أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مجدي عبد الحافظ صالح - مستقبل الاستشراق: ملاحظات أولية















المزيد.....



مستقبل الاستشراق: ملاحظات أولية


مجدي عبد الحافظ صالح
كاتب وأكاديمي ومترجم

(Magdi Abdelhafez Saleh)


الحوار المتمدن-العدد: 7467 - 2022 / 12 / 19 - 22:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تمهيد:
مثّل الاستشراق Orientalism ولا يزال، ظاهرة جديرة بالبحث والدراسة، فتاريخه وخلفياته جعلت منه ظاهرة جدّ معقدة، اختلف في شأنها الباحثون في الشرق والغرب. رفضه وكرهه البعض، وسانده ودافع عن نتائج أبحاث المستشرقين البعض الآخر. سنحاول في دراستنا تلك التعرف على الخلفيات، وردود الفعل تجاهه، ومن ثم محاولة التفكير حول مستقبل الاستشراق، من خلال ثلاث مجموعات من الملاحظات الأولية والتعليق عليها، ونختمها بالخلاصة ومجموعة من التوصيات. وذلك في محاولة منا للتصدي لإشكالية بحثنا التي تتمحور في محاولة فك التناقض في تعاملنا السلبي أو الايجابي مع الاستشراق من جهة، وفي محاولة استشراف مستقبل الاستشراق في ظل ما سنبحثه، من وقائع على الارض من جهة أخرى.
لكن قبل هذا سيكون من الأوفق، أن نتساءل حول دوافع اهتمامنا الكبير في الشرق العربي الاسلامي، بهذا الموضوع الآن ( ).
لعل ما يدفعنا إلى هذا التساؤل هو مجموعة المعاينات التي ينطلق منها هذا البحث، والتي رصدت أن الغرب يبدو اليوم غير مهتم بموضوع الاستشراق (خارج الدوائر المتخصصة بطبيعة الحال)، وأكثر من ذلك تراجع مكانة المستشرقين وعملهم في المجتمعات الغربية، إذ يشير جاك بيرك إلى المكانة الهامشية، التي يحظى بها المستشرقون وانتاجهم العلمي في الغرب بشكل عام، وفي الجامعات ومراكز الابحاث بشكل خاص ( ). بل ويرفض جزء كبير من المستشرقين هذا التوصيف العلمي لهم، مفضلين أن يُطلق عليهم صفة "متخصصين" كل في مجال تخصصه ( )، وذلك بعد أن حمل مصطلحا "الاستشراق" و"المستشرقون" خلال التاريخ، تراكمات من شحنات شديدة السلبية.
الغرب إذن لا يهتم بموضوع الاستشراق بنفس القدر الذي نهتم به نحن، فالمصطلح الذي يحظى بتلك الأهمية لدينا، فوق ما سبق، لا تحفل به دوائر المعارف الغربية العامة، التي تكاد تخلو منه!! ولا يعني هذا انعدام المصطلح أو عدم وجود المفهوم لديهم، بل معناه أن الاستشراق ليس في بؤرة اهتمام الغربيين، إذ لو كانوا مهتمين به وإن كان الموضوع يشغل اذهانهم، لفكّروا في وضع مادة مكتوبة حوله في معاجمهم غير المتخصصة، هذا من جهة ومن جهة أخرى وعلى التوازي، يذكر فرنسوا دي بلوا أن موقف الهنود والأتراك والصينيين في عوالمهم يختلف عن عالمنا العربي، وذلك عند رصده أنهم أقل عداء، وأكثر إيجابية في التعامل مع بحوث الغربيين عن بلدانهم ( ).
تمهيد اشتقاقي وتاريخي:
ربما سيكون من المفيد أن نعيد التذكير، بما شاع في أغلب الدراسات والمواقف والندوات، التي كُرست في الفترات الأخيرة حول الاستشراق، حتى نتمكن بعد ذلك، من إثارة النقاش حول مستقبل هذه الظاهرة.
من هنا سيجدر بنا أولا أن نلقي بنظرة اشتقاقية سريعة، حول مصطلح وتاريخ الاستشراق نفسه، إذ يُجمع أغلب من تناولوا موضوع الاستشراق، على أن أصل الكلمة مشتق من الشرق، "وهي تعني مشرق الشمس وترمز إلى مجال الاهتمام بهذا الحيز المكاني من الكون وهو الشرق بما يحويه من علوم ومعارف وسمات حضارية وثقافية متنوعة"( ). ويظل مفهوم الاستشراق لدى البعض غامضا، بحيث يفتقد التحديد الثابت أو المحدد، أكثر من ذلك يتساءلون إذا ما كان مفهوم الشرق مفهوما جغرافيا، أم حضاريا، بمعنى هل ثمة حدود جغرافية تحدد أطراف الشرق، أم أن المصطلح يعبر عن صورة حضارية، واسلوب حياة ذو طبيعة خاصة ( )، الأمر الذي يعبر عنه المستشرق بارت بقوله: "ومهما يكن من أمر، فان اسم الشرق لا يبين بوضوح مستقيم المقصود منه بالضبط، والمهم هو الموضوع ذاته، أي الاستشراق"( ). ويحصر المستشرق الالماني بارت "الاستشراق" في دائرة اللغة، ومن هنا يصبح لديه "علما يختص بفقه اللغة خاصة" ويعني أنه "علم الشرق أو علم العالم الشرقي"( ). ويصف إدوارد سعيد الاستشراق، من حيث هو فرع من فروع الدراسة الجامعية، ويؤكد على أن اللازمة ism، التي ينتهي بها المصطلح تقوم بوظيفة "الإلحاح على تمييز هذا الفرع من جميع الفروع الاخرى"، وذلك لإيمانه بأن قاعدة تطور الاستشراق تاريخيا كانت "من حيث هو فرع جامعي.."( ). ويضيف أحد الباحثين بأن الاستشراق قد تحوّل في العصر الحديث إلى حرفة لها اصولها، كما اثّرت ظروف العالم الحديث السياسية والعلمية، في الشرق والغرب على اسسه وقواعده: "الاستشراق في العصر الحديث اصبح حرفة، واتخذ الطابع العلمي المنظم، واصبح له قواعده واسسه المنهجية، نتيجة التطور العلمي واختلاف الظروف السياسية في العالم، ونهضة الشرق، وتطور العلاقات بين الشرق وعالم الغرب"( ). هذا ولم يدرج مصطلح الاستشراق في قاموس الاكاديمية الفرنسية إلا في عام 1838( ). وهنا لابد من الاشارة إلى أن الاستشراق قد عُرف أيضا تحت اسم "الدراسات الاقليمية"( )، كما بدأ يظهر مؤخرا مصطلح آخر، جاء كرد فعل على دخول معظم أقاليم الشرق (الهند والصين، واليابان، واندونيسيا، وغيرها..)، تحت دائرة الدراسات الاستشراقية، ألا وهو مصطلح "الاستعراب" Arabization، وذلك لكي يميز الدراسات الاستشراقية الخاصة باللسان والحضارة العربية، عن تلك التي تدرس الشرق على اتساعه الجغرافي واللساني، و "يطلق على جملة الدراسات التي يقوم بها جمهور الباحثين من المستعربين اسم (الدراسات العربية)"( ).
أما نحت كلمة "مستشرق"، وبعيدا عن المستشرقين الذين رفضوا أن يُطلق عليهم تسمية "مستشرق"، لاستهلاك المصطلح وابتذاله وسلبية مدلوله المعاصر، سنجد أن البعض قد وجد في مصطلح "المستشرق" وبشكل عام، هو "الانسان الذي وهب نفسه للاهتمام بما يدور في الشرق من مجالات مختلفة"( )، أو أن المصطلح يُطلق عموما "على كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق كله، أو أقصاه ووسطه وأدناه، في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه"( )، كما سنجد أن البعض الآخر قد أضاف إلى ما سبق وإلى المصطلح نفسه، بعض الابعاد النفسية والخبراتية، مثل ما رآه المستشرق الألماني ألبرت ديتريتش، من أن المستشرق "هو ذلك الباحث الذي يحاول دراسة الشرق وتفهمه، ولن يتأتى له الوصول إلى نتائج سليمة ما لم يتقن لغات الشرق"( ). هنا يصبح التفهم ميزة انسانية من جهة، وقيمة اخلاقية في العمل من جهة أخرى، وهو على عكس التحيز والاحكام المسبقة، بينما يأتي جانب خبرة إتقان اللغات الشرقية، باعتبار أن هذا الأمر يندرج في عتاد المستشرق ومنهجيته. تظل رؤية ديتريتش تلك مجرد رؤية شخصية، لم تحظ بالإجماع المناسب في دراسات الاستشراق والمستشرقين، إذ أن قاموس اكسفورد كان قد عرّف المستشرق "بأنه من تبحّر في لغات الشرق وآدابه وعلومه"( )، دون أي ذكر لهذا التفهم الذي تحدث عنه ديتريتش. والجدير بالذكر أن مصطلح "مستشرق" ظهر للمرة الأولى في أوربا، في نهاية القرن الثامن عشر إذ عرفته إنجلترا عام 1779، ولم تعرفه فرنسا إلا في عام 1799( ).
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن متى بدأ اهتمام الغرب بالشرق؟، أو بمعنى آخر هل ثمة تاريخ للاستشراق؟
في الوقت الذي يرى فيه فصيل من الباحثين، أن ثمة اختلافات على البداية الحقيقية للاستشراق، فيرى البعض أن بدايته كانت في مطلع القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، أو لدى البعض الآخر مثل المستشرق رودي بارت، الذي حدد البداية في القرن الثاني عشر الميلادي، ذلك القرن الذي تمت فيه ترجمة معاني القرآن إلى اللغة اللاتينية( )، سنرى أن المستشرق الفرنسي المعاصر هنري لورانس، قد خرج عن هذه التحديدات، عندما وجد أن الاستشراق (الدراسات العربية أو معرفة اللغة العربية) باعتباره علما، لم يُعرف بفرنسا سوى منذ القرن السابع عشر، رغم تسليمه بأن الاهتمام بالدراسات العربية بسبب الترجمات، كان قد بدأ منذ العصور الوسطى( ).
بعد المقدمات التي سقناها، وعلى الأخص بعد معاينتنا الأولى المتمثلة في أن الاستشراق ليس في بؤرة اهتمام الغربيين اليوم، إضافة إلى عدم احتفاء العرب المسلمين بالمنتج الاستشراقي النهائي، وهو الأمر الذي ربما يقف في طليعة، ما دفعنا إلى التفكير في هذه الملاحظات الأولية حول الاستشراق ومستقبله، ولأنها محاولة أولية، فهي ملاحظات تأتي على سبيل المثال لا الحصر، لذا فهي قابلة لإمكانية أن تضم جملة أخرى من الملاحظات، التي يمكن أن يقترحها البعض، والتي لم نعن بها هنا في هذه الورقة.
الملاحظات الأولى:
تبدأ هذه الملاحظات على الوجه التالي:
• ارتباط الاستشراق بالاستعمار في النشأة:
مما لا شك فيه أن الاستشراق ارتبط في نشأته بالمشروع الاستعماري الغربي، وبعيدا عن ما اعتبره المؤرخ الغربي الحديث طومسون من أن "الحروب الصليبية (كانت) أول حركة استعمارية كبرى قام بها الغرب الاوربي في آواخر القرون الوسطى"( )، فان القرن العشرين كان قد شهد اطماعا استعمارية أوربية، تجسدت في الحرب العالمية الأولى، عندما تحالف العرب مع الحلفاء وضد العثمانيين، على أمل مساعدتهم في التحرر، فإذا بالأوربيين يحنثون بوعودهم للعرب ويقتسمون اقطارهم، ورغم قسوة وظلم وفساد الادارات الاستعمارية، تكرر المشهد في الحرب العالمية الثانية، عندما وقف العرب مع الحلفاء، وامعن الحلفاء في ممارسة دأبهم في التضحية بالمصالح العربية، وهو الأمر الذي أدى إلى "كراهية العرب للأطماع الاستعمارية الأوربية، مما دفعهم أحيانا، إلى إبداء العداء للحضارة الأوربية"( )، وهو الأمر نفسه الذي غذى نظرة الشك والريبة لدى العرب تجاه الغرب، وهو ما انعكس سلبا على الاستشراق والمستشرقين.
المعروف أيضا أن كل من الاستشراق والأنثروبولوجيا، قاما معا للاضطلاع بوظيفة محددة، ألا وهي دراسة الشرق القديم وأوضاعه في عصوره المختلفة، وحتى المعاصرة منها. وانصبت دراسة الاستشراق والأنثروبولوجيا على الشرق، في نواحي الدراسات النوعية المتباينة: اللغوية والأدبية، والتاريخ السياسي وتاريخ الفكر، والفلسفة والأديان، بل وكافة العلوم، وذلك بهدف فهم الآخر (الشرق) بعمق لإحكام السيطرة عليه. كان عالمنا العربي والإسلامي –كما رأينا-، يمثل هذا الآخر المُرشح لكي يكون موضوعا سائغا للسيطرة والنهب، من قبل القوى الكبرى في العالم، وذلك إلى الحد الذي جعل البعض، يذهب للقول: "فقد مضى الاستشراق والاستعمار في طريق واحد بحيث قد يصبح من العسير الفصل بينهما"( ). إن ما كان يبحث عنه الغرب لمشروعه الرأسمالي، هو الأسواق الجديدة والمواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة، وزادت هذه الأهمية في العصر الحديث بعد الكشف عن البترول، إضافة إلى إمكانية اعتبار الشعوب الشرقية "جماعات ضابطة يقيس الأوربيون عليها منجزاتهم وإجراءاتهم"( ).
إذا أضفنا لما سبق، أن بعض كبار المستشرقين، غالبا ما عملوا في خدمة المشاريع الاستعمارية في بلادنا، فسنفهم عمق الأزمة وتجذرها، فالبعض منهم كان المستشار لإدارات الاستعمار المختلفة، ومنهم من عمل في وظائف مباشرة في خدمة هذه الإدارات، ومنهم من عمل في خدمة الشركات المستفيدة من الاستعمار، وثمة اسماء بعينها معروفة لنا اليوم، مثل سنوك هيررونج الذي عمل في خدمة سياسة هولندا الاستعمارية في اندونيسيا، ولوي ماسينيون ضابط الجيش والمخابرات، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال افريقيا، وبيكر الذي كان وزيرا ألمانيا مهتما بالمستعمرات، وحتى من المعاصرين اليوم، مثل دومينيك شيفالييه الذي يعمل لحساب وزارة الدفاع الفرنسية، وبرنار لويس المدافع الشرس عن الكيان الصهيوني ضد العرب والمسلمين وغيرهم.. إن هذه الأدوار المزدوجة، التي لعبت وتلعب أدوارا كبرى في إنجاح المخططات الاستعمارية، شجعت لحد كبير الحكومات الغربية، في أن تمول بسخاء مراكز الأبحاث الاستشراقية، إضافة إلى التمويل الذي حظيت به من قبل الشركات، التي استفادت لأقصى حد من خلال تسويق منتجاتها، وتنشيط حركة بيع هذه المنتجات. ولعل اهتمام الإدارة الامريكية الحالية، بتأطير كوادر في سفاراتها وفي وزاراتها المعنية، في تعلم اللغة العربية، وفي تكوينهم كمتخصصين وخبراء في شؤون العالم العربي والاسلامي، لعل هذا يمكن أن يوضع في نفس هذا السياق ذي النزعة الاستعمارية.
في نفس الإطار لا يمكن غض الطرف، عن أن الاستشراق في نشأته الأولى حاول إخفاء وجهه الاستعماري البغيض، وذلك بمحاولة إيجاد تبرير أخلاقي وإنساني أو عقلي أو حتى ديني، إذ لن نعدم وجود شعارات وبرامج ومهام اضفاها الغرب على مشروعه العدواني من قبيل "رسالة الغرب التمدينية" Mission civilisatrice أو "العمل التحضيري" Oeuvre civilisatrice و"الغزو التحضيري Conquete civilisatrice ، أو "العبء المُلقى على الرجل الأبيض، أو "تمدين الشعوب البربرية" أو "رسالة أوربا المجيدة في تمدين الأفارقة والآسيويين"، أو "الرسالة الإلهية في توحيد العالم، ونشر السلام في ربوعه بالقوة"، بحيث اصبح الاستشراق هو المرادف للاستعمار، والحال هكذا، اصبح أيضا هو المرادف للمدنية. ولعل ما سبق يعني بالدرجة الأولى "أن الغرب تصوّر الشرق ودرسه تصورا استعماريا عرقيا، فوقيا، متجذرا في القوة واتحاد القوة بالمعرفة، والانشاء الذي ولده ذلك كله"( ).
• تنوع واتساع دائرة العمل الاستشراقي ومجالاته:
لم يقتصر البحث الاستشراقي ومقارباته، على الموضوعات السياسية والعسكرية فحسب على الرغم من أن هذه المرحلة كانت مرحلة تالية في تاريخ العمل الاستشراقي، بل شمل أمور القرآن والعقيدة والدين والسيرة النبوية، والدراسات الاسلامية عموما، فتخصص نولدكه على سبيل المثال في تاريخ القرآن، وبلاشير وجاك بيرك واندريه شوراكي في ترجمته، وعلوم الحضارة الاسلامية، وتاريخ الاديان المقارن الذي تخصصت فيه على سبيل المثال سيغريد هونكة، واللغة العربية التي تخصص فيها على سبيل المثال ولفدريتش فيشر، والجغرافيا والتاريخ في عصوره المختلفة، فنجد على سبيل المثال في التاريخ الاسلامي روبير منتران الذي تخصص في التاريخ العثماني، والدراسات العثمانية عن تركيا وتونس والجزائر، وفي تاريخ العرب الحديث والمعاصر فسنجد على سبيل المثال أيضا هنري لورانس وبيتر جران، ومن تخصص في السكان وكذلك العادات والتقاليد، والثقافة والفكر، والفلسفة والأدب، والآثار بأحقابها الزمنية المختلفة، فعلى سبيل المثال تخصص ويليام مارسيه في الابحاث الاثرية في تونس، والخط العربي والموسيقى والفنون الجميلة العربية والاسلامية التي تخصص فيها على سبيل المثال جورج مارسيه.. الخ.
إن حقول البحث الاستشراقي إذن شديدة التنوع والغنى، بل وتعزّ أحيانا على الناطقين بالعربية، وما بالنا بغير الناطقين بها، بخاصة أن المستشرقين ليس جميعهم ممن اتقن العربية وتعمقها. ولعل هذا النقص في تكوين بعض المستشرقين، انعكس بالسلب على مقارباتهم، التي تفيض غالبا مع هؤلاء بتفسيرات وتأويلات واستنتاجات، بل وبتنبؤات تخرج بهم عن المنهجية العلمية، وتحصرهم أحيانا داخل إطار انثروبولوجي ضيق، فتسود الايديولوجيا على حساب الموضوعية.
• ارتباط العمل الاستشراقي بالتبشير:
ارتبطت بعض الأعمال الاستشراقية في عالمنا العربي والاسلامي، بعمليات تبشيرية لا نستطيع على وجه الدقة تقدير حجمها أو تحديد مداها، وبعيدا عن التهويل أو التقليل الذي مارسه بعض الباحثين العرب، حيث ذهب البعض منهم، ليس إلى أن هدف العمل الاستشراقي كان التبشير فحسب، ولكن وصل إلى أبعد من ذلك، إذ تحدد الهدف -كما يرون- في "تشويه الاسلام ودس الدسائس والاباطيل عليه"( )، وتوقف هدف الاستشراق هنا على "خدمة الكنيسة والاستعمار"( )، في "طعن الاسلام بجهالة وضلالة"، إذ كانت حملة تشويه تهدف إلى "إقامة الحواجز بين الاسلام وبين الجموع البشرية المقبلة عليه من الوثنيين في آسيا وافريقيا.."( ). والمعنى المقصود هنا أن الطعن على الاسلام يهدف إلى وقف الالتحاق الجماعي به، لتسهيل الطريق أمام التبشير المسيحي، وهو تصور لواقع الاستشراق، لاحظه وأقر به عدد لا بأس به من باحثينا. إن التصور الساذج بأن الاستشراق كان مُنزّها طوال الوقت، ولم يكن مرتبطا بأي حال من الاحوال بحركة التبشير المسيحي، هو تصور إذن غير واقعي وتنقصه الدقة، وينحرف عن حقيقة ما جرى بالفعل على أرض الواقع. سيمكن القول إذن أن الاستشراق، ارتبط فعليا في بدايته –على الأقل- بالتبشير، وذلك بهدف نشر الديانة المسيحية بمذاهبها الرئيسية الثلاث: الأرثوذكسية التي تبنتها روسيا، والكاثوليكية التي شُجعت من طرف فرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، إضافة إلى البروتستنتية التي لعبت كل من إنجلترا وأمريكا وهولندا أدوارا كبيرة في مساندتها. ولعل خطاب تأسيس كرسي اللغة العربية في كمبردج في عام 1636 أبلغ مؤشر على هذا الربط إذ يقول: "ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض كبير من المعرفة للنور- بدلا من احتباسه في نطاق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكنا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة، والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات"( ).


• تأثير الأعمال الاستشراقية على المثقفين العرب:
يعتبر التأثير الذي احدثته أعمال المستشرقين ومنتجاتهم الفكرية، على الباحثين والدارسين والمفكرين العرب ذات أهمية بالغة، نظرا لأن هذا التأثير لم يوفر أحدا ولم يستثن تيارا أو فريقا، مؤيدا كان للاستشراق أو معارضا له.
يعتبر النقد الجذري الذي وجهه إدوارد سعيد إلى الاستشراق، نقدا لا يعني الشرق أكثر مما يعني الغرب نفسه، بإشكالاته الفكرية والهشاشة المتصلة بثقافته، والمفارقات العديدة في تصوراته المنهجية، للمعالجات التي يقوم بها في مجالات البحث العلمي، لكل من الغرب والشرق. تتسم تلك المعالجات المنصبة على الغرب (ذاته) بالفكر النقدي، الذي نما خلال تطور الغرب الحضاري والبحثي والعلمي، بينما يعالج المستشرقون الشرق (الآخر)، على قاعدة "القوة والفوقية والسلطة"، وبذلك تخلو معالجتهم المنصبة على الشرق، من هذا الفكر النقدي، إذ يدرجوها داخل إطار فكر ذي طبيعة مختلفة، يستند إلى "الانشاء الاستشراقي المتشكّل المتصلب"، وهو "إنشاء يدعي لنفسه مقام الحقيقة، ويحجب بشكل مطلق حقيقة كونه تمثيلا لا أكثر، حقيقة كونه يجسد وعي الذات للآخر أكثر مما يجسد الآخر"( ). إن خطورة هذه الرؤية وإن كانت تخص الغرب وحده، لها تداعياتها أيضا على الباحثين العرب، ممن يتبنون المناهج الاستشراقية، وبخاصة عندما بيّن إدوارد سعيد أن الاستشراق، يمارس قوة ما ذات اتجاهات ثلاثة، يأتي في أولها الشرق ( ). إن قوة تأثير الاستشراق إذن لا تستثني من طريقها الباحثين العرب، وإذا عرفنا من جهة، أن الشرق لم يكن في الوعي الغربي عبارة عن الآخر الخارجي فحسب، بل أيضا امتداد "للشاذ، والمنحرف، والمجنون، والمستضعف داخل الغرب: للآخر الداخلي أيضا"( )، ومن جهة أخرى فأن معالجة المستشرقين سالفة الذكر، تدفع إلى أن يفقد المستشرق لتعاطفه مع موضوعه، بحجة المعرفة المهنية، وهو ما اعتبره إدوارد سعيد تجردا إنسانيا "مثقل بكل المواقف المحافظة، والمنظورات المحافظة، ...وشرقه ليس الشرق كما هو، بل الشرق كما شُرقن"( ). إذا عرفنا كل هذا فسيمكننا أن نتخيل تداعيات، هذا التأثير على الباحث الشرقي، الذي سيقوم بمعالجة قضاياه، عندما يتلبّس بهذه الابعاد الاستشراقية، المُغلّفة بالسياسة، فيستبطنها على أنها من سمات المنهج العلمي الجاد، خاصة وأن "الشرق الذي يتجلى في الاستشراق، هو نظام من التمثيلات مؤطر بطقم كامل من القوى التي قادت الشرق إلى مجال المعرفة الغربية، والوعي الغربي، وفي مرحلة تالية الامبراطورية الغربية. وإذا كان هذا التحديد للاستشراق يبدو سياسيا أكثر منه أي شيء آخر، فذلك ببساطة (لأن إدوارد سعيد يؤمن) بأن الاستشراق كان هو نفسه نتاجا لقوى ونشاطات سياسية معينة"( ). من هنا اعتبر سعيد أن جوهر الاستشراق تجسد في مذهب سياسي، لعل أخطر ما فيه أنه "مورس إراديا على الشرق لأن الشرق كان أضعف من الغرب، الذي ساوى بين اختلاف الشرق وبين ضعفه"( ).
ولا ينبغي أن ننسى أن بعض ممن تبنوا المناهج الغربية من كبار المثقفين مثل طه حسين، وحسين فوزي، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وشبلي شميل، ولطفي السيد، ولويس عوض، وغيرهم.. قد تم اتهامهم من قبل التقليديين، بأنهم عملاء للاستشراق وخونة للإسلام، إذ وجد دعاة التقليد أن الاستشراق لم يشوه التاريخ والتراث الإسلامي فحسب، بل يروه قد شوّه أيضا عقول الأمة وعقول مثقفيها ممن تبنوا مناهجه، وعلى الأخص نقديته التاريخية.
• النزعة العرقية المركزية الأوربية Eurocentrisme:
ينبني عمل إدوارد سعيد "الاستشراق" بأكمله، على فرضية العرقية المركزية الأوربية، المنبثة في ثنايا ما انتجه المستشرقون على مدى تاريخ الاستشراق، إذ يمثل الشرق في عمله "الهامش" أو الخارج، بينما الداخل فهو الغرب العقلاني المنتج للاستشراق، وبالتالي فهو يحتل المركز. من هنا يعتبر سعيد –كما رأينا- أن الاستشراق عبارة عن "إنشاء يدعي لنفسه مقام الحقيقة، ويحجب بشكل مطلق حقيقة كونه تمثيلا لا أكثر، حقيقة كونه يجسد وعي الذات للآخر أكثر مما يجسد الآخر"( ). المناهج الاستشراقية إذن تتأثر فيما تتأثر به، وبشكل كبير بالنزعة العرقية الأوربية، بمعنى أنها تجعل من التاريخ الأوربي التاريخ ب(الألف واللام)، أي التاريخ العام للإنسانية، ومن ثم تقيس على حضارة الغرب وثقافته مدى تقدم وتأخر الثقافات المدروسة، أي أنها تجعل من الثقافة الغربية: الحكم والمعيار. من هنا يصبح الغرب هو قلب العالم، وما عوالمنا إلا مجرد أطراف مهمشة. هذا الامر دفع بعض الباحثين العرب إلى البحث عن أسباب يبررون بها نزعة المركزية العرقية الاوربية تلك، فأرتأى البعض أن الفشل السياسي والعسكري، الذي أُلحق بالحروب الصليبية جعل أوربا تفكر في الانتقام من الاسلام واصحابه بطرق جديدة، وأن ما أفشل دراسات المستشرقين من الوصول لما اعتبروه الحق، هو التعصب الديني والغرور الغربي عندما "اعتقدوا أن الغربيين أصل جميع الحضارات في التاريخ –ما عدا المصرية- وأن العقلية الغربية هي العقلية الدقيقة التأمل التي تستطيع أن تفكر تفكيرا منطقيا سليما"( ). ووجد البعض الآخر أنه مع انتهاء فكرة التبشير والتنصير التي سادت فترة مع حركة الاستشراق والتي كانت مساوقة لسيطرة الكنيسة الغربية، انتكست العقلية الاوربية إلى "مركزية أوربية وفكرة فوقية، وظهرت فكرة أن الانسان الاوربي أكثر تحضرا أو عقلانية، ..."( ). كما برر آخرون النزعة العرقية الاوربية والآراء القاسية غير العادلة عن الاسلام، والتي جاءت في دراسات المستشرقين بالأيديولوجيا الارتجاعية، ونتيجة للأحكام المسبقة، ويرى هشام جعيط بأنها "اتسمت برؤية سيكولوجية جامدة للإسلام وبنزعة مركزية للأنا والآخر تكاد تنسف فكر وحضارة، بل وعقلية الآخر المختلف"( ).
• خبراء الشرق الأوسط والأدنى:
نخلط كثيرا في الشرق بين هؤلاء، الذين يُطلق عليهم في الغرب هذه الأيام بخبراء الشرق الأوسط والأدنى ( )، وبين المستشرقين، حيث أن الفئة الأولى تلك من الخبراء، حديثة العهد بالمعنى التاريخي، إذ لم تظهر إلا منذ سبعينيات القرن الماضي (العشرون)، في حين أن المستشرقين بدأوا في الاهتمام بأمور شرقنا العربي والإسلامي، منذ أكثر من ثلاثة قرون من الزمان، ومنهم المتخصصين والعلماء الثابتين في العلم، وفي كل التخصصات العلمية. ما يمكن رصده إذن بخصوص هؤلاء الخبراء الجدد إنهم من الايديولوجيين والصحفيين، وممن يقومون أيضا بكتابة الدراسات والأبحاث حول الشرق، إلا أن معالجاتهم تتسم كثيرا بالسطحية، ولا تستقيم منهجيا أو أكاديميا، إلا انهم الأعلى صوتا والأكثر ضجيجا، حيث تتم دعوتهم ليل نهار على شاشات التلفزة الغربية، للتعليق على الأحداث التي تقع في شرقنا العربي الاسلامي، فيتحدثون عن جهل ويفسّرون ويؤولون بلا علم، وكأنهم على شاكلة ممن نراهم يعلقون بشكل مباشر على المباريات الرياضية. لعل هؤلاء بالفعل، هم أحد أهم مصادر سوء الفهم، القائم حاليا بين المواطن الغربي البسيط والعربي المسلم، وما الاسلاموفوبيا إلا نتيجة –ضمن عدة اسباب أخرى بالطبع- على الأداء السطحي لهؤلاء المؤدلجين الذين يُطلق عليهم بالخطأ أنهم خبراء في شؤون الشرق الأوسط والأدنى.

نظرة حول الملاحظات الأولى:
إذا كنا قد بنينا حكمنا على الاستشراق، على العناصر التي سقناها توا، سنخرج حتما بنتائج مفادها:
1- إن الهدف الاساسي للأعمال الاستشراقية، كان هدفا دينيا يخفي عداء الغرب التاريخي للإسلام، وهو ما توصل إليه بالفعل، البعض من الباحثين العرب إذ رأى البعض "أن الباعث الديني كان من اهم البواعث التي دفعت الغرب إلى الخوض في مجال الدراسات الشرقية، محاولين بذلك التنفيس عن عدائهم للإسلام- هذا العداء الذي يرجع إلى قرون مضت، منذ أن بزغ نور الاسلام على العالم"( ).
2- إن الدراسات الاستشراقية ليست إلا مؤامرات، يحيكها الغربيون لتدمير الإسلام والمسلمين، ومن هنا لن يخرج العمل الاستشراقي، إلا عن كونه عملا تبشيريا مستترا وبامتياز. وهو الأمر الذي وجدناه بالفعل لدى بعض باحثينا من العرب، حيث يرى أحدهم أن من دوافع تشجيع الاستشراق "إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا، وبث الوهن والارتباك في تفكيرنا وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في ايدينا من تراث، وما عندنا من عقيدة وقيم انسانية"( ).
3- إن الأعمال الاستشراقية في جملتها، اعمال مرتبطة بالاستعمار وبمخططاته المشبوهة في بلداننا، تهدف لتشويه القيم الاسلامية ومحاربة الفصحى، وإحداث الفُرقة بين الشعوب العربية والاسلامية. وهو ما توصل إليه بالفعل أحد باحثينا عندما يقول عن المستشرقين أنهم أخذوا "يهدفون إلى تشويه سمعة الاسلام في نفوس رواد ثقافتهم من المسلمين لإدخال الوهن إلى العقيدة الاسلامية والتشكيك في التراث الاسلامي والحضارة الاسلامية وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث"( ).
4- إن الهدف الاساسي للاستشراق هو تكريس تبعيتنا للغرب، بل وتشويه صورتنا في العالم. وهو ما جاء في بعض نتائج باحثينا عن الاستشراق، عندما يدعو كل مسلم إلى إخضاع كتابات المستشرقين للبحث والدراسة والتمحيص "حتى يكشف النقاب عن حقيقة الاغراض التي دفعت هؤلاء المستشرقين إلى الكتابة عن الاسلام، ويرفع الشبهات التي يحاولون بها تشويه الاسلام ودس الدسائس والاباطيل عليه"( ).
وهو ما أجمله أحد الباحثين ( )، عندما قسّم اهداف الاستشراق إلى الاقسام التالية:
أ- هدف علمي مشبوه، يهدف إلى التشكيك بصحة رسالة النبي (صلعم) ومصدرها
الالهي (ص 20).
ب- يتبع إنكارهم هذا أن يكون الاسلام ملفق من الديانتين اليهودية والمسيحية (ص
21).
ج- التشكيك في صحة الحديث النبوي (ص 21).
د- التشكيك بقيمة الفقه الاسلامي الذاتية (ص 22).
و- التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي.
أكثر من ذلك يضيف أنه بعد هذا، تأتي الاهداف الدينية والسياسية، لتصب أيضا في نفس الاتجاه.
إن الأحكام الأربعة السابقة، إضافة إلى الإجمال الاخير، تحرفنا عن حقيقة الاستشراق، ومن ثم محاولة استشراف مستقبله، وبخاصة إن لم نضع في اعتبارنا ملاحظات أخرى تالية:


الملاحظات الثانية:
• العلاقة القديمة والمعقدة بين الشرق والغرب:
إن من طبيعة الأمور ونزولا على قواعد المنهج العلمي، الحرص على الأخذ بعين الاعتبار، طبيعة العلاقة التاريخية المشحونة، بكم كبير من التعقيد والاضطراب، بين الشرق العربي الاسلامي وبين الغرب الأوربي. إن كم كبير من الأحداث التاريخية لا يمكن إغفاله عن مجال الرؤية، وهو الذي تخللته أحداث جسام ظلت جاثمة على الذاكرة التاريخية لكل الأطراف، تتوارثها الأجيال وظلت تورثها على مدى قرون عديدة من الزمان، بداية من غزو الاسكندر الأكبر، ومرورا بالفتوحات الاسلامية، التي وصل العرب والمسلمون فيها، إلى إخضاع سائر بلاد الأندلس وحتى أعتاب مدينة بواتييه في الجنوب الفرنسي، وحتى سقوط الممالك العربية في الاندلس، وكذا الحملات الصليبية بكل ما حملته من أحداث أليمة، إضافة إلى سقوط القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، ممثل الخلافة الاسلامية آنذاك وتهديده للقارة الأوربية، عندما وصل العثمانيون على أبواب فيينا قلب العالم الغربي، ووصولا إلى الحقبة الحديثة حقبة الاستعمار والتقسيم والنهب الغربي لبلداننا العربية والاسلامية، وحتى اليوم عصر العلاقة المعقدة، في زمن العولمة والقنوات الفضائية المفتوحة، والمعلوماتية وتداعيات الإيكولوجيا، وثورة الاتصالات. لم تؤد كل هذه التراكمات مجتمعة إلا إلى التشكيك وافتراض سوء النية لدى كل الأطراف. ثمة إذن تاريخ ضاغط، تنوء بحمله كلتا الذاكرتان الغربية والشرقية، ومازال هذا التاريخ وتلك الذاكرة تلعب ادوارا مؤثرة، بل وأحيانا موجّهة في سير الاحداث المعاصرة.
• ربط العمل الاستشراقي في نشأته بالاستعمار:
على الرغم من ارتباط العمل الاستشراقي –كما اسلفنا- في نشأته بالاستعمار إلا أنه لا يمكن تعميم هذه الحقيقة في شتى الظروف والمناسبات، إذ ثمة مستشرقون اكاديميون منزهون عن الغرض، وهم ليسوا بالندرة التي يمكن أن نتصورها ولكنهم كُثر، فعلى سبيل المثال وليس الحصر هناك المستشرق الإيطالي كاتياني الذي عارض بشدة حرب بلاده العدوانية على ليبيا، والفرنسي بلانا دي لافاى الذي عارض حكومته في احتلال الجزائر، أكثر من ذلك فند مزاعمها وفضح مراميها، ورينو الذي ترجم جغرافية أبي الفدا، وكذلك دوزي الذي تخصص في تاريخ الاندلس، وآسين بلاثيوس الذي كشف عن المصدر العربي للكوميديا الإلهية، كما لا يمكن أن ننسى سيدييو الذي انشغل بعبقرية المهندس العربي أبي الفدا في الفلك، وجوستاف لوبون الذي اتسمت دراساته بالموضوعية. يمكن أيضا إضافة اسماء أخرى اتسم انتاجها بالموضوعية والتعاطف مثل سيغريد هونكة المتخصصة في تاريخ الأديان التي أكدت على تقدم العرب الماضي متسائلة "ألم يكن الطلبة الاوربيون منذ قرن أو قرنين يقطعون جبال "الألب" من مختلف المسالك ليتجهوا إلى الجامعات العربية طلبا لمعارف أوسع في الفلك والفيزياء والرياضيات"( )، أو عندما تقول أن الاسم العربي قد بلغ "درجة من التعظيم والإجلال إلى أن صار الاطباء، والكيميائيون والصيداليون، والفلاسفة يوقعون مؤلفاتهم باسم عربي مصاغ صياغة لاتينية... لجلب اهتمام العلماء لهذه المؤلفات.."( )، ويقول فيشر "جذبت اللغة العربية انتباهي بصفة خاصة، وذلك لأن الخط العربي قد أثار إعجابي بأشكاله الفنية المتنوعة والجميلة، فعزمت على أن أدرس اللغة العربية لكي اتمكن من قراءة هذه الاشكال الفنية الجميلة"( ) وفي موضع آخر يقول أيضا عن اللغة العربية التي أعجبته "إعجابا كبيرا وذلك (لأنه رأى) أن بناءها اللغوي ونظامها النحوي يعدان من اوضح اللغات في العالم، ولأنها لعبت دورا هاما في نقل المعارف والعلوم إلى الحضارات الأخرى"( ). ولا يمكن هنا نسيان كلمات هيردر "لقد كان العرب اساتذة أوربا"( )، ولا ما رد به السير وليام موير على ما اعتُبر أنه اكاذيب للمستشرقين بكتابه "حياة محمد"، ولا رد آميل درمنجهام على تهم المستشرقين على الاسلام ( ). وثمة أسماء أخرى كثيرة يمكن إضافتها لهذه الكوكبة من الاسماء مثل نولدكه، ونللينو، وجب، وجولدزيهر، وإدوارد وليم لين، ومرجليوث، ورنولد ألن نكلسن، وفلهاوزن، وبروكلمان، وجاك بيرك، وماكسيم رودنسون وغيرهم كثيرون نستطيع إضافة المزيد لو أردنا.. من أجل هذا يرفض بعض الباحثين العرب، تعميم عدم الإنصاف والتحيز والعنصرية على المستشرقين، لما يترتب عنه من خطأ في التقدير والتقييم، وذلك لإنصاف البعض منهم للعرب وللحضارة العربية الاسلامية، وتقديمهم لخدمات جليلة وعظيمة لهذه الحضارة "لا يمكن نكرانها، بغض النظر عن التقييم في الدوافع والاهداف التي جعلتهم يتصفون بهذه الصفات، وفي حماسهم وتفانيهم واخلاصهم لهذا العمل العلمي والبحثي في الحقول التاريخية والثقافية العديدة"( ).
• التأثير الايجابي للمناهج الاستشراقية على الباحثين العرب:
إذا كان الاستشراق بمناهجه قد أثر على الباحثين العرب، فإن ما نغض الطرف عنه دائما، هو الأثر الذي أحدثه موضوع الاستشراق على المستشرقين انفسهم، إذ فرض الاستشراق "حدودا على الفكر المتعلق بالشرق. وقد خضع أكثر الكتاب روعة خيال (...) لضوابط مقيدة فيما يمكن أن يجربوه أو يقولوه عن الشرق، إذ أن الاستشراق كان، في نهاية المطاف، (رؤيا) روّجت بنيتها للفرق بين المألوف (أوربا)، الغرب، "نحن") وبين الغريب" (الشرق، المشرق "هم") ( )، وهو ما يؤكد أن التأثير الممارس لم يكن على الباحثين الشرقيين فحسب، ولكن يلقي بوطأته أيضا على المستشرقين انفسهم، بل ويوجّه اقلامهم. كما ذكرنا إذن من قبل، أن الاستشراق يؤثر على الباحثين من العرب والشرقيين، فإن قوته ذات الاتجاهات الثلاثة، التي يمارسها فهي إلى جانب تأثيرها على الشرق، فهي تؤثر أيضا "على المستشرق، وعلى "المستهلك" الغربي للاستشراق. وسيكون خطأ، (فيما يعتقد إدوارد سعيد) التقليل من شأن العلاقات ذات الاتجاهات الثلاثة التي تتأسس بهذه الطريقة"( ).
من ناحية أخرى اندفع المثقفون العرب، من شتى مناحيهم الفكرية، سواء ممن كانت لديهم رؤى إيجابية حول الاستشراق أم حتى ممن حملوا له رؤى سلبية، اندفعوا إلى النهل مما كتبه المستشرقون، ولعل من أهم أسباب هذا الاندفاع، هو اهتمام المثقفين العرب انفسهم بما اسفرت عنه أعمال المستشرقين، وهي عديدة، سواء قبلوها واثنوا عليها أم رفضوها وعرّضوا بها. أحس هؤلاء المثقفون أن ثمة صدقية ما، تمتعت بها هذه الاعمال، وهي صدقية تعود لمناهج المستشرقين انفسهم، إذ كانت تتسم بقدرة هائلة على إعطاء نتائج مهمة وناجعة، بعيدا عن الإيمان العقائدي، وقدرة هائلة على التعامل مع التاريخ والثقافة الاسلامية، خارج إطار المقدس "فالدراسات الببليوغرافية هدف مركزي لديهم، وضبط الوقائع التأريخية مهمة جديرة بالبحث، واختلاف القرآن ظاهرة تستأهل العناية، وكيفية الوحي قضية تثير الشكوك أحيانا. وكتابة القرآن وتدوينه مسألة علمية دقيقة"( ). ولا ننسى أن منهجية النقد التاريخي لعبت دورا في الوصول إلى نتائج غير مسبوقة، بحيث جعلت المقاربة الاستشراقية، دائما ما تكون منتجة وذلك بتقديمها الجديد، وباقترابها من المسكوت عنه، بعيدا عن الأفكار المسبقة، وبديهيات ومسلمات وتقاليد الباحث المحلي، وكذلك بتحررها من الذاتية الموالية لما تدرسه، وهي التي غلفت مقاربات باحثينا عبر التاريخ. الأمر الذي دفع العديد من الباحثين العرب إلى تبني هذه المناهج الناجعة، التي تقوم على تصور التاريخ الاسلامي بطريقة تختلف تأويلا ونهجا، عن الصورة المتوارثة بين الباحثين من العرب والمسلمين. لقد دفع هذا الأداء المنهجي لنتائج أبحاث المستشرقين، بعض الباحثين العرب إلى الإشادة بهذا العمل، فعلى الرغم من اعتراف أحدهم بأنه لا ينزه قسما من المستشرقين بدى لديه واضحا انحرافهم، فإنه يرى في الوقت نفسه أن "الفرض العلمي للاستشراق بوجه عام –فيما يبدو- هو الهدف المركزي الذي جند طاقات المستشرقين دون الاهداف الهامشية الأخرى التي لا تشكل داعيا نهائيا وحتميا عند أغلب المستشرقين"( ). ويؤكد باحث عربي آخر على الاغراض العلمية "والمنصفة للمستشرقين –مع وجود بعض السلبيات لأسباب متعددة- تعتبر الأكثر إيجابية في هذا المضمار في كشف تاريخنا وإبرازه والحفاظ عليه أيضا. فلولا جهود هؤلاء، لما استطعنا أن نعرف الكثير من تاريخنا، ومآثر أجدادنا في شتى المعارف الانسانية، خلال عدة قرون. ولذلك من الحق أن نذكر أن جهود المستشرقين في كشف التاريخ العربي، تعتبر جهودا رائدة وعظيمة تستحق التقدير والإشادة"( ). والجدير بالذكر أن نقدا جذريا، كان قد وجهه إدوارد سعيد لتأثر الباحثين والمثقفين العرب للمنتج البحثي الغربي، إلا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يلتحق أو يتقاطع مع نقد التقليديين لهذا المنتج الاستشراقي، لاختلاف المرجعية والقاعدة التي يستند إليها، والتي تخضع لمراجعة تعتمد على المنهجية الغربية ذاتها، إذ أنه يثير في نقده "مشكلة وعي الآخر لذاته من خلال تصور الأنا المعاينة له، أي وعي الشرق لنفسه من خلال تصور الغرب له، ويدعو إلى حركة تأسيس للذات عبر اكتشافها لأبعادها التاريخية والحضارية لا من خلال الآخر بل من خلال شروط تكوينها الداخلية"( ). كما أن إدوارد سعيد يؤمن أيضا، بوجود حتمية تاريخية تحكم الشروط التاريخية والاقتصادية والثقافية والفكرية المعيشة، في بنية الشرق كما في الغرب، ولهذا يستنكر أن يعتبر الاستشراق نفسه تمثيلا لحقيقة وواقع الشرق، بعد أن غاب عن مقاربته الفكر النقدي، وامتلأت معالجاته بالمفارقات الضدية الاساسية، التي جعلت الشرق يبدو بالصورة التي أرادها الاستشراق والمستشرقون.
• خدمات العمل الاستشراقي للتراث العربي:
أسدى العمل الاستشراقي بشقيه خدمات جليلة لتراثنا العربي الاسلامي، وذلك باعتراف كل الاطراف بما فيها الاطراف، التي وقفت دائما مشككة في نيات الاستشراق والمستشرقين، إذ بعد أن يتصور أحد هذه الاطراف أن "الهدف الاول للمستشرقين كان خدمة الكنيسة والاستعمار"، يعترف في الوقت نفسه، أن فئة أخرى منهم "منصفة أرادت البحث العلمي المجرد دون التعرض للدين، وهذه الفئة غلبت عليها الحيدة المطلقة. والرغبة في الوصول إلى الحقيقة العلمية، ودراسة التراث العربي الاسلامي، لما فيه من حضارات قديمة مزدهرة"( ). ويتحدث آخر بعد أن أكال الاتهامات، للاستشراق واهدافه "المشبوهة" –على حد تعبيره-، وبعد أن ربطه بالتشكيك في كل ما يتعلق بالثقافة العربية والاسلامية، نجده يتحدث عن الدافع العلمي للاستشراق فيقول: "ومن المستشرقين نفر قليل جدا اقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الاطلاع على حضارات الامم واديانها وثقافاتها ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأ في فهم الاسلام وتراثه، لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف، فجاءت ابحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من ابحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين"، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يرى أن البعض من هؤلاء المستشرقين قد "اهتدى إلى الاسلام وآمن برسالته"( ). لا يُنكر أحد إذن ما اسداه الاستشراق من خدمات جليلة لتراثنا العربي الاسلامي، وذلك عندما أدخل المناهج الحديثة على دراساته فأغناها واعطى لنا نموذجا علميا يحتذى (بموضوعيته أو بغياب هذه الموضوعية)، وكذلك عندما قام بتحقيق ودراسة ونشر مخطوطاتنا القديمة أو المجهولة، كما يمكن أن يحسب له أنه أفاد اللغة العربية عندما طبّق عليها علوم الالسنيات الحديثة، وعندما استطاعت بعض دراساته أن تغيّر الصورة النمطية القديمة عن العرب والاسلام، تلك الصورة الموروثة عن العصور الوسطى والمستندة إلى الجهل، وذلك عندما ابدلتها بصورة أقرب للواقع، سواء قبلنا بها أو رفضناها، إذ أن أبرز ما اتسمت به هذه الصورة الجديدة أنها ابتعدت عن التهويلات والفانتازمات القديمة. امتدت هذه الخدمات أيضا إلى إغناء الدراسات العربية الكلاسيكية بدراسة كبار الفلاسفة أمثال أبن سينا، وأبن رشد، وأبن خلدون، وغيرهم.. ألم يفن بعض المستشرقين "أعمارهم وسخروا جهودهم –حسبما يرى البعض- في دراسة مخطوط أو تحليل مرحلة حضارية أو التنقيب عن آثار"( ).
• نتائج الدراسة العلمية للاستشراق على التاريخ الاسلامي:
إن تناول الاستشراق للتاريخ الاسلامي بمقاربة منهجية، أدى إلى احترام المسافة التي تفصل الباحث عن موضوع بحثه، وهو الأمر الذي أدى إلى أن تُنزع هالة القداسة عن موضوع البحث، وهو ما اختلف مع الطرق التقليدية التي كنا نتعامل بها مع تاريخنا أثناء مقاربته. مثّلت هذه المقاربة الحديثة علاقة جديدة للباحثين العرب بالظواهر التي كانوا يعالجونها وهي المرتبطة بتاريخهم وتداعيات احداثه عبر عصوره المختلفة. اضحت هذه الاشكالية إذن لا علاقة لها بذلك الصراع الديني بين الشرق والغرب، ولكنها اندرجت في إطار الجري على النهج العلمي الغربي، والذي سبق وتم تطبيقه على الكتاب المقدس تبعا لمنهجية النقد التاريخي. وهنا يعترف بعض باحثينا بأننا "لا نستطيع أن نجحد جهود المستشرقين، ولا يمكن أن ننكر تماما فضلهم ولا يجوز لنا أيضا أن نستغني على وجه الاطلاق عن دراسات المستشرقين في ابحاثهم، بل من واجبنا الاطلاع على وجهات النظر الغربية في موضوعات تاريخنا العربي والاسلامي"( ). هذا ويأتي سوء الفهم من فرضية يعتقد فيها القارئ المسلم، أن المستشرق ملزم بأن يراعي في كتاباته، خاصة إذا تعلق الامر بأمور الإيمان والعقيدة، أن يراعي ما يعتقده المسلمون أنفسهم من قناعات، وبالتالي يعتبرون الخروج عن نهجهم هذا، مجرد إساءة وتجريحا أو في أحسن الحالات جهلا. ولقد فكر في هذا الامر أحد باحثينا الذي تحدث عن طبيعة فهم المستشرقين المختلف عن فهمنا للقضايا القرآنية، وهم المهتمون بالدراسات الببليوغرافية، وضبط الوقائع التاريخية، والتدوين، "أما نواحي الإعجاز فهو ما يخص المسلمين، وقضايا البلاغة شؤون عربية قد لا يحسنها غير العربي الأصيل، وجرس الالفاظ لا تعيها إلا أذن بدوية، والالتفات من الفنون البديعية التي ترتبط بالبلاغة العربية، والتفسير الجزئي أو الكلي أو الموضوعي، لا سبيل له في فهم المستشرقين، لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع للمسلمين لا للمستشرقين"( ).
• جهل بعض من ينقدون الاستشراق، للحقول المعرفية التي يتصدون لها:
إن الجهل بالحقل المعرفي الذي يتصدى له المستشرق المتخصص في نفس الحقل، أدى إلى سوء كبير للفهم وأحيانا إلى اتهامات كثيرة للمستشرقين، تعمم سوء النية على الجميع، وذلك دون أن تبذل جهدا في مراجعة الاسس العلمية والمتخصصة في الموضوع. ولعل هذا ما كان ملاحظا بشدة على الانتقادات التي وُجّهت لترجمات القرآن في الفترات الأخيرة، وبينها على سبيل المثال ترجمة جاك بيرك، وترجمة شوراكي، حيث اتضح بعد دراسات متعمقة قام بها باحثون عرب على درجة عالية من التخصص الدقيق، أن المستشرقين قد قاما بقراءة عديد من كتب التفاسير القديمة، وبعض هذه الكتب كان يجهلها من تصدى لنقدهما، وبالتالي جاء النقد عن جهل، بل وعن فهم أحادي الجانب للموضوع، بينما بذل المستشرقان جهدا لم يكافئا عليه ولم يجنيا منه حمدا ولا شكورا، ظل فقط خيبة الأمل والاحباط، يلاحقاهما. لذا يرفض البعض، تعميم عدم الإنصاف والتحيز والعنصرية على المستشرقين، لما يترتب عنه من خطأ في التقدير والتقييم، وذلك لإنصاف البعض منهم للعرب وللحضارة العربية الاسلامية، وتقديمهم لخدمات جليلة وعظيمة لهذه الحضارة، "لا يمكن نكرانها، بغض النظر عن التقييم في الدوافع والاهداف التي جعلتهم يتصفون بهذه الصفات، وفي حماسهم وتفانيهم واخلاصهم لهذا العمل العلمي والبحثي في الحقول التاريخية والثقافية العديدة"( ).
• الوجه الآخر من النزعة العرقية الاوربية:
ترتد النزعة العرقية الاوربية إلى ما يمكن أن نُطلق عليه، النزعة الذاتية أو نزعة التمركز حول الذات Egocentrisme، فالتاريخ يعلمنا دائما أن الحضارات المتفوقة، تفرض معاييرها ومناهجها ورؤيتها على الثقافات التي تعيش في نفس العصر، وربما لا يكون فرض الثقافة هذا عنوة، بل محض اختيار من الثقافات المغلوبة على أمرها، أو نوع من التثاقف، الذي ربما أن يكون هو الاختيار الوحيد المُتاح. في هذا الاطار يمكن أن نضع أيضا الحضارة العربية الاسلامية، في أوان ازدهارها وتفوقها، إذ كان ثمة ما يمكن أن نُطلق عليه Arabocentrisme، فالدولة العربية الاسلامية قاست على إيمانها، مدى إيمان أو كفر الممالك الأخرى (فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان)، بل وصنّفت من لا يتحدث اللغة العربية على أنه "أعجمي"، وسادت ثقافتها وعلومها (عنوة أو اختيارا) أركان المعمورة. أكثر من ذلك ارسل الأوربيون أبنائهم، ليتعلموا الفلسفة والطب والموسيقى في الاندلس، حاضرة العالم الاسلامي، واستعان علماء ومثقفو الغرب، بعقلانية ابن رشد وبالمنهج التجريبي العربي، وذلك بغض الطرف عن الفتوحات، التي جعلت العالم الاسلامي يمتد من جنوب أوربا غربا وحتى حدود الصين شرقا. ألم يجد البعض أن النقد "الموجه للاستشراق التقليدي، وبخاصة من خلال اتهامه بالمركزية، واحتكار العقلانية والانسانية، لم يتدعم في أغلب الاحيان بتحليل علمي يرتكز على اسس موضوعية"( ).

نظرة حول الملاحظات الثانية:
إن من ينظر إلى الملاحظات الثانية وحدها، لن يكون في مقدوره سوى الإقرار، بأن الاستشراق لم يكن في حقيقة أمره سوى خيرا عميما، تمتعت في جنباته الثقافة العربية الاسلامية، بالدراسة المنهجية المنصفة، التي لم يكن لها من هدف سوى الموضوعية والوصول إلى الحقيقة. وهنا تحديدا نعجز عن فهم مسارات الاستشراق في الماضي، ومن ثمّ تغيب عن أفهامنا سيناريوهات اتجاهه في المستقبل، بل ولن تخرج نتائج دراساته الحالية عن الوجه التالي:
1- غلب على الدراسات الاستشراقية طابع علمي واضح، انعكس إيجابا على ما توصّل إليه المستشرقون من نتائج، وهو الأمر الذي نجده منتشرا لدى عدد آخر من الباحثين العرب، فثمة من تحدث منهم عن الدوافع العلمية للاستشراق، -فإلى جانب ما أوردناه من قبل- يقر أحد هؤلاء بأن كثير ممن قاموا منهم بدراسة القرآن والتراث العربي، "لمسوا في اللغة العربية لغة ثقافة وأدب وحضارة، ووجدوا القرآن في الذروة من هذه اللغة، فحدبوا على دراسته بدافع علمي محض تحدوه المعرفة، وتصاحبه اللذة، فأبقوا لنا جهودا عظيمة مشكورة"( ).
2- اتسمت دراسات المستشرقين بالحياد والموضوعية والإيجابية، تجاه تراثنا الثقافي العربي الاسلامي، ويدلل من توصّل لهذه النتيجة، بما افصح عنه بعض المستشرقين من نتائج منصفة، مثل ما اعترف به جاك بيرك حول النص القرآني بقوله: "لسنا في حاجة أبدا أن نكون مسلمين لكي نكون ذوي حساسية تجاه الجمال المتفرد لهذا النص، في اتساعه وقيمته الكونية"( ). أيضا ما جاء على لسان د. سيغريد هونكة من أن الكتب العربية كانت "إلى غاية النصف الثاني من القرن السابع عشر جزءا من مادة التدريس المعتمدة في الجامعات الاوربية مثل كتاب "قانون الطب" لابن سينا مما جعل منه أكثر كتب الطب حظوة بالدراسة في تاريخ العالم، كما نالت رسالة الرازي التي عالج فيها موضوع الجدري والحصباء الإعجاب والتقدير إلى غاية القرن التاسع عشر على مر عشرة قرون والدليل أنه طبع أكثر من اربعين مرة فيما بين 1498 و1846.."( ). ويضيف البعض ما قاله فيشر من أن "أكثر النتائج التي استفادت الحضارة الاوربية منها هي العلوم الرياضية والطبيعية، فقد أخذ على سبيل المثال التجار الاوربيون نظام الاعداد عن العرب، ونحن لا يمكن أن نتصور التطور العلمي والاقتصادي في أوربا بمعزل عن المعلومات التي وصلتنا عن طريق العرب"( ).
3- تمتع المستشرقون بالنزاهة التي جعلت البعض منهم، يعترف بما ارتكبه بعض مواطنيهم من المستشرقين، من تشويه وعنصرية تجاه العطاءات العلمية والحضارية العربية، ويستند بعض باحثينا في إثبات ذلك، بما كتبه تيري هانتش في كتابه (الشرق المتخيل)، وبخاصة عندما يعتبر "أن التاريخ الغربي شوه بالفعل حقائق من خلال الاستشراق، وسكت بشكل نسقي عن كل العطاءات العلمية والحضارية العربية وغيرها من المنجزات العلمية والفكرية الشامخة، وهو ما يرجعه لانفصام الغرب بين الإعجاب بالعلم العربي والعنصرية المناهضة للإسلام"( ). ويضع البعض جوستاف لوبون ضمن هؤلاء المستشرقين عندما دافع عن الحضارة العربية وعن “حقوق المسلمين، وانتقد سياسة القهر والهضم التي عسفت بها الدول الاوربية المستعمرة، وقد كتب كتابات شافية في انتقاد قومه الفرنسيين بما يعاملون به مسلمي الجزائر من الظلم، والإرهاق، ونزع الأراضي، والتشريد في الصحراء..."( ).
4- على الشرقيين من العرب والمسلمين، أن يعترفوا بجهود وفضل المستشرقين العلمية، بل ويستفيدوا من هذه الجهود أيّما استفادة، وهو الأمر الذي أكد عليه بعض باحثينا، مثل الذي رأى "أننا لا نستطيع أن نجحد جهود المستشرقين، ولا يمكن أن ننكر تماما فضلهم ولا يجوز لنا أيضا أن نستغني على وجه الاطلاق عن دراسات المستشرقين في أبحاثهم، بل من واجبنا الاطلاع على وجهات النظر الغربية في موضوعات تاريخنا العربي والاسلامي"( ). ويدعو باحث آخر إلى ضرورة الاستفادة من أبحاث المستشرقين فيقول "لسنا نظن أن باحثا منصفا يستطيع أن ينكر ضرورة الالمام بكل ما يكتب المستشرقون، لأن أكثر ما يكتبونه دقيق ومنظم، وفيه كثير من مزايا البحث العلمي الصحيح."( ). ويذهب آخر إلى أقصى درجات المديح البليغ، فيصف تراجع حركة الاستشراق في العالم، في الآونة الأخيرة قائلا: "لقد خبا هذا السراج الهادي في كثير من إشعاعه، والضياء اللامع في وهج من لألائه، فحرم بذلك الباحثون من دراسات أصيلة في أغلب صيغها، وأبحاث طريفة في شتى مجالاتها.."( ).
ويجمل أحد الباحثين ( ) جهود المستشرقين على الوجه التالي:
أ‌- إنشائهم لكراسي اللغات الشرقية.
ب‌- جمعهم وفهرستهم ونشرهم للمخطوطات الشرقية.
ت‌- تأسيسهم للمتاحف الشرقية مما جمعوه من كل مكان ففكوا رموز لغات قديمة ووضعوا معاجم لها وأنشأوا معاهد في كل المجالات (ص29).
ث‌- تطبيق المنهج العلمي في تحقيق المخطوطات.
ج‌- ترجمة تراثنا بشتى اللغات.
ح‌- دراسة التراث والتأليف فيه.
خ‌- تصانيفهم من معاجم ودراسات حول الاسلام والفتح والسلالات والفنون والآداب والعلوم، والمجموعات (مكتبة باريس، والمجامع العلمية والمراكز الثقافية) (ص30).
ويضيف الباحث أن الأدوات، التي استخدمها المستشرقون في ذلك كانت:
* المنهج العلمي. * معرفتهم باللغات السامية واقتصارهم على التخصص.
* احياؤهم لمن أُهمل أو تم نسيانه من رجالات الفكر والعلم العربي.
* بالمطابع والمجلات الشرقية، إضافة للمؤتمرات الدولية (ص 31).
مستقبل الاستشراق:
إن التركيز على الملاحظات الست الأولى فحسب، أو الاقتصار على الملاحظات الثانية فقط، يمكن أن يوقعنا في خطأ الحكم على الاستشراق وتقييم عمل المستشرقين، ومن ثم صعوبة تحديد الاتجاهات المستقبلية للاستشراق، باعتباره مبحثا، وعمل المستشرقين باعتبار أن ما يقومون به، هو وظيفة محددة تعرّفنا على أبعادها سلفا، فالرفض والتجريم المطلق أو التبني والقبول المطلق، كلاهما موقفان لا يعبران عن واقع الاستشراق الحقيقي، ولا حتى واقع المستشرقين، ولا يمكنانا أيضا من استشراف مستقبله، وتحديد اتجاهاته. وهو الأمر الذي يمكن أن يوقعنا في تعميم الحكم على الاستشراق، فنضع المستشرقين، بل والغرب عموما في سلة واحدة باعتبارهم شياطينا أو ملائكة، وذلك بنظرة حدية تستبعد من أمامها التمييزات والفروق النوعية الدقيقة. الأمر الذي يمكنه أن يوقعنا أيضا في اختزال نظرتنا عن الاستشراق، فنُعلي من شأن العامل الديني عندما نتصور أنه حرب على الاسلام والمسلمين، متناسين العوامل الأخرى وأقواها، ألا وهو عامل المصلحة والمكاسب الاقتصادية (البترول والثروات). إن الغرب –فيما يبدو لنا- ليس ضد الاسلام والمسلمين من الناحية الدينية، ولكنه ضدهما معا، إذا وقفا عقبة أمام مصالحه، ودليلُنا هنا، قبوله لتركيا الاسلامية اليوم، ولكل من يؤسس إسلامه على النموذج التركي، غير المتعارض مع مشاريعه الحيوية. أكثر من ذلك، إن التركيز على جانب واحد من ملاحظاتنا، يمكن أن يوقعنا أيضا، في الحل الأسهل والمريح والأقرب، ألا وهو تحميل العامل الخارجي (الاستشراق والاستعمار)، لكل مشكلاتنا وتخلفنا وتراجعنا وخطايانا بل وهزائمنا، وذلك لنبرأ ساحتنا من كل مسؤولية، سواءا أكانت معنوية مثل التقاعس والخمول وإعادة إنتاج السلبي من ماضينا الثقافي، واجتراره في المستقبل، وسواء أكانت فعلية مثل نبذ العقل والمنطق والتخطيط وإهمال الابداع والبناء، وسواء أكانت سياسية مثل قبولنا، بل وتكريسنا في المستقبل، للاستبداد والفساد وانعدام الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. ويمكن أن تبرر هذه التبرأة لساحتنا تقوقعها، في "الوهم اللذيذ" كبديل عن رؤية الحقيقة المُرّة، ويمكن أن تثبّت "أوهامنا الذاتية" عن أنفسنا، وذلك بالتمجيد "الهذائي النرجسي" لهذه الذات، مستبعدين في ذلك ممارسة النقد الذاتي، وهو الأمر الذي يجعل هذه الممارسة، تفتح الباب على مصراعيه لخلق ثقافة ديناميكية عصرية، منفتحة على الجديد في الفكر والحياة، وقادرة على تغيير الواقع وإعادة تشكيله في المستقبل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لكي نصل لتصور واضح للمستقبل، ما هو واقع الاستشراق اليوم؟
يرى البعض من الباحثين العرب، وإن كان يتأسف لذلك، أن حركة الاستشراق في العالم تتضاءل، وأن مناخ ما من الجمود يخيم على أفقها "وكابوس من الصمت المطبق، فلا نسمع لها صوتا بين الاصوات، ولا نبصر أثرا بين الآثار، إلا قبسات ولمحات، لا تسمن ولا تغني عن جوع.."( ). ويؤكد باحث آخر نفس المعنى، عندما يرى أن الاستشراق في السنوات الاخيرة "يعيش في دائرة محدودة ضيقة، بعد السيول الجارفة من ابحاث المستشرقين التي شهدناها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين"( ). لكن إلى أي مدى تصدق هذه الرؤية؟
إذا كان المقصود هو مصطلح الاستشراق نفسه، الذي يحمل في ذاته –كما ذكرنا- شحنات سلبية في الغرب أيضا كما في الشرق، فالرؤية هنا صادقة وحقيقية، لكن إذا كان المقصود هو موضوع الاستشراق ذاته، فأن الواقع اليوم يكذب هذه الرؤية، ولو جزئيا على الأقل، نظرا لما زالت تمثله مناطقنا العربية والاسلامية، من اهمية جيوستراتيجية بالغة للغرب. إن عدد لا بأس به من الأحداث دفع الغربيين إلى الاندفاع نحو مناطقنا، لمزيد من البحث والدراسة، على وجه الخصوص بداية من الثورة الاسلامية في إيران، مرورا بالحرب على الإرهاب بعد تفجير برجي نيويورك في 11 سبتمبر، وبحروب الخليج وافغانستان، وبأحداث ما يسمى بالربيع العربي، التي مازالت تداعياتها على الأرض ولم تنته بعد. إذا اضفنا إلى ما سبق حاجة دول الغرب إلى الطاقة، وبخاصة البترول، ومصالحها الحيوية لدينا، سيمكن لنا أن نتخيل إلى أي مدى، تظل دراسة الغرب للشرق مطلبا حيويا واستراتيجيا، فما زالت مراكز الابحاث الجامعية والاكاديمية، وتلك الملحقة بالوزارات السيادية، تواصل ابحاثها الاستشراقية لشدة الطلب عليها.
وإذا كان السؤال الملح علينا الآن هو سؤال المستقبل، فسيكون حتما علينا أن نتساءل حول آفاق تصرفنا حيال الاستشراق، أو بطريقة أخرى نطرح على انفسنا سؤال ما العمل؟
إن سوء الظن المتبادل بيننا وبين الغرب، يمثل أمرا طبيعيا، نظرا للتاريخ العدائي المشترك بين الطرفين، الأمر الذي قوّى عامل التشكك والظن من جانبنا، في نتائج عمل المستشرقين من جهة، ومن جهة أخرى كرّس لدى المستشرقين، النظرة الغرائبية المؤسسة على نزعة الغرب المركزية، والتي تعاملت مع تراثنا باستعلاء وايديولوجية ( ). ولعل هذه النزعات قد تم الكشف عنها وتعريتها وفضحها الآن، ولم تعد تخيل على أحد، وهنا يعترف باحث عربي بأنه "صحيح أن بعض المستشرقين كانت لهم أغراض غير علمية، وتقف وراءهم مؤسسات تبشيرية أو استعمارية، أو غيرها من الاغراض، لكن هذه الجهود التي اضطلعت بهذا الموقف انكشفت ولم تعد جهودها بارزة وملموسة"( ). إضافة إلى أن جزء من الباحثين ينتمون لكلا الطرفين، يتمتعون بالنزاهة والحرفية، بل وبحسن النيّة. لقد تعرضنا –من قبل- للبعض منهم، وهنا سنعرض على سبيل المثال، ما يقوله أحد الباحثين العرب، عن أحد هؤلاء المستشرقين الذين تخلصوا من كل ما شاب الاستشراق الايديولوجي، واصفا إياه بأنه قد "تمكن خلال الاربعين سنة الماضية أن يقوم بنشاط علمي بعيد عن السياسة وأن يعمل على إقامة حوار وتفاهم بين الجامعيين الفرنسيين والعرب والاتراك، وهذا من خلال نشاطه ومواقفه العلمية الواضحة والنزيهة، كما أنه لم يخف احتقاره للظلم مهما كان مأتاه ومصدره"( ). ولعل مواقف الشيخ مصطفى عبد الرازق في الانفتاح على الآخر، تجسد وجود هذا النمط لدينا أيضا، فيكشف لويس ماسينيون عن خطاب وجهه إليه الشيخ في ابريل 1946، عندما كان يشغل وقتها منصب مدير جامعة الأزهر، حيث يقول فيه الشيخ : أن "الازمات بين المسلمين والغربيين التي يحتفظ التاريخ للآن بذكرياتها، لا ينبغي أن تعبر عن تعارض ما جوهري بين الاسلام والغرب، لأن اسباب هذه الازمات العابرة لا تأتي لا من النزعة الاسلامية ولا من النزعة الغربية"، وهو تصور يستبعد أي سبب واقعي، لكي يتعارض الطرفان، وهو في الوقت نفسه يرحب بما يعاينه على الانسانية، من وجود عمليات تعمل على توحيد الثقافات والأخلاق والسياسات. من هنا يأتي اعتقاده في أن "لا شيء حقيقي بشكل جاد يمنع التعاون الفعلي والمخلص بين الاسلام والغرب ومشاركتهما معا في مثال قادر على أن يسود السلام في العالم وتأمين الرخاء لجميع البشر"( ). أكثر من ذلك لا نعدم وجود باحثين عرب، يرون أن للأجانب حق في تراثنا، بنفس القدر الذي لنا فيه، نفس الحق في التراث الانساني، وذلك عندما يرد احدهم على ما يتردد أحيانا بين الباحثين العرب، من ملكيتهم لتراثهم، ومن ثم أحقيتهم به دون الاجانب الغرباء، فيرى أن هذه الحجة مردود عليها، وذلك "لأنه يحرمنا من حق دراسة التراث الانساني، ولأولئك الاجانب نصيب فيه. ويسقط في الوقت نفسه عن تراثنا صفة الانسانية في تأثره بالثقافة العالمية وأثره فيها من اليونان والفرس والرومان إلى أوربا وافريقيا وآسيا حتى الشرق الاقصى"، وبدون جهود المستشرقين تلك ما كنا "احطنا به (تراثنا) أو اهتدينا إلى كل عظمة اسلافنا وحققنا تواريخ أولى دولنا.."( ).
وقد طرح بعض الباحثين العرب، حلولا للخروج من أزمة الاستشراق، بدءا من أن عيوب التعصب، من السهل إدراكها والحذر من شرها ( )، مرورا بالارتكاز إلى إمكانية تقويم أعمال المستشرقين، "تقويما حقيقيا يفرز بين الغث والسمين، وبين وجوه الانصاف والاجحاف"( )، وصولا إلى دعوة أحد الباحثين إلى الحوار مع المستشرقين المعتدلين. ويفترض هذا الباحث، من خلال الحوار الذي يدعو إليه، تحقيق مردود إيجابي مزدوج الدلالة لدى الطرفين، ففي الطرف الغربي سيتم دعم مواقف المستشرقين المعتدلين، لتشجيعهم وتشجيع اتجاهاتهم لتؤسّس في الغرب تيارا عاما، يساهم في تصحيح ما يعتبره الباحث صورة خاطئة عن الاسلام، وفي الطرف الشرقي يضيف الباحث، أنه "من نتائج هذا الحوار ترشيد المثقفين المسلمين المتأثرين بأفكار استشراقية سلبية والتخفيف من حدة اندفاعهم وتقليدهم لهذه الافكار وإعادتهم إلى المواقف الاسلامية الصحيحة"( ).
بغض الطرف عن المأمول من هذا الحوار، والذي تظل نتائجه على الطرفين شديدة العمومية، بل وغامضة وفي أحسن الاحوال نسبية، إذ لا يمكن أن نحدد تماما، ماهي طبيعة تلك "المواقف المعتدلة" للمستشرقين، أو ما هي طبيعة تلك "المواقف الاسلامية الصحيحة"، لدى باحثينا من العرب والمسلمين، فنحن نتناسى خصائص الدائرة التي يقع البحث العلمي داخلها، وأن الاستشراق نفسه لا يمكن إخراجه من هذه الدائرة، وإلا سيصبح أداة ايديولوجية نحركها نحن أو يحركها المستشرقون، كل في صالح جدول أعماله الخاص.
إن مجمل الملاحظات السابقة تحيلنا، إلى سلسلة أخرى ثالثة من الملاحظات التساؤلية، كخطوة في سبيل محاولة فهم، إلى أين يتجه مستقبل الاستشراق، وهي التي نقدمها على النحو التالي:
الملاحظات الثالثة:
• علينا ألا ننسى أن ثمة عبء تنوء به الذاكرة، من شدة ما حملته من أحداث صعبة ومريرة عبر العصور، إذ أن هذه الأحداث قد تراكمت وصنعت أجواء من انعدام الثقة في الشرق كما في الغرب على السواء، إلا أن السؤال الجدير بالطرح الآن، إلى أي مدى ستظل هذه الذاكرة عبء على الحاضر، وهل سيمكننا تصور يوما ما، أن تتوقف الذاكرة عن أن تكون عقبة في سبيل بناء علاقات جديدة، تقوم على اسس تتجاوز عداوات الماضي وذكرياته الأليمة في المستقبل؟ إن ارتباط الاستشراق بالاستعمار في ماضيه، سواء إذا كنا نستطيع تعميم هذه الحقيقة في شتى الظروف أو المناسبات من عدمه أو في ظل وجود مستشرقين اكاديميين منزهين عن الغرض من عدمه، فإن هذا لا يمنعنا عن جملة تساؤلاتنا: إذا كان الاستعمار الصريح، قد برر في الماضي قيام الحركة الاستشراقية، لكي تقدم مادة غزيرة تساعد مؤسسات الاستعمار وهياكله ورجاله على التحسين من أداءاتها وأدواتها بعلمية ومنهجية لإدارة أفضل للموارد والبشر والاسواق في البلدان التي وقعت فريسة للاستعمار، فهل مازال هذا المبرر قائما وحيويا، خاصة في ظل تراجع ظاهرة الاستعمار؟ إن الإجابة على هذا السؤال تضعنا في قلب أحداث اليوم، فإذا كان الاستعمار السافر قد اختفى شكلا، فان المصالح الغربية في شرقنا العربي والإسلامي مازالت قائمة، ومازالت تبحث عن مبررات للتثبيت والتكريس وجني أكبر قدر من الأرباح والأسواق، الأمر الذي يؤكد وجود مضمون الاستعمار الذي يتجسد اليوم في التبعية، وإذا كانت تبعية الماضي تمثلت في حكومات الدول الاستعمارية الكبرى مباشرة، فان التبعية قد تمثلت اليوم في الشركات الكبرى متعدية الجنسيات، والتي ماتزال تحتفظ بمواقعها في نفس عواصم هذه البلدان. أكثر من ذلك استغلت هذه الشركات التغيرات الكبرى في العالم، التي اعترت ثورات الاتصالات والمعلوماتية والقنوات المفتوحة والبيولوجيا والعولمة، لتعميق مدى استفادتها من تبعية شعوب وبلدان الاستعمار القديم، والتي ظل أغلبها يعاني من التهميش والفقر وتوقف التنمية، بفعل سلطات الاستبداد ونظم الحكم الداخلية، ولكن أيضا لأن معادلة الاستغلال في الاستعمار القديم ظلت تعمل رغم ظواهر التغير، التي اعترت واقع شعوب الشرق. ولعل هذا الأمر يمكن وضعه ضمن الاسباب التي ساهمت في ألا يصبح تيار المستشرقين من العلميين والاكاديميين المنزهين عن الغرض، هو الغالب على مجمل دراسات الاستشراق الحديث والمعاصر، وهو الأمر نفسه الذي قلل أيضا من فرص وجود إمكانية حقيقية يمكن تصورها ليسود هذا الاتجاه في المستقبل. ونخلص هنا إلى تساؤل آخر نراه مشروعا، مفاده إذا كان الاستشراق في نشأته وماضيه قد ارتبط بالاستعمار، وفي حاضره –كما رأينا- مازالت أغلب المؤشرات تدل على ثبات المعادلة القديمة، فهل من الممكن أن يتوقف مستقبل الاستشراق أيضا على ذلك، أم أن ثمة عوامل أخرى جديدة يمكن أن تحدد مستقبل هذه الظاهرة؟
• إن شدة تنوع واتساع دائرة العمل الاستشراقي في مجالاته المتعددة، إضافة إلى غنى المباحث الاستشراقية، جاء تبعا لتعدد وتنوع، بل وتعقد الموضوعات، التي تهم مراكز الأبحاث المختلفة للمستشرقين عن شرقنا العربي الاسلامي. وإذا كانت هذه المراكز وهؤلاء المتخصصون لابد وأن يقدموا تقاريرهم وابحاثهم ونتائج دراساتهم إلى الجهات التي يعملون لحسابها حول موضوعات محددة حول حياتنا في الشرق، فإنه ولابد وأن تتعدد مساحات الاهتمام ونتائجها بنفس قدر ومساحة الموضوعات المدروسة. وإذا كان هذا التنوع وذلك الاتساع، لدائرة العمل الاستشراقي بمجالاته المتعددة مقبولا ومطلوبا، بل وملحا لهذه المراكز في سنوات محاولة فهم المجتمعات العربية الاسلامية، لفهم تراثها الديني والثقافي للرد على ما هو مطروح من قضايا خلافية بين المسيحية والاسلام سواء للرد أو التبشير، كما ربما كان مقبولا أيضا في سنوات الاستعمار لكي تستطيع قوى الغرب الاستعماري إحكام السيطرة على شعوبنا وتسهيل مهمة انقيادها، فإن استمرارية تنوع واتساع التخصصات الاستشراقية في مجالاتها المختلفة اليوم وغدا يمكن أن تثير التساؤل. صحيح توصلنا في الفقرة السابقة إلى أنه رغم نهاية حقبة الاستعمار، فإن جوهر الاستعمار استمر وذلك داخل إطار التبعية الاقتصادية، لكن في ظل الظروف الجديدة والتي ستفرض حتما تداعياتها مستقبلا على الاستشراق، هل سيكون هذا التنوع وذلك الاتساع قائما في مجالاته المختلفة؟ أكثر من ذلك سيكون من حقنا أن نتساءل، عما إذا كان هذا التنوع لتلك المباحث الاستشراقية يمكن أن يحافظ للاستشراق على معناه التقليدي أم أنه سيدفعه لآفاق أخرى؟ لكن قبل كل هذا هل سيحسّن المستشرقون من مستوى إعدادهم واستعداداتهم وتكوينهم في اللغة العربية، بحيث يتخطون اسلافهم من المستشرقين التقليديين والمعاصرين. إن نظرة على ما نعرفه شخصيا من التكوين الحالي للمستشرقين، على الأقل في فرنسا، تجعلنا ننظر بعين الارتياح –رغم كل شيء- إلى مستشرقي المستقبل الذين يتم إعدادهم بشكل أفضل لغويا وعلميا واحترافيا. كما أن جزء كبير منهم من الاجيال الحالية أصبح من أصول عربية (الجيل الثالث والرابع من أبناء المهاجرين) ممن ولدوا في المهجر، واكتسبوا الجنسية الفرنسية، وجزء آخر من فرنسيّ الضواحي المتعاطفين مع القضايا العربية، وممن عاشوا نفس ظروف التهميش والعزلة الاجتماعية، لكونهم من أصول متواضعة مع الجالية العربية، التي تشاركهم نفس الظروف والاوضاع. ولعل هذا كله يمكن أن يبشر باستشراق جديد يتخطى مشكلات الاستشراق التقليدي.
• إذا وجدنا أن العمل الاستشراقي قد ارتبط في بداياته بحركة التبشير المسيحي في الشرق العربي الاسلامي، فإن هذه الصلة لم تنقطع في شتى حالاتها عن الكنيسة التابعة لها حركة التبشير نفسها، وكثيرا ما مدت الحكومات الغربية يد العون لمساعدة هذه الحركات في رسالتها، حتى لو كانت هذه الحكومات علمانية. والسؤال الملح الآن هو إذا كان الغرب قد تجاوز اليوم بشكل عام مرحلة النزعات التبشيرية، عدا بعض الاستثناءات القليلة، فهل قطع الاستشراق بدوره نفس المسافة مع النظرة للآخر المختلف في الشرق؟ اعتقد أن العداء الظاهر اليوم بين الغرب وشرقنا العربي الاسلامي، وإن كان إحدى مظاهره "الاسلاموفوبيا"، و"صراع الحضارات"، فإنه ينصب في أكبر قدر منه على المصالح المادية والمكاسب التي تحققها الشركات متعدية الجنسيات والحكومات الغربية. في ضوء ذلك يمكن استشراف أن العمل الاستشراقي في المستقبل سيهتم كثيرا بالبحث في المسائل الاقتصادية والصناعية والمالية، واحتياطي المواد الخام، ودراسة الاسواق ومدى تشبعها وما ينقصها من سلع وخدمات، وتطور الأجور ومدى الاستفادة من نقل بعض المصانع الملوّثة للبيئة في الغرب إلى الشرق بحجة المساهمة في التنمية، أو الاستفادة من تدني الأجور وانحسار فرص العمل في بلدان الشرق لنقل بعض الانشطة لتحقيق الارباح الهائلة، ولو على حساب توفير العمالة وإشاعة البطالة في بلدانهم الغربية. لقد لاحظ هذا نفر من المفكرين والعلماء الاقتصاديين في الغرب من ذوي النزاهة الفكرية والاخلاقية، وهم فئة لابد وأن ننسق معها تفكيرنا وتحركاتنا، بعد أن تبدّل التبشير القديم بحركة البحث عن الربح، مهما كانت الخسائر التي سيتكبدها البشر في الغرب أو في الشرق.
• لابد من الاعتراف بأن ثمة تأثيرا كبيرا لأعمال ومناهج الاستشراق على المثقفين العرب، سواء من المؤيدين للاستشراق أو المعارضين له، ممن يعتبرون تأثيره إيجابيا أو ممن يعتبرون تأثيره سلبيا. إن هذا الإجماع في التأثير والذي ارتبط، ربما لحد كبير، بماضي الاستشراق، لا يجعلنا متأكدين من أنه سيستمر في المستقبل، أو أن المستقبل سيشهد تحولا واضحا يؤذن بابتعاد أو اقتراب المثقفين العرب من تأثير الاستشراق. إن الشرط الوحيد لاستمرارية هذا التأثير مستقبلا، والذي لا يمكن أن نعرف حدوده ولا حتى دوائره الفاعلة، أن يستمر المثقفون العرب بنفس سلبيتهم في التلقي عن الغرب لنتائج الابحاث والمنهجيات، أما إذا استطاع باحثونا المساهمة بإيجابية، في وضع مناهج بحثية يمكن أن تطوّر المناهج الغربية الحالية، ومن ثم تعمل على وضع منهجيات مناسبة لمواضيع الاستشراق، تساهم في تقليص عوامل التأثير الايديولوجي، مكتفية بالتأثر بالمناهج العلمية فحسب، فتصبح هذه الآلية دأبا منهجيا يلتزم به الباحثون من العرب والمسلمين، وبخاصة إذا بذل باحثونا من جهة أخرى جهدا كبيرا في الاطلاع المعمّق على الحقول المعرفية، التي يتصدون لنقد منتجات الاستشراق فيها. وهل سننتظر طويلا حتى يتفادى باحثونا مستقبلا سقطات من قبيل ما سقناه آنفا، والتي وقع فيها بعض باحثينا من المعاصرين، وما الذي يجعل باحثا ما يهمل الاطلاع على تفاصيل ودقائق تخصصه؟ وهل يمكن لمثل هذه الامور أن تتكرر في المستقبل، أو حتى أن تكون سمة من سمات الباحث في الألفية الحالية؟ إذا استطعنا المساهمة في المنهجيات، وقمنا بما يجب علينا تجاه ما نقوم بنقده مستقبلا، فهنا سيمكننا القول بأن الأرض يمكن أن تكون قد مُهدت بالفعل لكي يتخطى مثقفونا العرب نتائج الابحاث والمناهج الغربية، إلا بقدر ما هو علمي وابستمولوجي يمكن توظيفه، بعد أن يُعدّل ويطوّر ليتناسب مع الظاهرة الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية الاسلامية، بدلا من أن يُفرض خاما على واقع مختلف، فيقوم بتشويهه عوضا عن تفسيره وقراءته بموضوعية، وهو ما من شأنه أن يرتقي بنتائج باحثينا في دراسة تراثنا العربي الاسلامي.
• بين العرقية المركزية للاستشراق وحرفيته: على الرغم مما ذكرناه عن الوجه الآخر من النزعة العرقية الاوربية، فإن ذلك لم يغير من طبيعة أن الغرب قد مثّل –كما رأينا- القلب أو المركز، بينما مثّل شرقنا العربي الاسلامي إحدى الاطراف الثانوية للمركز، هكذا دائما ما كان الدارس أو الباحث المستشرق ما يعتبر "الذات"، ومادة البحث الاستشراقي تمثل "الموضوع" المدروس بالنسبة له. تخلع الذات على الموضوع هواجسها ومخاوفها وحتى أمانيها وأحلامها هي، بل وتضع لمعايير الدراسة والمنهجية معاييرها الخاصة، وتقيس كل تقدم أو تراجع تبعا لمقاييسها ولتاريخها ولمفردات ولتراث ثقافتها هي. وفي إطار هذا يظل أداء المستشرقين وحرفيتهم معلقا بين الأداء العلمي الرصين، وبين الأداء الايديولوجي السطحي والرخيص، بما فيه أداء من أطلقنا عليهم –من قبل- "خبراء الشرق الاوسط والادنى". وهنا نتساءل هل سيظل الاستشراق يسير في نفس إيقاعاته القديمة أمام تسارع الانقلابات المعرفية والتكنولوجية والبيئية؟ إن العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات والتنوع البيئي الخلاق والايكولوجيا وغيرها، على سبيل المثال، قرّبت بين الأمم، إلا أن بعض السياسات الغربية المتبعة اليوم بعّدت بينها، كما أن كم المعلومات والحقائق والصور التي اتاحتها الشبكة العنكبوتية، لم تستطع حتى الآن الحد من ظاهرة خبراء شؤوننا من المؤدلجين السطحيين في الغرب. إن السؤال المركزي هنا سيكون: هل ستظل تلك النزعة العرقية ناشطة، ضمن عمليات الإلحاق والتوحيد والفرض، التي تقوم بها القوى الكبرى اليوم، والتي تسخر فيها العولمة، وتكرس لها طبيعة موازين القوى الدولية؟ وهل ستتضاءل ظاهرة الخبراء تلك في المستقبل، خاصة بعد ما ذكرناه من أن ثورة الاتصالات والمعلومات، التي ساهمت في أن يحصل كل فرد على حقه، في التعرف عن قرب على ما يحدث في كل مكان في العالم، وبدقة كبيرة ودون حاجة لهؤلاء المتحذلقين دون علم؟ إن هذه التساؤلات ستظل تُطرح وتُكرّر في نفس هذا السياق، عندما سنتطلع إلى المستقبل، وذلك حتى يقوم العالم الغربي بحل المعضلة التي تسبب في إيجادها، إذ كيف يمكن أن تتناغم نزعة التمركز حول الذات، أو حتى أي نزعة مركزية عرقية أخرى، مع العولمة والانفتاح الكوكبي الذي حققته السموات المفتوحة والمعلوماتية، وكيف يمكن قبول من يقوم بتشويه الحقائق بحجة تفسيرها، بلا علم أو منهجية تحترم الحد الأدنى من قواعد البحث، كيف يمكن قبول كل هذا مستقبلا، في ظل عالم يتجه، أو حتي يدّعي بأنه يتجه، نحو الكوني المعوّلم على كل الاصعدة وفي كل النواحي والاتجاهات؟!
خلاصة:
حاولنا من خلال ثلاث مجموعات من الملاحظات التي اعتبرناها دائما أولية، أن نميط اللثام عن بعض ما يحجب الرؤية، عن أفق الذين يدافعون عن الاستشراق أو من يهاجمونه، استنادا على بعض ما يعتبرونه مؤشرات أو أدلة دامغة على ما يريدون إثباته، وتتسم هذه المؤشرات في كلا الجانبين بالجزئية والانتقائية والتعتيم على الجانب الآخر من الصورة، ولا تدع أي فرصة لكي تنظر إلى الأمر نظرة كلية بانورامية. لم يستطع المهاجمون ولا حتى المدافعون اصطناع مسافة بين ما يعالجونه من مادة، وبين انتماءاتهم الايديولوجية وانخراطاتهم واحكامهم المسبقة، إذ اختلط عليهم كل شيء، وأخذوا يوظفون الاستشراق لنصرة أو لهزيمة، اهداف بعينها، بعيدة كل البعد عن مادة الموضوع المبحوث، بل ولم تستطع مسالكهم البحثية إنقاذهم مما وضعوا فيه انفسهم. إن ما حدث يجعلنا نطالب اليوم وأيضا في المستقبل، بمقاومة توظيف الاستشراق، لتحقيق مآرب إقليمية أو ايديولوجية أو غير علمية. لا نريد أن يرتبط الاستشراق الجديد الذي ننشده، بالتحولات التي لحقت بظاهرة الاستعمار، والتي تحددت اليوم في اشكالها الاقتصادية والتي ليس أقلها، السيطرة على الاسواق وعولمتها، والهيمنة على المواد الخام ومنابع المياه.. الخ. من جهة أخرى إذا أردنا أن نتفادى التأثير السلبي للاستشراق على الباحثين من العرب والمسلمين، أن ندعو هؤلاء –كما رأينا- للمشاركة بعمق وإيجابية، في صنع مناهج البحث المعاصرة، التي تخص الانسانية، هنا يصبح التأثير المُمارس، تأثيرا وتأثرا في تداخل تكاملي، بحكم هذه المساهمة في المناهج والتي ستجعلها مشتركة. المشكلة تأتي إذن في تأثيرات الاستشراق الايديولوجي، الذي يُخفي وجهه دائما بنبرة الاحتراف أو المنهجية العلمية، الأمر الذي يجعله مقبولا في بعض أوساط الباحثين العرب، ممن ينخدعون بالشكل. ولعلنا سنعود مرة أخرى لأهمية تشجيع الاستشراق العلمي وتعضيده والوقوف معه. من هنا أيضا ستأتي أهمية تفعيل نقد الاستشراق، ليس نقدنا نحن فقط للمنتج البحثي الاستشراقي، ولكن نقد المستشرقين أيضا لأنفسهم، بالكشف في دراساتهم وابحاثهم عن اخطائهم المنهجية، أو عن تلك المرتبطة بأهداف ايديولوجية أو مشبوهة، ونقدهم أيضا للنقد الذي نوجهه إليهم. وهنا يطالب أحد الباحثين العرب بألا يتم الخلط "بين النقد العلمي وبين النقد السياسي أو النقد الثقافوي البحت"، نظرا لما يمكن أن ينتج عنه، من وضع "كل الاستشراق في سلة واحدة"، ويرى نفس الباحث إذا "كان الحفر السوسيولوجي في طرق مواجهة المعرفة والسياسة والثقافة الشرقية (العربية هنا) للاستشراق والعلوم الاجتماعية مهما وملحا، فإن مزيد الحفر في النظام المعرفي للاستشراق حفرا سوسيولوجيا يبدو لا يقل أهمية وإلحاحا"( ). ولعل النقد الذي وجهه إدوارد سعيد، للاستشراق، رغم ما أُخذ عليه من انتقادات، سيعتبر هنا نموذجا يحتذى به في المستقبل، نظرا لراديكاليته وعمقه معا، حيث يرجع انعدام الوعي النقدي الضدي في الاستشراق، إلى ما اعتبره، حصيلة لكونه توثيقيا إحاليا، بحيث يقوم النص الجديد بإعادة توثيق سلطة النص القديم، وهكذا "لأن الوعي النقدي الضدي يفترض مسبقا، نفي الصفاء والكلية، أو يتصور الكلية في إطار العلاقة الجدلية بين المكونات التي يتم تفاعلها عبر النفي لا عبر التأكيد والتوثيق"( ). ذلك أن كل تمثيل للشرق في المنتج الاستشراقي الغربي –حسبما يرى سعيد- "يكتسب صلابة (الحقيقة) المولدة لذاتها"، وهو ما يعني أن تتولّد بشكل توثيقي وتراكمي، تمثيلات أخرى جديدة، الامر الذي يرفضه سعيد، لانعدام إمكانية أن يُمثّل الشرق في الاعمال الاستشراقية بنمطين متعارضين، وذلك لتماثل نفس شروط، التاريخ والاقتصاد والثقافة والفكر لواقع الشرق، بحكم الحتمية التاريخية ( ). نقد جذري كهذا جدير، بأن يعمّق ليس تحليلات الباحثين العرب وحدهم، ولكن وهو المقصود، إعادة النظر في طبيعة الاستشراق نفسه، ومن قبل المستشرقين انفسهم. لا يبغي هذا النقد إذن التأثير على المستشرقين، ولكن يحثهم على أن يعيدوا النظر في مجمل انتاجهم، بما حمله لهم من طرق منهجية، تساعد على تعميق الحفر في طبيعة الاستشراق. ومع ذلك فأن دعوتنا لتفعيل نقد الاستشراق في المستقبل، لا ترغب في خلق استشراق حسب اهوائنا ورغباتنا، فوقوفنا ضد نوع من الاستشراق الايديولوجي، ليس معناه أننا نريد مستشرقين بمعايير جاهزة سلفا، يقولوا ما نقوله أو ليصلوا إلى اعتناق الاسلام –كما هلّل البعض لذلك- أو الايمان بما نؤمن نحن به. كما لا نريد مستشرقين يقفزون على الحقائق، ولا يراعون المنهجية العلمية، وقواعد البحث والنقد الذاتي. ما نريده مستشرقين علماء ومتخصصين غير ايديولوجيين، لا نريد منهم أن يتخلوا عن مصالح بلدانهم أو عن عقيدتهم وايمانهم، لكن نريدهم أمناء على حرفية البحث العلمي واحترام الآخر المخالف، ومعالجة ما يخصه فقط، على أنه مخالف وليس غرائبي أو عجائبي أو منحرف، كما نظّر لذلك من قبل علميا ومنهجيا، عالم الانثروبولوجيا الاشهر كلود ليفي شتراوس.
المهمة إذن ليست سهلة، ولا يستطيع طرف من الاطراف وحده إنجازها، لذا فهي مهمة مزدوجة، تقع على عاتق الباحثين من العرب والمسلمين، كما على العلماء والمتخصصين غير الايديولوجيين من المستشرقين. يصبح على الطرفين معا، قطع الطريق على الاستشراق الايديولوجي، والتصدي له وفضح نواياه وتعرية مراميه، وذلك بتشجيع الاستشراق العلمي وإن جاءت نتائجه على عكس ما نرغب أو نتمنى. إن الاستشراق العلمي ظل حيا رغم المصالح والاستعمار المسؤول عن الاستشراق الايديولوجي، الذي لن نستطيع القضاء عليه، ونعلم سلفا بأنه سيستمر أيضا في المستقبل، لكننا نعلم أيضا أنه يمكننا كشفه دائما، بنقده وتسليط الضوء عليه وفضحه وتحجيم تأثيره، وذلك بالاشتراك مع المستشرقين من ذوي النوازع العلمية. وتظل أفضل الآليات لتحقيق هذه المهمة، هي الدعوة، بل وتشجيع عقد المؤتمرات، وورش العمل البحثية والسيمنارات، والمشاريع والابحاث المشتركة حول موضوعات متخصصة تتصل بالتراث العربي والاسلامي. ووقتها ربما يتحول معنى الاستشراق في المستقبل، من كونه "تذكيرا بالانحلال الاغوائي للمعرفة" في كل الازمنة والامكنة –على حد تعبير إدوارد سعيد- ( )، إلى معرفة علمية موضوعية، تحترم العقل والمنطق، وتفر من إغواء الغرض والايديولوجيا، من جهة أو من جهة أخرى نهاية للاستشراق نفسه –على حد تعبير الباحث الفرنسي جان بيير فيلي- ( ).
وفي الأخير يبقى أن هذه الملاحظات، حول مستقبل الاستشراق، تظل أولية بعد، وقابلة للإثراء والإغناء أو للمناقشة والتعديل أو للنقد والنقض، كما هو دائما شأن الملاحظات الأولية.



#مجدي_عبد_الحافظ_صالح (هاشتاغ)       Magdi_Abdelhafez_Saleh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعليم الديني والحس النقدي: رؤية تحليلية على خلفية المواطني ...
- المشروع المجتمعي الحضاري عند محمود أمين العالم
- ثقافة الهوية بين التشرنق والانفتاح: مدخل فلسفي
- المشروع الحضاري المجتمعي العملي للدكتور محمد رؤوف حامد


المزيد.....




- أجزاء من فئران بشرائح خبز -توست- تدفع بالشركة لاستدعاء المنت ...
- مسؤولون يوضحون -نافذة فرصة- تراها روسيا بهجماتها في أوكرانيا ...
- مصر.. ساويرس يثير تفاعلا برد على أكاديمي إماراتي حول مطار دب ...
- فرق الإنقاذ تبحث عن المنكوبين جرّاء الفيضانات في البرازيل
- العثور على بقايا فئران سوداء في منتج غذائي ياباني شهير
- سيئول وواشنطن وطوكيو تؤكد عزمها على مواجهة تهديدات كوريا الش ...
- حُمّى تصيب الاتحاد الأوروبي
- خبير عسكري: التدريبات الروسية بالأسلحة النووية التكتيكية إشا ...
- التحضير لمحاكمة قادة أوكرانيا
- المقاتلون من فرنسا يحتمون بأقبية -تشاسوف يار-


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مجدي عبد الحافظ صالح - مستقبل الاستشراق: ملاحظات أولية