أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن















المزيد.....



رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7401 - 2022 / 10 / 14 - 14:16
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان








عينا نيال








طلال حسن


شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ نيال البنت الكفيفة

2 ـ الأم أم نيال

3 ـ باتريك

4 ـ جوناثان

5 ـ اورنا أخت جوناثان

6 ـ السمكة

7 ـ السلحفاة

8 ـ السلحفاة المعمرة أم السلحفاة




" 1 "
ـــــــــــــــــــ
بعد أن تناولت طعام الفطور ، الذي أعدتها أمها منذ وقت مبكر من الصباح ، نهضت نيال من مكانها ، وسرعان ما تلمست طريقها نحو باب الكوخ ، وتوقفت هناك ، وقد رفعت وجهها إلى الأعلى ، وتنفست ملء صدرها ، وقالت : آآآه .
وجاءها صوت أمها ، من داخل الكوخ ، حيث كانت ترتب الفرش ، وترفع ما تبقى من سفرة الطعام ، قائلة : بنيتي ، اجلسي بالباب إذا أردت .
لم تلتفت نيال إلى أمها ، وإنما راحت تتلفت حولها ، متشممة الهواء ، وقالت : الجو دافىء ومنعش ، يبدو أن الشمس مشرقة هذا اليوم .
وضحكت الأم فرحة ، وهي ترمق ابنتها بنظرة سريعة ، وتابعت نيال قائلة : أشعر بأشعتها الدافئة على وجهي وشعري ، الذي تقولين إنه كالذهب .
واقتربت الأم من نيال ، ومدتْ يدها الحانية ، وراحت تمسد بها شعرها المسترسل على كتفيها الفتيين ، وقالت : بل هو ذهب ، يا عزيزتي .
وابتسمت نيال بشيء من المرارة ، وتساءلت وكأنها تريد أن ترى نفسها : وعيناي ؟
وحبست الأم تنهيدة حارة ، أوشكت أن تنطلق من أعماقها ، وقالت : عيناك بحيرتان صافيتان ، كأنهما سماء الصيف في بلادنا الجميلة .
ورفعت نيال رأسها ، وتطلعت إلى البعيد ، ببحيرتيها الزرقاوين الصافيتين كالسماء ، اللتين لا تريان شيئاً ، وقالت وكأنها تحدث نفسها : ليتني أرى هذا العالم ، يبدو أنه جميل جداً .. آآآ ه .
ثم التفتت إلى حيث تقف أمها داخل الكوخ ، وقالت : وأراكِ أنتِ أيضاً ، يا أمي .
ومدت الأم يديها الحانيتين ، وضمت نيال إلى صدرها ، وتمتمت : هذه مشيئة الآلهة ، يا بنيتي ، لقد صاغتكِ قمراً ، وأي قمر .
انسلت نيال من بين يدي أمها ، وسحابة من الحزن تغشى بحيرتيها الزرقاوين ، ومضت تتلمس الطريق مبتعدة عن الكوخ ، فهتفت الأم بها : بنيتي ..
لم تتوقف نيال ، ولم تلتفت إلى أمها ، ومضت في طريقها ، الذي تعرفه جيداً ، وهي تقول : سأذهب إلى البحيرة ، وأجلس هناك بعض الوقت .
ولاذت الأم بالصمت لحظة ، لقد صارت نيال صديقة للبحيرة ، تذهب إليها دائماً ، وخاصة في الأيام الصافية الدافئة ، فهي تريد الترويح عن نفسها ، لقد أتعبها البقاء في الظلام ، وحيدة بين جدران الكوخ الأربعة ، ثم تطلعت إليها ، وهتفت بها : بنيتي ، لا تتأخري في البحيرة ، سأعدّ لك اليوم غداء تحبينه .
لم تردّ نيال على أمها ، ومضت على الطريق ، تقودها خطاها المبصرة إلى البحيرة القريبة ، وظلت الأم واقفة بالباب ، تتابعها بعينيها اللتين تغشاهما سحابتان من الدموع ، حتى غابت بين الأشجار القريبة ، فاستدارت وهي تمسح عينيها ، ودخلت إلى الكوخ .
وتشاغلت بترتيب الفرش ، وتنظيف الكوخ وتهويته ، وإعداد الطعام الذي تحبه نيال ، لكن هذا كله لم يشغلها عن همومها ، التي لا تنتهي ، حول ابنتها نيال ، ومستقبلها ، وهى .. قمر شبه منطفىء .
لقد أرادتها ، حين تزوجت صياد السمك ، الذي أحبها وأحبته ، فتاة كالقمر في يومه الرابع عشر ، بيضاء كالثلج في قمم الجبال ، شعرها ذهب مثل أشعة الشمس ، وعيناها بحيرتان زرقاوان ، وهكذا جاءت ، وجُنت فرحاً بها في الأيام الأولى ، وتخيلتها صبية .. شابة .. عروسة ,, تزهو بها كما الربيع ، لكن فرحها هذا ، راح يتراجع وينحسر يوماً بعد يوم ، حين علمت أن البحيرتين الزرقاوين الجميلتين ، منطفئتان ، لا تريان الغابة .. والسماء .. ووالنجوم ، ولا أي شيء من العالم الجميل الذي يحيط بها ، والذي يضج بالحياة والفرح .

" 2 "
ـــــــــــــــــــ
انحدرت نيال ببطء وحذر ، من الطريق نحو شاطىء البحيرة الرملي ، وأشجار الغابة ، التي تحيط بالبحيرة تقريباً ، تتمايل مع أنسام الضحى ، وأغصانها المثقلة بأعشاش ومناغاة الطيور وأغاريدها ، تصدر حفيفاً متناغماً كأنه جوقة من الموسيقيين .
وتلمست طريقها على الشاطىء الرملي ، الذي تعرفه جيداً ، وجلست قريباً من حافة الماء ، حتى أن الأمواج الصغيرة ، كانت تدغدغ قدميها ، وتنسحب عنها لحظة ، لتعود فتدغدغها مرة أخرى .
وأنصتت نيال لحظات إلى أغاريد الطيور ومناجياتها الربيعية ، وهي في أعشاشها ، أو يلاحق بعضها البعض بين أغصان الأشجار ، بل إن بعضها ، وخاصة العصافير ، كانت ترفرف حولها ، وتزقزق ، ترى ماذا تريد أن تقول لها ؟ وتتمتم نيال .. ربما تريد أن تقول لي ، إنني أحبكِ ، فهي تعرف أنني أحبها .
وتبتسم نيال ، وتتنهد بحرارة ، لا عجب ، إنه الربيع ، وهذا هو موسم الحب عند الأحياء ، آه أيها الربيع ، أنا أيضاً من الأحياء لو تدري .
وتناهت إليها حركة زعانف تعرفها ، صادرة من مكان قريب منها في الماء ، فأدارت وجهها نحو مصدر الصوت ، وأنصتت ملياً ، ثم قالت بصوتها الهادىء : أيتها السمكة الجميلة ، تعالي ، إنني أسمعك .
وردتِ السمكة قائلة ، وهي تقترب منها : لو تدرين ، أنتِ أجمل مني بكثير .
وتنهدت نيال بحرارة ، وقالت : آه لو أدري ، لكني لن أدري ، فلكي أدري ، كما تعرفين ، لا بدّ أن أرى ، وأنا كما تعرفين .. لا ..
وقاطعتها السمكة قائلة : عزيزتي ، تغيبتِ أياماً ، فقلقت أشدّ القلق عليكِ .
وردت نيال قائلة : لا تقلقي ، إنني بخير ، لكن أمي لم تشأ أن أخرج من الكوخ ، وآتي إلى البحيرة ، فالجو كما قالت متقلب ، وينذر بالمطر .
وأطلت السمكة برأسها من الماء ، وقالت : لقد سألتني السلحفاة عنكِ ، وقالت إنها تريد أن تراك لأمر هام ، لعله يعود عليك بالنفع .
وتطلعت نيال نحوها ، وقالت : إنني أتطلع إلى لقائها ، منذ أن حدثتني عنها ، في الأسبوع الماضي ، لتأتِ في أي وقت تشاء ، وسأرحب بلقائها .
وتابعت السمكة قائلة : جدتها سلحفاة معمرة ، معروفة في عالم الأعماق ، ولابدّ أنها ستحدثكِ عنها ، عند لقائها بك ، في الوقت الذي تحددينه .
ومالت نيال عليها ، وقالت بشيء من الحماس : ليكن غداً ، في مثل هذا الوقت .
وقالت السمكة فرحة : هذا سيفرح السلحفاة .
وأضافت نيال قائلة : تعاليا غداً ، وسأنتظركما هنا .
واستدارت السمكة ، وضريت الماء بزعنفتها الذيلية ، ومضت نخو الأعماق ، وهي تقول : سأذهب الآن إلى السلحفاة ، وستفرح كثيراً بالخبر .
ونهضت نيال من مكانها قرب البحيرة ، وتلمست طريقها ببطء وأناة ، بعيداً عن الشاطىء الرملي ، حتى وصلت الطريق المؤدي إلى القرية ، وهي تفكر في السلحفاة وجدتها المعمرة ، وما يمكن أن يكون الأمر الهام ، الذي تريد أن تلقاها من أجله .
وأيقظها من تفكيرها هذا ، صوت تعرفه جيداً ، يهتف بها من مكان قريب وراءها : نيال ..
إنه باتريك ، ابن أحد كبار القرية ، وتباطأت نيال قليلاً ، وردت قائلة : أهلاً باتريك .
واقترب باتريك منها ، وقال : طاب يومكِ .
وردت نيال قائلة : لابد أنك كنت تصطاد .
وضحك باتريك ، وقال : إنني دائماً أصطاد ،وقد اصطدت اليوم ثلاث أرانب .
ومدّ يده بأرنب منها ، وقال : خذي هذا الأرنب المكتنز ، إنه هدية مني إليك .
وابتعدت نيال قليلاً ، دون أن تمدّ يدها ، وتأخذ منه الأرنب ، وقالت : لا أريد أرنباً قتيلاً .
وارتع صوت باتريك بالضحك ، وقال لنيال : يا لرقة مشاعر قمري الجميل ، سأخرج غداً إلى الصيد ، وآتيك بأرنب صغير حي .
وواصلت نيال طريقها ، وهي تقول بصوت متهدج : لا أريد أرى أرنب يُصطاد ، بل أريد أن أراه حياً يركض بين أرانب أحياء وآمنين .
ومال باتريك عليها ، وقال : لكنكِ لا ترين .
ولاذت نيال بالصمت لحظة ، وبدا أن قوله قد جرحها ، ثم قالت : إنني أراها بأذنيّ ، أسمعها وهي تركض حية وحرة وفرحة ، فأشعر أنني أراها .
واقترب باتريك منها ، وهمس لها قائلاً : آه لو تعرفين ، كم أنتِ جميلة ، يا قمري نيال .
ورغم انزعاجها من صيده للأرانب ، إلا أنها شعرت بالفرح يغزو دواخلها ، ويلمس قلبها الفتيّ ، وانتبهت إليه يقول لها : ها قد وصلنا للأسف .
ومضى مبتعداً عنها ، وأضاف قائلاً : نيال ، ألقاك غداً عصراً عند البحيرة ، إلى اللقاء .




" 3 "
ـــــــــــــــــــ
على سفرة الغداء ، بعد منتصف النهار ، قالت لها أمها : نيال ..
وردت نيال بصوتها الهادىء ، دون أن تتوقف عن تناول الطعام : نعم أمي .
وتابعت الأم قائلة : جاءت صديقتك أورنا ، بعد أن ذهبتِ إلى البحيرة ، وسألت عنكِ .
لاذت نيال بالصمت ، وهي تتناول طعامها ، فأضافت الأم قائلة : أخبرتها أنك خرجتِ من الكوخ ، وذهبتِ كالعادة إلى البحيرة وحدكِ .
وتوقفت نيال عن تناول الطعام لحظة ، وقالت : يا للأسف ، كنت أتمنى أن ألتقي بها ، فأنا لم أزرها ولم تزرني منذ عدة أيام .
ونظرت إليها أمها ، وقالت : لا عليكِ ، يا بنيتي ، ستأتي عند العصر ، وستلتقين بها .
وجاءت صديقتها اورنا فعلاً ، قبيل العصر بقليل ، وحين طرقت الباب ، ذهبت نيال نفسها ، وفتحت لها الباب ، وسمعتها تقول : طاب مساؤك ، يا نيال .
ومدت نيال يدها ، وأطبقت على يد اورنا ، وقالت لها : أهلاً اورنا ، تعالي إلى الداخل .
ودخلت اورنا إلى الكوخ ، ويدها في يد نيال ، وتلفتت حولها ، ثم قالت : لقد اشتقت إليك ، يا نيال ، يبدو أنك وحدك الآن في الكوخ .
وردت نيال قائلة : نعم ، فقد ذهبت أمي قبل قليل ، إلى بيت خالتي ، لقد ولدت خالتي طفلاً جديداً .
وابتسمت نيال ، وتابعت قائلة : أمي تقول عن خالتي ، إنها أرنبة ، فهذا طفلها الخامس .
وتركت نيال يد صديقتها اورنا ، وقالت لها : اجلسي على الحشية ، سأجلس قبالتكِ .
وجلست اورنا على الحشية ، وجلست نيال قبالتها ، وقالت : لم القَ أخاك جوناثان ، منذ فترة طويلة ، أرجو أن يكون بخير .
وابتسمت اورنا عندما ذكرت نيال أخاها جوناثان ، وقالت : إنه مشغول هذه الأيام ، بالعمل في الحقل مع أبي ، أنت تعرفين ، إنه الربيع الآن .
وابتسمت نيال ، وقالت : ظننتُ أنه مشغول بمرافقة صديقه باتريك في الصيد .
وهزت اورنا رأسها ، وقالت : كلا ، إنه لا يخرج معه إلى الصيد ، ويبدو أنه يحاول تجنبه هذه الأيام .
وقالت نيال متعجبة : لكنهما صديقان .
فقالت اورنا : يقول جوناثان ، إن باتريك لا يريد صديقاً ، وإنما تابعاً ، وجوناثان لا يريد أن يكون تابعاً لأحد ، مهما كان مركزه أو مركز أبيه .
وقبيل المساء ، والأم لم تعد بعد من زيارة أختها الأرنبة ، جاء جوناثان أخو اورنا ، ووقف على مقربة من باب الكوخ ، ونادى أخته : اورنا .
ونظرت اورنا مبتسمة إلى نيال ، وقالت : ذكرنا القط جاء ينط ..
وابتسمت نيال قائلة : جوناثان !
فردتْ اورنا قائلة : هو نفسه .
ومالت على نيال ، وهمست لها مبتسمة : جاء بحجة أن أمي تريدني .
وارتفع صوت جوناثان من الخارج يهتف : اورنا ، تعالي ، إن أمي تريدك .
ونهضت لورنا ، وهي تضحك ، وشاركتها نيال الضحك ، وقالت : ادعيه للدخول ، يا لورنا ، والبقاء معنا بعض الوقت ، إن جوناثان إنسان مريح .
واتجهت لورنا نحو الباب ، وقالت : الشمس تكاد تغرب ، سأزورك غداً في وقت مناسب .
وخرجت لورنا من الكوخ ، فنهضت نيال من مكانها ، وخرجت في أثرها ، وجاءها صوت جوناثان يحييها : طاب مساؤكِ ، يا نيال .
وتطلعت نيال نحو مصدر الصوت مبتسمة ، وقالت : أهلاً بك جوناثان ، طاب مساؤكَ .
واقترب جوناثان منها ، وقال : ستغيب الشمس قريباً ، فأرسلتني أمي لأرافق لورنا إلى البيت .
فقالت نيال مبتسمة : أهلاً بك وبأختك لورنا .
ومال جوناثان عليها ، وقال لها : كنتُ حوالي منتصف النهار قرب البحيرة ، ورأيت باتريك يسير إلى جانبك ، ويتحدث إليكِ .
وابتسمت لورنا ، وقالت له : باتريك من شباب القرية ، وهو صديقك .
وابتسمت نيال ، وقالت : كان في الصيد ، وقد اصطاد ثلاثة أرانب ، وأراد أن يعطيني أرنباً ، لكني رفضت ، وقلت له ، لا أريد أرنباً قتيلاً .
ولاذ جوناثان بالصمت ، فقالت أخته لورنا : هيا يا جوناثان ، لابدّ أن أمنا تنتظرنا الآن ، مادامت قد أرسلتك لمرافقتي إلى البيت .
وتطلعت نيال نحوهما ، وقالت : رافقتكما السلامة ، تحياتي إلى والديكما العزيزين .
ومضت لورنا مبتعدة مع أخيها جوناثان ، وخاطبت نيال قائلة : سأزوركِ قريباً ، يا نيال ، وربما نذهب معاً إلى البحيرة ، ونقضي هناك بعض الوقت .
ورفع جوناثان صوته ، وكأنه يوجه الخطاب لأخته فقط ، وقال : لن أدعكما تذهبان إلى البحيرة وحدكما ، أنتما بنتان ، والمكان خطر بعض الشيء .
وضحكت لورنا ، وهتفت بنيال : اسمعي ، يا نيال ، أخي العزيز جوناثان سيرافقنا أنا وأنتِ ، إلى البحيرة ، فهو يخاف علينا فقط .
وجاءت الأم بعد قليل ، ونيال مازالت عند باب الكوخ ، فقالت لها : يبدو أن جوناثان كان هنا معكِ .
وردت نيال قائلة : جاء ليرافق أخته لورنا ، ولابد أنكِ رأيتهما يسيران معاً عائدين إلى البيت .
ونظرت الأم إليها ، وقالت : ليتكِ لا تشجعينه على التردد عليك ، فهذا قد يغضب باتريك .
فاستدارت نيال ، واتجهت إلى داخل الكوخ ، وهي تقول بشيء من الحدة : لا داعي لأن يغضب ، فجوناثان شاب طيب ، وأخته لورنا صديقتي .
ولحقت الأم بها إلى الداخل ، وهي تقول : لم تعودي صغيرة ، يا بنيتي ، عليكِ الآن أن تعرفي أين تكمن مصلحتك ومستقبلكِ .




" 4 "
ـــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، وقبيل منتصف النهار ، تلمست نيال طريقها إلى خارج الكوخ ، ملبية نداء البحيرة والسمكة والسلحفاة ، ولحقتها أمها ، وهتفت بها : نيال ..
وقاطعتها نيال ، وهي تواصل سيرها ، وقالت : لن أتأخر ، يا أمي ، سأذهب إلى البحيرة كالعادة ، وأعود في الوقت المناسب .
وتوقفت الأم محبطة ، وراحت تنظر إلى ابنتها نيال ، التي تقول عنها ، إنها كالقمر في عمره البدر ، وتمتمت بصوت دامع حزين : هذا القمر ، من يمكن أن يتطلع إليه غير الفقراء أمثالنا ؟ آه عشتار .
ومضت نيال في طريقها ، حتى اختفت بين الأشجار ، فاستدارت الأم ، وقفلت عائدة إلى الكوخ ، وهي تتمتم : نحتاج معجزة ، لكن زمن المعجزات ، كما كانت تقول جدتها ، انتهى بنهاية الطيبين من الناس .
وانحدرت نيال من الطريق إلى الشاطىء الرملي للبحيرة ، وقبل أن تصل مكانها المعهود ، سمعت السمكة تهتف بها من البحيرة : نيال ..
وردت نيال ، وهي تقترب من حافة البحيرة : السمكة ! أنا هنا ، لقد وصلت .
وتابعت السمكة قائلة بنبرة عتاب : لقد تأخرت ، يا عزيزتي ، حتى أن السلحفاة ، وقد جاءت مبكرة لمقابلتك ، أوشكت أن تعود إلى أعماق البحيرة .
وجلست نيال في مكانها المعهود قرب حافة البحيرة ، ومدت قدميها حتى لامستا الماء ، وقالت : عفواً إذا تأخرتُ بعض الوقت ، نادي السلحفاة .
وسمعت نيال السمكة تنادي السلحفاة بصوتها الهادىء : أيتها السلحفاة ، اقتربي .
وجاءها صوت رقيق من البحيرة ، لم تسمعه من قبل ، يرد على السمكة : ها أنا قادمة .
واقتربت السمكة من نيال ، لكنها لم تغادر الماء ، أما السلحفاة ، فقد خرجت من البحيرة ، واقتربت من نيال ، وهتفت بها : طاب يومك ، يا عزيزتي نيال .
وأشرق وجه نيال بالفرح ، وأدارت وجهها نحو مصدر الصوت ، وقالت : السلحفاة !
وردت السلحفاة قائلة : نعم ، أنا السلحفاة .
وتابعت نيال قائلة بصوت فرح : لقد حدثتني عزيزتي السمكة عنكِ ، وتمنيت أن ألقاكِ ، وأتعرف عليكِ ، وها أنتِ معي هنا ، فأهلاً ومرحباً بكِ .
وردت السلحفاة قائلة ، وهي تتأمل وجه نيال : أشكركِ يا عزيزتي ، آه لو تعرفين كم أنتِ جميلة .
وابتسمت نيال فرحة ، وقالت : أشكركِ ، أشكرك جداً لهذه المجاملة الطيبة .
فقالت السلحفاة : لستُ أجاملكِ ، بل أنا أقول الحقيقة ، أنت جميلة ، جميلة جداً ، حتى أني أتمنى لو كنتُ شاباً من شباب قريتكم .
وضحكت السمكة ، وقالت للسلحفاة : دعيكِ من هذا الآن ، وأخبري نيال عما جئتِ من أجله .
وأنصتت نيال ، وسمعت السلحفاة تقول : جئت اليوم لأتعرف على نيال ، فقد حدثتني صديقتي السمكة عنها كثيراً ، وأريد أن أقول لها ، إن جدتي السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، بعد أن حدثتها صديقتنا السمكة عنها ، قالت أنا أستطيع أن أجعلها ترى .
وشهقت نيال مذهولة : ماذا !
وقالت السمكة ، مؤيدة كلام السلحفاة : نعم ، السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، قادرة على أكثر من ذلك ، ولهذا فقد حدثتها عنكِ يا نيال .
وهتفت نيال وقد غمرها الفرح : أرجو أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن ، يا صديقتيّ .
وسمعت نيال السلحفاة تقول لها : جدتي السلحفاة المعمرة ، لا تستطيع أن تعالجك عن بعد ، وأنتِ كما أرى ، لا تستطيعين أن تأتي معنا إلى الأعماق .
وتنهدت نيال حزينة ، محبطة ، وقالت : لكني أريد أن أرى ، مهما كان الثمن .
وقالت السمكة : هناك حلّ ممكن ، وهذا ما اقترحته السلحفاة المعمرة نفسها .
وتساءلت نيال : ما هو ؟
وتابعت السمكة قائلة : أن يأتي إليها في الأعماق ، إنسان يحبك ، ومستعد للتضحية حتى بحياته من أجلك ، وستقدم له العلاج ، وتعلمه طريقة استخدامه .
والتمعت في أعماق نيال فكرة ، فكرة عظيمة في رأيها ، إنه صديقها ، محبها ، الذي يقول عنها دائماً ، إنها قمره الغالي ، ولا يريد أن يفارقه لحظة واحدة ، وقد قال لها أكثر من مرة ، إنه يضحي بالغالي والنفيس من أجلها ، نعم إنه ابن كبير القرية .. باتريك .
وتساءلت السلحفاة : ماذا قلتِ ، يا نيال ؟
فردت نيال قائلة : أمهليني هذا اليوم ، وغداً ، في مثل هذا الوقت ، هنا عند البحيرة ، والسمكة العزيزة معنا ، سآتيكِ بالخبر اليقين .






" 5 "
ــــــــــــــــــ
قفلت نيال عائدة إلى الكوخ ، وتمنت من كلّ قلبها أن تصادف باتريك في الطريق ، كما صادفته يوم أمس ، لعلها تتحدث معه عما قالته لها السلحفاة عن جدتها السلحفاة المعمرة ، لكن الطريق أوشك أن ينتهي ، دون أن تصادفه ، أو تلمس أي أثر له .
ووصلت أخيراً إلى الكوخ ، واستقبلتها أمها عند الباب ، ويبدو أنها كانت تنتظرها هناك ، وقالت لها : لقد تأخرتً ، يا بنيتي ، وهذا ما أقلقني ، حتى أوشكت أن ألحق بكِ في البحيرة لأطمئن عليكِ .
وردت نيال بنبرة تشي بتأثرها : لم أتأخر ، يا أمي ، ولا داعي لكل هذا القلق .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : طعامكِ في الداخل ، وربما برد ، سأزور أختي ، وأطمئن عليها .
وسمعت نيال وقع أقدام أمها ، وهي تبتعد في طريقها إلى بيت أختها الأرنبة ، فدخلت إلى الكوخ ، وتلمست طريقها إلى السفرة ، وجلست أمامها ، وراحت تأكل شاردة ، وهي تفكر في السمكة والسلحفاة المعمرة الساحرة ، وكذلك في .. باتريك .
وخفق قلبها فرحاً وقلقاً ، حين جاءها من خارج المدخل ، صوت مترنم تعرفه جيداً ، يقول : نيالي ..
وتوقفت نيال عن تناول الطعام ، إنه باتريك ، الإنسان الذي تعلق عليه كلّ آمالها ، والذي يمكن أن يبث في أعماقها الحياة بكل ألوانها ، وجاها الصوت ثانية : قمري الجميل ..
وهبت ناهضة ، تتمتم بفرح : باتريك .
ومن مكانه ، قرب مدخل الكوخ ، جاءها صوته ثانية ، يخاطبها قائلاً : جئتك بأرنب يا نيال ، أرنب حيّ صغير جميل ، ستحبينه ، وتفرحين به .
وأسرعت نيال تتلمس الطريق إلى باتريك ، وقد مدت يدها نحوه ، وهي تقول : دعك من الأرنب ، يا باتريك ، لديّ بشرى سارة ، إنها ..
وابتسم باتريك ، والأرنب في يده ، وقال : لا بشرى لي غيركِ أنتِ ، يا قمري البدر الجميل .
وتابعت نيال بحماس قائلة : إنها بشرى لا تصدق ، سأراك قريباً ، كما تراني أنت الآن .
ولاذ باتريك بالصمت لحظة ، وهو يحدق فيها حائراً ، ثم قال وكأنه يجاريها في حلمها المستحيل : هذه بشرى سارة فعلاً ، ليست مستحيلة على الآلهة .
وتابعت نيال قائلة : السلحفاة ، التي عرفتني بها صديقتي السمكة ، قالت إن جدتها المعمرة ، الساحرة العظيمة ، ستقدم لمن يأتيها إلى أعماق البحيرة ، ما يساعدني على أن أكون مبصرة كما يبصر الآخرون .
ولاذ باتريك بالصمت ثانية ، وحدق فيها بشيء من الشفقة ، كما يحدق المرء إلى إنسان عزيز يهرف ، وتابعت نيال قائلة : أبلغتني السلحفاة ، أن جدتها السلحفاة المعمرة ، تقول إن من يحبني يمكنه أن يصل إلى الأعماق ، ويلتقي بها ، فتعطيه العلاج ، وتعلمه كيف يعالجني به ، ف .. فأرى .
وبقي باتريك لائذاً بالصمت ، ولم يتفوه بكلمة واحدة ، والأرنب مازال في يده ، فقالت نيال بشيء من التردد : وأنت تحبني ، يا باتريك .
وتمتم باتريك ، وقد تملكته الحيرة : نعم ، أنت تعرفين ، يا نيال ، أنني أحبكِ ، لكن ..
وصمت باتريك ، فتساءلت نيال : لكن ! لكن ماذا ؟ يا باتريك ، أريد أن أرى ، سأراك أنت ..
وقاطعها باتريك ، كأنما يخاطب نفسه : نيال ..
وصمتت نيال ، فتابع باتريك قائلاً : أن أغوص إلى الأعماق .. أمي .. أبي ..
وصمت باتريك ، فقالت نيال : لكن هذا سيشفيني .. ويجعلني أرى العالم .. وأرى ..
ودفع باتريك الأرنب لها ، وقال : خذي الأرنب .
وبصورة لا إرادية ، دفعت نيال الأرنب ، وأشاحت بوجهها عن باتريك ، وسرعان ما سمعت وقع أقدامه المضطربة المتسارعة ، تبتعد عنها .
وعند العصر ، عادت الأم من عند أختها ، وكانت نيال مازالت تقف جامدة بباب الكوخ ، فقالت لها : نيال ، خالتك تسلم عليكِ .
وردت نيال قائلة : لتسلمها الآلهة .
وتوقفت الأم أمام نيال ، وراحت تحدق فيها ، ثم هزت رأسها وقالت : خالتك فرحة بطفلتها ، وتقول إنها تشبهكِ ، رغم أن عينيها ليستا زرقاوين .
وقالت نيال دون أن تتحرك من مكانها : المهم أنها ترى بعينيها ، وليست عمياء مثلي .
وحدقت الأم فيها ملياً ، ثم قالت : نيال ..
واغرورقت عينا نيال بالدموع ، وقالت بصوت باكٍ : عمياء ، لا أرى أي شيء ، وليس هناك من يريد مساعدتي على الشفاء .
ووقفت الأم حائرة للحظة ، تحدق في نيال ، ثم اتجهت إلى داخل الكوخ ، وخاطبت نيال قائلة : تعالي وارتاحي في الداخل ، يبدو أنكِ متعبة جداً .
لم تتحرك نيال من مكانها ، وردت قائلة : سأبقى هنا ، الكوخ من الداخل كئيب جداً .
وقبل مغيب الشمس ، تناهى إلى نيال ، وقع أقدام تعرفه تقترب منها ، وسمعت صديقتها اورنا تخاطبها قائلة : طاب مساؤك ، يا نيال .
وردت نيال قائلة : أهلاً اورنا .
ومدت اورنا يدها ، وأمسكت بيد نيال ، وقالت لها : تعالي نتمشى قليلاً ، يا نيال ، لديّ ما أقوله لكِ .
ومشت اورنا ، ويدها في يد صديقتها نيال ، وقالت لها : التقى باتريك البارحة صدفة ، بأخي جوناثان ، وحدثه عما دار بينكِ وبينه .
وهزت نيال رأسها بمرارة ، ولم تتفوه بكلمة واحدة ، فمالت عليه اورنا ، وهمست لها قائلة : أخي جوناثان يريد أن يلتقي بك .
وتوقفت نيال ، وقد بدت عليها الدهشة ، لكنها ظلت صامتة ، فتابعت اورنا قائلة : سيكون غداً عند الضحى قرب البحيرة ، لديه شيء هام يريد أن يقوله لكِ .








" 6 "
ـــــــــــــــ
في الوقت المحدد ، من اليوم التالي ، قبيل منتصف النهار ، كانت نيال في مكانها المعهود من شاطىء البحيرة ، تنتظر جوناثان ، يا له من شاب طيب ، ترى ماذا يريد من لقائه بها ؟ من يدري .
وانتبهت إلى وقع أقدام خفيفة ، تهبط من الطريق ، منحدرة نحو الشاطىء ، إنه جوناثان ، هذه هي خطواته الخفيفة الرفيقة ، يبدو أنه وحده ، ربما هذا أفضل ، وأرهفت السمع ، تنتظر كلامه .
وجاها صوته من مكان قريب منها ، إنه جوناثان ، وها هو يقول لها بصوته الهادىء الطيب كطيبة صاحبه : طاب صباحكِ ، يا نيال .
وهمتْ أن تنهض ، وهي ترد قائلة : طاب صباحك ، أهلاً ومرحباً جوناثان .
ومدّ جوناثان يده ، ولمس كتفها برفق ، وقال : ابقي مرتاحة في مكانك ، إنني هنا إلى جانبكِ .
ورفعت نيال وجهها نحوه ، وقالت : يبدو أن لورنا لم تأتِ معك .
فردّ جوناثان قائلاً : الحقيقة ، يا نيال ، أردتُ أن ألقاك وحدي ، وأتحدث إليكِ .
واعتدلت نيال في جلستها ، وكأنها تتأهب للاستماع إليه ، وقالت بشيء من اللهفة : تفضل ، يا جوناثان ، إنني أصغي إليكَ .
وتناهت إليهما حركة زعانف في مكان قريب من البحيرة ، وأدارت نيال وجهها نحو مصدر الصوت ، وقالت : هذه هي السمكة ، ومعها السلحفاة ، إنهما صديقتاي المقربتين في هذه البحيرة .
ونظر جوناثان إلى السمكة ، التي اقتربت من الشاطى ، حيث تجلس نيال ، وقال : لا أرى سلحفاة في الماء ، إنها السمكة وحدها ، وهي تقترب منكِ .
وتمتمت نيال قائلة : لعل السلحفاة تأخرت لسبب ما ، لكنها ستأتي حتماً .
واقترب جوناثان منها ، وقال : نيال ..
وردت نيال : نعم .
وتابع جوناثان قائلاً : حدثني باتريك ، عندما التقيته صدفة البارحة ، عما قلته له ، عن لقائك بالسلحفاة ، والحديث الذي دار بينكِ وبينها .
وتنهدت نيال ، وقالت بصوت محبط : نعم ، قلتُ له ، إنّ جدتها ، السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، التي تعيش في قاع البحيرة ، قادرة أن تشفيني .
وصمتت نيال ، وانتظر جوناثان أن تكمل كلامها ، لكنها بقيت صامتة ، فقال : لقد حدثني أيضاً ، عما أرادته السلحفاة المعمرة الساحرة ..
وسكت جوناثان ، فقد كان يريد أن يسمع منها نفسها ، ما أرادته السلحفاة المعمرة ، وأطرقت نيال رأسها ، وقالت : السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، قالت إنها ستعطي العلاج لمن يذهب إليها في قاع البحيرة ، وستعلمه طريقة استخدامه ..
وصمتت نيال لحظة ، ثم استطردت قائلة : قلت هذا لباتريك ، لكن هناك بعض المخاطر ، فصمت متردداً ، ثم مضى إلى البيت .
وصمتت نيال ، وقد أطرقت رأسها ، وطال صمتها فمال جوناثان عليها ، وهتف بها : نيال ..
لم تتحرك نيال ، ولم تردّ ، فتابع جوناثان قائلاً : جئت لأقول لك ، إنني أنا سأذهب إلى قاع البحيرة ، وألتقي بالساحر المعمرة ، و .. وأنقذكِ .
ورفعت نيال رأسها ، وأدارت وجهها نحو جوناثان ، وقالت : لكن للساحرة المعمرة شرط ..
فقال جوناثان : أعرفه .
واتسعت عينا نيال الزرقاوان ، وتمتمت : أنتَ !
وقال جوناثان : ومستعد حتى للموت من أجلكِ .
ونهضت نيال من مكانها ، وقالت : كلا ، لا أوافق .
ووقف جوناثان مذهولاً ، فتابعت نيال بصوت تبلله الدموع : لا أستطيع أن أوافق ، يا جوناثان ، لا أستطيع ، إنني أخاف عليك .
واستدارت نيال ، وراحت تتلمس طريقها بعيداً عن الشاطىء ، فالتفت جوناثان إلى السمكة ، التي كانت قريبة من الشاطىء ، وقالت لها : أيتها السنمكة ..
وردت السمكة قائلة : نعم .
فقال جوناثان : اسمي جوناثان ..
وقالت السمكة : أعرف ، لقد سمعت نيال تتحدث عنك مرة .
فتابع جوناثان قائلاً : أخبري السلحفاة ، أنني أنتظرها هنا عند منتصف الليل ، لتقودني إلى جدتها السلحفاة المعمرة ، في قاع البحيرة .
وهزت السمكة رأسها ، وقالت وهي تستدير ، وتنطلق نحو الأعماق : سأذهب الآن ، وأخبرها بما قلته ، وسننتظرك معاً في منتصف الليل .







" 7 "
ـــــــــــــــــــ
عند حوالي منتصف الليل ، تسلل جوناثان من الكوخ ، وسار مسرعاً تحت النجوم نحو البحيرة ، التي تحرسها الأشجار المحيطة بها تقريباً ، ليل نهار .
ولاحت مياه البحيرة ، من بين الأشجار ، هادئة يبدو وكأنها مستغرقة في النوم ، والقمر يسبح فيها بهدوء ، لعله لا يريد أن يقلق نومها .
وعندما وصل المكان القريب من الشاطىء ، حيث اعتادت نيال الجلوس قربه ، اقترب من حافة المياه ، فجاءه صوت يناديه : جوناثان .
ودقق جوناثان النظر ، في مصدر الصوت ، ورأى السمكة على ضوء القمر الشاحب ، وقال : أهلاً بالسمكة ، أرجو أن تكون السلحفاة قد رافقتك .
فردت السمكة قائلة : ها هي السلحفاة إلى جانبي ، وقد جاءت لتراك ، وتقودك إلى الأعماق ، حيث تقيم جدتها السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة .
والتفتت إلى السلحفاة ، التي كانت تعوم على مقربة منها ، وقالت لها : تعالي ، يا عزيزتي ، هذا هو جوناثان صديق نيال ، الذي حدثتكِ عنه .
واقتربت السلحفاة من الشاطىء ، حيث يقف جوناثان ، ورفعت رأسها الصغير من الماء إليه ، وقالت : طاب يومك ، يا جوناثان .
ومال جوناثان عليها ، وقال : طاب يومك ، أشكرك لحضورك ، إنني جاهز .
ونظرت السلحفاة إليه ، وقالت بصوتها الرقيق ، الذي لا يكاد يُسمع : نيال فتاة رائعة ، لا تستحق أن تبقى في الظلام ، الذي تعيش فيه حتى الآن .
وبدا التأثر على جوناثان ، وقال : وهذا ما جئتُ محاولاً أن أخرجها منه إلى النور .
فقالت السلحفاة : لنبدأ إذن .
وقال جوناثان : لنبدأ .
ومدت السلحفاة يدها الصغيرة نحوه ، وقالت : تقدم مني ، وأعطني يدك ، وأغمض عينيك ، تعال .. تعال .. ولنبدأ رحلتنا إلى الأعماق .
وأغمض جوناثان عينيه ، وتقدم من السلحفاة في الماء ، وأمسك يدها الصغيرة ، فقالت السلحفاة : سآخذك الآن إلى أعماق البحيرة ، إن جدتي السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، تنتظرك ، وستقدم لك العلاج .
وبدأت السلحفاة الغوص نحو الأعماق ، وراحت السمكة تغوص في أثرها ، وضغطت بيدها على يد جوناثان ، وقالت : اترك أمركَ لي ، وكن مطمئناً .
ولاذ جوناثان بالصمت ، فراحت السلحفاة تتحدث إليه ، ربما لتخفف من القلق الذي كان يعانيه ، وقالت : سنصل بعد قليل إلى القاع ، حيث تقيم جدتي السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، وستراك هناك وتتبادل الحديث معك ، وستوضح لك كلّ شيء حول نيال ، وكيفية تقديم العون لها ، حتى يتم شفاءها ، وترى بعينيها الزرقاوين الجميلتين كما نرى جميعاً .
وأنصت جوناثان بإحساس مرهف ، إلى السلحفاة وهي تتحدث إليه ، وعيناه مغمضتان ، وفجأة شعر بالسلحفاة تتباطأ ، ثم تتوقف وتوقفه معها ، وسمعها تقول : جوناثان ، لقد وصلنا .
ثم تركت يده ، وقالت بصوتها الرقيق : افتح عينيك ، يا جوناثان ، أنت الآن في القاع أمام جدتي ، السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة .
وفتح جوناثان عينيه ، وإذا هو في قاع البحيرة ، يقف أمام سلحفاة معمرة ، وإلى جانبها كانت تقف السمكة وحفيدتها السلحفاة ، فحدق فيها ملياً ، ثم قال : يا للعجب ، إنني أتنفس كما لو كنت على اليابسة .
وضحكت السمكة ، وقالت : لا عجب ، يا جوناثان ، أنت أمام أعظم ساحرة في أعماق هذه البحيرة .
وحدقت السلحفاة المعمرة في جوناثان ، وقالت : أهلاً بك في عالمي ، يا بنيّ .
ونظر جوناثان إليها ، وقال : أشكرك ، ها أنا هنا ، وأنا مستعد لكل ما تريدينه .
ولاذت السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة بالصمت لحظة ، ثم خاطبت جوناثان قائلة بصوت شائخ : دوائي الذي سيجعل نيال ترى ، كما لو أنها لم تكن كفيفة من قبل ، يجب أن يحمله لها محب ..
وحدقت فيه لحظة صامتة ، ثم قالت : وأنت ، يا بني ، محب ، على ما يبدو لي .
ونظر جوناثان إليها ، وقال : إنّ كلّ ما أريده هو ، أن أرى عيني نيال الزرقاوين الجميلتين ، تريان العالم كما نراه نحن جميعاً .
ومدت السلحفاة المعمرة الساحرة العظيمة يدها ، بمكحلة إلى جوناثان ، وقالت له : كحل عيني نيال بهذه المكحلة بنفسك ، واتركها ليلة واحدة ، وفي الصباح ، عندما تفتح عينيها ، سترى العالم كما تراه أنت .
وأخذ جوناثان المكحلة ، وقال لها : أشكرك أيتها السلحفاة ، أنت تحققين أعظم أمل لي في الحياة .
وابتسمت السلحفاة المعمرة الساحرة له ، وقالت : اذهب ، سترى نيال على يديك .




" 8 "
ـــــــــــــــــــ
خرج جوناثان من الأعماق ، ترافقه السمكة ، بينما بقيت السلحفاة في قاع البحيرة برفقة جدتها ، السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة .
وحالما اقتربا من الشاطىء ، قالت السمكة لجوناثان : اخرج الآن من البحيرة ، واذهب إلى نيال ، وعالجها كما طلبت منك السلحفاة المعمرة ، الساحرة العظيمة ، وستراها صباح الغد كما تتمنى أن تراها .
وصعد جوناثان إلى الشاطىء ، ومعه المكحلة التي أعطتها له السلحفاة المعمرة الساحرة العظيمة ، والتفت إلى السمكة ، وقال لها : أشكركِ ، وأشكركم جميعاً ، هذا عمل خيّر لن ننساه العمر كله .
وابتسمت السمكة له ، وقالت : لا شكر على واجب ، إنّ نيال تستحق كلّ خير ، والآن أسرع إليها ، فالليل يوشك أن ينتهي ، عالجها فور وصولك إليها ، وغداً سترى نيال العالم ، كما تريده لها .
ولوح جوناثان للسمكة ، ومضى يصعد من الشاطىء إلى الطريق ، ثم انطلق مسرعاً نحو نيال ، وهو يحمل المكحلة والأمل في أن ترى نيال بأسرع وقت ممكن ، ما تتمنى أن تراه ، ويحقق لها السعادة .
ووصل جوناثان كوخ نيال ، والقمر يطل عليه بدراً ، من أعالي السماء ، بعد أن رافقه طول الطريق ، وكأنه يحثه أن يسرع ، ويوصل الكحل إلى عيني نيال .
وطرق الباب ، وأنصت ملياً ، وتناهى إليه وقع أقدام متذمرة ، هذه ليست نيال ، وفُتح الباب ، وأطلت الأم عابسة ، وما إن رأت جوناثان حتى ازداد عبوسها ، وقالت : جوناثان ! نحن في آخر الليل .
لم يلتفت جوناثان إليها ، وقال : أريد نيال ..
وقاطعته الأم بحدة قائلة : إنها نائمة ، اذهب الآن .
وقبل أن يردّ جوناثان بشيء ، أقبلت نيال تتلمس الطريق في عتمة الكوخ ، وأمسكت أمها ، وحاولت أن تبعدها عن الباب ، وهي تقول : لستُ نائمة ، يا أمي .
ثم التفتت إلى جوناثان ، وقالت له : جوناثان ؟ أهلاً بك ، إنني أسمعك ، تفضل .
واقترب جوناثان منها ، وقال لها : نيال ، لقد جئتُ تواً من أعماق البحيرة .
ومدت الأم يديها ، وحاولت أن تبعد نيال عن جوناثان ، وهي تقول : بنيتي ، لا تسمعي إلى هذا الهراء ، تعالي إلى الداخل ، وارتاحي في فراشك .
لكن نيال أمسكت بيد جوناثان ، وسحبته إلى داخل الكوخ ، وقالت له : جوناثان ، تعال إلى الداخل .
وأرادت أمها أن تحتج ، وقالت : نيال ..
وقاطعتها نيال قائلة : أمي ، دعينا وحدنا قليلاً .
وبشيء من الحدة ، قالت الأم : كلا يا نيال ، لا أريده أن يدخل كوخنا .
وبصورة لا إرادية ، دفعت نيال أمها خارج الكوخ ، وأغلقت الباب دونها ، وقالت لجوناثان : أخبرني ، أحقاً أنك كنت في الأعماق ؟ لكن هذا خطر ، وأنا قلت لك ، لا تذهب ، إنني أخاف ..
وربت جوناثان على يدها برفق ، وقال : نيال ، ذهبت ، وجئتك بالعلاج الشافي ..
وحدقت نيال فيه صامتة ، ببحيرتيها الزرقاوين الجميلتين ، فتابع جوناثان قائلاً : والتقيت بالسلحفاة المعمرة ، وأعطتني مكحلة ، وقالت لي كحلها بنفسك ، واجعلها تغمض عينيها ، ولا تفتحهما ، حتى تشرق الشمس في اليوم التالي .
وتمتمت نيال مبهورة : وأرى العالم !
وردّ جوناثان قائلاً : كما نراه جميعاً .
وتمتمت نيال ثانية : هذا حلم ..
ثمّ مدت يديها ، وأمسكت يدي جوناثان بلهفة ، وقالت له : جوناثان ، كحلني .. كحلني ..
وأمسك جوناثان بنيال ، ومددها في فراشها ، وفتح المكحلة ، وهو يقول : والآن سأكحلك ، يا نيال ، كما علمتني السلحفاة المعمرة .
واستسلم نيال لجوناثان ، وهو يكحل عينيها الزرقاوين الجميلتين الواحدة بعد الأخرى ، وحين انتهى من ذلك ، مال عليها ، وقال : والآن ، أغلقي عينيك ، ولا تفتحينهما ، حتى تشرق الشمس ، صباح اليوم التالي .
وأسدلت نيال جفنيها ، على البحيرتين الزرقاوين الجميلتين ، وجوناثان يراقبها وقلبه يخفق ، كأنما يدعو لها أن يأتي الصباح بسرعة ، وتشرق شمسه على عالم جديد ، عالم نيال المنير الملون .
ونهض جوناثان ، وهو مازال يتطلع إليها ، غداً صباحاً ، ستشرق الشمس ، وتفتح نيال عينيها ، وستراه ..أهو ما يمكن أن تريده ؟ آه إنها سترى ، وهذا هو المهم .
وخاطب جوناثان قمره نيال قائلاً : سأذهب الآن إلى البيت ، لابد أن اورنا تنتظرني على أحرّ من الجمر ، وستفرح جداً بما جرى .
وقالت نيال دون أن تفتح عينبها : سأراكما غداً ، عندما يأتي الصباح ، وتشرق الشمس .







" 9 "
ـــــــــــــــــــــ
أفاقت نيال من النوم ، صباح اليوم التالي ، ورفعت جفنيها المثقلين بالنعاس ، عن عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وتطلعت حولها كالعادة ، لكن ما واجهها ، لم يكن كعادة ما يواجهها كلّ صباح .
فالعتمة التي كانت تحيط بها ، منذ أن وعت ، لم تعد تخيم حولها ، بل حلّ محلها أشبه بنور ، لم تعهده من قبل ، فاعتدلت في فراشها ، وصاحت : أمي ..
وأقبلت عليها أمها ، وكانت منهمكة في إعداد طعام الفطور ، ونظرت إليها متوجسة ، وقالت : بنيتي نيال ، لا تخافي ، إنني هنا إلى جانبك .
ورفعت نيال عينيها إلى أمها ، أهي أمها حقاً ! إنها على ما تبدو لها ، امرأة في أواسط العمر ، مشوشة الشعر ، بشرتها شاحبة ، وعيناها مثل .. مثل ماذا ؟ وانحنت الأم عليها ، وقالت متوجسة خائفة : بنيتي .. نيال ..
وفتحت نيال فمها ، وتساءلت بنبرة متشككة : أمي .. أخبريني .. هل أشرقت الشمس ؟
وأدارت الأم رأسها نحو الكوة الصغيرة ، ونظرت إلى الستارة التي تغطيها ، وقد أضاءها نور الشمس ، وقالت : نعم ، يا بنيتي ، أشرقت الشمس في الخارج ، كما تشرق كلّ يوم .
ونظرت نيال إلى الكوة ، وقالت لأمها : أمي ، اذهبي ، وارفعي الستارة عن الكوة .
وردت الأم قائلة بصوت حزين : وحتى لو رفعت الستارة ، فالأمر عندك سيان ، يا بنيتي .
ونظرت نيال إلى أمها ، وقالت بنبرة غريبة ، لم تعهدها أمها في كلامها من قبل : لم يعد الأمر سيان ، على ما يبدو ، يا أمي ، ارفعي الستارة .
ومضت الأم إلى الكوة ، وقالت : كما تشائين ، سأرفع الستارة عن الكوة ، يا بنيتي .
ورفعت الأم الستارة عن الكوة الصغيرة ، وتدفقت أشعت الشمس منها ، حتى أن نيال ضيقت عينيها الزرقاوين الجميلتين ، من شدة الضوء ، وتطلعت الأم عبر الكوة ، وقالت : بنيتي ، لو كنت ترين ، لرأيت الشمس مشرقة في كبد السماء .
واقتربت نيال من الكوة ، ووقفت إلى جانب أمها ، ونظرت عبر الكوة ، وقد غمرت أشعة الشمس جبهتها ووجنتيها وعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقالت بصوت مفعم بالفرح : إنني أراها ، يا أمي ، أراها .
والتفتت إليها أمها مذهولة ، وقالت : ترينها ! أنتِ ترينها يا بنيتي ؟ ترين الشمس ؟
ونظرت نيال إلى أمها مبتسمة فرحة ، وقالت بصوت دامع : كما أراكِ الآن ، يا أمي .
ومدت الأم يديها الفرحتين ، وعانقت نيال بحرارة ، وهي تقول : هذه معجزة كبيرة ، لم يستطع الكاهن نفسه أن يحققها ، بنيتي ، الآن ولدتِ حقيقة .
وطُرق باب الكوخ ، وانسلت نيال من بين يدي أمها ، وقالت : الباب يُطرق ، يا أمي .
وهمت الأم أن تتجه إلى الباب ، وقالت : لا عليك ، سأفتح الباب ، وأرى من الطارق .
ومدت نيال يدها بسرعة ، وأمسكت بيد أمها ، وقالت : مهلاً ، يا أمي ، دعي الأمر لي ، أنا سأفتح الباب هذه المرة ، وسأفتحه كلَ مرة .
وابتسمت الأم فرحة ، وقالت بصوت متهدج : هذا حلم ، يا بنيتي ، وها هو يتحقق أمام عينيّ .
وفتحت نيال الباب ، وإذا شاب وسيم ، أنيق ، معتد بنفسه ، ينظر إليها مذهولاً ، ويتمتم : نيال !
وحدقت نيال فيه ، وقالت : أنت باتريك .
ومدّ باتريك يديه ، وأمسك بيديها ، وقال ضاحكاً : نعم ، باتريك ، ها أنت قد عرفتني .
وأبعدت نيال عينيها عنه ، وقالت : نعم ، عرفتك .
وسحب باتريك نيال إلى الخارج ، وقال لها : الجو ربيع اليوم ، تعالي نتحدث هنا .
ونظر إلى الأم ، وقال : عن إذنك .
فاستدارت الأم ، وتشاغلت بترتيب الفرش ، والفرح يغمر قلبها ، إنه باتريك ، ابن واحد من أغنى أغنياء القرية ، وقالت : لا عليك ، إنني مشغولة هنا .
وحدق باتريك في نيال ، ودقق النظر في عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقال : أنتِ ترين ، نيال ، لم أصدق جوناثان ، عندما جاءني صباح اليوم ، وقال لي ، أنك ترين ، ترين كلَّ شيء ..
وصمت باتريك لحظة ، ثم قال : انظري إليّ ، أنظري جيداً ، وقولي لي ، هل تريني ؟
ورمقته نيال بنظرة سريعة ، وقالت له بوجه جامد : نعم ، أراك ، أراك يا باتريك .
وحدق باترك فبها صامتاً ، يتأمل من جديد عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وخاطبها قائلاً : قمري ..
ونظرت نيال إليه ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فتابع باتريك قائلاً : سأخبر أمي وأبي ، بأنكِ ترين الآن ، لعلهما يغيران رأييهما ، ويوافقان على ..
واستدارت نيال دون أن تنتظر باترك ليكمل كلامه ، واتجهت إلى الكوخ ، وهي تقول : دعك من هذا ، لم يعد يهمني رأي والديك ، يا باتريك .
وتوقف باترك مذهولاً ، وهو يرى نيال ، تفتح باب الكوخ ، وتمضي إلى الداخل ، دون أن تلتفت إليه .

" 10 "
ــــــــــــــــــــ
جاءت لورنا قبل منتصف النهار ، وسمعتها نيال تناديها من خارج الكوخ ، بصوت ليس فيه شيء من الفرح المتوقع : نيال ..
ونهضت نيال مسرعة ، وخرجت من الكوخ ، ووقع نظرها على فتاة في عمرها ، تحدق فيها صامتة ، أهي لورنا ؟ لابدّ أنها هي ، فما سمعته كان صوتها الذي تعرفه ، وتوقفت أمامها ، وتساءلت : لورنا !
وردت الفتاة : نعم ، لورنا .
ومدت لورنا يداها ، مغالبة مشاعرها المتضاربة ، وعانقت نيال بحرارة ، وهي تقول : نيال ، حبيبتي ، لقد فرحتُ جداً بما أخبرني به جوناثان .
وتراجعت لورنا قليلاً ، وهي تبعد عينيها المغرورقتين بالدموع عن نيال ، فحاولت نيال أن تبتسم ، وقالت : كنت أتوقع أن تأتيني ، يا لورنا ، حتى قبل شروق الشمس ، وتهنئينني .
ورمقتها لورنا بنظرة سريعة ، وبقايا الدموع مازالت تلمع في عينيها المحمرتين ، وقالت : أردتُ أن أتأكد ، يا نيال ، أردتُ أن أتأكد ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : وتأكدت بعد شروق الشمس ، حين جاء باتريك ، وقال لجوناثان بأنه التقى بك ، وحدثه عما دار بينكما من كلام .
وحدقت نيال فيها ، وقالت : لابد أنك والحالة هذه ، عرفت ما دار بيني وبين باتريك .
فهزت لورنا رأسها ، وقالت : لا لم أعرف ، لعل باتريك حدث جوناثان بذلك ، ولم أكن موجودة بينهما ، لكني رأيت باتريك ، ولم يكن فرحاً .
وتنهدت نيال ، وقالت : لن أحدثك الآن عما دار بيننا ، يا لورنا ، ستعرفين ذلك فيما بعد ، لكن أرجوكِ قولي لجوناثان ، إنني أريد أن أراه .
فنظرت لورنا إليها ، وقالت : هو أيضاً يريد أن يراكِ ، يا نيال ، وفي أسرع وقت ممكن .
ومدت نيال يدها ، وأمسكت بيد لورنا ، وقالت : أخبريه إذن إنني أنتظره ، في مكاني المعهود عند البحيرة ، بعد منتصف هذا النهار ، وليتك تخبريه به الآن .
وهزت لورنا رأسها ، ثم استدارت ومضت مسرعة ، وهي تقول : سأذهب الآن ، وأخبره .
وحوالي منتصف النهار ، خرج جوناثان من البيت ، ولحقت به لورنا ، وقالت له : جوناثان ، أنت لم تحدثني ، عما دار بينك وبين باتريك ، ونيال أيضاً لم تحدثني بشيء ، لكني مع ذلك متفائلة ، اذهب إليها ، اذهب بسرعة ، أتمنى لكما كلّ الخير .
وواصل جوناثان سيره ، وهو يقول : أشكرك ، يا لورنا ، الخير عندي ما تختاره نيال .
وتوقفت لورنا ، تتابع بعينيها المحبتين أخاها جوناثان ، وهو يمضي مسرعاً إلى البحيرة ، وقالت في نفسها : اطمئن ، يا جوناثان ، لقد اختارت نيال .
وحثّ جوناثان خطاه ، وكلّ تفكيره وأحاسيسه مشغولة بنيال ، صحيح إنها لم توافق على باتريك ، حين التقى بها صباح اليوم ، على ما يبدو ، رغم أنها كانت متعلقة به ، فهو شاب وسيم .. غنيّ .. محبوب .. وهذا ما لا ترفضه أية فتاة .. مهما كانت جميلة ، ترى ماذا سيكون موقفها منه ؟ هذا ما سيعرفه في الحال .
ولاحت مياه البحيرة ، من بين الأشجار ، تلمع تحت أشعة شمس الظهيرة ، وأسرع جوناثان ، ولمح نيال جالسة في مكانها المعتاد قرب البحيرة ، وانحدر نحو الشاطىء الرملي ، واقترب من نيال ، وتوقف على مقربة منها ، وخاطبها بما يشبه الهمس قائلاً : نيال ..
وهبت نيال من مكانها ، والتفتت إليه متلهفة ، وقالت بصوت متهدج : جوناثان !
ثم راحت تحدق في ، وهو ينظر إليها صامتاً ، ثم أضافت قائلة : أهلاً .. جوناثان .
وردّ جوناثان : أهلاً بك .
ثم اقترب منها ، وقال : أردتِ أن تريني .
ونظرت نيال إليه ، وقالت بصوت متهدج : أنتَ أول شخص ، أردتُ أن أراه اليوم ، يا جوناثان ، بعد أن أشرقت الشمس ، وفتحتُ عينيّ .
ونظر جوناثان إليها ، وقال : لكنكِ رأيت باتريك .
وغشت عينيها الزرقاوين الجميلتين سحابتان من المرارة ، وقالت : باتريك إنسان مرّ بحياتي ، وأنت الإنسان الذي أريده لحياتي ، يبقى فيها مدى العمر .
والتمعت أفراح دافئة في عينيه ، سرعان ما التمعت نجوماً متغامزة بالضياء والفرح ، في بحيرتيها الزرقاوين الجميلتين ، فمد جوناثان يديه ، وتركهما تعانقان يديها ، وهو يقول : نيال ، لنمضِ إلى لورنا ، إنها تنتظرنا الآن على أحرّ من الجمر .


14 / 4 / 2021



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
- رواية للفتيان سراب
- رواية للفتيان جزيرة الحور
- رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
- رواية للفتيان عزف على قيثارة ...
- رواية للفتيان عين التنين
- رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
- مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
- مسرحية من فصل واحد الثلوج
- مسرحية من فصل واحد السعفة
- مسرحية من فصل واحد ...
- مسرحية من فصل واحد البروفة
- مسرحية مونودراما الرعب والمطر
- مسرحية من فصل واحد الصحراء
- مسرحية من فصل واحد الشجرة
- الانتظار مسرحية من ثلاثة فصول
- مسرحية عقارب الساعة
- قصص للأطفال إلى الكلمة الشهيدة شيرين التي أطفأها الصهاينة ال ...
- مسرحية من ثلاثة فصول إنسان دلمون
- مسرحية الجدار


المزيد.....




- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...
- عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة ...
- مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
- محاربون وعلماء وسلاطين في معرض المماليك بمتحف اللوفر
- إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.
- شاركت في -باب الحارة- و-هولاكو-.. الموت يغيب فنانة سورية شهي ...
- هل تنجو الجامعات الأميركية من تجميد التمويل الحكومي الضخم؟
- كوكب الشرق والمغرب.. حكاية عشق لا تنتهي
- مهرجان الفيلم العربي في برلين: ماض استعماري يشغل بال صناع ال ...
- شاركت في -باب الحارة- و-ليالي روكسي-.. وفاة الفنانة السورية ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن