أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله سعيد - مُماحكات فكرية في الأدب الشعبي ( الدارمي ) 1















المزيد.....


مُماحكات فكرية في الأدب الشعبي ( الدارمي ) 1


خيرالله سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 7392 - 2022 / 10 / 5 - 10:54
المحور: الادب والفن
    


مُـمـاحـكات فـكرية في الأدب الشعبي ( الـدارمي )
* * *
3 مقالات نقــــدية في كتاب د. هاشم العقابي " غـزل العـراقـيات ".

1- 3
* لم أكـن أنـوي الكتابة في موضوع الـدارمي، لـولا صدور كــتاب د. هاشم العقابي " غـزل العراقيات - دراسة في أصل الـدارمي " حيث أنـه دراسة تستحق الكتابة عـنهـا، ومناقشة الطروحـات النظرية والفكرية التي طرحـهـا العقابي في كتابه أعـلاه، ونظراً لـوجود بعض الآراء الخاصة بالدكتور هاشم العقابي، فيمـا يخص " ثـلاث إشكـاليات رئيسية " طرحـهـا في كتابه المذكور ، وأهـمهــا :
1- وزن الـدارمي - والذي يعتقد العقابي ، أن ليس هـناك " وزنـاً عروضيـاً للـدارمي " يتـّفـق وأوزان الخليل بن أحمـد الفراهـيدي .
2- إشكالية ، كـون الدارمي : من التـراث السومري ، وفق مايراه العقابي .
3- ردود أخرى ، فيما يخص بعض كتب التراث، التي يدحضهـا العقابي، أو يحاول القفز فوقهـا، وأمور أخرى متشعبة ،
* وقـد إرتـأيت أن أتـطرّق إلى الموضوع " الدارمي " من خـلال - المدخل التـاريخي ، الذي دُوِّنت فيه الآداب والفنون الشعبية، مُـستعرضـاً إيّــاهـا ، بـدءاً من العصر العباسي، بوصفـه " حيث ظهـر فيه لأول مرة الأدب الشعبي، شعراً كان أو نـثراً ، ولكنـه لا يشير إلى " وجـود الـدارمي " في تلك الفترة ، وصولاً إلى بـدايات القرن التـاسع عشر ، والذي ظهـر فيه " الـدارمي " مكتـمل البناء، وواضح القسمات الفـنيّـة ، والتي ميّـزتـه عـن باقي فنون الأدب الشعبي في العراق .

1- مـدخل تــاريخي :


آ* مـدخـل تــــاريـخـي : يُـشكِّـل الأدب الشـعبي، مفهـومـاً واسعـاً وعريضاً في الدراسات الأنثروبولوجية والفولوكلورية، حيث أنه يشتمل على " أدب العـامـة التقليدي- الشفاهي" وأغـلبـهُ مجهـول المؤلّـف، وينتقـل من جيلٍ إلى جيل بالـوراثــة .
ومفهـوم الأدب الشعبي، تشير دلالاته التعبيرية على مجموعة من الأشكال التقليدية مثل " الأساطير والحكايات الخرافية، والقَـصص ، والأمثال، والأغـاني ، والسِـيَـرْ" ويشكل " الشعـر الشعـبي أو العـامّي " أحـد الأركان الأساسية في هـذا الأدب الشعبي، وسواءٌ كانت هذه الأنـواع التقليدية، شفـوية أم أُعيدت كتابتهـا، وانتقلت فيما بعـد من جيلٍ إلى جـيل، غير أن حصر الأدب الشعبي في العِـراقةِ، يعني بالضرورة: إعــادة إنتـاج إبـداعات الأدباء السابقين، كما أن الأدب الشعبي ظاهرة اجتماعية، تُـعبّـر باستمرار عن حـاجات جـديدة *1 .
والأدب الشعبي، مرتبط شكلاً ومضمونـاً بقضايا الشعب، لذلك نرى أن " ممارسة الجماعة للنص الأدبي " الشعبي" هـو أن تجـد فيه ما يُـعبِّـر عن وجدانها بالطريقة التي تفـهَـمـهـا، ولذلك تتعـمّـق هذه الآداب في وجـدان هذا الشعب أو ذاك، مِـمّـا يُـشكِّل "ذاكرة جماعية " تحفظ هذه الآداب في مختلف مراحل التطورات التاريخية، سواء كان هـذا " الأدب الشعبي " مطبوعاً أو مكتوباً، مجهـول المؤلّـف أو معروفـاً، أكـان متوارثاً أو أوجدهُ المعـاصرون .
وبالعـموم، يذهب تعريف " أدب العـامة " أو الأدب الشعبي" إلى أن العـامية، شـرطٌ جـوهـري، في تحـديد مفهـوم الأدب الشعبي، وبقـدر ما تُـشكِّـل اللُّـغة جُـزءاً هـاماً من العمل الأدبي، فإن المحتوى لا يقـلُّ عنها أهميةً، وهـما عنصران متداخلان لا ينفصلان ، وقـد لخّـصَ الأستاذ " محمد عبد الحليم غُـنيم " هذه الإشكاليات في النقاط التـاليـة :
آ- ليس كُـل ما يُـكتب بالفُـصحى، يكون بالضرورة، أدبـاً رسميّـاً، فهـناك الكثير من الآثـار الأدبية الخـالدة، كُـتِـبت بالفصحى ( البسيطة ) وهي مع ذلك تُـصنّـف في الآداب الشفوية أو الشعبية، مثل : ألف ليلة وليلة، والسِـيَـر العربية، كسـيرة الملك الظاهـر، وسيرة الأميرة ذات الهِـمّـة، وسيرة علي الزيبق المصري، وغيرهـا الكثير .
ب - لـيس كُـل ما يُـكتب بالعـامية، يُـعـد بالضرورة أدبـاً شعبيّـاً، من مثل بعض " المسرحيات وبعض الروايات وبعض الأغـاني العـامية " حيث الكثير منها لا يرتقِ إلى مصاف الأدب الشعبي .
ج - إن صفـة الشعبيـة، التي تلازم أجناساً من الأدب، وضروباً من القول، لا تكمن إذن في العـامية ولا في الفُـصحى، وإذا كانت العامية، أداة الأدب الشعبي، بوصفهـا من مُـقـوّماته، وأنهـا عامل مشترك بين الأثر المجهـول المؤلّـف والمعروف،فـإنه لا ينبغـي الخيار في استخدام اللّـغـة التي يريدهـا المبدع الشعبي، عـامية أو فصحى، ومن الخطـأ أن نطلب من المبدع الشعبي، الذي ينتمي إلى " الطبقة الـدُنيا " التعبير بالفصحى، والعـامة الذين يخاطبهـم، عـاجزون عـن فهـمهـا . *2 .
* ثـمّـة ميزة أخرى في " نصوص الأدب الشعبي بأنـواعـه " أن هـذه النصوص، تتقـبّـل الإضافة والحذف والتعـديل دائماً، بينما تعيش الأنـواع الأدبية الخاصة على حالتهـا التي ابدعهـا بهـا المؤلّف .
* وثمّـة " ظاهـرة فريدة وقـويّـة الحضور" في الأدب الشعبي هي: " وجـود آثـار الـديانات والفلسفات والعقـائد المتشابكة والمتداخلة لأبناء المنطقة كلّـهـا" وقـــد تــكون " تلاقـحت" أو تـداخلت مع عقـائد وفلسفات لأبناء البلاد المتـآخـمة لحدود هذ المنطقة، جغرافيّـاً وحضاريّـاً، بمعنى أن " نظرية العامل الخـارجي" وتـأثيره على الـداخلي، أمـرٌ واردٌ في الآداب الشعبيـة، بحكم ذلك التفاعل الخارجي، حيث تلعب التجارة والفتوحات وأثرهـما، دوراً في هـذا الإخـتلاط الثقافي، وأعـتقد أن منطقتنا العربية قـد تـأثّـرت وأثّـرت بهذا العامل، والملاحـظ أن ثقافتـنا العربية ، بشكل عام، قـد تـأثّـرت بالإحـتلالات الفارسية والتركية والمغولية وغيرهـا، وتركت هـذه " هـذه الثقافات " مخلّـفاتها في ثقافتـنا العربية .
وعلى صعيد الأدب الشعبي، نحنُ لا نبحث عن " فـكرٍ فلسفي " واضح القسمات، وإنـما نبحث عـن المعطيات الفنيّـة المُـترتّـبة عن هذا الفكر، ونحـاول أن نـردّهـا إلى أصولهـا، دون عـناء البحث في هـذه الفلسفات نفسهـا، وهـذه المعطيات، تظهـر لنـا بِـصور " الحـكي" المختلفة، وهي نفس الصور التي تظهر بها المتبقـيّـات الأسطورية القديمة، التي ملأت فـكر الشعوب العربية، في بداياتها الأولى، فـالحكي أو القـص في الأعمال الشعبية، ليس مجرّد أدوات لتسلية الناس وإلهـائهـم، كما يتصوّر البعض، الذين ينظرون إلى كل " مـا هـو شعـبي " باعتـباره أقل أهمية وأقـل قيمة من الأعمـال التي تصدر عـن الأفـراد الذين أثبتوا وجودهم وأسماؤهم في سجلات وكتب الأدب والتاريخ.
إن نتاج ما يقدمه هـؤلاء الأفراد الأفـذاذ، من فكرٍ وثقافة، إنما يعـود مـرّة أخرى ليتسرّب إلى شرايين هذا المجتمع بطريقةٍ تلقائية، وغير منظورة، ليصبح تـدريجيّـاً جُـزءاً من نسيج ثقافة شعب هـذا المجتمع، وليصبح جُـزءاً رئيسـيّـاً من مكونات فكر الشعب وأدب الشعب . *3 .
إن هـذا الأدب الشعبي، يبقى مستجيباً إلى " نَـفَـس " الشعب الذي يتعـاطاه، ولذلك نـرى أن هـذا الأدب الشعبي يستجيب إلى مراحلهِ التاريخية بشكلٍ مُـذهـل ومتفاعل، ليعبّـر عن ثقافة الشعب في تلك المرحلة، ومن هُـنا نفهـم أهمية دراسة المراحل التاريخية التي مرّ بهـا، بـاعتبارها " دراسة تكشف عـن طبيعة وجـودهـا الإنساني المتمثِّـل في عطائهـا الشعبي، وعـدم دراسة هذه المرحلة تاريخيّـاُ، يحيلُ إلى ( إطارٍ مسطّـح) لا يعطي العمل الفني وجوده الصادق الحقيقي، وبالمثل فـإن عـدم دراسة الشخصيات التاريخية دراسة تغوص بهذه الشخصيات إلى عُـمق مكوِّنـاتهـا، المرتبطة بموروثهـا الحضاري، وموروثهـا الشعبي، يُـحرِم هذه الشخصيات من الثراء الحقيقي في عطائهـا، ويقطع ما بينهـا وبين الوجود الحي الملئ بالمتناقضات، ذلك الوجود الذي يُـتيح لهـا أن تحـيـا، لا في العمل الأدبي الذي يختاره وحده، ولكن من الضمير الأدبي الإنساني كلّـه . *4
* ثمّـة مسألةٍ هـامة، يُـغيّـبها العقل السياسي الرسمي، بشكلٍ أو بـآخر، وهي " جعـل الأدب الشعبي خارج نطاق اهتمام الدولة، بشكلٍ رسمي" وغض النظر عـن كل إبداعاته وتجليـاته، حتى أن بعض وزارات الثقافة العربية ترفض حتى اليوم من طبع " الشعر الشعبي" في نتاجاتها الثقافية، من منظور آيديولوجي متخلّـف، لا يعي قيمة الإبـداع الشعبي، لا سيما " الشعر العامي" والذي نسميه في العراق " الشعر الشعبي" . وهذا الموقف من التراث الشعبي يُـتـجَـنَّـى عليه من قبل هذه المؤسسات الحكومية الرسمية، واعتباره " عقبة في سبيل استمرار الفكر الديني، ومرّة يعـتبروه " مجرّد حكـايات عـجـائز، وأدب عـوام، لا قيمة حقيقية لـه " الأمر الذي سحب معه بعض الآراء المثقّـفة، لأن تجرّدهُ من كل قيمة فكرية أو أدبية على الإطـلاق، ولكن الكنوز التي فُـتِـحَـت للـوجدان الغربي أبوابها، فـاغترف منهـا ما أراد، ونهـل منهـا ما يُـعـزّز رؤاه الثقافية ليُـثري بها عقله، حين فتح قلبه ووجـدانه على الميثيولوجيا الإغريقية، ثم ربطهـا بالميثيولوجيا المحليـة في كل بيئة من بيئاته، وما زالت هذه الكنوز، بكراً في أرضنا، تنتـظر مِـنّـا أ نَـمُـدّ أيدينا ونغترف منها ونثري وجداننا الفقير، والذي أفقره مفكروه وأصحاب الأفكار الثابـتة والمتطـهـرون، كـــما يقول باحــث معاصر*5 .
* إن القيمة الفكرية للأدب الشعبي، تكمن في كونهِ يعكس ثراء الشخصية العربية، ويرسمُ أهمية دورها الحضاري في بناء الإنسان، ويهـدم ما قيل أو رُسِـم من تصورات المستشرقين المغرضة حول الشخصية العربية وفكرها المبدع، وإسهاماتها في إثراء الوجدان الإنساني بكل هـذا المعطى الشعبي الثري المتنوّع، منذ لحظة وجوده البدائي الأول وحتى اليوم .
إن الكشف عـن هذا العالم الشعبي المثير والمتعـدّد، يُـقـدِّمـهُ لنا " الأدب الشعبي العربي" حيث كشف عـن الدور البارز الذي قـدّمه الإنسان العربي في بناء الوجود الإنساني المتطوّر والمتحرّر من أسار المعوقات التي حاولت أن تعيق تطوّره عبر التاريخ . *6
ب - العِـــــــراق مـولــــــد الـشِـعـر .
إن المُـدوّنات التاريخية للحضارات القديمة، توشِّـم لنا بدايات الـتفـتـّح الذهني عند الإنسان الرافـدي في العراق القديم، ومن ثـمّ تحريك عقـليّـتهِ لإيجاد شخصيته الثقافية، بشكلٍ أو بـآخر، فـكانت الآداب، أولى تلك المرتكزات لهذا الوجود ، وقـد بـدأ الإنسان العراقي باستخدام " الـطـين " ليسجّل عليه أولى الحـروف " بخـطًّ مسماري " كي يكتب قَـلَـقِهِ الأول، ومـا أن تـشـذّبت ذائقته الحسيّـة قليلاً، حـتى بـدأ فكرهُ يبحث عن " خـلود نفسه" فـأوجـدَ " ملحـمة جلجامش " كأروع حكاية أدبية مُـصاغـة بالشعرِ دون سِـواه من نظم القول، والتي اعتـبرهـا مؤرّخو الآركيولوجيا وتاريخ الآداب الإنسانية، واحـدة من أروع ما أنتجـه أدب حضارة وادي الرافـدين والآداب القديمة عموماً في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد . *7 .
* إن هـذا التـأسيس الإبـداعي للآداب والفنون في حضارة وادي الرافدين، قـد ألـهـمَ كل الحضارات القديمة التاليةِ عليه، لأن تُـسجِّـل إبـداعاتها وتواريخها في سياقات الأدب المكتوب أو المـروي شفـاهيّـاً، بحكم تطور كل حضارة من الحضارات القديمة التي ظهـرت قبل الميلاد، والتي تأثّـرت بـآداب وادي الرافـدين، لا سيما الحضارة اليونانية التي أبـدعت منظومات شعرية عُـرفت بـإسم " الأشـعار الهـومرية " نسبة إلى الشاعر اليوناني " هـوميروس - ق 9 ق م " وهذا الشاعر الأعمـى الذي أبـدع " الإلياذة والأوديسّـة، والأغـاني الهـوميرية" *8 . وهذه الأشعار والأغـاني كانت تحـكي عـن " بطـولات وانتصارات الإغـريق في " حـرب طـروادة" حيث كانت هذه القصائد تُـنـشـد في قـاعـات الملوك والنُـبلاء، ثم انتشرت هذه الأغـاني في بلاد الإغـريق إلى المَـواطـِن الأيـونيّـة في سواحل آسيا الصغرى، وكانت الكتابة والـتدوين غير معروفة عـند الإغـريق، ولكن تـوارث النـاس تلك الأشعار، جيلاً بعـد جـيل، عـن طريق الرواية الشفاهية، وكان كل جيل يُـضيف إليهـا عناصر وأشياء جديدة على النصوص الأصلية، فـحُذف قسمٌ منهـا، وتحوّرت بعض الحقائق فيهـا، وبقيت الأشياء المثيرة للشعور تُـغـذّي العواطف والحاجات النفسية للشعب اليوناني . *9
* هـذه المقدمة القصيرة، لتـاريخية الآداب والفنون الشعرية في الحضارات القديمة، ترسمُ لـنا آفـاق القلق الإبـداعي عند الشعوب المختلفة، للحفاظ على تراثهـا وتاريخهـا، وبنفس الوقت، يكشف مقدار قيمة الهـويـة الوطنية للإبـداع، ومن ثم هـو يُـبرز طـاقـات الأفـراد المبدعة، بمعنىً آخر، إذا كانت الحروب والإبـداعات السياسية من نصيب تاريخ الحُـكّـام والأباطرة، فـإن الآداب والفـنون هـي من نصيب الشعـوب ، بلا مُـنازع .
يمكن القـول: أن الإبـداع هـو من صنع الشعوب لا الحُـكّـام، ومن هـنا نستـنتـج أن مسؤولية الإبـداع تقع على عاتق الأفـراد في كل المجتمعات، وهـذا يعـني أن التفكير في كل نـواحي الإبـداع للفـنون، هـو من اخـتصاص هـؤلاء الأفـراد . وتلك مسؤولية ثقيلة جداً، لكن الشعوب نهـضت بهـا، وكانت هي هاجسهم التاريخي ، الذي ولّـدَ أصنافـاً كثيرة من الآداب والفنـون

لم تكن الحضارات قد شيـّدت أركان مجدها مالم تكن الآداب والفنون والعـَمارة قد بنت أساسات روافعها الإبداعية ، وتركت بصماتها واضحـةً على مـرِّ العصور. ومن المؤكـّد والثابت أن الشعر قد واكب ظهور الإنسان بعد أن بـدأت الحياة تتـدجـّن قبل آلاف السنين، وبحكم آلية الحياة اليومية للإنسان، فـإن الرقص والغناء والموسيقى المتولـّدة من مرموزات البيئة كالريح والقصب والأمطار وخرير الميـاه وغيرها ، أخذت تلهـب خياله ليجد منها ما يسـرُّ النفس، ويجد بفطـرتـهِ تعاطياً حسـّياً مع هذه الظواهر الكليـّة الحضور، والتي تـدل على مداليل ومعاني ذات صلة بصميم روحية الإنسان
ومن هنا نستنتج أن مسؤولية الإبداع تقع على عاتق الأفراد في كل المجتمعات ، وهذا يعني أن التفكـير في كل نواحي الإبداع للفـنون هو من اختصاص هؤلاء الأفراد، وتلك مسؤولية ثقيلة جداً ، لكن نهضـوا بها، وكانت هي هاجسهـم التاريخي الذي وَلـّدَ أصنافاً كثيرة من الآداب والفـنون .
وحين جاء الإسلام الى الجزيرة العربية، حاول المسلمون أن يجدوا ما يميـّز ثقافتهم القرآنية عن بقية أشكال الغناء أو الترديد أو المكـّاء أو التهليل ، فولـّدوا نوعاً من ( التـلاوة) القرآنية ، وأوجـدوا (طبقة من القرّاء) تجيد تلك التـلاوة، ثم وضعوا لها أصولاً تحافظ على شكل تلك التـلاوة وإيقاعية النطقِ بها *10 . وهذا يعني أن لكل ظاهرة ثقافية ( حـال ) يستجيب مع نفسية حاملي هذه الثقافة، ومع ذلك ظلـّت الثقافة الشعبية بكل محمولاتها كامنة بنفوس حامليها ، تظهر وتختفي بين الحين والآخر .
والملاحظ أن الشعر ظلَّ حاضراً في مختلف المراحل الحضارية والتاريخية، رغم خفوتهِ في بداية الدعـوة الإسلامية ونزول آية التحريم ( والشعراء يتبعهـم الغـاوون ) *11 . إلاّ أن إيقـاعية الشعر والتعاطي فيه ظلـّت قوية جداً، وازدهرت في العصر الأموي، بينما اتسعت كثيراً في العصر العباسي، وبدأت تأخذ أشكالاً أخرى نحو التجديد والتفـنـّن بأسلوب النظم ، وتعـدد القوافي ، بعد أن وضع (الخليل بن أحمد الفراهيدي- ت164هـ / 786م ) قوانيناً للشعر في منظومة فـنيـّة – إبداعية عرفت بـ ( أوزان العروض الشعرية ). ورغم الصعود الحضاري العالي للدولة العباسية ، إلاّ أن مكنون الأدب الشعبي ، ظلّ حبيساً في صدور العامة البعيدة عن قصر الخلافة وأماكن السلطة، لكنـّه يسمع عند العامة في أفراحهم وأتراحهم ، وقد انتبه (الجـاحظ - ت 250هـ /868م ) إلى ذلك، وذكره في (رسائله) (وأبي حيـّان التوحيدي – ت 400هـ/1010م ) في (رسالة الصداقة والصديق والإمتاع والمؤانسة ) وغيرهم من كتـّاب تلك الفترة الزاهرة .*12 .
إلاّ أن الشعر الشعبي ، أو بعض ملامحهِ بدأت تظهر في العصر العباسي إبـّان خلافة (هارون الرشيد 170هـ/786م ) حيث تطور فن الغـناء تطوراً عجيباً في أيـّامه ، نظراً للمكانة التي كان يحظى بها المغنون ، فأجادوا بغنائهم وأصابوا بألحانهم ، واختاروا من الشعر ما يوافق أصواتهم . وأخذت كل طبقة من المغنيـّن تتـقن فـن طبقتها *13 فـأثـّر الغناء في الناس بشكل واضح ، فقد شغلوا بهِ أي شغل وكأنه نعيمهم في دنياهم ، فهو الذي لا يؤثرون سواه لما يبعث في نفوسهم من غبطةٍ وابتهاج *14 .
وممـّا يزيد ظاهرة الغناء بهجة وسروراً أن رقيق النساء المغنيات من الجواري كان أكثر عدداً من رقيق الرجال ، وقد زخرت بهـنّ الدور والقصور العباسية، وكانت هذه الجواري والإماء من أجناسٍ وثقافات وديانان وحضارات مختلفة ، فأثـّرن تأثيراً واسعاً في أبنائهن ومحيطهنّ، وهي آثار امتدّت الى قصر الخلافة ، وعملت فيه عملاً بعيد الغور، حتى أن ( ابن الساعي – علي بن أنجب ) جمع مؤلفاً عن زوجات الخلفاء من هذه الجواري سمـّاه ( جهات الأئمة الخلفاء من الحرائر والإماء) وهو ما يعرف اليوم باسم ( نساء الخلفـاء ) *15 .
ولعب الموسيقيون الكبار دوراً هاماً في إبراز هذه الظاهرة وتطوّرها – تجارياً وفنيـّاً – حيث تشير المصادر الى أن إبراهيم الموصلي والمغني يزيـد حوراء هما أوّل من علـّم القيان البيض فن الغناء ، وفق اصول معرفية – فنية ، فبلغا بهـُنّ كل مبلغ رفيع من أقدارهن غاية الرفعـة *16 .
ومن هذه الجواري المغنيات إنـولدَ المـوال العـراقي ، بصيغته الأولى ( المواليا ) ليؤسس بذلك الميلاد الرسمي للشعر الشعبي في العراق *17 .
* * *
ج * تمـاهـيات الشعر الشعبي مع مرتكـزات الإبـــــداع .
الشـعــر ، خـاطرة الـروح في لحظة اشتعـال الوجـد، ومن ثم يكـون التعبير بها، هـي أحلى بُـرهـةٍ تصطفيها النفس للـتدليل بهـا عـن مكـنونـاتهـا من شـدّة المعـاناة، ومن ثـم تكون القصيدة، هي حالة الحضور في سِـواء الغـياب، أو محاولة بـاهرة للإنتصار على سَـلبٍ أو نقصٍ قـد يُـعـكّـر صفـو الحـياة.
ويكـتسِـب الشعر قيمـته المثـلى حين يتعـاطف مع آلام الإنسان ، بشكلٍ حميمي، دافئ وجميل، إذ أنَّ الحميم والجميل والحـنون، هي من كـوامن الشعر المُـبجّـل والخالد في النفوس، ومـا كان للشعرِ أن يكون إلاّ لأن شَـوط الوجـدان فيه أطول من شوط الكـلام، على حَـدِّ تعبير نـاقـدٍ معـاصر . *18
وبهذا المعنى، يغـدو الشعر تصويراً لعـلاقةٍ بوجودهـا، وانفتاحـاً على هذا الوجـود للقبضِ على سِــــر الحَـيّ الذي لا يُـهـتك له ستار . *19
* ضمـن هذه المـداليل النقدية، وتنظيراتهـا المعرفية للأدب بشكلٍ عـام، وعلى الشعرِ بخصوصيّـتهِ المطلقة، يصطـدم الدارس للأدب الشعبي في العالم العربي بوهـجـاتٍ شعرية، لا تخضع لهذا التنميـط النقدي، إذ أن بساطة الشاعر الشعبي، وعـدم انضباطيّـتهِ في قـواعـد اللّـغة أو العـروض الخليلية، وتعـقيدات النحـو العربي، تجعـل أُفقـه الشعري أكثر رحـابة وأوسع مـدى، حيث أن الخروج من قيد اللغة ونحوهـا وصرفهـا، يعطيه حريّـةً وحيوية إبـداعـية، وفعـالية مُـتّـقـدة، دون أن يحِـدّهُ قيد يُـكسِـر إيقـاعـه وانـدفاعه للغـور وراء المستحيلات، من خـلال تعـدد أشكال صُـور تخيُّـلاته الخاصة بهِ، دون اكتراث لضوابط البلاغـة والنحـو، ومن هُـنا نلاحـظ سِـعـة انتشـار الشعر الشـعبي بين كل طبقات المجتمع العربي، وهـو سِـر بقـاءهُ نقـيّـاً ومحفوظـاً في الصدور، تستحضرهُ البداهـة في كل زمان ومكان، مُـتنـقلاً من جيلٍ لآخر، حتى سـطى على عـالم الغـناء وحقله، متجاوزاً كل الحدود الجغرافية بين البلدان، ومُـرحّـبٌ بـهِ بدون جـواز سفـر، واعـتلى سلالم المجـد الغنائي والموسيقي، واستقـرَّ في النفوس باسـتـئناسٍ ومسـرّة.
* إن الشعر الشعبي، هـو إلهـامٌ استوحـتهُ قـرائح الناس البسطاء، للتعبير عمّـا يدور في خلجـات نفوسهـم، ضمن بيـئآتهـم الإجتماعية، فهـو يستـلهـم كل معتقـدات الناس وأساطيرهم، وبساطتهـم، وفطرتهـم، ويعكسهـا بمنظوراٍت شعرية، فطـرية المـزاج، وطفولية القريحة، ومحلـيّة التصوير .
* والشعر الشـعبي، يستمـد قاموسه ومفرداته من البيئة الحاضنة لـه، والمتولِّـد عنها بالأساس، بـل يصح القول: إن الشعر الشعبي هـو سِـجل أحــوال الناس، منذ الولادة وحتى الممات،يرافقهـم في حِـلّهم وترحالهـم، عبر مختلف الأجيال والعصـور، وبهـذا المعـنى، يتطابق هذا الوصف ومضمون عبارة ( عبدالله بن عباس 3 - 68 هـ /618 - 687 م ) : الشعر ديـوان العرب"
فـالشعر الشعبي في العراق مثلاً، تقـودك مفرداته وأجـوائه وطقوسه إلى معرفة مفردات الناس الدينية، وإنتماءاتهم القبلية والقومية، ومعرفة لهـجاتهـم، من منطقةٍ لأخرى، بـل المتفرّس في هذا الفولكلور الشعبي، يستطيع أن يتلمّـس عن قرب " نفـسية " أبناء هذه المنطقة أو تلك . فـالحـسـﭼـة لأبناء الجنوب والفرات الأوسط، ورقصـة السـاس لأبناء المنطقة الغربية في العراق، والـدبكة الكردية لمناطق شمال العراق، فيما تظهـر " البـغــــددة" في السلوك والتعايش والملبس عـند أهـل العاصمة بغـداد، فيما تكون " رقصات الهـيوة وفِـرق الخشّـابة " من عـلائم الفولكلور البصري، وكل هذه الصفات والخصال، يكتشفهـا الدارس المتعمّـق في الأدب الشعبي لهذه المناطق العراقية المعروفة .

............................................................................


هوامش المدخل:
1- راجع محمد عبد الحليم غُـنيم : الأدب الشعبي، تحديد مفهومه وخصائصه عند الباحثين العرب - مقالة - منشورة على موقع (Algerian Folk Tale ) بتاريخ 6/ مارس/ 2016
1- المرجع السابق - نفس المكان .
3- أنظر - فاروق خورشيد : عالم الأدب الشعبي العجيب / صـ 10 - 11 ، منشورات دار الشروق - ط1 ، القاهرة 1411هـ / 1991م .
4- المصدر السابق - صـ 12 .
5- نفس المصدر السابق - صـ 22
6- راجع تفصيلات أكثر في المصدر السابق - صـ 25 وما بعـدها
7- طه بـاقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة 1/307 ، منشورات دار البيان بغـداد ودار الثقافة بيروت- ط1 - 1393 هـ / 1973م .
8- راجع : المنجد في اللغة والأعـلام - صـ 603 - قسم الأعـلام ، مادة " هوميروس" منشورات دار المشرق - ط 38 ، بيروت 2000م .
9- طـه بـاقر : المصدر السابق 2/ 570 - 5786 .
10- جامع العلوم والحِـكم - لإبن رجب 2/ 179 ، تحقيق وهبة الزجيلي، طبعة القاهـرة .
11- سورة الشعراء - آية 244 .
12- د. خيرالله سعيد: موسوعة الوراقة والورّاقين في الحضارة العربية - الإسلامية - 6 أجزاء 6/ 208 ، فصل الرّاقون الفولكلوريّون- منشورات دار الإنتشار العربي، بيروت ط1 ،2011
13- للإستزادة حول هذا الموضوع، راجع كتابنا : مغنيات بغـداد في عصر الرشيد وأولاده، ص40، منشورات وزارة الثقافة السورية - دمشق ط1 - 1991 م .
14- راجع : د. شوقي ضيف - العصر العبـاسي الأول - ص 59 ، منشورات دار المعارف بمصر - ط6 ، القاهرة .
15- حقّـقـه د. مصطفى جواد، ونشرته دار المعارف بمصر .
16- راجع أبي الفرج الأصفهاني " كتاب الأغـاني " 5/ 154 طبعة دار الكتب المصرية.
17- راجع بحثنا عنى " المـوال العراقي" المنشور في مجلة الثقافة الشعبية ، المنامة ، في العــدد17 ربيع عام 2012 - صـ 25 - 45 .
18- يوسف سامي اليوسف : القيمة والمعيار - ص 78 ، منشورات دار كنعان، ط2 دمشق 2003م .
19- المصدر السابق - نفس المكان .
* * *



#خيرالله_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصية ومصير .. هادي العلوي
- عِندما يتحدّث الضمير : قراءة تحتيّة في كتاب - بيني وبين نفسي ...
- عِندما يتحدّث الضمير : قراءة تحتيّة في كتاب - بيني وبين نفسي ...
- عِندما يتحدّث الضمير : قراءة تحتيّة في كتاب - بيني وبين نفسي ...
- شُكراً كندا -عندما تجاوزت عملية البروستاتا بنجاح -
- عريان السيد خلف : الشاعرية المكتملة في الشعر الشعبي العراقي ...
- أناشيد للبصرة
- الإصلاح يبدأ بالثقافة .
- رسالة الى الفنان نصير شمّة ( كلنا مع أهلنا )
- ماذا تُحدّثُ عن صنعاء يا أبتي
- نبض السنين الحلقة التاسعة والأخيرة
- نبض السنين - الحلقة الثامنة
- نبض السنين الحلقة السابعة
- نبض السنين الحلقة السادسة
- نبض السنين الحلقة الخامسة
- نبض السنين الحلقة الرابعة
- نبض السنين الحلقة الثالثة
- دراسة سياسية في كتاب آرا خاجادور( نبض السنين ) 2
- نبض السنين الحلقة الأولى - دراسة سياسية في كتاب آرا خاجادور( ...
- مشروع رؤية لتأسيس دار نشر جماعية


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله سعيد - مُماحكات فكرية في الأدب الشعبي ( الدارمي ) 1