أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - عُقْدة روسيا والعرب مع الحداثة الغربية















المزيد.....

عُقْدة روسيا والعرب مع الحداثة الغربية


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 7656 - 2023 / 6 / 28 - 02:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


منذ أزمنة سحيقة وروسيا لا تؤدي ولا ترضى بأقل من دور البطولة على مسرح التاريخ العالمي. عملاق بمعنى الكلمة، يملك من الجغرافيا والموارد ما لم تجود به الطبيعة على الكثيرين غيره. أضف إلى ذلك إرث هائل من العظمة والكبرياء والشموخ، سطرته بسالة شعوب الروس دفاعاً عن ترابهم ومكتسباتهم وتقاليدهم ضد كل مستعمر طماع أو معتدي مخرب. كلما تأمل الروس تاريخهم المجيد الممتد والمشرف ذلك، وأراضيهم المترامية الأطراف الخصبة والثرية، وقدراتهم ومقدراتهم الضخمة، تعجبوا في أنفسهم: ماذا ينقصنا عن البطولة المطلقة؟! روسيا مجرد أن تفرد ضلوعها شرقاً أو غرباً أو جنوباً، تخِّر كل دول الجوار سُجداً لهيبتها. لكنها كلما تمددت أبعد باتجاه الغرب على وجه الخصوص، صوب دويلات حتى أكثر ضآلة في الجغرافيا والتاريخ والموارد والأصل والمجد والعراقة من طرف إصبعها الصغير، لا تلقى إلا شر الهزيمة، لتعود ديارها جريحة الكرامة تجر أذيال الخيبة والحسرة والندامة- مُحَمَّلة فوقها ببعض أسباب الحداثة التي قدَّرت أن هؤلاء الأوغاد الأوباش عديمي الأصل قد انتصروا عليها بفضلها.

كرامة روسيا تُداس وتُهان دوماً وتكراراً في تراب الغرب الأوروبي، على يد حثالة من الدويلات- كما تراهم هي- عديمة الأصل وحديثة العهد بالمجد الحضاري. وفي كل مرة تُهزم روسيا الأصيلة العريقة على يد هؤلاء الشرذمة النكرة، ترجع ديارها مكسورة وذليلة وناقمة، وفي الوقت نفسه عازمة كل العزم على أن تأخذ بنفس وسائلهم التي بفضلها انتصروا عليها. دول الغرب الأوروبي تشكل عُقدة نفسية لروسيا منذ فجر التاريخ. هي تفوقهم كلهم مجتمعين في كل شيء، من التاريخ والثراء والجاه والعراقة والأصل إلى المساحة والموارد الطبيعية وعدد السكان، لكنهم دائماً وأبداً يتفقون عليها، يهزمونها ويمرغون بكرامتها تراب الأرض. تعود ذليلة، تلعق جراحها وتتعلم منهم أنفسهم، ليس حباً فيهم لكن لكي تعاود الكرة ضدهم من جديد بعد حين. والكرة والمهانة لا تزال مستمرة إلى اليوم، في أوكرانيا هذه المرة! إنك حين تضطرك الظروف مكرهاً إلى التعلم من أعدائك لا محالة، تتراكم في الوعي الجَمْعِي عُقدة ثقافية وحضارية ضد هؤلاء أنفسهم الذين تقلدهم وتنقل عنهم بين الحين والآخر.

ربما على خلفية صراع البطولة على المسرح الأوروبي، تم تقسيم المسيحية إلى كنيستين، يونانية إلى الشرق ولاتينية إلى الغرب من القارة الأوروبية ذاتها المتناهية الصغر لكن المذهلة والمدَّوخَّة للعالم بأسره، وتحديداً روسيا الملاصقة لها على حدودها الشرقية. ولم يكن مفاجئاً أن تتبوأ روسيا عرش العالم المسيحي اليوناني الشرقي، في تنافس ضد خصمه اللاتيني الغربي ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية في روما. الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية التي تتزعمها روسيا حالياً هي المعادل الموضوعي للإسلام السني السائد في أغلب المنطقة العربية حتى اليوم. هذه المسيحية، كما هذا الإسلام، عمادهما الاقتداء بالسلف الصالح وسننهم وتقاليدهم، قولاً وفعلاً. ومن هذا المنطلق، يُنظر إلى كل جديد كبدعة، ستُخل بالوضع والنظام والاستقرار القائم وتجلب الفوضى والخراب بالضرورة، وبالتالي محاربتها فرض عين على كل مسيحي وكل مسلم من هذين المذهبين على وجه التحديد. هي أديان المحافظة على الوضع والتوازن القائم، والتقاليد والعادات الموروثة، ومحاربة التغيير ووأده من المنبت.

خرج العرب من التاريخ قبل أكثر من ألف عام متصلة، منذ زوال الخلافة العباسية في بغداد وخصمتها الأموية في الأندلس. ولم يستعيد الجسد السياسي العربي وعيه سوى مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، بفضل عوامل دولية مواتية أكثر منها جهوداً ذاتية عربية عريضة وواعية ودؤوبة. وبعد عودة الروح لجسد ميت منذ أكثر من ألف عام متصلة، كان طبيعياً ومتوقعاً أن يبدأ خطواته الأولى للعودة إلى الحياة الفعلية من الصفر، من اللا-شيء بمعنى الكلمة. هناك هوة زمنية سحيقة تفصله عن ماضيه الأول. وما كانت كل دعاياته وأفعاله وخيالاته حول إحياء أمجاد الماضي أو تحديثه أو عصرنته أو مراجعته وتنقيحه أو الاستفادة به بأي صورة أو درجة، ما كانت تعدو أضغاث أحلام لا تُغني ولا تُسمن من جوع في التعاطي مع وقائع العالم الحاضر ومشكلاته السريعة التغيير والمتشعبة والمعقدة باطراد. والحال كذلك، ما كان أمام العرب المنقطعين عن التاريخ بالكامل منذ أكثر من الألف عام متصلة سوى تلمس العون والسند والنموذج مما هو قائم ومجرب وناجح حولهم بالفعل، والأهم من ذلك تستطيع عقولهم فهمه وتستطيع سواعدهم وقدراتهم الذاتية استيعابه وتكييفه لبيئتهم وتشغيله.

ما كان العرب آنذاك، بعدما غادرهم مستعمر بقي يتناوب عليهم لأكثر من ألف عام متصلة، يملكون أي شيء على الإطلاق سوى التراث النظري الذي أفرزته حقبتهم الأولى المجيدة. وما كان أمامهم بديل آخر لكي يروا ويفهموا ويتعاملوا مع أنفسهم والعالم إلا من خلال هذا التراث العتيق وخارج التاريخ. الانقطاع الزمني الطويل بحد ذاته لم يترك للوعي العربي الحديث خياراً سوى النكوص إلى تراثهم القديم، لكي يفسروا من خلاله معطيات عالم آخر مغاير كليتاً وحديث. هكذا، بعين تراث مات ودُفن في متن الكتب منذ أكثر من الألف عام، شرع الوعي العربي فور الاستقلال في استكشاف ذاته والعالم في العصر الحاضر. وكانت النتيجة مشابهة، ولو لأسباب مختلفة، لما آلت إليه الأمور في روسيا: عُقدة ثقافية وحضارية جَمْعِية ضد نفس العدو الذي أيضاً دائماً ما يغلبهم ويمرغ كرامتهم في التراب، ثم في النهاية يضطرون إلى التعلم منه، ليس لكي يتشبهون به ويصبحون مثله في طريقة حياتهم لكن لكي يتمكنوا من وسائله وتقنياته التي بها سيسحقونه ويمسحونه مع قيمه البغيضة من وجه الأرض!

في العصر الحديث، أحكمت دول غرب أوروبا قبضتها على كامل المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، بحراً وجواً وبراً. لكن رغم استعمار ناهز القرن، وجهود جادة ومحمومة من جانب المستعمر والمؤمنين به والمتعاونين معه من المحليين لاستزراع مؤسسات وقيم وتقنيات الحداثة الغربية هناك، إلا أنه بمجرد مغادرته المنطقة انهارت فوراً كل المنجزات وبدا جلياً للعيان وكأنه كان طوال هذه السنين يحرث ماء البحر المالح ويغرس شتلته التحديثية في رمال متحركة، تحت شمس حارقة، وسط صحراء قاحلة. في المقابل، روسيا لم تحتل شبراً من المنطقة العربية يوماً طوال العصر الحديث. رغم ذلك، روسيا، من دون استعمار، تحتل المنطقة العربية فعلياً منذ تحرر الأخيرة من الاستعمار الغربي. عكس الأوروبيين، روسيا استعمرت العرب بالقلب وليس بالسلاح! في الخمسينات، حين تبنت روسيا اقتصاد الدولة، تبنيناه؛ وحين اعتمدت الحزب الواحد، اعتمدناه؛ وحين حكمت شعبها بالحديد والنار والقبضة البوليسية، فعلنا الشيء نفسه بشعوبنا.

حين سقطت روسيا وتفكك اتحادها السوفيتي، تُهنا وضعنا معها وتفككت وسقطت دولنا وأنظمتنا الحاكمة الواحدة تلو الأخرى كقطع الدومينو بدءاً من العراق حتى سوريا وليبيا والسودان اليوم؛ وحين هَبَّ قيصرها الحالي، فلاديمير بوتين، مُكشراً عن أنيابه يناطح الغرب في أوكرانيا، استبشرت دولنا وأنظمتنا جميعاً فيه النموذج والقدوة والمستقبل الواعد، وقصدت وفودها الحج في موسكو. دائماً ما تفعله روسيا في موطنها يحرك فينا حنيناً ومشاعر من نوعية خاصة لا وجود لمثلها في أي مكان آخر في العالم، ونحاول استنساخه وتقليده في أوطاننا حتى من دون أن نعرف السبب. لماذا روسيا على وجه التحديد؟! فور أن نلنا استقلالنا وأصبح قرارنا الوطني من أدمغتنا، هدمنا بأيدينا معابدنا ذات الطراز الغربي التي بنيناها مع المستعمر الأوروبي، وتحولنا شرقاً إلى روسيا لكي نحاكيها ونتشبه بها ونصنع دولنا على صورتها حتى لو كان إدراكنا لها مشوهاً وناقصاً، وحتى لو كنا لا نقدر على تطبيق القليل المشوه الذي فهمناه.

روسيا والعرب نماذج حية على مسرح العالم المعاصر للدول السلفية الماضوية، أسيرة ماضيها المجيد التليد، لكن الخارج من التاريخ منذ زمن بعيد جداً. هي نماذج مريضة بعُقَد ثقافية وحضارية منعتها ولا تزال من اقتحام عصر الحداثة الذي انطلق قطاره من دول غرب أوروبا تحديداً وحصراً قبل مئات السنين. لأن نظرتها إلى نفسها والحياة والعالم سلفية وحبيسة الماضي، تدفعها الظروف غصباً إلى التحديث ولا تُقبل عليه برضاها وعن اقتناع، جاءت كافة تجاربها في التحديث ومواكبة العصر محدودة وناقصة أو فاشلة ومخيبة للآمال. في مسعاها التحديثي يقيدها ماضيها التليد ويشدها إلى الوراء، بينما هي تتخيل أنها تقطع أشواطاً جبارة إلى الأمام على طريق التقدم والازدهار! في مقابل هؤلاء الفشلة المنهزمون ذاتياً وأمثالهم، يزخر العالم بالعديد من النماذج الناجحة والمشرقة بالأمل، وذات الإرث الثقافي والحضاري الأضخم حتى من روسيا والعرب مجتمعين، التي نجحت في تجاوز عُقدها النفسية والتكيف والتعاطي والإسهام الإيجابي مع متغيرات العصر الحديث من شاكلة الهند والصين واليابان، وحتى آخر معاقل الحضارة الإسلامية القديمة، جمهورية تركيا الأتاتوركية الحديثة.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين بوتين وبريغوجين، الديكتاتورية نظام فاشل
- من شيطان الرأسمالية وملائكة الشيوعية- صناعة التطرف
- الكوميديان أند العسكري
- ثغرة الوعي والخطة الكونية
- اللهُ الذي لا نُريده
- الله الذي لا نراه
- بوتين في المصيدة- كش مات
- حتى لا ننهش جُثَة الوطن
- حين تُفسد الحكومة مواطنيها
- مصاحفُ فوق الأسنة وأمةُ بلا نبي
- أليست الجمهورية الإيرانية -إسلامية-؟
- ماذا لو حكم الإخوان المسلمون؟
- في الإسلام، الديمقراطية حلال أم حرام؟
- نظرة على مستقبل الجيوش في الجمهوريات العربية
- ميلشياوية من أزمة شرعية
- كيف حُشِّرت مصرَ في العُنُق
- الاستعمار بين المثالية والواقعية
- حتى لا نخون الوطن بسبب طاغية: صدام نموذجاً
- كيف نتطور؟
- غزوة الصناديق الإسرائيلية


المزيد.....




- خبير: واشنطن أيقنت عدم جدوى العمل العسكري في غزة
- لحظة انهيار سقف مبنى سكني تعرض لهجوم بصاروخ أوكراني في بيلغو ...
- مسلسل -دكتور هو- يعود بعد ستين عاما في نسخة جديدة مع بطل روا ...
- خبيرة بريطانية: حماس أبعد ما تكون عن الهزيمة
- مسؤولة أممية: الإبادة الجماعية في غزة تذكرنا بالهولوكوست
- نيويورك تايمز: إسرائيل تصعّد هجماتها ومئات آلاف الفلسطينيين ...
- باحث فرنسي: نخشى في السودان مذبحة بالفاشر بحجم مجزرة الجنينة ...
- الجزيرة نت تطلق صفحة متخصصة في الشأن الأفريقي
- الرئيس الكولومبي لنتنياهو: التاريخ سيسجلك مرتكب إبادة جماعية ...
- أردوغان: نتنياهو بلغ مستوى يثير غيرة هتلر


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - عُقْدة روسيا والعرب مع الحداثة الغربية