أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خيرالله سعيد - شخصية ومصير .. هادي العلوي















المزيد.....



شخصية ومصير .. هادي العلوي


خيرالله سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 7386 - 2022 / 9 / 29 - 00:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شخصية ومصير .. هادي العلوي / ميثم الجنابي
ا. د. ميثم الجنابي
إن الإشكالية التي تقف أمام المثقف الكبير في الحياة هي إشكالية الحقيقة والفناء فيها. وما بعدها إشكالية الحقيقة والبقاء فيها.
وكل منها متوقف على الآخر. فالفناء في الحقيقة هو بقاء فيها. ومن ثم عادة ما يكون الموت هو المفتاح الذي يفتح به رتاج المجهول فيها. ومن ثم الدخول في عوالمها الحقيقية. فالموت عادة ما يجعل من الشخصية أما بقايا أبدية للروح والعقل أو بقايا متحللة في صيرورة الوجود والعدم. وليس مصادفة أن تتحول الشخصية المبدعة الكبرى إلى إبداع خالص. بمعنى التحول من الجسد الوجودي إلى الروح المعرفي. ولا مفر من هذا المسار المحتوم! فالقبور تحتوي على جسد الأحياء فقط. والموتى كما يقال تراب وغبار. من هنا لا يضر العلوي شيئا في ظروف العراق والعالم العربي الحالية أن يكون حضوره أو عدم حضوره جليا للعيان في جدل الثقافة وهمومها الحالية. وذلك لان هذه الحالة نفسها هي جزء من حالة ثقافية عامة أكثر مما له علاقة بما كتبه هادي العلوي وقام به. وهذه حالة شاذة لكنها واقعية. ففي العراق لا يوجد ديوان (صالون) فكري ثقافي. كما يفتقد إلى مدارس. وكل ما فيه مجرد خرائب مزينة بالدعاوي الفارغة. وعموما يمكننا القول، بأنه كلما تتوسع حدود الثقافة وميادينها كلما تصبح الشخصيات الفكرية مطلوبة وحاضرة. وفي كلّها قيمة. فالتنوع قيمة كبرى. والعلوي جزء من هذا الكلّ، وله خصوصيته فيه. من هنا يصبح السؤال القائل "ماذا تبقى من هادي العلوي؟" بحد ذاته إشكالية. فما يتبقى من المرء أما كلّه أو جزء منه. وقد يكون الجزء أفضل من الكلّ. كما يمكن أن يكون الكلّ أفضل من الجزء. وهذه معادلة متغيرة أيضا. وإذا كان الجوهري في شخصية العلوي هو طابعها المتمرد وعصيانها الفكري، فمن الممكن توقع بقاياه ونوعيتها في الوعي الثقافي العراقي والعربي. فالزمن قد يجعل من جوانب معينة أو الكلّ جزء من تاريخ الفكرة والوعي الاجتماعي والضمير والوجدان الوطني والقومي ووعي الذات التاريخي والثقافي. وكما أن الأشياء تتحول وتستحيل في مسارها هذا من حالة إلى أخرى، فان الشخصية وأفكارها تواجه هذا المصير، خصوصا إذا كان إبداعها لا يتسم بسمة المنظومة الفكرية المترابطة. والعلوي من هذا النمط الأخير. لكن مأثرته وقيمته تكمن في تحوله إلى روح من أرواح الثقافة المتمردة.
فالعلوي يمثل مأساة المثقف العراقي والعربي المعاصر. أنها مأساة التجول والتحول بين أيديولوجيات وأحزاب وتشرد وهجرة وتجاذب لا علاقة له بالعلم والمعرفة. ووجد ذلك انعكاسه في شخصيته ومصيره. يحبه الشيوعيون و"الدنيويون" لاعتبارات أيديولوجية صرف لا علاقة لها بالعلم والمعرفة. ويكرهه "الإسلاميون" لنفس السبب. ولا يفقه الليبراليون فيه وعنه شيئا، ويبجله أنصاف المتعلمين لبساطته، ويتنطع بها أشباه المثقفين لرفعته. والجميع في حالة واحدة، هي حالة الخراب الثقافي والعلمي. فالثقافة الحية والكبيرة والعلم الذي يناسبها لا يفعل ولا يعمل ولا يتعامل بغرائز الحب والكراهية والتبجيل والتنطع. إلا أن هذه الحالة السيئة هي جزء من انحطاط الثقافة العراقية والعربية الحالية. فقد كان يتوازى في شخصيته وإبداعه المؤرخ والباحث والناقد والأيديولوجي والسياسي والاجتماعي. من كل ما سبق يمكنني القول، بان كل ما في العلوي يبقى. وفي الوقت نفسه تساقط وسيتساقط كل ما هو عالق وطارئ وعابر وثانوي، شأن ما في كتابات كل مثقف كبير الحجم بمعايير المرحلة. فالعلوي ليس زجاجة متكسرة يصعب رأبها، بل كينونة فكرية ثقافية متميزة. له أصالته وخصوصيته.
فالمثقف الذي يرتقي إلى مصاف الروح يبقى حيا أبدا، بكل شيء بما في ذلك في متناقضاته. فهناك شخصيات قيمتها ليست فقط فيما تكتبه بل وفيما تقوم به، وبكيفية تمثلها العملي لما تكتبه. فالقيمة الجوهرية للحلاج باقية في الوعي والذاكرة ليس بسبب رواية ودراية المعاصرين لطواسينه وأشعاره وشذرات أقواله وأخباره الواقعية والأسطورية، بل بما في شخصيته وطابعها المتمرد ومصيرها المأساوي. والقيمة الجوهرية للعلوي تكمن أكثر ليس فيما كتبه، بل فيما أراد قوله. فالنبل والنزاهة والإخلاص ووحدة العلم والعمل كانت وما تزال وستبقى من أهم معايير امتحان وبلاء أهل الفكر والثقافة. وسوف تبقى هذه الصفات على الدوام من بين أهم واثمن ما في أهل الفكر والثقافة، على خلاف صعود واندثار المرتزقة من كل شاكلة وطراز. وقد كان هادي العلوي نموذجا كبيرا وأصيلا فيما يتعلق بتمثل قيم النبل والإخلاص.
إن المقدمة السليمة لتحديد شخصية العلوي، ومن ثم افتراض ضرورته المستقبلية تستلزم الانطلاق من الفكرة القائلة، بان المعرفة شرط الحقيقة. وأنها مصدر اليقين. وإن قيمة ما كان يكتبه العلوي وما كان يقوله، تكمن في تجربة الروح العلمي والعملي وليس بتجربة الجسد السياسي والمصالح العابرة. بمعنى أنها تحتوي حتى في سذاجتها النسبية على معالم الرمز الصالح. وهذا شيء مهم للغاية بالنسبة لترقي حقائق المعرفة ورسوخها في أسس ومقومات العقل النقدي والنزعة الإنسانية.
هذا ما كان يسعى إليه العلوي. غير أن المساعي والثبات ليست صائبة بالضرورة حتى في حال ارتكازها إلى معارف كبرى، وذلك لأنها جزء من مسار التجربة الفردية والتاريخية، ومن ثم جزء من اللغز الهائل لصيرورة الوجود نفسه. ويمكنني هنا رواية الحادثة التي جرت له عندما كنت معه في الفندق (في موسكو) منتصف ثمانينيات القرن الماضي(العشرين). وقد التقينا به أنا وأحد الزملاء. وعندما بدأ العلوي يتكلم عن موقفه من الغرب الاستعماري وكيفية مواجهته ومشروعه النظري السياسي بهذا الصدد، فان الزميل قد رد عليه بأن ما يقوله فكرة ساذجة. وقد غضّ هادي العلوي الطرف عن هذا التقييم. لكنه أعادها مرة أخرى بعد تحويلها من نقد الفكرة بحد ذاتها إلى شخص العلوي نفسه. عندها انفجر هادي بطريقة "مرعبة" وتكلم بكلام أشبه بالصراخ قائلا: "كيف تكرر هذه الكلمة، وكيف يمكنك إطلاق كلمة سذاجة وساذج! وأنا الذي يحمل في رأسه كل مكتبات العالم"!
لقد كانت الحقيقة والرؤية والمشاريع بالنسبة له جزء من معاناة معرفية. وقد كان على حق. فحتى "السذاجة" فيه أعمق وأرقى وأنبل من كل "اجتهادات" الصحفيين وأزلام الأحزاب وما شابه ذلك من عقاب وخراب للتاريخ والواقع. واقصد بذلك، أن أخطاء العارفين أفضل من إصابة الجاهلين بالنسبة للعقل والضمير والتاريخ والمستقبل. وينطبق هذا على موقفي الشخصي منه. لهذا فإنني لا انظر إليه بمعايير الفكرة القائلة: "هادي العلوي صديقي ولكن الحقيقة أهم وأغلى". إن الحقيقة دون شك أغلى واصدق من كل شيء آخر. لهذا لم اكتب عنه بحثا أكاديميا صرفا. ولهذا السبب أيضا حاولت رسم ما يمكن دعوته بالمعنى والمغزى في شخصيته من خلال إبراز ما هو جوهري فيه بوصفه روحا ثقافيا. والسبب هو أن هناك حالات شخصية تلوي المبادئ، بما في ذلك المنهجية، أو على الأقل أن هذه المبادئ تنحني أمامك من اجل أن توقفك لا من اجل أن تمتطيها. فذكراه وابتسامته الرقيقة وعينيه الثاقبتين وتواضعه وإخلاصه ولينه وجسده النحيل وأعوام الغربة القاسية وحالته الصحية المرهقة جدا ونشاطه المفعم وزهده الحقيقي بالجاه والمال والسلطة وذوبانه في العمل وأمور أخرى كثيرة يمكن اختصارها جميعا بكلمة واحد وهي: الإخلاص. فالعلوي نموذج للإخلاص. فقد كان نموذجا للإخلاص والتمام الذاتي، على خلاف خنازير الثقافة المبتذلة، الذين يكنزون بين شحوم الارتزاق لحوم الزيف والرياء. ذلك يعني أن هناك حقائق يمكن تحسسها أو حدسها خارج الكلمة والعبارة والانتماء العقائدي والميول السياسية، بل وحتى خارج حدود الشخصية نفسها. وهي الحالة التي توقفك أمام الحقيقة التي قالها المتصوفة: سيئات الأولياء حسنات الأبرار". وكل "سيئات" العلوي أفضل من كل حسنات مرتزقة الثقافة العراقية، مرتزقة السلطة والأحزاب والجاه والمال والأيديولوجيات الميتة والعقائد المزيفة.
أن الشخصيات الكبرى ليست بحاجة الى قرض ومديح من اجل أن تحتل موقعها في كينونة الأمم الثقافية. فموقعها من مكانتها الفعلية، أي من مجرى وغاية إبداعها الشخصي ونموذجها الفرداني. فالشخصية الكبرى فردانية مثلى لتجلي مرجعيات الثقافة السارية في صيرورة الأمم. وبالتالي، فان الصيغ المتنوعة لإعلاء الشخصية ليست بذي قيمة بالنسبة للحقيقة ما لم يجري فهم إبداعها وإعادة توليفه في إشكاليات المعاصرة ووعي الذات القومي. ويتوقف هذا بدوره على حجم ونوعية الإشكاليات الكامنة في الإنتاج النظري والعملي للشخصية.
فهادي العلوي شخصية مباشرة وجلية في أفكارها ومواقفها. غير أن وراء هذه المباشرة والجلاء تتلألأ عوالم أعماقها السحيقة وخفاياها المتراكمة من مرارة وحرارة الإشكاليات الفعلية للتاريخ العراقي والعربي الحديث، ومن كنوز ورموز التراث العربي الإسلامي، ومن ثقل الأيديولوجيات الثورية على كاهل العقل والضمير، ومن بؤس الحياة وبأس الإرادة. ووراء كل ذلك يقف مذاق الشخصية وأسرارها الخاصة، أي مصيرها الفعلي بالنسبة للحق والحقيقة.
بعبارة أخرى، أن الأثر المحتمل والواقعي لإبداع هادي العلوي مرتبط بطبيعة كتاباته الاجتماعية والسياسية وأبعادها الفكرية. ومن ثم فان قوة ظهورها وتأثيرها أو ضعفها مرتبط في الأغلب بطبيعة الصراعات الاجتماعية والسياسية. لكن ذلك لا يعني فقدانها لقوتها العلمية المستقلة. فالأموات لا تحضر، وإنما تحضر الأحياء، أي أولئك الذين يشكلون عنصرا حيويا في حياة الأمم. وهادي العلوي جزء من الروح الثقافي العراقي والعربي.
فقد كانت شخصية هادي العلوي وكتاباته كيانا متوحدا. وفيما لو تسنى استحضار ابن باجة ولو للحظة واحدة في غمار الحركة الصاخبة للوجود الحديث لصرخ بأعلى صوته: أن هادي العلوي هو المقصود في كتابي (تدبر المتوحد)! وليس ذلك معزولا عن نوعية وخصوصية اختمار الفكرة الحرة في أعماقه وشخصيته ومصيره. كل ذلك حدد ويحدد أثره وتأثيره المناسب بالنسبة لتاريخ الحق والحقيقة ونموذج ما أسميته بالمثقف المتمرد فيه.
فقد جمع هادي العلوي في أعماقه وشخصيته هموم الثقافة العربية وتاريخها الحر وروحها النقدية. من هنا تنوع أبحاثه ومواقفه بحيث نعثر فيها على أشكال ومسويات وتنويعات عديدة. من هنا تنوع مستوياتها وقيمتها، إلا أنها تعكس أساسا ما أسميته بوحدة همومه الفكرية والروحية. ولا يقلل من قيمتها الطابع الجزئي والعرضي والأيديولوجي الصرف أحيانا الذي نعثر عليه في بض كتاباته. فقد كانت على سبيل المثال كتاباته اللغوية اجتهادات جزئية. وينطبق هذا على مؤلفاته التاريخية. وقد يكون من الأدق القول بأنها دراسات وأبحاث ومواقف في قضايا التراث العربي الإسلامي. وينطبق هذا على كتبه السياسية. أما التصوف فانه لم يكتب فيه شيئا. واقترابه منه كان في نهاية العمر، ومحصورا بقضايا تتعلق بالقيم فقط. واقصد بذلك قيم التصوف الأخلاقية ونمط الحياة الشخصي والفردانية الحرة وفكرة المثقف القطباني أو الكوني. فالعلوي لم يكن مهتما أو باحثا في التصوف. على العكس كان في اغلب سنوات اهتمامه العلمي مهملا للتصوف بل ومعارضا له. وقد يكون إعجابه الشديد والمفرط بكتاب حسين مروة (النزعات المادية) هو دليل أو إشارة على ذلك. وإذا كان حسين مروة يعتبر التصوف حجارة في مياه راكدة، فمن الممكن توقع انطباع وتصور العلوي عن التصوف والمتصوفة. وكلاهما لم يفهما آنذاك حقيقة التصوف. وهذا بدوره كان نتاجا لثقل الأيديولوجية الماركسية وحماسها الثوري والمبتذل في الموقف مما لا يتشابه معها بالأسلوب والمظاهر.
أما اهتمامه بالتصوف في أواخر عمره فقد كان نتاجا معرفيا وأخلاقيا لتجاربه الشخصية، كما انه جرى لاعتبارات أخلاقية وعملية صرف، أي أن اهتمامه لم يكن نظريا فلسفيا. من هنا وجود شذرات من الفكر الصوفي وبعض عباراته وشخصياته الجزئية. وقد يكون من نحته الخاص عبارة المثقف القطباني. ومن الممكن تحسس ما فيها على مستوى الحدس! وهي في الوقت نفسه عبارة معاصرة للمصطلح الصوفي (الشيخ) بعد إخراجها من تقاليدها الخاصة ووظيفتها العلمية والعملية بالنسبة للمريد والطريق.

إشكالية الشخصية
إن الموقف الذي ينأى بنفسه عن شروط الرؤية العلمية الدقيقة والأكاديمية الخالصة، يحتوي بحد ذاته أيضا على تقييم للشخصية ومصيرها وأثرها الواقعي والمحتمل. غير أن ذلك لا ينافي الحقيقة حالما يجري الحديث عن الشخصية المبدعة بمعايير الروح المعرفي ومعارف الروح، أي كل ما يشكل العصب المتوتر لوجدان الحق والحقيقة. من هنا سخافة بل ابتذال اغلب ما قيل عن هادي العلوي، بما في ذلك تلك الأوصاف التي حاولت أن تجعل منه "قديسا" خالصا. والقضية ليست فقط في أن هادي العلوي نفسه كان على الدوام ينأى بنفسه عن فكرة التقديس، بل ولأنه كان على الدوام شديد المقت للقداسة المزيفة. إضافة إلى أن حقيقة الشخصية الكبيرة تقوم في جمعها كل مكونات الوجود وصهرها بما يتوافق ويستجيب للقوة الأكثر كمونا وظهورا فيها. تماما كما كان بعض المتصوفة يقول، بأنه عرف الله بجمعه بين الضدين. فالمطلق جامع لكل شيء.
والمثقف الكبير جامع لا سجاد فيه ولا ساجدين ولا سجود لغير الحقيقة والعمل بمعاييرها. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى التقييم الوارد في العبارة التي عادة ما يجري بها تصدير الموقف منها والتي تنسب إلى احد الفرنسيين (جاك بيرك) القائل بان "العلوي واحد من عشرة أهم مفكرين في العالم". فهو وصف يذكرنا بالعشرة المبشرين بالجنة. وليس مصادفة أن يصاب الوعي العادي والمؤدلج بالإغراء الساحر بهذا الرقم. لكن التقييم السليم للشخصية الكبيرة ينبغي أن يجري من خلال اختبارها التاريخي.
فثقافة الأرقام المعاصرة تختلف عن سابقاتها. ففيما مضى كان لها عمقها الفلسفي ومعناها الوجودي والكوني والعلمي والأخلاقي والسياسي. أما الآن فأنها في الأغلب جزء من تقاليد المزاد العلني والبيع والشراء، أي كل ما كان العلوي يرفضه رفضا قاطعا. كما أنها ثقافة غربية (أمريكية) بحتة، بوصفها جزء من تصنيع دعائي لا علاقة له بالحقيقة، بل بالمبيعات والدعم المالي، أي أنها في الأغلب جزء من تقاليد الربا اليهودية. كما أنها جزء من الثقافة الجماهيرية الحالية التي تستسهل الأمور وتقتنع باليسر مما يطفو على سطح العبارة. من هنا تساوي أفضل عشرة أو مائة من المغنيين والمثيرين جنسيا وأصحاب الملايين والسياسيين!
إن هذا التقييم المبتسر يفترض من المرء أن يكون ملما وعارفا بصورة عميقة ومحققة بكل كتابات المفكرين (المشهورين وغير المشهورين) في العالم. وهذا غير واقعي وغير ممكن. وبالتالي فأنها عبارة اقرب ما تكون الى كلمة يجري إطلاقها في وادي الشعراء. فالشخصيات الفكرية الكبرى لا تقاس بمقياس واحد. أما المقياس الكمي فانه لا قيمة له بالنسبة لإدراك حقيقة الشخصية الفكرية وإبداعها النظري والعلمي. وذلك لما في هذا التقييم من كوامن لا علاقة لها بالحقيقة والأثر الفعلي للشخصية وآثارها المستقبلية. وبالتالي، ليس الإعجاب بهذا التقييم المبتسر سوى الوجه الآخر للاستلاب الثقافي. بعبارة أخرى انه نتاج الاستلاب الثقافي وقيم الأحكام الأجنبية. بينما حقيقة وقيمة العلوي من نوع آخر. إضافة إلى ما فيه من تحنيط للعلوي، بوصفها شخصية إشكالية من وجهة نظر المعرفة والمنهج والقيم. وقد يكون السؤال حول ماهية العلوي وفكره وتفكيره من بين أكثرها إثارة للالتباس، أي فيما إذا كان العلوي مفكرا وصاحب منظمة فكرية، وضمن أي سياق ينبغي تحديد إبداعه النظري والعملي.
ففيما يخص الجانب المتعلق بماهيته وفيما إذ كان صاحب منظومة فكرية يمكن القول، بأنه ليس هناك من كلمة إشكالية أكثر من هذه الكلمة كما نعثر عليها في تقييم الشخصيات المنتشر في الصحافة والدعاية العربية المعاصرة. وإشكالاتها تقوم في أنها تخلط بين ترجمة سيئة من اللغات الأوربية وجذر عربي لا يناسبها. من هنا إثارتها للالتباس. لهذا من الضروري إرجاع الكلمة الى جذرها من اجل حدها وإدراك حقيقتها. عندها فقط يمكن الإجابة على هذا السؤال. فالمفكر من يفكر. والجميع تفكر. لهذا فان الجميع مفكرون. لهذا كان يقال، بان الإنسان حيوان عاقل مفكر. وفي الثقافة العربية الإسلامية الكبرى لم يطلقوا كلمة مفكر على أي مستوى أو شكل أو مجال للإشارة إلى مهنة أو فن أو احتراف. لهذا أطلقوا كلمات المتكلم والفقيه والأصولي والفيلسوف والشاعر والأديب على الاختصاصات. وكلمات الإمام والشيخ أو ألقاب مثيرة مثل يتيم دهره ودرة عصره وفحل الفحول والشيخ الأكبر وما شابه ذلك. ولا تطلق هذه الكلمات والألقاب إلا على من يبلغ إبداعه ذروة هائلة. أما الصيغة الشائعة من استعمال كلمة "المفكر" التي ترتقي إلى مصاف الشيخ والإمام، فإنها تشير في الأغلب الى جهل بمضمون الكلمات بل وانعدام الإدراك بحدها وحقيقتها. وهذا إفراط لا أسخف منه في الصحافة العربية الحديثة والمعاصرة.
بعبارة أخرى، إذا كان المراد بالمفكر هو الإمام أو صاحب مدرسة، فانه لا يمكن إطلاقه على هادي العلوي. بل لا يمكن إطلاقه إلا على أشخاص لا يتعدون عدد الأصابع في مجرى القرنين الأخيرين من تاريخ العرب. ومن يطلق عليهم كلمة "مفكر" في العرف الصحفي الحالي تشبه حالتهم حال الشخص الذي أراد الدخول على قيصر وهو يصرخ قائلا بأنه فيلسوف ويريد لقاء القيصر. وعندما سألوه: وكيف تثبت ذلك؟ فأجابهم:" ألا ترون لحيتي"! عندها قالوا له: نعم! نرى لحية ولكننا لا نرى فيلسوفا! وعندنا أيضا "مفكرون" بلا فكر ولا منظومة! أما بالنسبة لهادي العلوي، فان كلمة المفكر لا تضيف له شيئا، كما أن انعدامها لا يقلل مما فيه. وينطبق هذا الموقف على ما إذا كان صاحب منظومة فكرية أو مشروع فكري أم لا. وذلك لان كلمة المشروع من الناحية اللغوية تشير الى ما جرى ويجري التخطيط لتنفيذه. وضمن هذا السياق لا يمكن الحديث عن مشروع متكامل عند أي كان. وحالما يجري تجسيد أو تنفيذ المشروع في بنية متكاملة (نظرية أو عملية) عندها يمكن الحديث عن تجسيد أو تحقيق مشروع ما معين. وبما انه لا توجد عند هادي العلوي منظومة فكرية مستقلة ومتكاملة لهذا لا يمكننا الحديث عن مشروع متكامل. مع أن ذلك لا ينفي إمكانية وجوده على مستوى الخيال الشخصي.
أن المشروع الفكري المتكامل يفترض وجود منظومة فلسفية متكاملة وجديدة من حيث المنهج والأسلوب والتأسيس والبراهين والأدلة والشواهد. إذ تظهر المشاريع الفكرية وتنمو بالارتباط مع نمو الشخصية وتجاربها ومعاناتها النظرية والعملية. وبالنسبة لهادي العلوي فقد نشأ وتربى تربية دينية تقليدية، ثم أصبح شيوعيا وماويا ومشاعيا وصوفيا. واحتوت المرحلة "الصوفية" في أعماقها على يأس وقنوط من تجارب الشيوعية. لكنه ظل معجبا بالماوية (وقد يكون ذلك بسبب طابعها الفلاحي البسيط ومن ثم استجابتها من الناحية الأخلاقية للنفس التقليدية التي ظلت كامنة وقوية في شخصية وأخلاق العلوي). فحتى الماركسية، رغم طابعها النقدي الذي استثار محبة العلوي، كانت من حيث الجوهر والمنهج والأسلوب أيديولوجية تقليدية. وقد يفسر ذلك سبب إعجابه بالماركسية. بمعنى أنها كانت تستجيب لشخصيته النقدية والتقليدية بقدر واحد. وهو أمر جلي في مواقفه وقيمه وحياته الشخصية ورؤيته العملية. من هنا تناقضاتها الحادة التي ينبغي مع ذلك النظر إليها باعتبارها كلا واحدا. وقد يكون ذلك احد أسباب ضعف أو انعدام المشروع الفكري المستقل عند العلوي. بعبارة أخرى، لا توجد عند هادي العلوي منظومة فكرة ثابتة وواضحة المعالم والحدود والمنهج. وكل ما كتبه وتركه لنا هو مجموعة أبحاث ومواقف متنوعة ومختلفة. والجامع لها هو روح التمرد والعصيان والنزعة النقدية.

هادي العلوي ومنهج النقد المتمرد!
هناك شخصيات تتحدد قيمتها بمزاياها الشخصية أكثر مما بفكرها النظري. واقصد بذلك الشخصية التي تجعل من العقل العملي أولوية كبرى بحيث تتماهى معه كما نراه على سبيل المثال في شخصيات مثل سقراط وديوجين والحلاج.
لم يكن هادي العلوي ممثلا لتقاليد العقل النظري. انه كان ممثلا لتقاليد العقل العملي. من هنا خلو أعماله من التفلسف واجتهاد التأسيس النظري. ومن الممكن رؤية ملامح هذه الظاهرة المفارقة في اعتناقه للماركسية مع ضعف في تفعيل واستعمال منهجها النظري ومقولاتها الفلسفية. الأمر الذي وجد انعكاسه في هذا الخليط الغريب أحيانا بين نظريات ومناهج ومفاهيم ومقولات متنوعة ومختلفة. وقد تكون ظاهرة الاستطراد والخروج عليه في استعراض الأفكار والمواقف احد مظاهر هذه الحالة. وهذا مؤشر على انعدام المنهج بالمعنى الفلسفي الدقيق. وليس مصادفة أن يتقاسم في الكثير من مؤلفاته نموذج طه حسين في الرواية والحكاية. كما انه ليس مصادفة فيما يبدو أن يعجب أيما إعجاب بشخصية أبي العلاء المعري. وإذا كان هذا الأمر ليس معزولا بالنسبة لطه حسين عن عماه وصداه، فان السر القائم وراء إعجاب العلوي به كان مرتبطا بنفسية وذهنية ونموذج التمرد الروحي والأخلاقي. إننا نعثر عنده على تمرد أخلاقي خالص ومخلص. وإذا كان من الممكن وصف ذلك بالمنهج، فانه اقرب ما يكون إلى منهج القيم. انه مهم وفعال بالنسبة للوجدان الفردي والاجتماعي لكنه لا يصنع عقلا نظريا متناسقا. ومن الممكن العثور على ذلك في بحثه الدائب والجميل أيضا عن حالات التمرد والعصيان عند الشعراء والأدباء والفقهاء وغيرهم. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن تأثير الأيديولوجية (الشيوعية) التي جعلت من التمرد والعصيان والثورة والانقلاب مفاهيم قيمية أو قيم مفاهيمية. ولا فرق بين القيم والمفاهيم في الوعي الشيوعي العادي والسائد، وذلك لأنه في الأغلب خليط من جهل وتقليد. غير إنهما انفصلا عند هادي العلوي، بمعنى أن للقيم والمفاهيم استقلاليتهما في الوعي وتوحدهما في الوجدان. وبما أن اغلب كتابات العلوي لا تخلو من وجدان مستتر أو علني لهذا عادة ما يجري انتهاك الرؤية المنهجية، بما في ذلك الماركسية ونمطها العملي (الشيوعية).
لقد ظل هادي العلوي أسير مقولات ومفاهيم وقيم أيديولوجية (ماركسية). ولا فرق هنا أن نقول ماركسية صرف أو سوفيتية. فالأخيرة ليست أسوء أو أفضل من غيرها، بقدر ما أنها نوع من أنواعها. والسبب هنا يكمن في أن الشيوعية الماركسية أيديولوجية صرف ولا علاقة منطقية بينها وبين الفلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة. أما ادعاء العلمية في الماركسية فهو أيضا وهم أيديولوجي. إذ لا علم فيها باستثناء الادعاء والتمني. وقد وقع جميع الماركسيين في هذا الوهم، بما في ذلك هادي العلوي. مما حدد بدوره طبيعة الحالة المتناقضة التي وقع فيها هادي العلوي. فمن جهة نقف أمام شخصية متمردة، ومن جهة أخرى أمام خضوع لعقيدة توتاليتارية كالماركسية. وسبب ذلك يكمن في تناقض العلوي وضعف الثقافة والحالة السياسية.
فقد سار العلوي وراء الأنساق الدوغمائية المتشددة والتوتاليتارية في الفكرة الشيوعية الماركسية فيما يتعلق بالخصوم الأيديولوجيين (من بعثيين وإسلاميين وأمثالهم). ذلك يعني أن حدود هذه الشيوعية والماركسية كانت عراقية وليست فكرية. بينما نراه يمدح شخصيات "ليبرالية" عربية وغربية. ومع ذلك كان هذا "الخضوع" جزئيا ونسبيا، وذلك لان الماركسية بالنسبة للعلوي كانت اقرب ما تكون إلى شيوعية قيم وليس إلى فلسفة واضحة المعالم. لهذا نراه يتوصل أواخر حياته إلى أن العقيدة (الشيوعية) نفسها مجرد فخ تضعه القيادات الحزبية من اجل اصطياد الآخرين!
بعبارة أخرى، أن الأيديولوجية بالنسبة لهادي العلوي كانت اقرب إلى مجموعة قيم منها إلى أفكار محددة ومنهجية، أي أنها كمية قيم مثل العدالة والمساواة والحق والعدل والحرية والإنسانية. ومن ثم يمكن العثور عليها في اغلب الأيديولوجيات بما في ذلك المتضادة والمتصارعة. وعند العلوي كانت اقرب ما تكون إلى "أيديولوجية حسينية"! أما الماركسية فقد جرى اختزالها إلى مجرد أحكام أيديولوجية اجتماعية سياسية (فكرة الصراع الطبقي). وفي الوقت نفسه لا نعثر في كل كتابات هادي العلوي على استشهاد بمؤلفات كلاسيكي الماركسية. كما لا نعثر في أي من كتاباته على تناول أية قضية منهجية ضمن هذا السياق. وليس ذلك بأمر غريب على الماركسية "العربية". فهي لا تتعدى كونها شيوعية متحزبة بمقولات ومفاهيم سياسية وعقائدية صرف.
وعموما يمكننا القول، بان هناك منهج أو مناهج تعمل بمعايير العلم الطبيعي، وأخرى بمعايير العلم الفلسفي، وثالثة بمعايير الايديولوجيا. ويمكن العثور عليها جميعا بصورة عشوائية في كتابات العلوي. وفيما لو طبقنا ذلك على بعض كتبه "المتمردة" ضمن السياق المذكور أعلاه، فان ذلك يفترض منا في بادئ الأمر القول، بان عنوان أي كتاب هو تعبير عن رؤية وموقف ومنهج. وبالنسبة لهادي العلوي كان المقصود بعبارة (في الإسلام) الملازمة لعناوين التعذيب والاغتيال، هو الإشارة إلى أنها في تاريخ الدولة الإسلامية (الخلافة)، مثلما يقال الفلسفة في الإسلام والشعر في الإسلام وما شابه ذلك. والاستعمال مجاز، مع انه يمكن اختيار العبارة وتدقيقها بصورة لا تثير الالتباس و"الفهم السيئ". وذلك لان مهمة الفكر تنظيم الرؤية وعقلنتها وجعلها أكثر حرية وعقلية وإنسانية وواقعية. غير أن لكل كاتب ومؤلف مزاجه الشخصي أيضا. ومن ثم فهو لا يخلو من تأثير الحياة الشخصية وتراكم مكوناتها الجوهرية ونزوعه العملي. وقد كان مزاج العلوي نتاجا لتداخل الوجدان الصادق والفكرة الشيوعية (اليسارية).
فمن الناحية المنطقية كان من الأفضل اختيار عنوان أدق وأجمل. وهذا أمر ممكن بما في ذلك في حال الرغبة بالإبقاء على الإثارة في العنوان. لاسيما وان مضمون الكتاب وحيثياته لا تعدو كونها تجميع أحداث ومآثر تشير إلى أن السلطة هي مصدر التعذيب والاغتيال. وان الفكر العميق والحر في التاريخ الإسلامي هو من إبداع المعارضة. وهي فكرة تتبعها العلوي بثبات ووضوح في جميع ما كتبه. أما لماذا كتب هادي العلوي عناوينه بهذه الطريقة، فأنها نتاج وجدانه العارم وشخصية التمرد والعصيان الكامنة في أعمق أعماقه. وفي الوقت نفسه، كان العلوي شخصية نموذجية في نزوعها الإنساني اللطيف والمتسامي. بعبارة أخرى، أنها نتاج نفسية وذهنية التمرد والوجدان الإنساني الرفيع، التي تدفع الشخصية أيضا إلى الغلو، بوصفها الطريقة المناسبة لإثارة الاحتجاج والعصيان على حالات الخروج الهمجية على فكرة الحق والإنسانية.
وفيما لو تناولت هذه القضية ضمن مقاييس الرؤية النقدية العلمية، فقد كان من الأجدر تناولها بمعايير المنطق المجرد والتاريخ الواقعي، بوصفها القاعدة الضرورية للأحكام السياسية. لكن العلوي أبقى عليها ضمن معايير الوجدان الأخلاقي. من هنا سلامة مادتها ولحد ما تأويلها وتوظيفها السياسي. لكنها كانت تسير في طريق مضاد لتأسيس الرؤية العلمية الدقيقة، أي لتأسيس الوعي النظري والتاريخي والثقافي السليم. وذلك لان الوقائع التاريخية تشير إلى أن الإسلام الأول لم يمارس التعذيب والاغتيال. وان تجاربه بهذا الصدد هي الأكثر نبلا وسموا مقارنة بغيره. فالنصرانية على سبيل المثال انتقمت من مراحل ما قبل سطوتها بقسوة لا تقل عما كانت تواجهه في بداية أمرها من همجية ووحشية. بحيث نراها تدمر ليس معارضتها الأولية بل والتاريخ الثقافي برمته. بينما استعمل الإسلام أسلوب العفو والتوبة المقرون بفكرة تراكم وحقيقة القيم كما هو في فكرة خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) وأمثالها العديدة. إضافة إلى فكرة "الطلقاء". ومفارقة الظاهرة تقوم في أن هذا العفو الهائل أحتوى على خطأ سياسي مميت. فقد انتقم الطلقاء (بني أمية) لاحقا من الإسلام بمعايير العائلة والقبيلة. إنهم انتقموا من بني هاشم أولا وقبل كل شيء. وقد يكون توريث السلطة وحرف الخلافة إلى ملكية وراثية عائلية قبلية هي الصيغة الأكثر جلاء لذلك. وكرر العباسيون هذه التقاليد التي رسختها الأموية. فقد انتقموا من بني أمية بمعايير العائلة والقبلية. ذلك يعني أن احد مكامن الخطـأ التاريخي الهائل في أسلوب العفو وفكرة الطلقاء هنا تقوم في كونها قد فسحت المجال أمام إمكانية دمجهم في جسد المجتمع والدولة والدين (الايديولوجيا) رغم اغترابهم وعدائهم الشامل لهذه المكونات. وفيما لو جرى معاقبتهم بمعايير الحق والعدالة آنذاك لما كان بإمكان الطلقاء الظهور كقوة سياسية. وذلك لافتقادهم الشامل لأي رصيد أخلاقي وروحي وأيديولوجي وسياسي. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن ممارسة أبي بكر السياسية حال تسلمه الحكم تجاه الردة كان سلوكا سليما ومتجانسا بمعايير الدولة والمجتمع والسياسية والدين. أما القسوة المفرطة أحيانا فأنها أيضا ذات قيمة أخلاقية كبرى. وذلك لان القسوة المفرطة التي عادة ما تلازم صيرورة الدولة الأولى تحتوي على قدر ضروري ومستقبلي بقدر واحد. فهي الدَيْن الذي يصنع "دين" الوحدة، ومن ثم ينقل المجتمع من جحيم التجزئة وأعرافها وتقاليدها الضيقة إلى نمط الحياة المحكومة بالقانون.
وقد كان هادي العلوي يدرك هذه الحقيقة، إلا أن وجدانه العارم ومساعيه الشخصية النبيلة للحرية قد أفرزت على الدوام فيما بين سطور الكتابة والتأليف موجات التمرد. فالتمرد هي الصفة الملازمة لأعماقه السحيقة. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة الوجدانية لفكرة الحرية عند العلوي.

هادي العلوي – أديب الفكر العربي الحر
لم يكتب هادي العلوي أفكاره ومواقفه حسب قاعدة خالف تعرف. على العكس. لقد بقي العلوي مجهولا بما يتكافأ مع حقيقة إبداعه. وقد تكون كتبه "المثيرة" عن التعذيب والاغتيال في الإسلام من بين أكثرها دلالة بهذا الصدد، مع أنها اضعف كتاباته، أو لنقل أنها لا تتمتع بقيمة علمية أو حتى فكرية كبيرة. وبالتالي ليس لانتشاره و"شعبيته" علاقة جوهرية بهذا النمط من الكتابة. لاسيما وان هذه "الشعبية" محصورة بنمط معين من الناس، وبصورة خاصة ما يسمى باليسار والعلمانيين (الدنيويين).
أما شهرة هادي العلوي، فإنها اقرب ما تكون إلى صياح وصراخ في مزاد أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين. فالعلوي مازال مغمورا. وهذا جزء من حالة الثقافة العراقية والعربية عموما. فالملايين تعرف أسماء الراقصات المبتذلات والمغنيات التافهات ونواب البرلمان الرقعاء والسفهاء، والرؤساء اللصوص والجبناء، بينما تجهل رجال ثقافتها الكبرى. وينطبق ذلك بصورة حرفية على شخصية العلوي. وفي أفضل الأحوال، فان الاهتمام به أشبه ما يكون بمحاولة تحويله إلى أداة في أيدي الأحزاب وقادتها. فعندما تنشر (دار المدى) على سبيل المثال كتبه، فان ذلك ليس محبة أو إدراكا لقيمته الفعلية، بقدر ما تجري محاولة مصادرته وإدراجه ضمن "كتاب الدار". وهو ما كان يثير قرفه أواخر حياته (كما جرى ذلك في مراسلاته معي وأحاديثنا المباشرة في الشام).
أما فكرة أن تكون سهولة مؤلفاته وبساطتها هو سبب شهرتها، فان ذلك لا يخلو من صحة. فالمعطيات والشواهد الواقعية تكشف عن أن أكثر الكتب شهرة أكثرها بساطة. فالأغلبية لم تقرأ وتعرف (الفتوحات المكية) أو (فصوص الحكم) لابن عربي، لكنها تعرف جيدا (نوادر جحا) أو سورة الفاتحة! كما انه نادرا ما نعثر على من قرأ كتاب (فينامينولوجيا الروح) لهيغل وبالمقابل نعثر على كثرة من قرأ كتاب (البيان الشيوعي)! غير أن ليس كل سهل وبسيط قابل للشهرة. لهذا ليس من الصحيح إرجاع شهرة هادي العلوي إلى شيء ما غير ما فيه. فهو بسيط متواضع، سهل كالماء. وفي هذا مصدر قوته. فقد كانت شخصية العلوي اقرب ما تكون إلى قلب ولسان. فعندما تقرأ كتابات طه حسين أو العقاد فانك تشعر سريعا بالملل والقرف أحيانا. ولكنك تنهمك في قراءة العلوي. والسبب يكمن في أن ما يكتبه ينبع من قلب صاف.
لكن إذا كان لكتبه المتمردة أثر نسبي في الشهرة النسبية عند قطاع معين، فإنها كانت تحتوي بالقدر ذاته على ما يمكن دعوته بمكر الشهرة. وذلك لأنها تسحب المؤلف الى قاع الوعي المتخلف والمسطح والبدائي، ومن ثم تساهم في توسيع مدى وتشديد أوهامه عوضا عن تفكيكها وإعادة بناء الوعي الاجتماعي بصورة عقلانية وإنسانية. وقد يكون ترابط أو تلازم ما يسمى بشهرة هادي العلوي مع هذه الكتب احد نتائج الضريبة التي دفعها ويدفعها بهذا الصدد. وذلك لان حقيقة العلوي اكبر وأوسع من أن يجري ربطها بكتاب واحد أيا كان شكله ومحتواه. ومن ثم لا ينبغي إرجاع ما فيه الى هذا النمط من الكتابة. أما ما هو سائد عنه بهذا الصدد، فلا يتعدى في الواقع أكثر من كونه مؤشرا على كمية ونوعية الخراب الذي تعرض له الوعي الاجتماعي بشكل عام والعلمي بشكل خاص في العالم العربي وفي العراق على امتداد نصف قرن من الزمن (من 1958 وحتى الآن). فالعقل "الجماهيري" أو "الشعبي" الحالي اقرب ما يكون إلى أعراف وتقاليد ومعلومات جزئية ومعارف نسبية مخلوطة بعجين الأيديولوجيات الدينية والدنيوية. ونعثر على ذلك بصورة جلية في نمط الكتابة والتأليف السائدين، والذي هو مجرد نقل معلومات وتسطيرها، اي عمل عضلي. وينطبق هذا في الواقع على كتابة وتأليف اغلب "العلماء" و"المفكرين" وما شابه ذلك من أوصاف ملصقة بأسماء!
وفيما لو عدنا إلى جوهر القضية، فان الشيء الذي ينبغي تسجيله هو التالي: إن عناوين كتبه (الاغتيال في الإسلام) و(التعذيب في الإسلام) وأمثالها، هي مجرد جزء من تاريخ هادي العلوي الشخصي ورؤيته وعقيدته ومنهجه. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون العلوي هو كاتب اجتماعي (أديب بالمعنى الكلاسيكي العربي الإسلامي)، وأخلاقي النزعة والقيم، أي أديب العقل العملي، من هنا يمكن فهم البواعث الدفينة وراء كتابته لهذا النمط من المؤلفات وصيغتها وشكلها ومحتواها وغايتها. ففي عنوان الكتاب ومادته يمكن رؤية إدانته لظاهرة التعذيب والاغتيال المميزة لسيادة وهيمنة السلطة في العراق المعاصر. كما انه يحتوي على إدانة لهذه الظاهرة في التاريخ العربي والإسلامي. ومن ثم يمكن التوصل الى انه كان يسعى لتأسيس الفكرة القائلة، بأنه لا قدسية في التاريخ، وانه لا وجود لخلافة مقدسة. وهي فكرة عقلانية ونقدية بقدر واحد.
لكن الخطأ الذي اقترفه بهذا الصدد أيضا هو ضعف رؤيته النقدية تجاه تقاليد النقد والتنوير والحداثة في الفكر العربي الحديث. بمعنى انه استمر بنفس الخطأ المنهجي في فكرة التنوير العربية الحديثة في موقفها من الدين والتراث. وبلغت خصوصية هذا الخطأ ذروتها في الشيوعية العربية. وذلك لأنها جعلت من محاربة الدين (الإسلامي) أسلوب بلوغ الحداثة والتقدم. بينما كانت هي في الواقع تتنافس معه من اجل الإحلال محله، أي الاستعاضة عن الدين التقليدي بآخر "حديث" خارجي مستورد تقليدي وراديكالي مغترب، هو الأقل سموا والأشد يقينا بمعرفته بكل شيء. فالمسلم العادي عندما يعجز عن معرفة شيء ما يقول "الله اعلم". أما الشيوعي فانه يعلم كل شيء بما في ذلك كيفية حياة وموت النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء!
أما بالنسبة للعلوي، فان الهجوم على الإسلام لم يكن قضية جوهرية في تفكيره ومساعيه وكتاباته. كما لم يكمن هاجسا عميقا عنده. لقد كانت تلك لحظة عابرة. أما الثبات فيها فقد كان يستند أو يعتمد أو يستمد نفسه من أسلوب النقد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. فالصفة الجوهرية في فكر العلوي وشخصيته هي صفة النقد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي وليس الفكري. فقد انتقد العلوي حالة سياسية واجتماعية وأخلاقية معينة عند الإسلام المتشدد والسلفي والحركات الدينية السياسية العراقية التي عايش نماذجها في الشام. وما يجري في العراق الحالي يؤكد صحة ما كان يقوله آنذاك. وبالتالي، فان نقد الإسلام بالطريقة المشهورة عنه اقرب ما تكون إلى لحظة عابرة هي جزء من حالة مزاجية وسياسية.
كل ذلك يجعل من الضروري إعادة النظر بماهية العلوي الحقيقية من اجل وضعه ضمن إطار إبداعه الفعلي. ومن الممكن وصف هادي العلوي وكتاباته على أنها نموذج لفن الأدب وشخصية الأديب كما عرفته التقاليد العربية الإسلامية الكلاسيكية. لهذا لا نعثر في كتاباته على اهتمام علمي جدي بعلم الكلام والفلسفة وأصول الفقه والتصوف. وبالمقابل نعثر على اهتمام مفرط بالتاريخ وقضاياه وحوادثه وإشكالاته وشخصياته. بعبارة أخرى انه اهتمام بتاريخ الأحداث وإشكالاته الفكرية والسياسية. وبالتالي فهو تاريخ من نوع خاص، بلا تسلسل ولا تتبع ولا منظومة. انه اقرب ما يكون الى استخلاص فكري سياسي اجتماعي للمحات تاريخية وأحداث وشخصيات. وقد تكون المقالات التي كتبها تحت عنوان (قاموس التراث) نموذجا تطبيقيا لهذا النمط.
فقد كانت ثقافة هادي العلوي الأولية ثقافة الأدب والأديب المتنوعة من أخلاط اللغة والأدب والتاريخ والفقه والدين والنوادر والسير. وتعادل هذه الأخلاط فكرة الأخلاط الفلسفية، أي العناصر والمكونات الضرورية للوجود. فقد بدأ العلوي بهذه التقاليد وانتهى بها! لكن خصوصيته، على خلاف طه حسين على سبيل المثال الذي حاول تحويرها من خلال التفعيل السهل والفج لمنهج الشك الديكارتي، تقوم في إدخاله إياها ضمن سياق وسباق المعارك السياسية والأيديولوجية والاجتماعية للشيوعية العراقية. بينما نراه في نهاية المطاف يصاب بمرارة المشاعر تجاه الشيوعية وإثارتها للتقزز والخجل. لكن البديل بقى ضمنها بعد تحوير أخلاقي لها ببعض معايير ومقاييس التاوية الصينية والصوفية الإسلامية. وبالمقابل اعتبر العقيدة كذب ودجل!
وبما انه لا يوجد عند الأديب منظومة، من هنا غلبة الأخلاط على إنتاجه. والتاريخ العربي والعالمي لا يعرف إلا القليل من أولئك الأدباء الذين ارتقى إبداعهم الأدبي الى مصاف المنظومة، كما هو الحال عند الجاحظ ولحد ما عند برنارد شو وأمثالهم. إن شيء ما من هذا القبيل يمكن العثور عليه عند هادي العلوي ولكن على مستوى العقل العملي وليس النظري. فإذا كانت الفكرة الجوهرية للجاحظ، على سبيل المثال، قد تراكمت من خلال تنظيم وتأسيس فكرة الإرادة المعتزلية، فان الجوهري في تفكير ونوازع العلوي هي فكرة التمرد. لهذا لا يمكننا الحديث عن أخلاط غير متسقة في الأعمال النظرية والعملية للعلوي. أنها متوحدة ضمن سياق فكرة الأدب التي تحدثت عنها. كما أنها متوحدة بهموم الرؤية الأيديولوجية السياسية. فالأديب المعاصر (معلوماتي أو موسوعي). والعلوي يجمع بين الاثنين.
لقد كان العلوي واسع المعرفة، عميق الدراية. انه رجل موسوعي. ويدرك ذلك من يعرف معنى وحقيقة الموسوعية، وكذلك من يعرفه حق المعرفة. لكن ذلك بقي عنده على مستوى الثقافة الشفهية في الأغلب. أما الغلبة عنده فقد بقت للتراث العربي الإسلامي. وهذا كم يصعب الإحاطة به. فهو كنوز هائلة جدا.

شيوعية القيم
هناك فكرة شائعة عن هادي العلوي مفادها أن سبب شهرته يقوم في انتمائه للشيوعية. وهي فكرة تنزع منه أصالته الشخصية ومعاناته الفردية وشخصيته الباطنية التي لا يربطها بالشيوعية شيئا غير حماسة الفتوة الأولى. إضافة إلى ما فيه من نزع ونسق أيديولوجي صرف. وإذا كان لارتباطه بالشيوعية اثر في تحديد مواقفه النظرية والعملية، فأنها كانت تسير عموما في تضييق مدى الحرية الفكري وأحكامها. من هنا يمكنني القول، بان ارتباط بالشيوعية كان سبب إضعافه وتضييق قدراته الكامنة! لقد أفسد انتماءه للماركسية، التي لم يكن يعرف عنها إلا القليل، تفكيره، لكن الذي أنقذه في الوقت نفسه هو انه نظر إليها بوصفها شيوعية قيم.
فالانتماء للماركسية لا يصنع مشروعا. وذلك لان الماركسية تسحق كل مشروع فردي حر. والسبب ليس فقط في كونها فلسفة متكاملة تجعل من ينتمي إليها داعية في أفضل الأحوال، بل وبسبب طابعها التوتاليتاري المبطن وأنساقها الأيديولوجية المتشددة. إذ لا علم فيها من حيث الجوهر، بل مجرد غطاء علمي لدعاوي أيديولوجية صرف. لكن الذي أنقذ العلوي من هذا الأثر المخرب للماركسية هو انه كان شيوعيا أكثر مما هو ماركسيا، بمعنى انه كان يشاطر القيم العملية التي يمكن العثور عليها في الأديان والعقائد السياسية والفلسفية المتنوعة وحتى المختلفة. إضافة إلى معارفه الكبيرة وإخلاصه للتراث الثقافي العربي والإسلامي ككل. فقد كان هادي العلوي أديبا.
بعبارة أخرى، إن التأثير الكبير للماركسية على فكر العلوي كان محكوما ومرتبطا بالعقل العملي والقيم الأخلاقية وليس بتراثها الفلسفي وعقلها النظري. وليس مصادفة أن يصطدم آخر حياته بإشكالية الموقف من العقيدة. بحيث نراه ينظر إليها بقدر من المرارة الخالصة من شوائب الانتماء السياسي عندما اعتبرها خديعة. بل نراه يتوصل آخر حياته إلى "مشروع" الإنسان ويهمل مشروع العقائد الكبرى. لقد أراد أن يعيد بناء رؤيته وتجاربه الشخصية من خلال التركيز على جوهرية الإنسان. لكنه مشروع جاء متأخرا. ومن ثم لم يكن بإمكانه التحرر من ثقل الزمن الأيديولوجي وتاريخ التراكم الفكري والعقائدي في تصوراته وأحكامه وقيمه. لقد كان الرجوع إلى فكرة الإنسان ملاذه الأخير، الذي سعى لتجسيده في قاموس يتناول إشكاليات الإنسان.
ففي آخر عمره (حسب معرفتي وحديثه معه) وبعد أن رأى سقوط الاشتراكية، بقي حلم الماوية يداعب خياله. وليست التاوية في الواقع سوى الوجه الأقدم، حسب مزاجه الوجداني للماوية الحديثة، التي ظل يكن لها محبة عميقة. كما أن فكرة "المشاعية الشرقية" عنده ليست إلا الوجه المحسن للشيوعية الغربية التي بدت بالنسبة له فسادا ونفيا لحقيقة القيم المشاعية! كل ذلك يشير إلى أن مأساة المثقف الماركسي تقوم في بذله جهودا هائلة من اجل البرهنة على أمور وأشياء لا قيمة لها بالنسبة لتعميق وتوسيع وترسيخ وعي الذات القومي والإنساني. وهذا ما توصل إليه هادي العلوي أواخر حياته، لكنه لم يكن قادرا على قطع خيوط الارتباط العديدة التي لفت كامل كيانه على مدار عقود من الزمن.
ومن الممكن توضيح ذلك على مثال موقفه من كتاب (النزعات المادية...) لحسين مروة. فقد كان هادي العلوي شديد الإعجاب بحسين مروة بشكل عام وبكتابه (النزعات المادية...) بشكل خاص. بحيث وصف حسين مروة "بشيخ الماركسيين العرب"! (على الأقل في مجال التراث). وهو وصف له معناه وقيمته ودقته بمعايير الايديولوجيا. وقد كان تقييم العلوي هذا نتاجا لإعجابه بالماركسية وتنميطها المدرسي الجيد في كتاب حسين مروة. كما أن ذلك لم يكن معزولا عما فيه من محاولة لسدة الثغرة الكبرى وردم الهوة الهائلة التي لم ينهمك بها هادي العلوي ويتفرغ لها، أي كتابة تاريخ الفكر العربي الإسلامي. كما يمكن إضافة سبب أخر وهو أن العلوي لم يكن كبير الاهتمام بالفكر الفلسفي العربي الإسلامي. والكتاب الوحيد المتخصص بهذا الصدد هو كتاب (الحركة الجوهرية عند الشيرازي).
فمن الناحية الشكلية يمكن القول، بان كتاب حسين مروة كتاب مدرسي بحت. كما انه مكتوب بمعايير الرؤية الأيديولوجية. وفي الوقت نفسه انه الأكثر اتساقا والأكثر تماسكا من حيث أنساقه وترابطه وأسلوبه وغاياته في الكتابات الماركسية العربية لذالك الزمن. وضمن هذا الرؤية له الأفضلية مقارنة بما كتبه هادي العلوي. مع أن هادي العلوي لم يؤرخ للفكر العربي الإسلامي. وان كتاباته جميعا تخلو من "طول النفس" في مكابدة الأعمال النظرية والتاريخية الكبيرة. لكن عنوان كتاب حسين مروة (النزعات المادية...) لا يخلو من هلوسة الأيديولوجية الماركسية العربية، وبالأخص ما يتعلق منه بالبحث عن "مادية" و"تقدمية" و"يسارية" في التراث العربي الإسلامي. وهذه قضية منهجية لا قيمة لها بالنسبة للتحليل الفلسفي. لكنها كانت حامية الوطيس ضمن تقاليد الصراع السياسي الأيديولوجي المبتذل آنذاك. ومع ذلك فأن الفضيلة الكبرى لعمل حسين مروة تقوم في توجيه نظر الشيوعيين العرب صوب التاريخ القومي والتراث الذاتي. وهي مفارقة لا أسخف منها بالنسبة للوعي الذاتي التاريخي والقومي. طبعا أن سبب ذلك يقوم في أن اغلب قيادات الحركات الشيوعية العربية من الأقليات القومية والعرقية والدينية. من هنا اغتراب التاريخ العربي والإسلامي عنها. ولا يقلل من هذا الأثر الطابع الأيديولوجي للكتاب. فقد كانت مهمته البرهنة على صحة وعظمة الماركسية والبحث عن "مادية" في التراث العربي الإسلامي مؤيدة لها.
بعبارة أخرى، لقد كان كتاب حسين مروة من ناحية المضمون اقل إثارة وقيمة من كتابات هادي العلوي. رغم الدعاية الهائلة له كما هي العادة بالنسبة للشيوعية العربية. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن أن كل "إبداع" الشيوعية العربية وشخصياتها من كتاب وأدباء وشعراء وفنانين و"مفكرين" كان جزء من تصنيع حزبي ومتحزب. من هنا شدة الاهتمام بكتاب حسين مروة القادر على صنع "عقل" عقائدي مقنن، أما العلوي فانه ترك المجال حرا أمام البدائل. انه محرّض ومثير للشكوك والنقد. الأمر الذي يجعل من الممكن القول، بان ماركسية منسّقة ومرتبة أتعس من ماركسية مبعثرة ومشعوذة! تماما كما أن "ماركسية" أنصاف المثقفين والمتعلمين أرذل من ماركسية صعاليك أميين! والقضية هنا ليست فقط في أن المثقف الحقيقي لا يمكنه أن يكون ماركسيا، بل وبسبب تخريبها للروح الحر والانتماء القومي والرؤية الواقعية والذوق السليم خارج حدود الثقافة الأوربية.
إن سبب هذه المفارقة يكمن في أن هادي العلوي لم يكن أيديولوجيا ولم يؤدلج لحركة سياسية أو حزبية. وليس مصادفة آلا يقلده الحزب الشيوعي العراقي (والعربية) إدارة تحرير مجلاته أو جرائده. بل عادة ما كان يترأسها أنصاف متعلمين مستعدين بحماسة منقطعة النظير لقول كل ما يريده الحزب! هذا الاسم المعتق لكل ما هو عتيق تلف! لقد كان هادي العلوي يفكر ويكتب بمعايير الذوق الشخصي والمعاناة الفردية وليس بمعايير العقائد. فقد تلاقت عنده في الواقع قيم العدالة والحق والمساواة والحرية والإنسانية وغيرها مع ما هو شائع عن الشيوعية. فتلابس الأمران فيه وعنده.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا إلى أننا لا نعثر عند هادي العلوي على أي اهتمام نظري بالماركسية والشيوعية. فهو لم يكتب بهذا الصدد شيئا يذكر. كما تخلو كتاباته من أي شيء له علاقة بأصول الماركسية ومكوناتها، اقصد الفلسفة والاقتصاد والاشتراكية (السياسة). وهكذا ظل حتى نهاية حياته. لقد كانت الماركسية بالنسبة له أشبه ما تكون بالحب الأول: مشاعر وعواطف ووجدان. يتذكره بلطف وعنفوان ولكن بدون ملامسة جسدية. وبالتالي لا ماركسية بالمعنى الدقيق للكلمة في كتابات العلوي، بل شيوعية قيم. والقيم الكبرى ليست حكرا على تيار دون آخر. لكن الصدفة شاءت(!) أن تكون في عراق النصف الأول من القرن العشرين مرتبطة بالشيوعية.
فقد كان العلوي يحتوي في شخصيته وأعماقه على تيارات عديدة: يسارية وشيوعية وماركسية وماوية ووطنية وقومية عربية وشرقية ومعادية للغرب. وبالتالي لا ينبغي إرجاعه الى جزء منها. فالعلوي صيرورة وكينونة ثقافية. والجامع فيها أو الرابط لكل أجزاءه هو ما يمكن دعوته بوجدانية القيم الكبرى كالعدل والمساواة والحق والعدالة والإنسانية.
وليس اهتمامه أواخر حياته بالمشاعية والتاوية والتصوف سوى الوجه الآخر لمرارة الشك بالعقائد الشيوعية. لكنه لم يستطع الفكاك منها بصورة تامة، بمعنى أن لم يوجه نقده الاجتماعي والفكري لتجارب الشيوعية والفكرة الماركسية. لقد بقى ضمن سياق الفكرة الشائعة عن أن الخطأ في العمل وليس في النظر. وهذا بدوره مجرد وهم أيديولوجي. لكنه تلمس أواخر حياته واقترب من الحقيقة البسيطة القائلة، بان الثقافة الحقيقية لها أصولها الحقيقية. والمهمة تقوم بالرجوع الى هذه الأصول. لكنه لم يستطع تأصيل هذه الفكرة، كما انه لم يقم بتطبيق نظري وفكري لها.



#خيرالله_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عِندما يتحدّث الضمير : قراءة تحتيّة في كتاب - بيني وبين نفسي ...
- عِندما يتحدّث الضمير : قراءة تحتيّة في كتاب - بيني وبين نفسي ...
- عِندما يتحدّث الضمير : قراءة تحتيّة في كتاب - بيني وبين نفسي ...
- شُكراً كندا -عندما تجاوزت عملية البروستاتا بنجاح -
- عريان السيد خلف : الشاعرية المكتملة في الشعر الشعبي العراقي ...
- أناشيد للبصرة
- الإصلاح يبدأ بالثقافة .
- رسالة الى الفنان نصير شمّة ( كلنا مع أهلنا )
- ماذا تُحدّثُ عن صنعاء يا أبتي
- نبض السنين الحلقة التاسعة والأخيرة
- نبض السنين - الحلقة الثامنة
- نبض السنين الحلقة السابعة
- نبض السنين الحلقة السادسة
- نبض السنين الحلقة الخامسة
- نبض السنين الحلقة الرابعة
- نبض السنين الحلقة الثالثة
- دراسة سياسية في كتاب آرا خاجادور( نبض السنين ) 2
- نبض السنين الحلقة الأولى - دراسة سياسية في كتاب آرا خاجادور( ...
- مشروع رؤية لتأسيس دار نشر جماعية
- تلويحة وداع أخيرة لشاكر السماوي


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خيرالله سعيد - شخصية ومصير .. هادي العلوي