أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد السلام أديب - التجارة الخارجية في زمن العولمة الليبرالية















المزيد.....



التجارة الخارجية في زمن العولمة الليبرالية


عبد السلام أديب

الحوار المتمدن-العدد: 502 - 2003 / 5 / 29 - 06:31
المحور: الادارة و الاقتصاد
    



 

كما هو معلوم انعقدت ببلادنا خلال سنة  1994 جولة الأوروغواي التي تمخض عنها  توقيع اتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للتجارة OMC. وقد تزامن انعقاد هذه الدورة مع حملة إعلامية واسعة تبشر بحسنات تحرير التجارة العالمية وما تنطوي عليه من تحرير مالي ونقدي وتجاري سيعزز النمو الاقتصادي والرفاهة في مختلف أنحاء العالم. وقد راحت غالبية البلاد النامية نتيجة هذا الخطاب المتفائل توقع على اتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للتجارة أملا في كسب المزايا المعلن عنها. لكن يبدوا أن هيمنة المراكز الرأسمالية الكبرى على سير المفاوضات وعلى صياغة الاتفاقيات جعل من المنظمة العالمية للتجارة ومن الاتفاقيات المصادق عليها في مؤتمر الدوحة بقطر في 14 نونبر 2001 وسيلة لتعميق الآثار السلبية  لما يسمى بالعولمة الليبرالية

فبعد مرور أزيد من سبع سنوات على تأسيس المنظمة العالمية للتجارة ما هي النتائج العملية  لتطبيق حزمة اتفاقيات دورة الأوروغواي لسنة 1994؟

لقد تمخضت دورة الأوروغواي المذكورة عن مجموعة من الاتفاقيات (بلغ عددها 28) تناولت المزيد من تحرير الميادين التجارية من القيود التعريفية وغير التعريفية، وامتدت الى تجارة المنسوجات والملابس الجاهزة وتجارة السلع الزراعية وحماية الملكية الفكرية TRIPS وإجراءات الاستثمار المرتبطة بالتجارة TRIMS والمشتريات الحكومية وتجارة الخدمات AGCS.
وقد استهدفت هذه الاتفاقات تمكين الدول المتعاقدة من النفاذ الى أسواق باقي الدول الأعضاء في المنظمة العالمية للتجارة. كما ألزمت هذه الاتفاقات الدول المتعاقدة بتقليص كل أو بعض بنود تعر يفتها إلى حدود مقبولة من باقي الأطراف، وألا تكون هناك أسعار حمائية من جانب الدولة بهدف حماية منتجاتها الوطنية، ومنع التصرفات التي تهدد مصالح الدول الأعظاء، مثل الدعم والإغراق، كما تضمنت جولة أوروجواي أن تتولى منظمة التجارة العالمية الإشراف على تنفيذ تلك الاتفاقات، وتنظيم جولات المفاوضات التي ستجري بين الأعضاء مستقبلا ومراقبة السياسات التجارية للدول الأعضاء، والفصل في المنازعات التجارية وإقامة نظام للتحكيم التجاري.

إن ما ميز هذه الاتفاقيات هو كونها قد صيغت بمعرفة الدول الصناعية الكبرى. ولم يكن للبلاد النامية أي دور -تقريبا- فيها، اللهم إلا التوقيع عليها، وفي أحسن الأحوال التعبير عن الاستياء وطلب التعويض عن الخسائر والأضرار التي ستلحق بها، والمطالبة بفترات انتقالية قبل أن تخضع تماما للالتزامات التي نجمت عن تلك الاتفاقات.

كان خبراء المنظمات الدولية يؤكدون على أن تحرير التجارة الخارجية ستؤدي إلى مزيد من الكفاءة في توزيع وتخصيص الموارد، ومن ثم زيادة الدخل العالمي حيث أشاروا على سبيل المثال، الى أنه من المتوقع خلال الفترة 1995-2000 أن يزيد الدخل العالمي بمقدار 212 مليار دولار أمريكي، وأن البلاد النامية سوف تستفيد من هذه الزيادة، استنادا على علاقة نظرية مفترضة بين التجارة والنمو الاقتصادي. كما أكدوا على أن البلاد النامية ستستفيد من العولمة وتحرير التجارة الدولية من خلال تحسين فرص وصولها إلى الأسواق الخارجية، وزيادة القدرة التنافسية عالميا، وتعزيز قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وما سيأتي في ركابها من تكنولوجيا حديثة وإدارة متقدمة، وعلى النحو الذي سيحسن من موازين مدفوعاتها، ومن ثم، تقليل حاجتها للاستدانة الخارجية.

لكن بالرجوع الى حصاد الآثار الناجمة عن العولمة وإجراءات التجارة الخارجية واندماج البلاد النامية في النظام الجديد للتجارة العالمية، سنصطدم بعدد هائل من الحقائق التي تؤكد على الوضع غير المتكافئ الذي تحتله البلاد النامية في الاقتصاد العالمي، ومن بين هذه الحقائق هناك ما يلي:
1 - ظل نصيب مجموعة البلاد النامية من التجارة العالمية ثابتا تقريبا خلال العقود الثلاثة الماضية حول 18 % بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط رغم أن سكان هذه المجموعة من البلاد يشكلون 75 % من إجمالي سكان العالم. أما إذا استبعدنا النفط من الصورة، فإن نصيب مجموعة البلاد النامية من التجارة العالمية ينخفض عن ذلك بكثير.
2 - ثمة تغيرات طرأت على الهيكل السلعي لصادرات مجموعة البلاد النامية خلال العقدين الماضيين (أنظر الجدول رقم 1)، فقد انخفض النصيب النسبي للسلع الزراعية والسلع المنجمية والوقود من إجمالي الصادرات، في الوقت الذي زاد فيه النصيب النسبي  للصادرات الصناعية، لكن هذا التغير كان راجعا، في الحقيقة، إلى الجهود التي بذلتها بضعة دول نامية في جنوب آسيا (النمور الآسيوية) وأمريكا اللاتينية. أما غالبية البلاد النامية فقد ظل الهيكل السلعي لصادراتها كما هو تقريبا.
الجدول رقم (1)
تطور الهيكل السلعي لصادرات البلاد النامية للفترة 1973-1995
(بدون الصين الشعبية)
السلع المصدرة 1973 1980 1985 1990 1995
المنتجات الزراعية 30 15 17,5 14,5 14
المنتجات المنجمية 47,5 65 47 34 22,5
حصة الوقود ضمن المنتجات المنجمية 39,5 61 43,5 29,5 19
المنتجات الصناعية 22 19 34 50,5 12,5
الإجمالي 100 100 100 100 100
Source: WTO: Participation of Developing Countries in World Trad Review of Major and Uunderling Factors. Note by Secretariat August 1996.


3 - في ظل تزايد وتيرة التدويل والعولمة وتزايد إجراءات تحرير التجارة الدولية واندماج البلاد النامية في الاقتصاد العالمي، فإن شروط التبادل التجاري تعرضت للتدهور في غير صالح هذه البلاد. فبالنسبة لمجموعة البلاد النامية ككل، فإنها تعرضت لخسائر تراكمية في شروط تبادلها التجاري بلغت 290 بليون دولار خلال الفترة 1980-1999. كما تعرضت مجموعة البلاد الأقل تقدما LDCs لانخفاض تراكمي بلغ 50 % في شروط تبادلها التجاري منذ أوائل السبعينات. وهذا التدهور الحاصل في شروط التبادل التجاري للبلاد النامية لا يعود إلى التردي الذي حدث في أسعار السلع الأساسية (الزراعية والمنجمية والوقود) فحسب، بل وأيضا في أسعار السلع المصنعة. وتعاني مجموعة البلاد النامية، بالإضافة إلى تدهور شروط تبادلها التجاري، من عدم استقرار واضح في أسعار صادراتها، مما يعرضها لحالات صعبة من عدم الاستقرار الاقتصادي. وقد زاد الوضع سوءا في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية في جنوب شرق آسيا في صيف 1997 وما سببته من اضطرا بات وأزمات في مناطق كثيرة من العالم.
4 - على الرغم من أن متوسط معدل الحماية قد انخفض في البلدان الصناعية، الا أن هناك عقبات كثيرة تحول دون نفاذ صادرات البلاد النامية الى أسواق هذه البلدان، وبالذات صادراتها من السلع الزراعية والمنسوجات والجلود وبذور الزيوت والمشروبات واللحوم ومنتجاتها. وقد تنوعت هذه العقبات في العقدين الماضيين، فهناك تعريفات جمركية تفرض بمعدل أعلى على السلع المصنعة مقارنة بالسلع غير المصنعة، وهو أمر يحول دون نماء الصناعات في البلاد النامية. كذلك فإنه على الرغم من أن دورة أوروغواي قد خفضت من معدلات الرسوم الجمركية، الا أن البلدان الصناعية اتجهت بصورة متزايدة الى الحواجز غير الجمركية، مثل نظام الحصص  وقيود التصدير الاختيارية، والتشدد في القواعد الصحية والمعايير القياسية والمبالغة في تنفيذ تشريعات مكافحة الاغراق Dumping. فكل ذلك أدى الى افراغ التخفيضات الجمركية والمعاملة الخاصة والتفضيلية بالنسبة  للبلاد النامية كما أقرتها دورة أوروغواي، من مضمونها الحقيقي.
5 – ومع التراجع الذي حدث في نمو صادرات البلاد النامية والتزايد الذي عرفته وارداتها نتيجة للتحرير المتسارع لقطاع التجارة الخارجية، في ضوء الالتزام بمقررات دورة أوروغواي أو تحت تأثير تنفيذ برامج التقويم الهيكلي، تزايد عجز موازين مدفوعاتها. ولمواجهة هذا العجز، لجأت هذه البلاد الى:
أ -  زيادة الاقتراض الخارجي مما أدى الى تفاقم ديونها الخارجية.
ب - استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي الأمر الذي عرض سعر صرف العملة المحلية لضغوط واضحة، مما أدى الى اضعاف الجدارة الائتمانية لهذه البلاد في أسواق النقد والمال العالمية.
6 - ورغم أن دعاة العولمة والتحرير المالي والتجاري كانوا يزعمون أن البلاد النامية سوف تستفيد من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إذا ما قامت بتحرير أسواقها المالية والنقدية وقامت بخلق المناخ المناسب لتشجيع تدفق تلك الاستثمارات بمنحها الكثير من المزايا والاعفاءات الضريبية والجمركية، الا أن ذلك لم يحدث. فقد تبين في العقدين الماضيين، أن أكثر من 90 % من حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب أساسا الى البلاد المتقدمة (الولايات المتحدة الأمريكية، أوروبا واليابان - والصين). أما بقية البلاد النامية والتي تضم 70 % من سكان العالم فكانت تحصل على الأقل من  10 % من تلك الحركة. بل أن تلك النسبة الضئيلة وزعت على بقية البلاد النامية بشكل غير متكافئ، حيث استأثرت بها بضعة دول في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
7 - وفي ضوء تدهور الوضع الذي تحتله البلاد النامية في الاقتصاد العالمي بعد تزايد عمليات العولمة والتحرير التجاري والمالي تفاقمت الديون الخارجية المستحقة على هذه البلاد رغم أن عددا من الخبراء والاقتصاديين كان يؤكد على أن العولمة وما تؤدي اليه من اندماج في الاقتصاد العالمي سوف تعزز من قدرة البلاد النامية على تصحيح اختلالات موازين مدفوعاتها وقدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ومن ثم تقليل حاجتها للاستدانة الخارجية. بيد أن ذلك لم يحدث. فقد ارتفع إجمالي رصيد ديون البلاد النامية بشكل دراماتيكي في العقد الماضي، حيث ارتفع هذا الرصيد من 603,3 بليون دولار أمريكي في سنة 1980 الى 2172 بليون دولار أمريكي عام 1997.
8 - كذلك اقترن اتساع نطاق العولمة وعمليات تحرير التجارة الدولية بانخفاض مستمر في ما يسمى بمعونات التنمية. فالإحصاءات تشير إلى أن الإحدى وعشرين دولة الأعضاء في منظمة ال OCDE لم تزد فيها نسبة ما تخصصه من معونات التنمية عن 0,25 % من الناتج المحلي الإجمالي فيها عام 1996 (كانت هذه النسب 0,28 % في ألمانيا و0,12 % في الولايات المتحدة الأمريكية). ورغم أن غالبية اتفاقات منظمة الجات (1994) قد تضمنت نصوصا متعلقة بتوفير معونات مالية وفنية للبلاد النامية لزيادة قدرتها التجارية وتحمل التزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية، إلا أن الموارد المالية التي رصدتها البلاد المتقدمة لتلك المعونات كانت أقل مما هو مقرر بكثير. كما أن جانبا من ما يسمى بالمعونات في هذا السياق كان يتمثل في تمويل ندوات ومؤتمرات علمية استفاد منها الخبراء الأجانب الذين شاركوا فيها.

9 - في ضوء تفاقم التبعية الغذائية للبلاد النامية واعتمادها على الخارج في تدبير كثير من احتياجاتها الغذائية، فقد نجم عن ذلك عدة آثار سلبية لها، سواء قبل تزايد إجراءات العولمة وتحرير التجارة الدولية، أو بعد تنفيذ تلك الإجراءات. فمن ناحية، نجد أنه قبل دورة أوروغواي التي اتجهت إلى تحرير القطاع الزراعي، قامت بعض البلدان الصناعية بإعانة القطاع الزراعي وصادراتها الزراعية بمقادير هائلة. وتشير بعض المصادر، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي التي تسيطر على الصادرات الغذائية العالمية قد قدمت إعانات باهظة للمزارعين تعادل نصف قيمة المنتجات الزراعية في كل منها. وكان من نتيجة ذلك، خفض أسعار المنتجات الزراعية في السوق العالمي. وفي ضوء ذلك، فإن البلاد النامية التي تحتوى صادراتها على قدر ضئيل من السلع الغذائية، قد أصابها الضرر من تلك الإعانات لعدم قدرتها على المنافسة أمام تلك الأسعار المنخفضة. أما البلاد النامية المستوردة للغذاء، فإنها استفادت في الأجل القصير من انخفاض أسعار الواردات الغذائية. لكنها تعرضت لخطر الإغراق في شكل واردات غذائية منخفضة تقل عن سعر تكلفتها. وقد أدى ذلك التأثير سلبا على حوافز إنتاج الأغذية الزراعية في هذه البلاد. وهكذا دلت خبرة الفترة الممتدة ما بين 1960 -1990 أن البقاء في الأسواق الزراعية لا يعتمد على الميزة النسبية، بقدر ما يعتمد على الفرص النسبية في الحصول على الإعانات.
وسوف يؤدي تحرير الزراعة طبقا لمقررات جولة أوروغواي إلى إلغاء الدعم تدريجيا مما سيرفع من أسعار السلع الغذائية الزراعية على مستويات لن تستطيع البلاد النامية المستوردة للغذاء، وبالذات البلاد الفقيرة والأقل نموا، على تحمل تكلفتها. وهناك حوالي 88 بلدا ناميا ينفق حوالي نصف حصيلة النقد الأجنبي في استيراد الغذاء، لن يكون في وضع يتيح له مواصلة هذا الاستيراد. ومنذ سنوات قليلة، بدأت آثار هذا التحرير في الظهور في شكل ارتفاع كبير في فاتورة الواردات الغذائية وارتفاع أسعار الطعام والإضرار بمصالح الفقراء ومحدودي الدخل. ورغم أن اتفاق تحرير الزراعة قد نص على أن يكون هناك تعويض في شكل معونات غذائية ومشتريات ميسرة، أو قروض للبلاد التي ستضار من الآثار السلبية لتحرير تجارة المنتجات الغذائية والزراعية إلا أن تلك المعونات كانت هزيلة، ولا توجد لها آلية مضمونة لتنفيذها. صحيح، أن البلدان الصناعية ستقوم بتخفيض التعريفة الجمركية على المنتجات الغذائية والزراعية بنسبة 37 % في المتوسط طبقا لاتفاق أوروغواي، وهذا سوف يحسن -نظريا- من فرص دخول المنتجات الغذائية والزراعية للبلاد النامية الى أسواق البلدان الصناعية. لكن المشكلة تكمن في انخفاض مرونة الطلب الداخلية على هذا النوع من السلع في حالة البلدان الصناعية، ناهيك عن القيود غير التعريفية التي تصر هذه البلدان على التمسك بها، ولهذا، ليس من المتوقع أن تعوض المزايا المتوقعة حجم الخسائر وذلك بالنسبة لعدد كبير من البلاد النامية.

10 - كذلك فإن الاتفاقية الخاصة بتحرير تجارة الخدمات GATS من القيود والإجراءات الإدارية للوصول إلى نظام حر للتجارة فيها من المرجح أن تكون له نتائج سلبية على البلاد النامية. ومن المعلوم أن قطاع الخدمات يضم ألوانا متعددة من الأنشطة، مثل الخدمات المالية (البنوك وشركات التأمين وشركات الاستثمار) والنقل والاتصالات، والسياحة، والخدمات الطبية، والخدمات الاستشارية والفنية والادارية، والمقاولات والانشاءات .. الى آخره. وقد نصت هذه الاتفاقية على الالتزام بتعميم مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، وحرية النفاذ إلى الأسواق، وعدم التمييز بين موردي الخدمات المحليين والأجانب، والالتزام بالشفافية بنشر القوانين والاتفاقيات الخاصة بالخدمات. ومن المعلوم أن قطاع الخدمات يمثل الآن المولد الرئيسي للدخل القومي في البلدان الصناعية. كما توسعت التجارة العالمية في تجارة الخدمات توسعا هائلا في العقد الماضي، ونمت في المتوسط بحوالي 12 % سنويا خلال الفترة 1980 - 1990. كما أن أكبر عشرين دولة مصدرة للخدمات تنتمي إلى مجموعة البلدان الصناعية المتقدمة. ويسيطر الآن على السوق العالمية للخدمات عدد محدد من الشركات العملاقة متعددة الجنسية ذات النشاط المتكامل التي أدى اتساع نشاطها إلى القضاء على الشركات المتوسطة التي كانت تعمل تقليديا في هذا المجال. كما شهد قطاع الخدمات في صعيده الدولي، عمليات دمج وتمركز بين كبريات الشركات العاملة في هذا المجال بشكل يفوق عمليات الدمج والتركيز التي حدثت في قطاعات الإنتاج المادي. ونظرا لأن معظم البلاد النامية مستورد صافي للخدمات فإن تحرير هذا القطاع من المتوقع أن يجر معه مشكلات وخسائر كثيرة لهذه البلاد. كما أنه من المتوقع أن يتعرض هذا القطاع في عدد كبير من هذه البلاد لمنافسة غير متكافئة مع الشركات الأجنبية التي من الراجح تماما أن تبتلع الشركات الوطنية التي تعمل في هذا القطاع.

11 - كذلك نصت دورة أوروغواي للجات على إدخال موضوع حماية الملكية TRIPs ضمن إجراءات تحرير التجارة، وهو الموضوع المتعلق بحقوق التأليف والنشر والعلامات التجارية والتصاميم وبراءات الاختراع والابتكارات. ونص الاتفاق في هذا الموضوع على سريان مبدأين من اتفاقية الجات وهما: تعميم مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، وشرط المعاملة الوطنية، أي إعطاء الأجانب نفس المعاملة للمواطنين. ويتعين على الدول الأعضاء في المنظمة المنضمين لهذه الاتفاقية أن يقوموا بتغيير تشريعاتهم المحلية وتطبيق العقوبات والإجراءات التي تحمي هذه الحقوق. وسيؤدي تطبيق هذه الاتفاقية إلى الإضرار المؤكد بمصالح البلاد النامية، لأنها سترفع من تكلفة الحصول على المعرفة والتكنولوجيا، وهو أمر لن تقدر عليه غالبية البلاد النامية مما يحرمها من أهم عوامل التقدم. كما ستفرض أعباء ضخمة على جهود التصنيع والتحديث  في هذه البلاد. وسيكون الأثر السيئ لهذه الاتفاقية واضحا في حالة الدواء الذي سترتفع أسعاره الى آفاق لا يقدر عليها إلا الأغنياء. من هنا فإن  الدول النامية لم تعد تر في هذه الاتفاقية سوى وسيلة لتحويل المزيد من دخولها إلى الدول المتقدمة.. وتقوية نفوذ الشركات متعددة الجنسية في مجال احتكار التقانة.

غير أن المفارقة، هي أن تقدم أوروبا ابان مرحلة التنوير والنهضة خلال الفترة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر قد اعتمدت على سرقة المنجزات الفكرية والعلمية التي حققها العرب خلال فترة صعود الحضارة الاسلامية وبالذات في مجال ترجمة الترات اليوناني القديم. ولم يحصل العرب، حتى هذه اللحظة، على أي عائد مقابل حقوقهم الفكرية، كما أن نهضة اليابان في العصر الحديث اعتمدت على سرقة المنجزات الفكرية والتكنولوجيا لأوروبا وأمريكا. ولكن عندما حان الدور على البلاد النامية لكي تفعل نفس ما فعله هؤلاء. قالت لهم منظمة التجارة العالمية .. لا، يجب أن تدفعوا ثمن حصولكم على المعرفة.

12 - وتجدر الاشارة أيضا الى أن عولمة الأسواق المالية، وما انطوت عليه من اجراءات للتحرير المالي، كانت ذات آثار هامة وخطيرة على البلاد النامية. فقد أدى هذا التحرير الى الغاء الحظر على المعاملات التي يشملها حساب رأس المال والحسابات المالية لميزان المدفوعات، والتي تشمل المعاملات المتعلقة بمختلف أشكال رأس المال، مثل الديون وأسهم المحافظ المالية والاستثمار المباشر والعقاري والثروات الشخصية. وكل ذلك ارتبط بالغاء القيود على معاملات النقد الأجنبي والضوابط الأخرى المرتبطة بهذه المعاملات. وقد كانت هناك آمال معقودة على ما سيتمخض عن هذا التحرير من زيادة قدرة البلاد النامية على الاتصال بأسواق النقد والمال الدولية، وبما يسمح لها بسد فجوة مواردها المحلية وزيادة معدلات الاستثمار فيها، والى خفض تكلفة التمويل بالنسبة لقطاعات مختلفة في الاقتصاد القومي، وأن العولمة المالية  سوف تجذب رؤوس الأموال الوطنية التي هربت للخارج، وستساعد على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وقد أدى التحرير المالي، في حالات معينة، الى تشجيع تدفق رؤوس الأموال الساخنة قصيرة الأجل Hot Money الباحثة عن الربح السريع مما أدى الى حدوث آثار ضارة بالاستقرار الاقتصادي وذلك في حالة التقلبات الفجائية التي تحدث في حركة دخول وخروج هذه الأموال (ارتفاع معدل التضخم، ارتفاع معدل الصرف، زيادة أسعار الأصول المالية العقارية..) كما أن اجراءات التحرير المالي عرضت الجهاز المصرفي للأزمات، ولتدفق الأموال القذرة (غسيل الأموال) وتعرض البلد لهجمات المضاربين، والى اضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية والنقدية. كما شجعت على هروب واسع لرؤوس الأموال الوطنية للخارج. كما أن عولمة الأسواق المالية أدى الى سرعة انتشار الأزمات المالية النقدية من منطقة لأخرى ومن بلد لآخر بسبب علاقات التشابك والترابط التي تنشأ بين هذه الأسواق (المثال الواضح على هذا سرعة انتشار الأزمة الاقتصادية التي حدثت في دول النمور الآسيوية في صيف عام 1997 الى عدد كبير من بلاد العالم).

13 - ورغم أن دورة أوروغواي قد وعدت بتخفيض القيود التعريفية وغير التعريفية التي تعوق نمو صادرات البلاد النامية والإقرار في الديباجة الخاصة باتفاقية  قيام منظمة التجارة العالمية على أن هناك احتياجات خاصة للبلاد النامية وتعزيز الجهود الرامية لزيادة حصتها في النمو المتحقق في التجارة العالمية، الا أن هذه البلاد قد أعربت عن خيبة أملها فيما حققته هذه الدورة من حصاد ونتائج وبخاصة في مجال الغزل والنسيج والملابس الجاهزة، والتي تمتلك فيها كثير من البلاد النامية ميزة تنافسية واضحة وتمثل فيها صادرات المنسوجات والملابس الجاهزة نسبة هامة . فما زالت هذه القيود مستمرة، وبالأخص قيود الحصص، في الوقت الذي تتآكل فيه الامتيازات التفضيلية التي كانت تتمتع بها كثير من البلاد النامية المصدرة للمنسوجات والملابس الجاهزة، وبعد مرور خمسة سنين منذ تطبيق الاتفاقية الخاصة بالمنسوجات، وما زال معدل النمو في نصيب البلاد النامية في التجارة العالمية للمنسوجات لا يتعدى 4,3 % وهي نفس النسبة التي سادت قبل تنفيذ الاتفاقية، في حين أن صادرات البلدان الصناعية قد زادت بمتوسط معدل نمو سنوي 9 %.

14 - تمخضت العولمة والسرعة التي تسير بها عمليات تحرير التجارة العالمية وإدماج البلاد النامية في الاقتصاد العالمي عن مخاطر مؤكدة للصناعات الوطنية ولكثير من الطاقات الإنتاجية في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني، في ظل سرعة فتح الأسواق المحلية للمنتجات الأجنبية، في الوقت الذي تواجه فيه صادرات البلاد النامية صعوبات في النفاذ الى أسواق البلدان الصناعية، كما عرضنا آنفا. كما أنه في ظل الترتيبات التي ستنشأ عن حماية حقوق الملكية الفردية سترتفع أسعار منتجات المعرفة والتكنولوجيا وغيرها من المدخلات، وستزيد الأعباء على القطاعات المختلفة. وأصبح من شبه المؤكد استحالة دخول كثير من البلاد النامية الى مجالات التصنيع الا بشروط وتوجهات الشركات متعددة الجنسية.
صحيح، أن الاتفاقية قد منحت البلاد النامية فترات للسماح للاستعداد لمواجهة نتائج تنفيذ دورة أوروغواي. وهي فترات تتراوح ما بين 5 - 10 سنوات. ولكنها في الحقيقة مدة غير كافية بالمرة لتكييف أوضاع الصناعات والمنتجات المحلية لرياح المنافسة العاتية، نظرا لأن كثيرا من صناعات هذه البلاد، ما زالت في مرحلة النشأة والتكوين وتحتاج إلى فترات كافية للحماية. وعلينا أن نتذكر، أنه ما كان من الممكن لتجارب التصنيع في البلدان الصناعية المتقدمة أن تقوم لها قائمة الا في ضوء نزعة واضحة للحماية استمرت مئات السنين، والذين سارعوا بالتنازل الطوعي عن فترات السماح التي منحتها الاتفاقية، مع عدم مراعاة مصالح الصناعة الوطنية لبلادهم، كان لسان حالهم يقول: « وداعا للقيود .. وأهلا بتحطيم الصناعة الوطنية ». وهو موقف غير رشيد، وغير عقلاني بالمرة.

15 - وأخيرا، وليس آخرا، فإن العولمة وإن كانت تعني عند بعض الكتاب حرية الحركة لعناصر الإنتاج على الصعيد العالمي، إلا أن العولمة هنا مشبوهة وناقصة. فالعولمة، من الناحية الفعلية، تعني فقط حرية الحركة عبر الحدود لرؤوس الأموال والبضائع طبقا لما تقرره البلدان الصناعية المتقدمة وشركاتها متعددة الجنسية. أما عنصر العمل فمن غير المسموح له بهذه الحركة. فإذا كان رأس المال من المسموح له أن يذهب للاستثمار في المناطق التي يوجد بها عنصر العمل الرخيص وترتفع فيها معدلات الربح، إلا أنه من غير المسموح لعنصر العمل من البلاد النامية أن يمارس نفس المبدأ، أي أن ينتقل الى البلاد التي ترتفع فيها معدلات الأجور. فالسماح بمثل هذا الانتقال سوف يؤدي الى هجرة أعداد كبيرة من عمال الجنوب إلى بلاد الشمال، وهو أمر تخشاه البلدان الصناعية الغنية لما سينطوي عليه من منافسة الأجانب للعمال المحليين، وهو أمر قد يفاقم من مشكلة البطالة فيها. بل إنه نتيجة لزيادة عدد المتعطلين في كثير من البلدان الصناعية الغنية، فإن حكومات تلك البلدان بدأت تمارس ضغطا على العمالة الأجنبية الموجودة لديها لحثها على الرحيل. بل نشأت فيها حركات سياسية عنصرية ترفع رايات العداء للأجانب وتمارس العنف والتمييز العنصري ضدهم، كما قامت حكومات كثير من هذه البلدان ترحب باستقبال عنصر العمل الأجنبي النادر، مثل العلماء وكبار الباحثين والأطباء والمهندسين والفنيين والمشتغلين بقطاع المعلومات.. وهو ما يعد استنزافا لعقول البلاد النامية ويمكن اعتباره شكلا من أشكال القرصنة لأهم مورد تنموي تملكه هذه البلاد. ورغم خطورة هذه القضية وما تمثله من أهمية بالغة للبلاد النامية إلا أنها غير مطروحة بالمرة على جدول أعمال منظمة التجارة العالمية.

لكل تعليق أو تعقيب أو اغناء لهذه الدراسة الرجاء مكاتبة العنوان الإلكتروني التالي:
[email protected]
[email protected]

 



#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البعد المالي في إتفاقية الشراكة المبرمة بين المغرب والاتحاد ...
- مــــأزق البطالــــــة
- التحولات الاقتصادية والسياسية للطبقات الاجتماعية في المغرب - ...
- الاستعمار الأمريكي واستراتيجية المقاومة
- خلفيات الحرب الإمبريالية الأمريكية على العراق
- الاستثمارات الأجنبية الخاصة عامل تنمية أم استعمار جديد؟
- الشراكة الأورومتوسطية بين واقع الهيمنة وأحلام التنمية
- المديونية الخارجية والعولمة
- مقاومة العولمة الليبرالية
- فخ المؤسسات المالية الدولية
- أبعاد التنمية المستدامة


المزيد.....




- بعد تجارب 40 سنة.. نجاح زراعة البن لأول مرة في مصر
- كندا تسمح لـ-إيرباص- بشراء التيتانيوم الروسي
- -أرامكو- السعودية توقع صفقة استحواذ ضخمة
- مشروع ضخم جديد بين مصر والسعودية
- مصر تستعد لبناء سفن جديدة مع الصين
- روسيا تبحث إنشاء موانئ في مصر والجزائر ودول إفريقية أخرى
- بيسكوف: -عسكرة- الاقتصاد البريطاني -تمويه- لوضع اقتصادي صعب ...
- تقرير لصندوق النقد: مصر تعهدت بالكف عن الاقتراض المباشر من - ...
- الصين تقود سوق السيارات الكهربائية بالعالم
- شاهد.. أبرز تداعيات الحرب في غزة على اقتصاد كيان الاحتلال


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد السلام أديب - التجارة الخارجية في زمن العولمة الليبرالية