أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - رواية الجحيم - Lenfer- :البحث عن اللامنتمي الواقعي















المزيد.....



رواية الجحيم - Lenfer- :البحث عن اللامنتمي الواقعي


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 7548 - 2023 / 3 / 12 - 04:47
المحور: الادب والفن
    


وجد الإنسان -الحديث- نفسه وحيداً في هذا الكون، معزولاً، ينشدّ نحو تعريف علاقته بالعالم من حوله، ولعل الرواية، كجنس أدبي، كانت أكثر البيئات التي رسّخت المعنى الفلسفي لهذه العلاقة، مع الأخذ في الاعتبار الجوانب الإبداعية والجمالية للأعمال الروائية. ويبدو من المناسب الإشارة إلى المنظومة الثقافية المرجعية لأفكار الأفراد وسلوكهم ورغبتهم في المعرفة والتسامي، في إطار سردية البحث عن المعنى. وهذا يعني، من ناحية الرواية كنص أدبي، استحضار دلالات التعبير الذاتية والموضوعية في إطار الخبرة الجمالية المتوفرة في النص لتكون مدخل التعامل مع عالم الشخصيات الروائية وتقنيات العمل الفني من مكان وزمان وواقع ثابت أو متحرك يطابق رسم الشخصية في سياقها أو في أي سياق آخر معطى.
ويحضرني للتو، أعمال المفكر الإنكليزي كولن ويلسون* (1931-2013)، لاسيما عمله الأشهر "اللامنتمي" (وهي الترجمة العربية للعنوان الأصلي Outsider) الصادر في العام 1956، ولعل هذا الكتاب كان مناسبة لإعادة اكتشاف رواية هنري باربوس "الجحيم" بالنظر إلى اعتبار ويلسون بطلها مثالاً على اللامنتمي، ولعلنا أعجبنا بالكتاب والكاتب، إذ كان من المدهش قيام شاب في الرابعة والعشرين من إنتاج كتاب بكثافة وزخم "اللامنتمي"، يحاول أن يكرس نفسه منبراً في صرح "وجودية جديدة" أساسه جوهر متفائل يسعى لتفسير ظاهرة "الاغتراب" في الأدب الأوروبي الحديث. ورغم النشاط الثري والممتع والعمر المديد الذي عاشه ويلسون، ورغم الاستقبال الجماهيري لكتبه، وخاصة اللامنتمي، إلا أنه لم يحظ، باعتراف أكاديمي. فقد ظل النقاد ينظرون له ككاتب هاوٍ، لا يملك منهجاً واضحاً قاراً، بل هو أشبه بسائح يجول هنا وهناك ويقطف ما يشاء من بستان المعرفة حسب هواه ومزاجه دون اتساق واعٍ، أو صرامة "أكاديمية" لازمة لبناء أي تصور فكري.
وتبقى مأثرة ويلسون في جعلنا نرى كامو وكافكا ومالرو وديستوفسكي ونيتشة وباربوس** وملفيل.. إلخ بعيون جديدة. فقد صار من الأنسب نزع صفات "البطولة والقداسة" عن كثير من الرموز، لنتخلص من الأوهام التي حيكت حولهم، في سبيل فهمهم بصورة أنسب (تحولت صورة لورنس العرب، على سبيل المثال، بعد "اللامنتمي" من البطل العسكري والسياسي الداهية إلى صورة شخص بائس وحيد غير قادر على التواصل مع الآخرين). ويعتبر هذا التحول في الشخصية أحد أبرز سمات اللامنتمي الذي يرى أكثر مما نرى ويتحسس الغربة أكثر مما نتحسس، فينسحب إلى عوالمه الخاصة ويوصد الأبواب خلفه، تماماً كما يفعل راوي "الجحيم" حيث يكون ثقب الباب وسيلة الاتصال الوحيدة بينه وبين العالم.
ثقبٌ صغيرٌ في جدارِ غرفة يجعله، مثل إله، يرى، على نحو درامي مثير، ما لا يراه غيره، إله وحيد مقيم في بنسيون لومرسييه، وطالما هو كذلك فمن أقدر منه على رسم صورة مجتمع مصغر في غرفة لتكون مثالاً عن المجتمع الأكبر في الشارع، لكنه إله بشري إلى درجة عادية حين يكون سلاحه الأقوى هو "التلصص***" فعبر ذلك الثقب في الغرفة المجاورة سوف ترتسم أمامنا عوالم متعددة ومختلفة ومتباينة يكون هذا الإله هو الشاهد والشارح والراوي الوحيد عليها، وسوف يسمح لنفسه- كإله- أن بتجاوز الضرر الأخلاقي الذي قد أو يسببه التلصص، أصلاً هو لا يشغل باله بهذا الفهم الأخلاقي للتلصص حين يعتقد أنه يعرض علينا الحقيقة "كما هي" (عارية وواضحة وصريحة). وسوف نلاحظ، أن هذا ليس سوى عبث، لاسيما حين نكتشف، أثناء مراقبتنا للحياة وهي تفر من بين أصابعنا، عدم قدرتنا (اقرأها عدم فعاليتنا إن شئت) على تغيير أي شيء. فما الفائدة، إذن، في هذه الميزة؟ رؤية ما لا يراه غيرنا؟ وما الفكرة من الالتصاق بها حتى تستحيل، هذه الميزة، إلى جزء عضوي من سلوكنا.؟
"أنظرُ.. أرىَ تهبُ الغرفة المجاورة نفْسَها لي، عارية تماماً" (ص 14). هكذا هي الحركة الأولى من رقصة راوي "الجحيم" على جدار غرقته.. ثم ينهمر التصعيد حتى نكاد نشعر بالألم الذي ينتابه من طول وقفته مصلوباً على الجدار كل يوم ينظر من الثقب ويراقب الحياة الدائرة في الغرفة المجاورة، على ما في الوصف من إثارة متعمدة، وتجربة "واقعية"**** لشاب ثلاثيني لانعرف اسمه يصل إلى باريس بناءً على عرض عمل حصل عليه من أحد البنوك، يقيم في "بنسيون مدام لومرسييه"، وسوف يكتشف ثقب في جدار غرفته بما يتيح له مراقبة ما يحدث في الغرفة المجاورة. وسوف يعيش الراوي شهراً كاملاً تحت ضغط هوس التلصص. ومع تقدم الرواية، سوف يزداد تركيزه على هذه النقطة أكثر فأكثر، وتستغرقه المشاهدة والتلصص حتى أنه سيفقد وظيفته في نهاية المطاف، لسبب بسيط، فهو لا يستطيع أن يقتلع نفسه بعيداً عن ثقب جدار الغرفة المجاورة.
كثيراً ما يصف نفسه باحثاً عن الحقيقة أو شاهداً يبحث عن اليقين، بعيداً عن ذاته، في القيم الدينية أو الفلسفية أو الأخلاقية أو النفسية، حيث لا تجاوز هنا لحدود هذه القيم، فالحياة "المجردة" في الغرفة المجاورة أذهلت الراوي وهو يتابع اكتشافها يوماً إثر يوم، ويتعرف على "المعاناة" الإنسانية والنضال الفطري الغريزي للحالات البشرية المختلفة، فالحياة، كما يرى باربوس، تقودنا إلى قلب الواقع، ومن الخطأ الاعتقاد بأننا يمكن أن نكون سعداء في هدوء ووضوح تامين، مجردة كالصيغة. لقد خلقنا الكثير من الظل وبعض أشكال المعاناة. إذا تم إزالة كل ما يؤلمنا، فماذا سيبقى؟ السعادة تحتاج التعاسة. الفرح يسير إلى جانب الحزن. هذه المقابلات النفسية الحدية لخلق التوازن، يمعنى الحزن مقابل الفرح، الدموع مقابل الضحك، الموت مقابل الولادة، تشكل جزء ومصدرها هاما للسرد. تتخلله سيناريوهات متعرجة يتم التعبير عنها بالمتغيرات التي تحدث في الغرفة المجاورة.. وسوف يقودنا باربوس بدهاء نحو الاستغناء عن فكرة الإله، ضمن تصورات العصر الذي كتبت فيه الرواية. عبر لحظة شديد الإيحاء عندما يستنتج الراوي (الذي كان قبل ذلك يحتفظ بقليل من الإيمان) في نطاق التجربة الإنسانية أن "الإنسان هو الشيء الوحيد المطلق في هذا العالم". علماً أن هذه القطيعة مع الرب كانت في بداية الرواية أحد الخيارات فقط وليس خياراً مفضلاً أو وحدياً، وكلما تقدمنا في الرواية تصبح هذه القطيعة أوضخ، ففي مشهد الحب بين إيميه والشاعر يصف الراوي اللقاء "لابد أن فورة جسميهما وروحيهما الصاخبة قد سلطت على اتحادهما شيئاً من النور. أين الله إذن، أين الله إذن، لمَ لا يتدخل في الأزمة الفظيعة المتكررة؟ لمَ لا يمنع بمعجزة المعجزة الرهيبة التي يصبح بما هو معبود مكروهاً بسرعة او ببطأ؟..." (ص68)
وسوف نكتشف، مع تقدم الرواية، قدرة الكاتب على التعبير عن أفكاره الفلسفية بصيغ واقعية أكثر منها رومنسيةـ لعل هذا ما يجعلها مغرية للقراءة، من خلال إبراز العلاقات المختلفة، وعل نحو متوازن، مثل الهيمنة والأنانية والعلاقات الاجتماعية الهرمية، كل هذا والراوي يحاول أن يظهر كشاهد على الحقيقة الصرفة بما يتجاوز هذه الحقيقة فعلاً. غير أن الفخ الذي يقع فيه استمراره في الشهادة من واقعه كـ "ذكر"، حتى حين يعزل نفسه عن الحوار الي يدور بين الشخصيات، على الرغم من قدرته على اكتساب المعرفة، ومن المحتمل أن غير قادر على استخدامها لأي هدف ذي معنى، ويبدو أن التصاق الراوي بثقب غرفته (الذي بات يمثل جحيماً له) بحكم موقعه كشاهد على الأحداث، جعله يقدم شهادة "زائفة" نوعاً ما، كوتها ذاتية أكثر منها موضوعية، فانهماك الراوي في بناء حوار مع نفسه، والذي يبدو في ذات الوقت شهادة لنا نحن القراء، يعزز من هذه الحقيقة الذاتية لنقل الصور والحدث من الغرفة الأخرى. قد يكون الحوار الذاتي متنفساً للفرد لتفادي الغرق في الصدمة أو الهواجس، لكن "انغماس" الراوي في "التلصص" يجعله معزولاً أكثر فأكثر مع مرور الوقت، كأنه مقطوع في منفاه الاختياري، مثل أبطال كامو وكافكا وديستويفسكي العبثيين.. أولئك "الأنبياء المزيفون"، وهي حالة، أي العزلة، مرتبطة بالمعرفة على كل حال. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون المنفى منتج معرفي مكتسب، بقدر ما هو "انحراف" و "تزوير" لشهادته التي يقدمها عن الغرفة الأخرى. والدليل على ذلك محاولته تقديم شهادة ذاتية منعزلة بدلاً من شهادة تبني رابطة ما بينه وبين الآخرين ( ونعود هنا لمسلمة سارتر الوجودية "الجحيم هو الآخر").
للأسف سوف لن نقبل بالراوي كشاهد، بل سوف يداخلنا بعض الشكوك بزيف شهادته. بسبب الخلل الذي يعتريها بحكم طبيعتها، علما أن التلصص بحد ذاته مبني على مفاهيم الهيمنة والهرمية، وكلا البنائين يعيقان قطعاً أي علاقة حوارية مثلما أن الهرمية تعطل الشهادة لأن من هو في السلطة يعمل على "فلترة" تجارب الآخرين من خلال تجربته الخاصة، مما يعني ذوبان -ليس تماهي- الآخر في صاحب السلطة، ومصادرة تجارب وتاريخه الخاص لصالح أهل السلطة، ولا يمكننا أن نعرفهم إلا من خلال ما تسمح لنا السلطة بمعرفته، وسوف يدعم التلصص هرمية السلطة هذه شكلاً ومظهراً. وسوغ نلحظ ذلك في رؤية الراوي لإيمي وهي تخلع ملابسها أول مرة.. حين يصب تركيزه على جسدها، فتخونه نظرته تلك عن باقي التفاصيل الأخرى غير الجسد. فهو يتجاهل وجهها مثلاً ( وهو بؤرة تركيز الانفعالات وبوابة التعرف على الشخص) وعقلها وشخصيتها، فهي تبدو له، في نهاية المطاف، لا "شيء" سوى جسداً حين "لم تعد شيئاً سوى جنسها (ص 34).
شهادة الراوي هذه هي أساس الذاتية ولها معنى مزدوجاً، فهو شاهد عيان لاشك، وهو يدلي بشهادته/ سرديته، وهذا، ربما، جوهر ومعنى "الشهادة الحقيقية". أن يكون المرء شاهد عيان، فهذا يعني أنه يلحظ وقائع حدث ما، وحين تتحول هذه الملاحظة إلى شهادة/سردية فهي تعني رؤية/تأويل الحقيقة الكامنة وراء الحقيقة ، والعوامل الاجتماعية والثقافية والشخصية والسياسية المختلفة المحيطة بالأحداث. ببساطة، تقوم الشهادة الحقيقية على نمط من مونولوج ثنائي الاتجاه للإجابة والاستجابة، أي انها تستند إلى البنية الحوارية، والقدرة على التعرف على الآخرين والاستجابة لهم.
وهكذا نرى عدم قدرة الراوي على الدخول في حوار إيجابي من طبيعة بنّاءة تعتمد على الاستجابة والتفاعل، في مواجهة هوسه وما يهدس به، بصرف النظر عن أي عنوان معطى لهذا الحوار. ولعل هذا ما دفع كولن ويلسون للاهتمام ببطل رواية الجحيم الذي يبدو أنه قدّم له البذرة الأساسية لتعريف اللامنتمي بقوله: "اللامنتمي هو مشكلة اجتماعية، إنه- في الواقع- الرجل الموجود في الحفرة" حين يسعى إلى تعريف نفسه بطريقة وجودية صرفة بسبب إدراكه للأسس الضعيفة التي يقوم عليها الوجود الإنساني، فاللامنتمي يمتلك حساسية عالية تجاه الحرية، التي هذه جوهر مشكلته، فهو غير معني في التفريق بين العديد من ثنائيات أسئلة الوجود الكبرى، وهي أسئلة لاهوتية وفلسفية أيضاً، كالجسد والروح والإنسان والطبيعة والولادة والموت والحياة والخلود.. إلخ. هل هذا كل شيء؟ لا، فالتمييز الوحيد الجدير بالاعتراف من قبل اللامنتمي هو التمييز المتعلق بالوجود والعدم. ويشيع هذا النوع من العبث الوجودي في الأدب، ولا يمكن لمن قرأ الرواية، ونظر من الثقب، كما نظر الراوي، نسيان التجربة، حين سقط -ذات يوم- وحيداً في أرض غرفته في الفندق (ص11).
أليس هذا ما يختصره الراوي حين يقول معترفاً: "إني في الثلاثين، سوف تكتمل في اليوم الأول من الشهر القادم، لقد فقدت أبي وأمي منذ ثمانية عشر أو عشرين عاماً. لقد حدث ذلك منذ زمن بعيد، لستُ متزوجاً، ليس لي أولاد ولن يكون لي، ثمة أحيان يسبب لي هذا اضطراباً، حين أفكر بأنه ستنتهي معي ذريتي كانت منذ أن كانت الإنسانية"(ص 6-7)، وقبل ذلك بلحظات يرى نفسه "إنني إنسان كالآخرين un homme comme les autres، كما أن هذا المساء، مساء كسائر الأماسي " (ص 6) مبتعداً عن أي غرور أو زهو، ولعلها حيلة من حيله ليعفي نفسه (أو ليحميها) من تعريف نفسه لنا: حيث يظهر بلا اسم وبلا أي شيء آخر. وللأسماء أهمية أنطولوجية بالغة فهي ليس مجرد وصف، بل هي "تعيين" لما هو كائن، وسيطرة على الحيز، وفرض لغة صاحب التسمية. لا يمكن لـ"ثقب" في الجدار أن يفرض اسمه علينا، بالأحرى لا يستطيع، تلك ليست مهمته ولا طبيعته، لذلك لا تحتفظ الأشياء/ الموضوعات بأسماء تنادى بها (تحتفظ بما هو أقرب إلى الصفات)، وإن احتفظت فسوف تكون إسقاطات لأسماء وجودية كائنة وحية، وهكذا يختار الراوي البقاء في العالم السري لوحده يقتات وجوده من عزلته!
من ناحية أخرى، يؤمن الراوي بـ "أشياء كثيرة".. يؤمن بوجود رب، لكنه رب يختلف عن الرب الذي أتت به الأديان، ولذلك لا يمانع أن يقول عن نفسه وبكل ثقة، وإن كان على عجل، أنه "رجل أخلاقي" بامتياز. يستطيع التفريق بإحساس عالي بين الخير والشر، بفضل نزعته اللاهوتية تلك. لذلك نراه يقيد نفسه ضد ارتكاب أي سخافة حتى لو كانت خفية .. حتى لو ظن أنه سينجو من العقاب. هو باختصار رجل مخلص في إيمانه، حين يتم اختبار إيمانه، وهو محترم وشريف وفقاً لمعايير المجتمع البرجوازي في بداية القرن العشرين. وهذه صورة قريبة نوعاً ما من صورة الإنسان الغربي النموذجي المؤمن بتعاليم الكنيسة في تلك الفترة الذي يقاوم الغواية ويحصّنه إيمانه من السقوط في محنة الجسد. ويحرص باربوس على استكمال نموذج هذا البطل من خلال التشديد على إظهار الصراع الداخلي هذا ومآلاته.
يتحدث الراوي بضمير المتكلم، لذت يحافظ، بالتالي، على "فرديته" أو يسعى قدر ما يستطيع ذلك، وتسمح اللغة الفرنسية باستخدام الضمير الحيادي "on" كضمير مفرد "ثالث" (الذي يحمل معاني: نحن، هم، الآخرون) من أجل التعميم وكثيراً ما يستخدمه الراوي في لحظات التعليق كشاهد تجاه سلوك سكان الغرفة الأخرى، علماً أن الرواية تتحدث الرواية بضمير المتكلم، مما يتيح للراوي فرصة كبيرة للحديث عن نفسه، أو ربما رؤية نفسه بما يشاهده في الغرفة الأخرى، وسوف يحاول الراوي إقحام القارىء في عوالمه عندما يقدم نفسه كشخص عادي وعادي جداً " أود لو يحدث لي شي لا متناه.. لا أملك عبقرية ولا رسالة أؤديها، لا قلباً كبيراً أهبه، ليس عندي شيء ولا استحق شيئاً. لكني أرغب رغم كل شيء في نوع من التعريض" (ص10). بيد أنه يمكن للبعض أن يرى العمل مجرد سرد إيروتيكي رخيص، وحبكة إباحية محورها أن يكتشف رجل ثقباً في غرفته ويشرع في التجسس على حياة جيرانه الخاصة. لاريب أن الرواية تحتوي نفساً إيروتيكياً واضحاً، لكن لو نظرنا في العمق قليلاً سنجد أن هذا الزخم "الإيروتيكي" يبدو غير منطقياً (على متعة وصفه)، حيث تصبح أوصاف الجنس مخيبة، ولا تظهر الشخصيات سلوكاً جنسياً يعبر عن الرضى بطريقة ما، مما يدفعنا للقول أن الرواي لا يتلصص على الآخرين لينقل لنا فيلم إباحي مثلاً أو ليثير فينا مشاعر جنسية معينة، بل ينقل شهادته لاعتقاده أن رؤية الناس كما هم، فعلاً، في حيواتهم الخاصة هي الطريقة الوحيدة لفهم طبيعتهم.
يمكن مضاهاة جحيم باربوس مع جحيم دانتي، لكن علينا أن نكون أكثر حذراً لأن هدف جحيم باربوس، على عكس ما طمحت إليه الكوميديا الإلهية، هدم ما يسمى بالحقائق الغريبة عن الإنسان، ووضع هذا الأخير في موقعه الحقيقي في هذا العالم الأرضي. أي في مركز العالم، فكل ما في هذه الحياة من معاني وتصانيف وتعاريف إنما تنبع من الإنسان نفسه, تصدر منه وليس لأجله أو بسببه وبالتالي هو لا يعتمد على عون خارجي [اقرأها رب أو دين أو صنم أو ممارسة]، وهذا بحد ذاته -كما يرى بورديو- هدف راديكالي ميتافيزيقي للرواية. وفوق كل هذا، تظل الرواية تحمل السمة التراجيدية رغم امتزاجها بأمل ما يحاول الكاتب أن يزرعه في عقل القارىء.. ويتمثل الأمل بالإيمان بالمستقل، قد يجادل البعض بعدم وجود مثل هذا التوجه في الرواية، لننظر ما يقول باربوس في نهاية روايته حيث لا جحيم (إلا حمّى الحياة il n y a pas d enfer que la fureur de vivre – ص 278).. نداء سوف يردده من بعده أبطال كامو ومالرو وديستويفسكي وغيرهم حين يزعمون أن السماء سقطت على رؤوسنا، فما العمل" هل سنبقى نتمسك بالمكان الذي كان يشغله الرب .. حقا لا جحيم إلا جنون الحياة ، خلق هذا المجاز عند باربوس تصورات عن إدراك الإنسان للتراجيديا الروحية الكامنة في الحياة بوصفها علاقة خطية بين الإنسان وزمنه الأرضي، وهكذا يصبح الثقب في الجدار معادلاً لتدوير الزمن، وكأنه يمنحنا أبدية من نوع ما، أو على الأقل يمنحنا فرصة إدراك هذه الأشياء الأبدية من خلال هذا الشق الصغير في الجدار الذي ينفتح بالنسبة لبطل الرواية على اللانهاية، بينما هو للقارىء نافذة أخرى لاستكمال التجربة. لا ننسى أن الرواية ظهرت وكانت البشرية على أعتاب قرن جديد.. آخر قرن في الألفية الثانية.. وكانت الكثير من الأفكار الخلاصية تتفاعل في لمحات نارية من الصراع بين قوى الإيمان وقوى اللاإيمان، مثلت بداية القرن العشرين اختراقاً للعالم الأبيض نحو اسوار العالم المشتعلة، وكان العقل هو المحرك وفقد المجتمع الغربي "إيمانه" ولدا كأنه فعلا جلس على عرش الرب.
طب.. ماذا لو كنتَ، عزيز القارىء، تجلس في مقهى -وكأنك راوي "الجحيم"- ترتاح قليلاً بعد يوم شديد الإرهاق والتوتر، ثم تسمع حديثاً يدور على الطاولة المجاورة... كاتب مشهور يتحدث عن مشروع عمل جديد له يستعرض فيه "مخلوقات وجدت نفسها كما هي هكذا دون ترتيب أو انتباه".. كأن يثقب رجلاً ثقباً في غرفته ويراقب ما يجري في الغرفة المجاورة... يراقب "مخلوقات مسلية".. وكأنه يراقب "الإنسانية كلها".. يراقب بدقة تماماً ما تفعله أنت، عزيزي القارىء، وكأنه يعرف تفاصيل حياتك اليومية..
هكذا يمهد باربوس لنهاية الرواية، حين يجعل الراوي يستمع إلى ما يخبر الكاتب المشهور جلسائه في المقهى عن مشروعه الجديد الذي يتحدث عن نزيل فندق يتلصص على سكان الغرفة المجاورة عبر الثقب، ويشير الكاتب أن عمله سوف يكون كوميدياً يطغى على الطابع الدرامي للحبكة، وهذا ما يجعل الراوي بالكاد يخفي صدمته من "مصادفة" انعكاس حياته في خيال غيره، ولكن مع استمرار الكاتب في الحديث يشعر الراوي بخيبة أمل من سطحية الكاتب حين يفترض أن عليه أن يكون أكثر إخلاصاً في سرد الأحداث "كما هي" و ليس "كما ينبغي أن تكون" ولايزال يتعين على الراوي البحث عن هويته قبل الانعتاق النهائي، وإلا سوف يجد نفسه فارغاً من أي معنى، وما أصعب الانتهاء (بمعنى الموت) في حالة فراغ.
ولكن الحياة لم تعدنا يما هو متوقع دائماً، وهذا يعني أن السعي نحو هوية ما وجودية لا يكلل بالنجاح كل مرة نحاول فيها، وربما جل ما يمكن توقعه، في هذا الصدد، إيجاد واقع ذاتي على نحو ما إزاء واقع تحدي الفراغ (مرة أخرى بمعنى الموت)، للقول بأنه لا يمكن الحصول على المعرفة خارج العقل، ولا يمكن التكهن بالوصول إلى العالم الخارجي وعقول الآخرين باعتبار أن هذه من الموضوعات التي لا يمكن معرفة وجودها بصورة حقيقية.
ينعكس هذا في ما يشاهده الراوي، بنوع من القلق الشديد، من تجارب إنسانية وعاطفية لمزيج من البشر يمثلون طرائق عيش وتفكير مختلفة يمارسون الحياة والحب والجنس والولادة والموت (ثمة مشهد لا ينسى حين يرفض رجل عجوز الاعتراف للكاهن وهو على فراش الموت)، وبهذه الطريقة يقودنا باربوس إلى نتيجة مذهلة ترى أن راوي "الجحيم" هو الذي يعيش الواقع، في الحقيقة، وأن كان عبر ثقب، أكثر من ذلك الكاتب المحترف. وأن الكثير من هذا الواقع يشتمل على رموز وأشخاص جاهزين بأي لحظة للتعبير والكشف عن آلامهم وآمالهم ومخاوفهم وفرحهم وموتهم وولادتهم... بطريقة واقعية، مقابل شخصيات الكاتب "الدرامية" التي تبدو للراوي (ولنا بلا شك) مجرد دعائم ذات بعد واحد تسبح في فضاء إقليدي غير ذي عمق.
يدرك الراوي، أن رحلته عبر الثقب على وشك أن تنتهي حين يعود الشاعر وإيميه إلى الغرفة، ويسمع ما يقول لها: "السماء سقطت على رؤوسنا" (ص 272). وكأن صفعة شديدة أيقظت الراوي من ذهوله الطويل، وكأن هذه العبارة السحرية هي ما كان ينقصه. فأحياناً بعض الكلمات تمنحنا ظلالها المجازية فينكشف ما استغلق علينا من معانيها، حتى أن استعارات مثل "عظمة الإنسان" و"البؤس البشري" تظهر كمفاتيح لأبواب السماء. لقد أدرك الراوي أن سقوط السماء على رؤوسنا نعمة تحررنا من قيد الفضول القاتل في البحث عما نجهله، ومن مأزق الوقوع في ما نحاول تجنبه، ومن ضرورة تحمل المخاطر عند وجوب القرار، فمظهر الوحدة الظاهري الذي نبدو عليه، يوحي يوجود عالم منظم يتعارض مع الفوضى المقابلة في تراجيديا الوجود وثنائياتها القاتلة ، بما يؤشر لعدم الجدوى في المواجهة، بل وجوب تحقيق سلام داخلي والانفلات من هذا التوق السخيف للاندماج في المطلق.
كان راوي باربوس مفعم بخيبات الأمل وقد أتت تلك الأصوات/ التجارب عبر الثقب لتزيد من معاناته وخذلانه في مواجهة حقائق الحياة، وحتى في لحظات الانفصال الموضوعي عن فكرة الإله سوف يكتشف أنه يحمل في داخله الفردوس والجحيم. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فعندما يتعلق الأمر بـ "الحقيقة" و "ما وراء الحقيقية" سوف يبدو الراوي غير مدركاً لـ "حقائق" التاريخ، بمعنى المؤثرات التاريخية والثقافية الكامنة وراء ما يشاهده من ثقب الجدار. نعم سوف يلاحظ "انفصال" الآخرين، بل حتى انعزالهم أو عزلتهم، وفشلهم في بناء علاقة إنسانية تحمل قيمة ما أو معنى، مثلما يخفقون في الإيمان وفي تعاملهم مع الموت.
ومع كل هذا، لا يستطيع الراوي أن يحدد موقفه، بالأحرى استنتاجه عن الكيفية أو الأسباب الكامنة وراء كل حالة من تلك الحالات/ التجارب. وطبعا لن يستطيع إقناعنا أن هدفه ليس هنا أو هذا، لن يستطيع أن يبرهن، أو على الأقل يفسر بشكل صحيح، على أنه يحمل راية الحقيقة.
تفسيره كشاهد عيان غير مقبول بكل بساطة شهادته، وهذا جوهر المشكلة، لا توجد بين أيدينا جملة مقارنة نحاكم شهادته بموجبها. وهذه مرجعية على غاية من الأهمية، بالنظر إلى الطبيعة غير المستقرة للعلاقات الهرمية بين الجنسين كما هي تتجلى أكثر وضوحاً في مؤسسة الزواج، وغالباً ما تكون أكثر اللحظات "نقاءً" أو سعادةً" بين الأزواج في الرواية إنما تكون على حساب الأنثى كصوت وهوية باعتبارها أحد طرفي العلاقات الحدية للقوة والهيمنة، حيث "يعلو" "صوت" الزوج وتكون "هويته" أشد ما تكون وضوحاً على الحد الآخر، هل لاحظنا، كما لاحظ الراوي بالطبع أيضاً، كيف يكشف الفتى والفتاة حبهما الرومنسي والجنسي لبعضهما البعض لأول مرة؟ هل لاحظنا كيف يدخلان الغرقة ممسكين بأيديهما، على ذمة الراوي.. الشاهد الوحيد، ثم كيف يصفهما لنا بأنهما يبدوان يشبهان بعضهما البعض. ومنذ أن يعلن الصبي "حبّه" للفتاة، لم يعد يناديها باسمها، بل بالضمير الغائب (ص 41) بلفتة اختزالية مذهلة لجسدها وتجريدها من "هويتها" بطريقة تشبه تماماً اختزال الراوي لإيميه إلى مجرد "لاشيء سوى جنسها"؟
بقي أن نلاحظ كيف يغادر الفتى والفتاة الغرفة دون أن يمسكا أيديهما كما دخلاها (ص 46)، مما يعطي تلميحاً قوياً لبدء عملية "الانفصال" التي لاحظها الراوي في جميع الأزواج الآخرين، ولعل هذا الانفصال سببه تجريد الفتاة من هويتها، وبداية تعريف العلاقة بمدلولها الهرمي الذي يعطل بكل تأكيد التواصل الفعال والحوار والاعتراف بين الأزواج، وتتضمن الرواية العديد من هذه اللحظات الانفصالية، تشير إلى الطريقة التي تعمل بها البنى الاجتماعية التي تؤدي إلى هذا الانفصال (الذي يلاحظه الراوي كشاهد) وعندما نقول كشاهد فإننا نعني عدم قدرته على رؤية الأسباب أو على الأقل ليس مطلوباً منه كشاهد ملاحظتها، بخلاف ملاحظة علاقته بالمواضع الأخرى للمعنى واللامعنى، مثل ملاحظاته عن الموت والدين.
تظهر الرواية العلاقة الدقيقة بين البطل بوصفه شاهد وراوي بآن معاً، مع مراعاة أن الراوي يحاول فعلاً أن يظهر كشاهد. شاهد على الحقيقة بما يتجاوز الحقيقة، التي يبحث عنها، لكن دون طائل بسبب من أنانيته وذكوريته. ولذلك يصح القول عن الراوي أنه مشارك فعلي في الحدث، وليس شاهد محايد ينقل لنا ما يراه دون زيادة أو نقصان.. ( كيف ذلك والمتلصص يتنصل أصلاً من المشاركة؟).
السبب في أن الراوي يمتلك، دون تفسير أو تأويل، قوة أكثر مما يمكن أن يمتلكه كشاهد، حين يدعي معرفته يما يدور في الغرفة المجاورة، وبالتالي معرفته لسكانها (ص 15). ويظهر لنا وصفهم كأنهم يرغبون في نقل تجربتهم إليه ليقوم هو بدروه بنقلها لنا: " هذه المرأة للتو.. أعطتني.. قبلتها العارية.. وأظهرت لي قدميها اللطيفتين (ص 31، 33، 35) كأنه يعمل وكيلاً لهم.
ولكن هل الراوي صادق؟
بمعنى هل ينقل لنا الصورة كما هي (كشاهد؟) ألا يوجد ولو احتمال ضئيل أن يمتزج خياله ورغباته مع ما ينقل؟
ألا يمكن القول أنه يضيف بعض مما عنده عنما يصف لنا ما يرى؟
في نهاية الأمر نحن لم نشاهد أي أحد في الغرقة المجاورة، ولم نسمعهم. أصلاً نحن لا نعرف بوجود هذه العرفة لو لم يخبرنا عنها الرواي، وبالتالي نحن محكومون بقبول روايته ووصفه كما هو كمسلمة.
ينهي باربوس الرواية بهذه النتيجة التي قد تبدو مقنعة للبعض، ومخيبة لآمال البعض: "إني أؤمن بأنه لا وجود تجاه القلب الإنساني والعقل الإنساني المخلوقين من نداءات لا تفنى إلا لسراب ما يناديان. إنني أؤمن بأنه لا توجد حولنا، في جميع الجهات إلا كلمة واحدة تلك الكلمة اللامحدودة التي تبرز وحدتنا وتعري إشعاعنا: لا شيء، إنني أؤمن بأن هذه الكلمة لا تعني عدمنا ولا تعاستنا، بل تعني على العكس، تحققنا وتألهنا، مادام كل شيء فينا".
يمتلك العالم الشخصي لكل فرد خصوصية يتحرك فيها، وهو مسار على الفرد أن يتحمل عبأه الوجودي، حتى لو جابته الحياة بلا مبالاة قاسية. وهكذا يتحرر راوي "الجحيم" من "الثقب" ليعود إلى حياته، إذ لا يحتاج البحث عن الحقيقة إلى "ثقب" بل إلى نظرة إلى دواخلنا، ولعله حين ينظر من نافذة غرفته وهو يهم بالمغادرة سوف يكتشف كم هو العالم واسع قياساً بثقب الغرقة المجاورة.
....
ملاحظة: تعتمد هذه المادة على المصادر التالية:
- الجحيم، هنري باربوس. ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت، 2016. الاقتباسات في النص تعود إلى هذه الترجمة، علماً أن هناك ترجمة أخرى لفتحي العشري صدرت عن الهيئة المصرية للكتاب في العام 1987
- Evans Jane E. The Soldier as "I"-Witness in Novels by Barbusse and Ehni. University of Texas El Paso. 2015
- O Brien, Edward Anthony. Henri Barbusse and the Quest for Faith: A Study of Religion in Selected Works by Henri Barbusse (1873-1935). University of Hull ,June 2002
......
هوامش
*يقول كولن وِلسون عن "اللامنتمي": "قبل أن أنشر كتابي( اللامنتمي)، فكرتُ وقلتُ لنفسي ينبغي لهذا أن يعيد الأمور إلى نصابها ويعيدها إلى الحياة. ثم فجأة أصبحتُ في التلفزيون تحت الأضواء المركّزة، ألقى التشجيع لكي أتشاجر. أو في افتتاح معرض للفن، مع أحد اللوردات، ألقى التشجيع لكي أناديه باسمه المجرد. في حفلة يشير إليّ الضيوف باعتباري مثل الأعجوبة الطبيعية، أو يهاجمني ناقد، فما علاقة كل هذا بكتاب ( اللامنتمي)؟. لقد كان شيء لا يصدق، وكان أكثر غباءً وجنوناً من كل ما كان بوسعي أن أتخيله، ولم يكن على علاقة مطلقا بأي شيء أهتم به. كان استعراضاً ساخراً فكاهياً للنجاح. في ذلك الصباح من يوم الأحد، حينما ظهرت أول عروض الكتاب، فكرت بيني وبين نفسي قائلا، إنني كسبت وفزت وأحرزت هدفي. ثم حينما مرت أسابيع الدعاية، تبينت كل ما فعلته عدا ذلك، تبينت أنني لم أحرز هدفي. وإن المعركة قد انتقلت فحسب إلى جهة أخرى، وبدأت أكتشف حقيقة ما قاله سارتر من إن (الجحيم هم الآخرون)، وفي اليوم التالي ظهرت صحيفة ديلي إكسبرس بعنوان يقول: (كولن ولسن يعترف بأنه مخادع) ونقل عني أنني قلت: (إن "اللامنتمي" قد كتب بناء على قصد زائف تماماً)".
**يرى أهل الاختصاص أن هنري باربوس، وليس مارسيل بروست ولا أندريه مالرو، هو من تمثّل أعماله -بحق- نقطة التحول الكبرى في الأدب الفرنسي في القرن العشرين. وهنري باربوس هذا الذي ولد في العام 1873 وتوفي في العام 1935، كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي منذ بدايته (1923) وأصبح محرراً أدبياً في صحيفة الحزب "L’Humanité لومانتيه". عمل في بداية حياته صحفياً وبدأ يكتب شعراً رمزياً وصدرت به مجموعة شعرية وهو في الحادية والعشرين من عمره بعنوان "سر آدم"، لكنه انتقل إلى الرواية وأصدر عمله الشهير "الجحيم" في العام 1908، التي شكلت نقطة انعطاف في مسار حياته الأدبية، وانتقل للعيش في روسيا بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة البلشفية، هناك ليكرس نفسه داعية سلام ملتزماً بقضايا التحرر الاجتماعي والسياسي، وترأس في العام 1933 جمعية مناهضة الفاشية والنازية. علماً أنه شارك في الحرب العالمية الأولى، كجندي في الجيش الفرنسي، وتعرض للإصابة عدة مرات لاسيما في السنوات الأخيرة من الحرب (1916). ورغم أهمية باربوس وأعماله عي صعيد الرواية الفرنسية في الربع الأول من القرن الماضي، إلا أنه غير معروف كثيراً على المستوى العالمي، وربما يعود ذلك بسبب مواقفه وانتماءاته السياسية وإقامته في آخر أيامه في الاتحاد السوفييتي.
***"التلصص Voyeurism حسب التعريف الشائع، سلوك قهري مترافق مع اضطراب نفسي يتعارض محتواه مع الأعراف الاجتماعية والخصوصية الفردانية، ويعتبر من المظاهر المتأصلة في السلوك الحيواني (ومنه البشري) بحيث يسمح بانتقال الفعل الجنسي من سلوك ثانوي خارجي/ موضوعي إلى فعل أساسي ذاتي مشارك، ويؤدي هذا إلى ما يعرف في علم التحليل النفسي بـ "إزاحة الرغبة الجنسية"، الأمر الذي يجعل الفرد المتلصص يشعر بالرضا الجنسي من خلال "فعل" المشاهدة الخارجية، ويتحول هذا الأداء إلى وسيلة أساسية لتحقيق الرغبة. وعادة ما يرتبط التلصص مع حالة الوسواس القهري، ويبدي الرجال استعداد أعلى من النساء للتجاوب مع ظاهرة التلصص، مع الاحتفاظ بالفوارق الفردية (الحالة الاجتماعية وحالات الحرية والقهر والكبت الجنسي) بطبيعة الحال. وعلى هذا يكون التلصص تعبيراً عن الاهتمام الجنسي أو الرغبة في مشاهدة اشخاص آخرين يتشاركون الفعل الجنسي بأشكاله الإيروتيكية المختلفة. فلا يؤثر سلوك على مجريات الفعل وزمنه ومكانه، وإن كان هو من يحدد لحظته. عموماً، لا يستطيع المتلصص أن يكون مشاركاً وإلا انتفت عنه صفة التلصص، وهو لا يرغب أصلاً في اكتساب أو تبادل خبرة من أي نوع، فتلك مسؤولية كبيرة لا يقدر عليها. كل ما يستطيع فعله، التركيز على "النظر" ومن ثم إعادة صياغة الأفعال لتناسب هواه.. تماماً مثل الطفل الذي بيده لعبة، فهو من جهة قد يتمكن من التحكم في تصرفات اللعبة، لكنه غير قادر على التعامل الموضوعي معها. إن الموقع الهرمي للمتلصص يعيقه عن امتلاك التجربة، وسوف يختار منها ما يناسب منظوره الأناني المحدود، وإعادة صياغة ما يراه حقيقة لتناسب أغراضه الخاصة. وعلى المستوى الدرامي للروايةـ سوف نجد كيف تمنح العزلة الراوي الكثير من الوقت للتقرير والإسهاب، فيتحول "فعل" التلصص إلى تركيز مذهل على التفاصيل واللحظات شديدة الخصوصيةـ فيتعرف على الجسد والجنس بأشكاله وعلى الزواج والموت والاعتراف والدوافع المهنية والدين بإيقاعات سائلة وكثيفة وغزيرة التفلسف. لا يتوقف الأمر عند الانعكاسات الجنسية لما يحدث في الغرفة المجاورة، بل ثمة "لحظات تلصص مثيرة عن احتضار رجل عجوز، وغيرها من الصور والانفعالات المرافقة للحظة الموت.
****تصنف الرواية ضمن المدرسة الواقعية، لكنها قدمت مستوىً جديداً منها سوف يطوره لاحقاً العديد من الكتاب في أوروبا وأمريكا أمثال جيمس جويس ووليم دين هاولز وثيودور درايزر وغيرهم. وأبسط تعريف للمدرسة الواقعية هو انشغالها في تصوير التجارب اليومية وجوانب الحياة المختلفة كما هي دون اللجوء إلى المعالجة الدرامية أو الرومنسية سواء للأشخاص أو للأماكن أو للأحداث. ظهرت الواقعية الأدبية في فرنسا في القرن التاسع عشر على يد الكاتب الشهير بلزاك واستمرت حتى أوائل القرن العشرين، وكانت بمثابة رد فعل على الرومنسية التي نظر إليها كمذهب منفصل عن الواقع.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دكتور جيكل ومستر هايد : الخير والشر، نزعات أصيلة
- النزعة العرقية والاستعمار الاستيطاني والمراقبة: حالة السيطرة ...
- ما هي سبل تغير السياسات الأمريكية تجاه إسرائيل ومتى؟
- السيدة بيكسبي ومعطف الكولونيل/ قصة قصيرة
- تاريخ الصهيونية ونظرية ما بعد الكولونيالية
- متحف الآثار الإمبراطوري في القدس من 1890 حتى1930: رواية بديل ...
- العصر الفارسي وأصول إسرءيل: ما وراء -الأساطير-
- تسمية شوارع حيفا والقدس وأم الفحم والهوية العربية الفلسطينية ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتاب ...
- البحث عن إسرءيل:مناظرات حول علم الآثار وتاريخ إسرءيل الكتابي ...


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - رواية الجحيم - Lenfer- :البحث عن اللامنتمي الواقعي