أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ياسين النصير - ارخبيل الحدائق تجربة شعرية جديدة















المزيد.....

ارخبيل الحدائق تجربة شعرية جديدة


ياسين النصير

الحوار المتمدن-العدد: 1691 - 2006 / 10 / 2 - 09:40
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


1
قليلة هي القصائد التي تغاير مسيرة الشعرالعامة،وقليل جدا أن تجد فيها ما يجعلها تجربة متفردة.قصائد كريم ناصر في هذا الديوان جمع مفترق، فيها من شعره القديم ما يبقيه لصيق الذهنية، وفيها من الجديد ما يؤشر إلى مسار شعري جديد. وهو ما بين الحالين تطور باتجاه البحث عن صفاء الشعر.لذا استطيع أن اتحدث عن تجربة واضحة الملامح، تجربة تعيد الشعر لمرابعة الحقيقية بعيدا عن الإيديولوجيا والعاطفة والتفاعل المباشر مع اللحظات الشعرية، تجربة ارجو ان ينتبه إليها القراء، ففيها ما يجعل شعرنا بخير. فبعد ديوانين مرا على تمارين شعرية غاية في السعة، اجده في هذا الديوان يبتدئ بتجربة الواقعية الفنية التي تبنى اسسها على تشكيل صور شعرية من تجاورالاشياء بطريقة مغايرة لتشكلها واقعيا.فيقربنا من شعر الهايكو الياباني، ذلك الشعر الذي يعتمد على رصد الحياة فلا شيء خلفه أو امامه إلا الصورة التي يتشكل فيها الآن.ثمة ظاهراتية واضحة أيضاً وهي أن كل الأشياء حاضرة في الآنية، وليس لها امتدادات أو ارتباطات أو متعلقات. لعلنا ندرك أن شعرا ينهل من موضوع الواقع دون ان يحسب على اي ايديولوجيا أو عاطفة هو ما يكون أكثر قبولا في الزمن القادم بعد أن أشبعت الأيديولوجيا الشعر بمتعلقات متخلفة لا يستطيع حملها تاريخيا خلال الحروب وغيرها...كل القصائد المتعلقة بموضوع آخر غير موضوع الشعر نفسه نجدها تخبو عندما يسلط ضوء الواقع عليها، في حين أن قصائد الصورة النقية للأشياء وهي تتشكل في حركة كونية مكانية تبقى متألقة وتتجاوز الايديولوجيا أو الموضوع النفسي. أنها تصوغ رؤية أكثر دقة للواقع ولمتعلقاته الأخرى بما فيها المتعلق الاجتماعي والثقافي والفني. فقد اكمل في ديوانيه السابقين تعامله الذهني مع الاشياء والحالات والشخوص والامكنة،وكانت سياحة مبهجة في اللغة، بالرغم من بقاء الكثير من تلك التجربة عالقا في هذا الديوان.
وقبل الدخول في تفاصيل تجربته الجديدة نعرج على بعض مفردات التجربة الجديدة. فالشاعريجزئ قصائده إلى مقطعات صغيرة تحمل كل واحدة منها عنوانا فرعيا، ثم يضعها تحت عنوانات شاملة.ناقلا القصيدة من الجمل الشعرية إلى المقاطع الشعرية، ومن المقاطع الشعرية إلى القصيدة المتعددة العنوان، وفي بنية المقطع ثمة نثار للأشياء هي حواش اللحظة المقتنصة. المقطعية سمة بنائية في هذا الديوان،فتجد القصيدة بخمس او ست مقاطع صغيرة، لكل واحدة منها عنوانها الفرعي الخاص بها وهو غالبا ما يكون كلمة أو صورة في المقطع ، وبجمع معنى المقطعات تكون المحصلة المعنى لعنوانه الكبير. هذه الطريقة تربط بين حال الشاعرالمتغيرة بفعل ما يصادفه او يفكر به، وبين تعامله من بنية أرخبيل الحدائق حيث احتواء الحدائق على مختلف الأزهار والنبات، لكنها من وجهة نظري تشتت الرؤية وتجعل الشعرية غير مستقرة، كنت أفضل أن لا يدخلنا في تفاصيل العنوان الكبير المتفرع لعنوانات صغيرة، ويكتفي باحدهما. ترى أين يستقر بنا الحديث، فتقاسيم ايقاعات اللحظة المكانية مؤلفة من ثيمات تمر في حياة الشاعر وكأنها تجارب لم تكتمل بعد. الشاعرالذي ينصب شباكه لاصطياد هذه اللحظات غارق في حالات الافول الكبيرة المتعددة، ولذا تراه يكثر من التفاصيل كي لا تفوته المشاهد، فالحياة خسارات متجمعه. يحاول الشاعر أن يعيد إليها حياتها، والشعر عنده هو لملمة لأجزائها وكأي شاعر مغترب يضع في سلته كل ثماره ليعرضها، وهذه محنة أن ترى الديوان ممتلئا بثمار تجربة واسعة. لذا ساكون دقيقا في تعاملي مع هذا الديوان، لاحتوائع على اربعة مواضيع رئيسة:
1- اعتماد بنية الحكاية في القصيدة.
2- التعمل مع الأمنكة/ الأزمنة الآفلة.
3- سيطرة وهيمنة الأنا/ المستمع.
4- التشكيل الفني للواقعة.
في اعتماد بنية الحكاية ثمة عودة للأصول الشعرية، تلك التي توفر ارضية لسياق حكاية جديدة وهي تنبثق من حكاية قديمة.الحكاية هنا ليست جديدة كليا، بل هي بلاغة القصيدة المبنية على نحو الجمل الشعرية، فالنحو يقود البلاغة. ثمة سياق لغوي دقيق يقود السرد الشعري إلى بنية مركبة، وهذا السياق هو من مولدات اللحظة الزمنية التي يرى الشاعر فيها الاشياء وهي تتشكل بطريقة بصرية/ فنية، فيقف على مبعدة من اصولها، لا يبتدع حكاية جديدة ولا لينهيها، بل ليسير ضمن سياقها محدثا له مسارا فيها. ولذا فهو مطالب مرارا لان يجدد زاوية الرؤية، وإلا لا شيء يعيد تكوين الصورة القديمة غيرأن يضيف إليها تفاصيل جديدة ومن لحمتها. ثمة حكاية تتكرر كلما مرعليها الزمن، لكنها لن تتجدد إلا بأن يدمجها بحكاية الوطن وابنائه المهاجرين، وحكاية الأمكنة التي تشكلها الأشياء في زمن الحروب،وبعفوية المطر والطيريشكل صوره المعاصرة عنها، فتراه وهو يفعل ذلك يستعير له شهريارا معاصرا ليكمل معه الحكاية. حكاية الحرب والأزمنة المغتربة، وبقايا ذكرى الوطن، والأفول هذه الطريقة تكتسب نوعا من بنية الترابط بين الأزمنة،فنجد طريقته أما سرد لأحداث مضت ولم تكتمل بعد فبقيت ناقصة تستجدي من يكملها، وهي طريقة لجأ إليها الكثيرون عندما نشّطوا ذاكراتهم عما حدث لهم في الوطن وفي الغربة فكانت الأنا مفردة مهيمنة. وإما ان يبتدع الشاعر مسرحا وشخصيات لتتحاور فيستدعي أحدهما الأخر ويؤلفا نص القصيدة الجديدة أوليكملا ما اهمل من الأدوار. وفي هذه المساحة القلقة بدأت تجربة كريم ناصر ترسو على الأرض حيث تعايش مع ما مرعلى الجميع، فرادتها أنها تستعير صوتا خاصا هو الشاعر/ المستمع، لتبدأ اللغة رحلة الرسوعلى ارض اكثر قلقا ارض الغربة مشبعة بارض الوطن، وبرؤية رمزية تستدعي لسانا أخرا. وثمة ملاحظة أن كل مقطع شعري ينتهي بصورة تجثو في بركة الحكمة.
نحن بانتظارك كما تلاحظ
لأن قمر السعادة مرَّ..
جميع الذين رأوه من النوافذ ذعروا،
ظنوا أن طائرا إنقض على الفرائس.
.....
..... ص 11
ووسط الحوارية الشعرية يطلب من أناه /المستمعه أن يكف، فالندب يتحول إلى سكين وحجارة، ووسط الغبش الليلي يتصورمشهدا تسقط فيه القنابل على البيوت والساحات والاطفال، فيتكسر زجاج النوافذ وتموت الاشجار وتهرب العظايا والجرذان انه قيامة الاحياء المذعورة.
تعال أنظر
كلما زاد صراخ الاطفال، انكسر زجاج نوافذنا
وغرزت الصواعق صنانيرها في ظهر الشجرة.
ياشمس الشموس متى نلحق بالفرسان؟
اللعنة إن الفردوس ليس لنا. ص 11.
وبغض النظر عن النتائج فالحكاية تكتسب مدى جديدا يمكنها أن تستمرفما زالت الحدائق تولد امتدادا لارخبيل الموت والدمار واليأس.
لولاي لوقعتَ في الفخ المليء بالزحّافات،
إسمعْ أيها الصديق أسمع:
كلما نهشت الحية قدم الهدهد
تغلغل اليأس في نفوسنا،
ونضب الماء في الحدائق بلا توجع. ص 17
هذا هومفتتح الديوان واستهلاله ترى كيف ستكون القصائد التي توحي القراءة لها أنها منتظمة في سلسلة الفواجع كالمسبحة واحدة تقود لأخرى.
2
يعكس هذا الديوان دربة غير منقطعة عن البحث في يوميات منفلتة من زمنها، يكون الشاعر محورها الفاعل يوميات طافية ومتوحدة، تجتمع فيها الاحياء ولاموات في احتفالية شعرية استثنائية الكل فيها منتظرون ولا يرى حركة الانتظار إلا الشاعر وقد ملأت سماء المكان،ابتداء من قصيدة " شمس الشموس" وصولا إلى رشق الصقور بالحجارة، يعيد علينا تركيب مشاهدنا المهشمة في مرآة حكايتنا الهاربة من وجوهنا. لحظة ثم ينفجر المشهد،فتتشظى الذكريات، أما نحن فنركض دون أن نعثر على ماء الحدائق، نركض دون أن نعرف المكان،و نركض دون أن نجدد لغة للحوار توقف نزيف الدم. القصائد تتابع رحلة الركض هذه لكنها لم تلتقط غبار اقدامنا بعد، بل نبقى في الركض بينما الطريق يعّلم .
في القصيدة الثانية يبتدئ لما انتهت إليه الأولى: الحجارة المقذوفة باتجاه الصقر تتحول هنا إلى جسر للعبور،مصحوبة بالشاعر / المستمع، هنا يسيران بطريقة المشي وجها لوجه،ما تزال الحرب قائمة والقصف مستمرا والناس في ذعر القيامة، انظر كل شيء يحال إلى رماد، الا تنظر فكل ما رويناه لم يعد متماسكا، ثمة انحدار مدمر يمر علينا. فهل نتماسك ؟ ثمة قلق نعيش فيه، فلنخرج ألسنتنا كي نشتم العالم. العالم فيما حول الشاعر/ المستمع ليس عالما حلميا ولكن من شدة كثافته يتحول إلى ركام من الكلمات والصور القديمة
هلم لئلا تُنصب المصائد حيثما يريدون.
فالحمائم نسيت فراخها على ابراج مفلوقة.
هنا أكل الكلب الفراخَ،لكنه لم يفطن للفاجعة،
....
الحكاية ذهبت أدراج الرياح. ص 15

في " القمر البري" يبتدئ لما انتهى إليه في قصيدة محنة الحمام، هذه السلسلة من المسار يربطها خيط أنا الشاعر فيعيد علينا اشرطة زمنية " منذ أعوام" متحركة الصور، وعلينا ان ندرك أننا في زمن مخرجين يحركون خيوط اللعبة في اشرطة لا نعرف كيف بدأت ولا إلى أين انتهت، إنها لعبة الزمن الدوار، الزمن الحركة.
اقفرت منذ اعوام الفيافي
منذ اعوام تداعبُ الريحُ الوردة،
مهتاجة كخفق الشراع. ص19
شعرية المحاورة الضمنية بين الشاعر / المستمع، تدورعليهما عربات الصور المستعادة من امكنة قريبة، وأزمنة بعيدة، ومن ذاكرة، ومن قراءة، ومن لغة، ومن مفردات قاموسية غير مستعملة، فنجده يغور في البحث عن مفردة تملك الغواية للوصول إلى..... لكنه أحيانا يخسر الرهان لعدم تخلصه من الذهنية بعد. هل ثمة قلق أسلوبي نستشعره في تجربة الشاعر؟ شيء من هذا موجود، فالشاعرما يزال يتعامل مع الأشياء المفقودة، الآفلة والمنزوية والبعيدة، وكأنها خلاصة لعالمه في الغربة،في حين أنها لا تشكل إلا قشرة اللحظات، وليس كل اللحظات. ثمة اشياء وحالات تهرب من بين أصابعه فيستجدي حضورها وينثر لها البخور، لكنها في النهاية تهرب منه.

ما لهذه الخطوات لا تصل الى اللالئ؟
لِمَ لمْ نرَ إلإ الأزقّة التي تتوارى،
وفي الكُوّةِ الا الثعابين – التي تُحدِّق الى المرتفعات؟ 44
ثمة نشيد داخلي يلازم خطواته، نشيد هيمنة القوى العمياء المتسلطة التي اكتسحت اخضر النفوس، ثمة جفاف في الروح سببها البرابرة القادمون
اه متى تنهزم كتائب البرابرة
لاعتق نهرا قاحلا أشلاؤه كزبد التضاريس
وحدي أترأف بالكائنات
وحدي ملازم حدائق الكرم
كخيزرانة عظيمة (انجزت مهمتها)
ماذا تريد ؟ ص 45
3

من الواضح أن تجربة غير اعتيادية تنمو في غابة الذاكرة لكريم ناصر، وعندي أن الشعر وهو يتعامل مع يومية الواقع عليه أن يدرك ان مايظهر من هذه اليومية ليس إلا قشرتها العادية وعلى الشاعر أن يغور في ابعادها غيرالمرئية فيستحضر أدوات كشف من لغة ورموز ومجسات لاكتشاف تلك البقع الخفية المختزنة. الشاعركريم ناصر يفعل في ديوانه هذا ما يمكنه من أن يكون استثنائيا. والملاحظة أن لدى الشاعرسجلا خارجيا إلى جوار الذاكرة عن حالات راقبها ودرسها،حالات تشكيل المعنى للأمكنة وساكنيها وهي معلومات تبدو خارجية يأتي الشاعر ليصوغها لنا بقصيدة،هل يقترب كريم ناصر من الشعر الهايكو الياباني؟ وهو نوع تقليدي كما يقول المخرج السينمائي الروسي اندرية تاركوسكي؟. لمن يقرأ الديون جيدالا يجد فيه أية رومانسية أو عاطفة أو نوستاليجيا بل الشعرينبثق من حركة الوقائع،ليصيِّر تشكيلا جديدا من تلك الجزئيات الواقعية.
على صخرة تتهافت النوارس
لترصع أعشاشها بالديدان.
كل شرفة في الوحل يعتورها الماء
وكأن البحر في حال استنفار،
حتى الطحلب تأسره الموجات
أما الطيور فستراقب الفقمات عند هذه الزاوية المبهمة. ص 49
كل شيء في هذا المقطع واقعي ويجاور بعضه بضعا ليس من رابط زمني إلا اللحظة التي يرى فيها النوارس والاعشاش والشرفة والطحلب والموج والطيور والفقمات ، جملة من الاشياء الكائنات تتجمع في بؤرة شعرية واحدة لا يجمعها إلا زمن اللحظة والقصيدة هي هذا التكوين الشعري الذي يراه الشاعر لتكوين واقعي شديد الألفة واليومية.
أن من يقرأ هذا المقطع وغيره من عشرات المقاطع يجد أن الشاعر يعيد تركيب المشهد باشياء هي غيرها التي شكلته في بداية الأمر،فبإدخاله الفعل في سياق الأسماء يحول الرؤية من الطبيعية إلى الشعرية، بمعنى أنه لا يختزل ولا يصور مشهدا، بل يؤلف سياقا أخرا للمكان وهو يجمع كل هذه الأشياء إن ما يمكن ان يكون تقليديا مغاير لسياق الواقع.
نعود ثانية للمقطع ونقرأه مرة أخرى سنجد أنفسنا نتراصف من ترتيبه
من الأعلى تتهافت النوارس، وعلى الصخرة تبني عشها متراصفا بالديديان وعلى الجانب شرفات البحر الصغيرة المغطاة بالموج حتى الطحلب المتموج فوق الماء تسكنه أغنية الامواج ومن الاعلى ثانية ثمة طيور تراقب ما سوف تأكله او تخشاه.
هذه بنية سينمائية بامتياز.
خذ هذا المقطع:
هكذا أنا كأنما أحاور كائنات الغابة،
امضي لأجل أن أنصب الأبراج بغية احتلال الثكنة..
عندها سأستدعي غزلاني،
لئلا تلتحم ببطءٍ بالقطيع. ص 73
ما يحدث أن الشاعر يؤلف سياقا سينمائيا للصورة أن رصده رصد دقيق للواقعية الفنية وليس لواقعية الأشياء وهو تصور يستقر في قمة الإبداع الذي يحيلنا دائما إلى جوهر الشعر. فالشعر صورة تعيد للواقع اشياءه ولكن مؤلفة بطريقة أن تقرأ وتعاش.
هل لهذا المقطع وعشرات غيره زمنا يمكن تلمسه وتحديد تواريخه؟اشك أن الشاعر تعامل مع زمن المشهد، هنا لا زمن معين بل ان الشعر عند كريم في مثل هذه القصائد بلا زمن، تلك المناطق الآفلة التي تحدثنا عنها تحولت إلى اشياء مكانية أما زمنها فهو العتق، هو التركيبة من المشاعر، هو التكوين المدون على سطح الاشياء ثمة قراءة يقرأها الناس الكبار في الاشياء القديمة وهي انهم يجدون أنفسهم في الاشياء العتيقة اكثر مما يجدون أنفسهم في الاشياء الحديثة. في هذه المقاطع الغارقة بالشعر يختفي الزمن
4

كنت أقرا القصائد صباحا وأمام نافذة مطلقة الضوء تأتي منها رياح المدن الغربية، لاجد نفسي وبيدي الديوان الشعري لكريم ناصر أن لا زمنية معينة للقصائد،زمنها هو قراءتها، وما عدا ذلك فالقراءة المقصودة تفتقد الشعرية. كل الأشاء يعاد تشكيها كلما نظرت إليها، هذه هي قصيدة كريم ناصر الجديدة حينما يجعلك مشاركا باعادة تشكيل الصورة ثانية،وهذه الطريقة تولد قراءات عدة لحال واحدة. ترى كيف يكون الشعر إذا ما قرأنا قصائد الزمن العراقي المدمر، وقصائد العواطف والمواقف قراءة قصدية؟ عندئذ سنكون كمن يفتح بابا ويغلقه على نفسه. سيكون من باب التذكير ان الشعر هنا لا يرتبط بقضية غير قضية الإنسان في لحظة اندهاشه بحركية الاشياء، تلك الحال التي تنفرش على كل الاحتمالات فلاتصطادها الايديولوجيا والعواطف والرؤية المسبقة، في حين أن ما ينز من شعرية في الأشياء تحتاج إلى عين مدربة وإلى لغة تقرأ الأحالات الداخلية لها.

تمثال " لا " يمضي فارع الطول إلى المُتحف،
شجرةٌ ملساء تجذب وعلاً.
حدّقْ..
مُصارع الثيران يرقشُ رداءَ أحلامه
فيما الفتيات يتنزّهن في المدينة،
من المضحكِ أن تكون الطُيور وحدَها قد نسيَتِ الطيَران. ص 82
لن تسمي هذه القصدية المقطع إلا أنها الشعر، وما تمثال "لا" إلا الرفض لكل الصياغات التي تحيلك على شيء ما مسبق.صور متجاورة تصنعها الحياة تمثال يسير إلى متحفه، وشجرة ملساء، ودعوة للتحديق بالفضاء، وعلى جوار المشهد مصارع الثيران وردائه الاحمر، وعلى مبعدة ثمة فتيات يتنزهن في المدينة.
وخلاصة تركيب المشاهد استنتاج غاية في الجمال هو السخرية من واقعة أن لا تسمى الطيور طيورا.
لم تكن الامثلة قاصرة على التدليل بان الشاعر كريم ناصر يخطو باتجاه الشعر الصافي، الشعر الذي يحوي على كل القضايا دون أن يكون مباشرا لخطابها، وهوما نطمح إليه في تجربة المعايشة لثقافة اخرى لا تجد صداها إلا في التغرب عنها او الابتعاد المدروس، وإلا غرقت في احتملاتها التي تبدو للشاعر غير المجرب أنه لا يقلدها بقدر ما يتأثر بها. في حين ان الشعرية العربية تبدو في أحايين كثيرة اغنى من شعر الآخرين، لما تمتلكه من حشد هائل من المقاربات بين مواضيع تبدو هنا في الغرب مفترقة وغير متجاورة.
ذلك الطائر الذي غطس في المستنقع،
كم زعق جنب الشباك
لمْ ألحظ سرب الحمام الذي مرَّ معاتباً،
ما إن نهضت لأرويَ القصةَّ بوضوح،
إمتعضت زوجتي من سيل المطرِ
الذي لم يفارقِ المصطبة،
ذلك الطائر الذي غطس في المستنقع ارتعدَ مراراً. ص 73
تستطيع أن تحمل هذا القصيدة المقطعية كل الابعاد السياسية والوطنية عندما تشحن الطائر برمزية ما أو المطر أو الشباك،أو الزوجة أو المستنقع. فالنقد يحوّل أحيانا مفردات في سياقات شعرية إلى تأويلات وقد يكون موفقا لكنه يخضع لمسبقات نقدية .في حين أن القصيدة وهي تحكي عن اشياء الواقع العادية والمألوفة تصنع من التجاور المستقل للأشياء صورة جديدة هي غيرها صورة الواقع. ففي كل لحظة تشكل الاشياء صورا ولكن من يراها وحده الذي يجعل من تشكلها قصيدة، نحن في لحظة توافق بصري/ شعري مع الأشياء وهي تؤلف سياقا جديدا، هذه الحظة لا تفرزها لنا إلا تلك الحالات التي يصطف الزمن فيها مع المكان لحظات تؤلف سياقا شعريا هو غيره السياق الواقعي لها.
المرأة الفِضّية ُ تقرعُ الذاكرة
فتنطُّ كموجات نهرٍ هائج،
تلك الحسناء يوم رأيناها
قلنا هذه هي الشمس التي في فضاء ِ المدرسة. ص 62
هل في القصيدة رومانسية مسبقة؟ لا بل أن رومانسيتها تظهر في لحظة تشكل الصورة،العاطفة هنا لا تسبق، بل تتأخر، وهو ما يتلاءم وسياق الشعرية الجديدة. أي انك لا تصبح قارئا/ شاعرا إلا بعد أن تقول لك تشكلات الاشياء صورة مغايرة لما تعرفه عنها.
ولك أن تأتي بعشرات النماذج التي تؤكد ما ذهبنا غليه من أن ثمة تطور في شعرية الشاعر كريم ناصر قادته إليها الدربة في رؤية الأشياء وهي في حركتها.



#ياسين_النصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحية نساء لوركا خطاب مرتبك
- تحالف الإسلام السياسي والشيطان
- مناقشة هادئة لوثائق المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
- تراجيديا رجل الدين العراقي
- الاسلام السياسي وصورة الحداثة في العراق
- الاسلام السياسي وعنف المواكب
- الإسلام السياسي وعنف المقال
- فشل أحزاب الإسلام السياسي في العراق؟
- المقال الثاني : العنف وتخطيط المدن
- العنف وتحطيط المدن
- الطائفية مصطلح بغيض
- مرايا المقهى
- الثقافة والمرحلة العراقية
- الصين وافق الحداثة في العراق
- سوق هرج
- الرؤى السردية
- كتاب شعرية الماء
- حوار مع الدكتور كاظم الحبيب
- عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
- مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ياسين النصير - ارخبيل الحدائق تجربة شعرية جديدة