما يعتبر غير منطقي وغير مبرر. لكن هذا الاستنتاج عادة ما يكون نتاج الافتراض القائل بأن الانتقام يهدف إلى حل مشكلة الغضب مرة واحدة وإلى الأبد، من خلال إعادة التوازن أو التراجع عن الخطأ المرتكب. وعندما نتخلى عن هذا الافتراض القائل بإمكانية التراجع عن الغضب - فلديك سبب للغضب إلى الأبد، بعد كل شيء- فليس من الصعب تقديم حجة لصالح الانتقام. يجب ألا نجد هذا الاحتمال مفاجئاً. وسيكون من الغريب لو لم يكن لأحد أقدم وأكثر الممارسات الإنسانية انتشاراً تفسيراً منطقياً. فحجة الانتقام تتمثل ببساطة في أن الانتقام يعبر عن الكيفية التي نتحمل بها مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه بعضنا البعض. فعندما أسرقك، فأنت تراني مسؤولاً عن فجوة خطيرة بين ما هو عليه العالم وبين الطريقة التي يجب أن يكون عليها؛ هناك تنافر من وجهات النظر بيننا. أنت ترى أفعالي غير مقبولة أخلاقياً، وتختبر عدم القبول هذا كألم وضرر. لكني، أنا من فعل ذلك، ومن الواضح أنني رأيت أنه فعل جيد تماماً، بعد أن حكمت عليه بأنه جيد بالنسبة لي. وبافتراض يشترط فهمي أن ما كنت آخذه هو ملكك، وأنني لم أتصرف تحت أي نوع من الضغط أو الإكراه -الجهل والإكراه هما عاملان مخففان- تشير سرقتي إلى أنني أرى العالم بمعايير قيمة تختلف عن معاييرك أو حتى تعارضها. فما هو "سيئ" بالنسبة لك، هو "جيد" بالنسبة لي. وإذا كنت ستحملني المسؤولية عن هذا، فبدلاً من تبرئتي والسماح لي بالخروج من المأزق، فسوق تجعل هذا التعارض (العرضي، الطارئ) مبدأً وقاعدة لتفاعلاتنا. وسوف يسمح لك الانتقام بتحويل مبدأ أفعالي إلى قاعدة لسلوكك نحوي: أنت تجعل مما هو "سيئ" لي "خير" لك. هذا هو عكس محاولة التراجع عن أفعالي أو عكسها. فأنت تحاسبني وتحملني المسؤولية من خلال التمسك بسرقتي، ورفضك نسيانها، وتحويل التعارض الحاصل بين مصالحنا قاعدة يخضع سلوكك لها الآن. أنت لا تدعني "أعيشها على أرض الواقع"، وبدلاً من ذلك تجبرني على قبول التفكير بما تريد أنت. إن رؤيتي كمسؤول عما قمت به يعني التعامل مع أفعالي كمبدأ يحكم تفاعلاتنا.
يصف الأشخاص الغاضبون ثأرهم في بعض الأحيان كنوع من "تعليم شخص ما درساً"، وهذا صحيح: أنت تجعل ظلمي لك مبدأ عاماً ثم تقوم بـ"تثقيفي" بفرضه علي.
علماً أن تعليمي بهذه الطريقة ليس بالأمر السهل عليك: إذ تنطوي عملية تحويل "شرّي" إلى "خير" لك على تكاليف نفسية، من بينها حقيقة أنك تصرف نفسك بعيداً عما يمكنه العودة بالمنفعة عليك في الأحوال العادية. ويجب إعادة تشكيل المشهد النفسي الخاص بك وبمنظومة تفكيرك إلى مشهد مخصص لضبط إيقاع التفكير عندي. وهذا ما يفسر العلاقة الحميمة الغريبة للغضب: على الرغم من صعوبة أن تكون بجواري، فمن الصحيح أيضاً صعوبة أن يكون أحد أقرب إليك مني. لقد تسللتُ إلى أنماط تفكيرك. وأصابعي تعبث في أوتار قلبك. وانغمست حتى في إدراكك الحسي، وها أنت ترى آثاري أينما وكيفما نظرت. تشتكي مني لأي شخص جاهز للاستماع لك، وعندما لا تجد من يسمعك، تصرخ في صورة ذهنية لي. لقد استوليتُ، بالأحرى استوطنتُ، مخيلتك. ويبدو أن احتفاظك بمسؤوليتي يتطلب أن تجد حضناً، وإن كان عدائياً. العضب يشعر بالتمام والكمال كما تتوقع، إذا كان صحيحاً ارتباط مسؤوليتي الأخلاقية برؤية ما هو جيد لك من حيث ما هو سيء لي.
مرة أخرى، كما هو الحال مع الضغائن، فالفكرة ليست في وجوب الانتقام بعد إعادة النظر بجميع العوامل، إذ يمكن أخذ عوامل أخرى في الاعتبار إلى جانب الغضب في تنظيم السلوك، ولكن بقدر ما نتصرف بناء على الغضب، بقدر ما نسعى لما هو جيد لنا من خلال فعل ما هو سيء للآخرين، وهذا منطقي ومبرر. وفي سياق الجدل، عبر بوليمارخوس في "جمهورية" أفلاطون عن منطق الغضب العدائي بالقول: العدالة تمنح الفوائد للأصدقاء وتلحق الأذى بالأعداء.
تشير هاتان الحجتان -حجة الضغينة وحجة الانتقام- إلى صعوبة فصل فكرة اعتبار الغضب شعور أخلاقي عن الفكر الذي يجب التمسك به من الضغائن، أو تبني الغضب كآلية للمساءلة الأخلاقية دون تأييد الانتقام. ولا أزعم أن هذه الحجج تقدم مسوغات قاطعة. فمن المؤكد النظر في بعض الاعتبارات المحتملة، وسوف يكون مشروعاً إلى حد كبير الدفاع الكامل عن صحة هذه الأشكال من التفكير. وهدفي هنا إظهار وجود تبريراً أو تبريرات لتقديم استنتاج يؤكد بصورة تامة على منطقية الضغينة والانتقام -وأن مثل هذه الحالة ليست قضية معقدة للغاية. تبدو الحجج التي قدمتها بسيطة وبديهية، وهي في مجملها صفات تجعل إهمالها في النقاشات الفلسفية مثيرة للانتباه -ولو في شكل افتراض لا جدال فيه يرى، على كلا الجانبين، بعدم منطقية الضغينة والانتقام-. ومع كل هذا، لا يبدو الأمر عصياً على التفسير إلى درجة الغرابة، فلو جمعنا الحجتين معاً، فسوف تكون النتيجة عدم امتلاك الشخص الغاضب سبباً يجعله يقطع الصلة بين شر الآخر وخيره الخاص. وربما يكون التفسير بخصوص إغفال هذه الحجج يكمن في رغبتنا بعدم الاعتراف بإمكانية توفير رذائل الغضب الأخلاقي أسباباً منطقية للعنف غير المحدود. وفي حين أنه قد يبدو، إذن، التعارض الجذري بين الرواقيين والعاطفين، رغم اشتراكهم بأمور كثيرة تبدو خفية. لاسيما عنصر الثقة -التي تكون في غير محلها، على ما أعتقد- في مشروع معين للتحليل المفاهيمي. يهدف إلى تحديد شكل نقي من الاستجابة الأخلاقية، يتضمن جميع الفضائل وليس أياً من عيوب الغضب. ولستُ أول من يجادل بأن مثل هذا المشروع هو محض وهم، إذ يمكن العثور على ما يشبه وجهة نظري لدى عدد من المفكرين الذين يتعاملون مع مسائل الأخلاق من زاوية تاريخية وأنثروبولوجية أكثر، وقد قدم كل من فريدريك نيتشه وميشيل فوكو ورينيه جيرار حججاً تشير إلى أن الجوانب الأكثر ظلمة من الغضب -الانتقام وسفك الدماء والعنف اللامحدود- عادةَ ما تكون مغلفة بقشرة من فكرة الأخلاق ذاتها.
يحيل "جينالوجيا الأخلاق" لنيتشه (1887) مقاربتنا الحالية للأخلاق إلى التحول عن أخلاق ما قبل تاريخية تقوم على أفكار النبل والقوة. وتكون المشاعر الحاسمة التي توجه الأخلاق الجديدة هي الشعور بالانتقام -وهو شكل من أشكال الغضب- الذي يشعر به المضطهدون والمستعبَدون في الماضي. وما يظهر هو "أخلاق العبيد [التي] تقول "لا" منذ البداية لما هو "خارجي"، وما هو "مختلف"، وما هو "ليس هو نفسه"؛ وهذه الـ "لا" هي فعلها الإبداعي". إن الأخلاق السلبية أو التفاعلية التي وصلنا إليها تسلط الضوء على مفاهيم الشعور بالذنب والضمير والوعود والواجب. يقول نيتشه إن هذه المفاهيم "غارقة في الدم تماماً ولفترة طويلة. وهل يمكننا ألا نقول بأن هذا العالم، في جوهره، لم يفقد منذ تلك اللحظة رائحة الدم والتعذيب؟ "
ويناقش جيرار في العنف والمقدس (1972)، وهو عمل في الأنثروبولوجيا الدينية، دور التضحية البشرية والحيوانية في كبح العنف. ويبدأ من ملاحظة أن كل شكل من أشكال المجتمع البشري مهدد بمعضلة أساسية: تنهال سلسلة من ردود الفعل الانتقامية غير المحدودة بمجرد حدوث العنف، ويكون الرعب الأخلاقي للعنف هو الدافع وراء ردود الفعل هذه: "لا يمكن تمييز الالتزام بعدم إراقة الدماء عن الالتزام بالانتقام من أولئك الذين يريقونه.. وبالضبط لأنهم يمقتون العنف فهذا يجعلهم ينظرون إليه كواجب انتقامي". يؤكد كتاب جيرار أن الظواهر المتنوعة مثل كبش الفداء القديم، والتراجيديا اليونانية، والأعراف الجنسية التي تحكم الأسرة النووية هي محاولات للتعامل مع هذه المشكلة الأساسية لاحتواء العنف.
ويحلل، أخيراً، ميشيل فوكو في "المراقبة والمعاقبة" (1975) التحول من العقوبة العلنية للتعذيب والإعدام إلى العقوبة بالسجن. وتتمثل أطروحة فوكو في أنه على الرغم من صياغة هذه الإصلاحات تمت بلغة حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، فإن هدفها كان تحويل العقوبة إلى هجوم مركز على حقوق السجين: "اصبح العقاب اقتصاداً للحقوق المعلقة بدلاً من كونه فناً لإنتاج الأحاسيس غبر القابلة للتحمل". ويبني فوكو فكرته من السجن ويجادل بأنه يمكننا رؤية قيم مجتمعنا مدرجة في منهجية القمع القسري التي تميز مثل هذه العناصر الاجتماعية كالمدارس ومنظومة الامتحانات والجداول الزمنية والوظائف المهنية. والطريقة التي نقدر بها الحرية والاستقلال الذاتي وتقرير المصير وحقوق الإنسان هي أن نسلب هذه الأشياء من الناس في كل منعطف.
لعبت هذه الآراء الثلاثة دوراً مؤثراً بشكل كبير على الرغم من التشكيك في التفاصيل التجريبية لحججهم القائمة على البيانات القدرية من قبل علماء من مجموعة متنوعة من المجالات. وأود هنا اقتراح أن أحد أسباب شهرتهم وحتى تأثيرهم الثقافي الشبيه بالعبادة هو أنهم يقدمون وجهة نظر فلسفية مقنعة وعميقة تتجاوز المصطلحات التاريخية والأنثروبولوجية الخاصة التي صيغت بها.
فما الذي تشترك فيه هذه الآراء بعد كل شيء؟
يقول نيتشه إننا بنينا أخلاقنا كلها على شهوة إراقة الدماء المستاءة؛ ويقول جيرار إن العنف ومعارضة العنف هما شيء واحد. بينما يقول فوكو أن العقاب جريمة. والقاسم المشترك لأقوالهم ينبع من ملاحظة ميل الأخلاق البشرية إلى الانقلاب على نفسها. فأن تكون شخصاً صالحاً يعني، في بعض الأحيان، أن تكون مستعداً لفعل أشياء سيئة.
لقد قمت هنا لتقديم أسباب تدعو للاعتقاد بأن "الجانب المظلم للأخلاق" الذي يراه هؤلاء المفكرون الثلاثة متجسداً في مختلف المؤسسات الاجتماعية مستمد في نهاية المطاف من منطق الاستجابة الأخلاقية: والطريقة الصحيحة أخلاقياً للرد على الفساد هي القيام بأمور -التشبث بالغضب، وممارسة الانتقام- والتي تكون بطرق غير أخلاقية بشكل أو بآخر. وإذا ما تخلينا عن المسافة الأنثروبولوجية واعترفنا بأننا نحن أنفسنا هم البشر الذين نصفهم، فإن التعامل مع هذه البصيرة لن ينتج عنه سوى أزمة لا مجال فيها للحكم على نظريتنا الأخلاقية كونها نظرية مفلسة أو محطمة؛ ويجب، إذن، الاعتماد عليها للحصول على شروط التقويم ذاتها. ويكون نيتشة، من بين المفكرين الثلاثة المذكورين، الأقرب لمواجهة هذه الأزمة، على الرغم من أنه غالباً ما يختبئ وراء اقتراح أن كلمات مثل "الصحة" و "القوة" تقدم له نوعاً من الأساس البديل. لكن من يريد مجتمعاً يتمتع بصحة أفضل أو أقوى ما لم تكن هذه الكلمات في إطار متحور أخلاقياً -أي بمعنى محاط بالفعل بظلام نظامنا الأخلاقي؟ لا توجد خدعة سحرية تتيح لنا إمكانية الخروج من جلدنا الأخلاقي الناظم لحياتنا.
وإذن، يورطنا الغضب جميعنا، تقريباً، في الفساد الأخلاقي. حسناً، جميعنا تقريباً. وهناك نوع رواقي متطرف لدرجة أن موقفه لا يمثله نوسباوم ولا فلاناغان، ولا أي مفكر حديث أعرفه. يرى هذا الرواقي المتطرف أن العواطف ليس لها دور في الأخلاق؛ ولكي يحقق هذا الانفصال العاطفي الكامل، فهو لا يعطي قيمة لأي شيء يمكن للعالم أن يزيله من نفسه، بما في ذلك أطفاله وحياته وحريته من التعذيب الجسدي. يستلهم الرواقيون المتطرفون سقراط، الذي ادعى أن الرجل الصالح لا يمكن أن يتعرض للأذى، والذي نفى في المقابل أن الأثينيين كانوا يؤذونه عندما أعدموه بسبب جرائم لم يرتكبها.
وقد مات سقراط خالي من الغضب.
يبدو أن معظمنا غير راغب ولا قادر على تحقيق هذا النوع من الانفصال الذي تتطلبه هذه الحصانة من الغضب. عندما يظلمنا الناس نشعر به: دمنا يغلي. وعند هذه المرحلة، علينا أن نقرر إلى أي مدى نريد القتال لتهدئة واحتواء غضبنا، وما هو مقدار الجهد الذي سنبذله لقمع وإخماد موجة الغضب هذه. نادراً ما يكون الجواب "لا شيء". في حين أننا لا نريد لغضبنا الابتعاد عنا وقيادتنا إلى نهايته المنطقية والمنتقمة إلى الأبد، وإذا ما قمنا بكبحه بقوة كافية، فإننا نفقد احترامنا للذات، وبشكل عام، لأساسنا الأخلاقي. إن منع أي وجميع الغضب من الانفجار في وجه الظلم الحقيقي يعني الموافقة وقبول الشر. لذلك، نواجه بانتظام السؤال المعقد حول مدى الغضب الذي نسمح لأنفسنا به في ظل مجموعة معينة من الظروف.
لكن لاحظ أنه إذا كانت الحجج التي قدمتها هنا صحيحة، فإن هذا السؤال يعادل السؤال: ما مقدار الفجور غير الأخلاقي الذي يجب أن نسمح لأنفسنا القيام به أو التصرف بموجبه؟ يجب تمييز المشروع الواقعي لتثبيط الغضب عن الفانتازيا الباطلة لتنقيته. ويمكننا استخدام كلمة مثل "السخط أو الاستياء" أو "الغضب الانتقالي" لافتراض عاطفي ينتفض في وجه الظلم دون أي إشارة أو ملمح إلى الأبدية أو الانتقام - ولكن العنصر الذي تشير إليه هذه الكلمة هو خيال فيلسوف. إن تكاثر أو تضاعف أنواع ونكهات وأصناف وأسماء الغضب يهدف إلى صرف انتباهنا عن الأزمة الكامنة في قلب الغضب، أي أن الاستجابة العاطفية للظلم تتشبث بطعم الدم.
أعتقد أنه علينا، أحياناً، الغضب بعض الشيء عندما نواجه الظلم. ومثل هذا الغضب ليس "نقياً" ويستلزم الخضوع (لدرجة معينة) من الفساد الأخلاقي، لكن البديل، أي الإذعان للظلم، غالباً ما يكون أسوأ. ومع هذا، فالنقطة التي أريد التأكيد عليها هي: لمجرد أن رذيلة الغضب هي أفضل خيار لدينا فهذا لا يعني أنه ليس رذيلة. وعواقب الاعتراف بهذه النقطة مدعاة للقلق: ضحايا الظلم ليسوا أبرياء كما نود الاعتقاد. فإما أن هؤلاء الضحايا متورطون أخلاقياً بسبب طبيعة غضبهم الانتقامي والذي يحمل معنى الضغينة، أو أنهم متورطون بسبب إذعانهم للظلم. ويترتب على عملية القمع المديدة لمجموعة من الناس تعرض هذه المجموعة إلى ضرر أخلاقي مديد أيضاً. وعندما يتعلق الأمر بالعنصرية، والتمييز الجنسي، ورهاب المثلية الجنسية، ومعاداة السامية، والقدرات، والطبقية، والتمييز الديني، ومعاداة التنوع العصبي، والنخبوية من أي نوع، تستلزم هذه الحجة أن الظالمين جعلوا المضطهَدين أسوأ أخلاقياً. بالطبع، اضطهاد الناس مضر لروحنا أيضاً، لكننا لا نحتاج إلى تذكيرنا بذلك؛ تعودنا على فكرة أن ظلم الآخرين وإيذائهم يجعلنا سيئين. وجهة نظري هي: نعم.. هذا ما يحدث عندما تكون ضحية للظلم، حتى لو بأقل بدرجة.
انتقلت إلى الولايات المتحدة من المجر عندما كنت في الخامسة من عمري، لكنني ما زلت أقضي الصيف طفولتي هناك، في بحيرة بالاتون. على الجانب الآخر من الشارع من منزل أجدادي، كان هناك منتجع مشهور بين الألمان الشرقيين. لم أتمكن من الدخول إلى منطقة المنتجع -فقد كان محاطاً بسور- ولكن ذات صيف، عندما كنت في العاشرة من عمري، صادقت فتاة في نفس عمري كانت تقضي إجازتها هناك. لم تكن ثمة لغة مشتركة بيننا، لكننا تواصلنا عن طريق لعبة اخترعناها، لعبنا دور الجنود واخترعنا رقصة عسكرية معقدة كنا نضيف إليها حركات يوماً بعد يوم. سرنا جنباً إلى جنب، يفصلنا السياج - إلى أن أمسكت بي جدتي. وهي إحدى الناجيات من معسكرات الاعتقال، لذلك شعرتْ بالرعب مما رأته: حفيدتها، تسير مع أحدهم. حاولت أن أشرح لها أن الأمر لا يتعدى كونه لعبة فقط، لكنه كان واضحاً لها: فقد كنتُ أتعاونُ مع العدو. جادلتُ بأن تحيزها ضد الفتاة الألمانية لا يختلف عن تحيز الألمان ضدنا. احتجاجي زاد من غضبها، ومُنعتُ من الاقتراب من الفتاة مرة أخرى. ولكن ما مدى براءة لعبتي حقاً؟
في الواقع، نجا أجدادي الأربعة من معسكرات الاعتقال. لقد فقدوا جميعهم تقريباً كل معارفهم في الهولوكوست. أنكرتْ جدتي أن المحرقة كانت أعظم مأساة في حياتها، ومنحت ذلك الشرف إلى مأساة ولادة طفلها الأول، عمي، الذي أتى مصاباً بشلل دماغي. لكنها ألقت باللوم في ذلك على النازيين، ربما ليس بدون سبب: هناك العديد من القصص عن إصابات الولادة في الجيل الأول من الأطفال المولودين لنساء عانين من سوء التغذية وأشكال أخرى من سوء المعاملة في معسكرات الاعتقال. (وُلد طفل جدتي الأول ميتاً).
قرر والداي مغادرة المجر عندما تم تفجير الكنيس اليهودي الموجود في بنايتنا. (بعد ذلك، ذهب اليهود في المنطقة إلى منزل جدتي للصلاة سراً) عندما وصلنا إلى مدينة نيويورك، أخرجني والداي من المدرسة العامة بعد أن تعرضت للضرب لارتدائي قلادة عليها نجمة داود.. لم يكن بإمكانهم تحمل نفقات المدارس الخاصة، لكن المدارس الابتدائية اليهودية الأرثوذكسية الأقل تكلفة كانت مستعدة لقبولي أنا وأختي مجاناً، كحالات خيرية. لماذا؟ بسبب الهولوكوست بالطبع - والذي كان الموضوع الخاص في تلك المدارس إلى جانب اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم. قبل المرحلة الثانوية، ونادراً ما كنتُ أكتبُ قصيدة أو قصة قصيرة لم تكن متعلقة بطريقة ما بالهولوكوست. كانت معاداة السامية موضوعاً مركزياً في طفولتي لدرجة أنه من المستحيل تصديق أنني تورطت عن طريق الخطأ أو بالصدفة في لعب دور الجنود مع فتاة ألمانية. لم أكن بريئة. لكن جدتي أيضاً لم تكن بريئة: كانت مليئة بالغضب. البراءة هنا ليست احتمالاً.
لقد ساهم نيتشه وفوكو وجيرارد في سلسلة من النقد الثقافي غالباً ما يتم استدعاؤه لدعم مواقف السخرية والاشمئزاز والتشاؤم تجاه الحالة الإنسانية. يُنظر إليهم كمتطرفين. ومع ذلك، في رأيي، يجب انتقادهم بسبب جبنهم. من المدهش حقاً أن تعرف إلى أي مدى يقفون كل على حدة على مسافة أنثروبولوجية آمنة من الجانب المظلم للأخلاق التي وصفوها بدقة. لو أنهم دخلوا إلى قلب نظرياتهم، لوصلوا على الفور إلى نتيجة بسيطة ومدمرة مفادها أنه من المستحيل على البشر -أنا وأنتم وهم الثلاثة- الاستجابة بشكل صحيح للمعاملة السيئة. لا يمكننا أن نكون أشخاصاً جيدين في عالم سيء.
....
*النص الأصلي:
Whare sits our sulky sullen dame
Gathering her brows like gathering storm
Nursing her wrath to keep it warm
العنوان الأصلي The Philosophy of Anger
المؤلف Agnes Callard
المصدرhttps://www.bostonreview.net/forum/agnes-callard-philosophy-anger/



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دليل الفاشية البدائية لتدمير العالم: حوار مع نعوم تشومسكي عن ...
- انتشار الأخبار الكاذبة عن الأخبار الكاذبة. قراءة في كتاب Foo ...
- قضية فلسطين في التصور السياسي الأرجنتيني: الفكر المناهض للإم ...
- قراءة في كتاب -اليسار الجديد: صنع الإرث الراديكالي-
- ترجمة الفاشية
- السياسة واللغة الإنكليزية
- منظومة التفاهة أو تشكيل العام على صورة -مكدونالد-
- كيف انتصرت فئران هانوي على فرنسا
- الفضاء الحضري في المدن المختلطة في إسرائيل: إعادة قراءة
- رواية الجحيم - Lenfer- :البحث عن اللامنتمي الواقعي
- دكتور جيكل ومستر هايد : الخير والشر، نزعات أصيلة
- النزعة العرقية والاستعمار الاستيطاني والمراقبة: حالة السيطرة ...
- ما هي سبل تغير السياسات الأمريكية تجاه إسرائيل ومتى؟
- السيدة بيكسبي ومعطف الكولونيل/ قصة قصيرة
- تاريخ الصهيونية ونظرية ما بعد الكولونيالية
- متحف الآثار الإمبراطوري في القدس من 1890 حتى1930: رواية بديل ...
- العصر الفارسي وأصول إسرءيل: ما وراء -الأساطير-
- تسمية شوارع حيفا والقدس وأم الفحم والهوية العربية الفلسطينية ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...


المزيد.....




- قضية مقتل فتاة لبنانية بفندق ببيروت والجاني غير لبناني اعتدى ...
- مصر.. تداول سرقة هاتف مراسل قناة أجنبية وسط تفاعل والداخلية ...
- نطق الشهادة.. آخر ما قاله الأمير بدر بن عبدالمحسن بمقابلة عل ...
- فشل العقوبات على روسيا يثير غضب وسائل الإعلام الألمانية
- موسكو تحذر من احتمال تصعيد جديد بين إيران وإسرائيل
- -تهديد للديمقراطية بألمانيا-.. شولتس يعلق على الاعتداء على أ ...
- مصرع أكثر من 55 شخصا في جنوب البرازيل بسبب الأمطار الغزيرة ( ...
- سيناتور روسي يكشف سبب نزوح المرتزقة الأجانب عن القوات الأوكر ...
- ?? مباشر: الجيش الإسرائيلي يعلن قتل خمسة مسلحين فلسطينيين في ...
- مصر.. حكم بالسجن 3 سنوات على المتهمين في قضية -طالبة العريش- ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الصباغ - فلسفة الغضب