أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري فوزي أبوحسين - السيرة الذاتية الشعرية















المزيد.....


السيرة الذاتية الشعرية


صبري فوزي أبوحسين

الحوار المتمدن-العدد: 7355 - 2022 / 8 / 29 - 01:40
المحور: الادب والفن
    


السيرة الشعرية:
إن مما لا يختلف عليه اثنان أن أسلافنا قد عُنوا أشد العناية بتراجم رجالهم وطبقات علمائهم وتوفروا على ذلك الفن، وافتنُّوا في تبويبه على أنحاء متنوعة وطرائق مختلفة، حتى لقد بلغت بهم العناية في ذلك أن ألفوا كتبًا في تواريخ البلدان، أرخوا فهيا لنشأتها وعمرانها وتطورها وفتحها وآثارها، ثم يفيضون بعد ذلك في التراجم لأهل هذا البلد. ولم يغفل الأدب العربي كتابة السيرة، وهي بعينها التراجم مطولة مستقلة، كما في سيرة الرسول  لابن هشام برواية ابن إسحق، وكما في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، وكما في سيرة ابن طولون للبلوي، وكما في سيرة صلاح الدين الأيوبي لابن شداد، إلا أن السير لم تبلغ في الأدب العربي ما بلغته التراجم كثرة وتنوعًا، ولم يقف العصر الحديث وقفة الجمود في فن له في الأدب العربي أقدم مكان، فتأثر كتَّاب التراجم العربية اليوم بطرائق الغربيين ومذاهبهم في التحليل وتجلية العوامل النفسية والبيئية وغير ذلك، وراح جماعة من الأدباء المحدثين يكتبون سيَر الراحلين من رجالات المسلمين والعرب على نهج جديد( ).
وتحتل السير والتراجم في مدونة التاريخ مكانًا مرموقًا، فإذا كان التاريخ هو البحث وراء الحقيقة وتمحيصها وجلاء غموضها في أي جانب من جوانب الحياة الإنسانية، فإن السيرة هي البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ والكشف عن مواهب وأسرار عبقرية من ظروف حياته التي عاشها، والأحداث التي واجهها في محطيه، والأثر الذي خلفه في جيله؛ لذا كانت أقرب إلى التأثير الدرامي من كل أنواع التاريخ الأخرى... وقد تطغى السيرة على التاريخ وتحتل الجانب الأكبر من مدوَّنته، فمن فلاسفة التاريخ من يرى أن التاريخ ليس إلا سيرة عظماء الرجال( ).
واستخدام مصطلح السيرة أفضل من كلمة الترجمة؛ لأن استخدام العرب لكلمة سيرة كان أسبق من استخدامهم لكلمة ترجمة، وقد أغفلتها المعاجم للدلالة على تاريخ الحياة ولم نهتد إلى هذه الكلمة إلا في القرن السابع الهجري حيث استخدمها ياقوت الرومي المتوفى سنة 626ه للدلالة على تاريخ الشخص( ). والمدلول اللغوي لكلمة سيرة لا يختلف عن المفهوم الاصطلاحي؛ ففي معظم المعاجم سير سيرة بالكسر: جاء بأحاديث الأوائل أو حدَّث بها....والسيرة النبوية وكتب السيرة مأخوذة من السيرة بمعنى الطريق، وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك إلحاقًا وتأويلًا.... ويقال: استار بسيرته إذا استنَّ بسنته وطريقته( ) والسيرة: السنَّة والطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره، ويقال: قرأت سيرة فلان: تاريخ حياته( ). والمفهوم الفني للسيرة، كما تسجله دائرة المعارف البريطانية، هو: ذلك المؤلف الروائي الذي يسجل بوعي وفنية الحدث ويعيد إلى الحياة وجود شخصية إنسانية( ). ويعرفها الأستاذ محمد عبد الغني حسن بأنها: نوع من الفنون الأدبية يتناول التعريف بحياة رجل أو أكثر، تعريفًا يطول أو يقصر أو يتعمق أو يبدو على السطح تبعًا لحالة العصر الذي كُتِبت فيه. وهي نوعان:سيرة غيرية ويطلق عليها BIOGRAPHY، وسيرة ذاتية ويطلق عليها AUTOBIGRAPHY ( ).

المجمعيون والسيرة:
للمجمعيين جميعًا شعراء وغير شعراء نتاج في نوعي السيرة، فمن السير الغيرية عندهم معظم كلمات الاستقبال والتأبين التي يُعدونها ويلقونها. ففيها يستعرض المجمعي سرد أبرز الجوانب في شخصية العضو الآخر المستَقبَل أو المؤبَّن محللًا وموضحًا التأثير والتأثر في جوانب حياته المختلفة مع التركيز على المسيرة العلمية، وإن كانت تتسم بالإيجاز غالبًا، وبإبراز الجوانب الحسنة فقط، فمعظمها إلى المدح أقرب منها إلى السيرة. ولعل الشعر أراد أن يثبت أنه قادر على أن يلج الميادين التي كانت للنثر، أو لعل الشعراء أو ناظمي الشعر من المؤرخين أرادوا للشعر أن يكون سبيلًا متأنقًا لكتابة التاريخ فلجأوا إلى تدوين بعض السير عن طريق الكلام المنظوم الذي يقيده الوزن والقافية معًا، كما في القصائد التاريخية أو يقيده الوزن فقط، مع تنوع القافية كما في الأراجيز التاريخية.
وهذا النوع من السيرة كان استجابة لحركة الشعر التعليمي الذي دخل معظم ميادين العلوم. ولعل أقدم تاريخ منظوم ما صنعه عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296هـ في قصيدته التاريخية في أشعار الخلفاء والملوك، وفي أرجوزته في تاريخ الخليفة المعتضد العباسي التي صنعها بإشارة من المعتضد نفسه، وقد أُعجب بها الخليفة وحفَّظها إحدى جواريه...وأخذت بعد ابن المعتز تتوالى السير الشعرية سواء أكانت ترجمة للرسول أم ترجمة للملوك والحكام وأعيان الرجال. أما السيرة الشعريةالنبوية فقد تصدى للقيام بها جماعة من المؤرخين الشعراء، كما فعل شمس الدين الباعوني المتوفى سنة 871هـ في كتابه المسمى"منحة اللبيب في سيرة الحبيب"، وكما فعل زين الدين بن الشحنة المتوفى سنة 815 هـ في أرجوزته في سيرة الرسول وتبلغ عددها تسعة وتسعين بيتًا، وكما فعل ابن سيد الناس المتوفى سنة 734هـ في كتابه"بشرى اللبيب في ذكر الحبيب"، وإن كانت في الحق أقرب إلى شعر المديح منها إلى شعر السير"( ).
هذا ويعد الدكتور حسن علي إبراهيم من المجمعيين المعنيين بشخصية الرسول فنَتاجه الشعري، خلال فترة بحثنا، يدور مضمون معظمه حول سيرة الرسول وأحداث حياته، فله قصيدة بعنوان: "وقفه أمام قبر الرسول"، سجل فيها كثيرًا من الأحداث الحياتية لسيرته  وسرد جملة من جوانبها، وله قصيدة أخرى بعنوان"محمد رسول الله"عارض فيها البوصيري البارودي وشوقي وغيرهم، سرد فيها حياة الرسول من الميلاد إلى النهاية، يقول في مطلعها:
ماذبت شوقًا لجيران بذي سلم
ولا أرقت لذكر البان والعلمِ

وما أبحت لريم القاع سفك دمي
في الأشهر الحل أو في الأشهر الحرم

ويشير إلى ميلاده  بقوله:
محمد عرك الدنيا بما حفلت
من الشقاوة والنعمى ومن غُمم

جاء الحياة يتيمًا قبل مولده
وفي الطفولة عانى شقوة اللطمِ

فعاش مع جده حينًا وفي كنف
لعمه والعرى موصولة الرحم

وحين شبَّ رعَى للقوم شاتهمُ
كل النبيين قد هشوا على الغنم

وسار بالعير والأموال مُتَّجرًا
وهو الأمين على قوم ومالِهمِ

وهو المصدَّق في قول وفي عمل
فصار يُكنَى أمينًا وهو خير سَمي

وصار يُعجَب من قوم فدينهمُ
توارثوه عن الآباء من قدم

أينحت الناس من أحجارهم صنمًا
ويسجدون خشوعًا خشية الصنم( )

ويظل شاعرنا يستطرد ويستمر في سرد أحداث سيرته  في صور شعرية متنوعة وموجزة، تدل على لماحية ومقدرة فنية عالية في قصيدته تلك الطويلة التي بلغ عدد أبياتها أربعًا وعشرين ومائة بيت، ويختمها بقوله:
كل إلى الله ماضٍ في مسيرته
والموت غاية مَن يسعى على قدمِ

وما محمدُ باق إنه بشر
من قبله الرسْل قد عادوا إلى ربهمِ

لاقى الإله وقد أدى رسالته
وقام للدين صرح غير منهدم

إن جئت مكة يَمِّمْ نحو كعبتها
وكعبة الناس من عرب ومن عجم

واطلب من الله رضوانًا ومغفرة

إن الخطايا لدى الرحمن كاللمم

سألتك العفو ربي إنني بشر
جم الذنوب وأنت الواسع الكرم

ونجد له في قصيدته"وقفة أمام قبر الرسول"إشارات تأريخية لبعض أحداث الرسول  . من ذلك قوله واصفًا وساردًا لبعض الغزوات:
هنا خرَّ للرحمن يطلب نصره
فينصره والنصر غير مواتِ

ففي أحد لم يفزع الهول أنفسًا
بقين بحبل الله معتصمات

وولى عدو الله ما نال مأربًا
وظلت قلاع الحق ممتنعات

وفي غزوة الأحزاب حل بيثرب
من الكرب ما يثني عزيمَ عُتاة

حصار وكرٌّ ثم جوع مدنف
وحشد من الكفار بالعتبات

فأنزل رب البيت بالكفر فُرقةً
وأرسل ريحًا ترسل الرعدات

فقوَّض ما قد طنَّبوه وأدبروا
وأيديهمُ قد أصبحت صفِرات

هنا قد نعى الأبطال لحظة موتهم
بمؤتة في الهيجاء حين وفاة( )

وهكذا يوظف شاعرنا الطبيب موهبته في تتبع سيرة الرسول  موضحًا أضوأ قسماتها وأبين الجوانب المؤثرة فينا منها، كل ذلك في أسلوب شعري مشرق، بعيد عن الأسلوب التاريخي الجاف، كما يُلحظ من الأمثلة السابقة. وإن كان القارئ لهاتين القصيدتين يلحظ أن المديح النبوي يكاد يمتزج بسمات السرد التاريخي لأحداث حياة الرسول .
السيرة الذاتية:
السيرة الذاتية هي أن يكتب المرء بنفسه تاريخ حياته، فيسجل حوادثه وأخباره، ويسرد أعماله وآثاره، ويذكر أيام طفولته وشبابه وكهولته وما جرى له فيها من أحداث تعظم وتضؤل تبعًا لأهميتها، وهي مَظِنَّة الإغراق والمغالاة غالبًا، وشرَك للحديث عن النفس والزهو بها وإعلاء قيمتها، ولكنها إذا اعتدلت كانت أصدق ما يُكتَب عن رجل وأكثره انطباقًا على حياته؛ لأنها ليست مجال تخمين أو افتراض، ولكنها مجال تحقيق وتثبُّت، وبهذا يصح في المترجِم الذاتي مضرب المثل: قطعت جهيزةُ قول كل خطيب"( ). وهذا الفن له نماذجه المختلفة عند كثير من الأمم. ولعل أقدم ما وصل إلينا من تلك النماذج، تلك الكلمات التي كان ينقشها القدماء على شواهد قبورهم فيعرِّفون بأنفسهم، وقد يذكرون بعض أعمالهم، واشتُهر المصريون في عصر الفراعنة بذلك، وقد سجل يليوس قيصر في كتابه التعليقات حروبه في الغال وغيرها، وأُثر عن ملوك الفرس وصايا لأبنائهم توضح سياستهم نقلها عنهم العرب، وفي كتاب"تراجم الأمم لمسكويه أن كسرى أنو شروان ألف كتابًا في سيرته وسياسته، وفي كتاب كليلة ودمنة ترجمة لبرزويه راس الأطباء الفرس( ). وللعرب نماذج كثيرة تأثروا فيها بغيرهم من الأمم، فقصص بعض الأمثال يحكيها الشخص عن نفسه، وفي شعرنا كثير من الأعمال التي تصور جوانب متنوعة عن حياة صاحبها، وهي بلاشك تعد إرهاصات تؤكد مدى اهتمام العربي بذاته وإحساسه بنفسه، وترد على القائلين بأن الشعور بالشخصية لدى الروح السامية غامض مضطرب، وفي كتاب"عيون الأنباء في طبقات الأطباء"لابن ابي أصيبعة نماذج كثيرة لفن السيرة الذاتية وخاصة الرسائل التي ذكرها لحنين بن إسحاق"المتوفى سنة 152هـ"، ولمحمد بن زكريا الرازي، ولابن الهيثم"المتوفى سنة 430هـ،"ولابن سينا"المتوفى سنة 428هـ"، ولعلي بن رضوان"المتوفى سنة 460هـ"، وقد ذكر ياقوت في معجمه أن لعلي بن زيد البيهقي ترجمة لنفسه في كتابه"مشارب تجارب الأمم"( )...
وفي العصر الحديث نجد لكل أمة سيرها الذاتية الممتازة بحيث يؤلف هذا الفن عند كل قوم في محيطه وبيئته، سلسلة متلاحقة من الآثار، ومن أشهر هذه السير الذاتية"الاعترافات لجان جاك روسو و"الشعر وحقيقته"لمعاصره جيته، و"طفولة وفتوة وشباب"لتولستوي , و"ديفد كوبر فيلد"لديكنز( ). وقد نهج المحدثون نهج قدمائنا في الترجمة لأنفسهم وقد اطلع بعضهم على ما لدى الغرب من سير ذاتية، فكان القديم العربي والجديد الغربي باعثًا على الترجمة لأنفسهم، ولعل من أهم من ترجموا لأنفسهم علي مبارك في مؤلفة الخط التوفيقية، وهي سيرة طويلة تقع في نحو ستين صفحة، ومحمد كرد علي، أديب سوريا وعالمها، فقد ترجم لنفسه في نهاية الجزء السادس من كتابه"خطط الشام"، وطه حسين في قصته"الأيام"، وأحمد أمين الذي تعد ترجمته الذاتية"حياتي"أهم ترجمة كتبت بعد الأيام، والدكتور شوقي ضيف في ترجمته الذاتية"معي"وهي جزآن، وغيرهم كثير ( ).
وللمجمعيين مشاركة في هذا الفن فكتاب"الأعضاء المراسلون"ما هو إلا سلسلة من السيرة الذاتية كتبها أصحابها بأقلامهم مرتبة أبجديًّا، وهي لأعلام معروفة في مجالات المعرفة المتنوعة، فمنهم: إبراهيم السامرائي، إحسان عباس، والإسباني أميليوجارثياجومث، والفرنسي جاك بيرك، والسوفيتي جويجوري شرباتوشف، والألماني رودلف زلهايم، والسعودي حسن عبد الله القرشي، والعراقي حسين علي محفوظ، وغيرهم. وإن كان بعض هذه السيَر يعدُّ في نظري سردًا تاريخيًّا جافًّا لم يُعنَ صاحبُه في بالتحليل النفسي لحياته والمؤثرات التي أثرت في مسيرته الدينوية والعلمية.
وللأستاذ محمد خلف الله أحمد سيرة ذاتية بعنوان"محمد خلف الله أحمد بقلمه"( )، استعرض فيها حياته من الميلاد إلى النهاية مبرزًا كل الظروف الحياتية المتنوعة التي ساعدت في تكوين شخصيته، مكنيًا عن نفسه بكلمة صاحبنا، وقد قسمها إلى فصول هي:"ا لمرحلة الأولى، في دار العلوم، صاحبنا شاعرًا، نبضات ومواقف، صاحبنا والشعر العمودي، دموع وأشجان، وفاة الزعيم، عهد ووفاء، في ديار الغربة، العودة إلى الوطن المحبوب، في معهد البحوث والدراسات العربية"( ).
والجديد في هذا الفن، الذي جعله النقاد ضمن أجناس الأدب النثرية، أن يكون شعرًا فللطبيب المبدع الدكتور حسن علي إبراهيم قصيدة طويلة بعنوان"حياتي"بلغ عدد أبياتها اثنين ومائة بيت، دار مضمونها حول حياته منذ كان جنينًا في بطن أمه حتى أصبح كهلًا، وصف فيها نشأته والمؤثرات المختلفة التي كوَّنت شخصيته، خاصة والده الدكتور علي إبراهيم باشا الطبيب اللامع المشهور في بداية نهضتنا الحديثة، وقد ضمنها، إضافة إلى ذلك السرد التأريخي، تعليقات فلسفية وفكرية واضحة توضح لنا شخصيته المعنية بقضية الوجود والعدم والحياة والموت، يقول في مطلعها:
تدِب حياة المرء من يوم خلقه

وئيدة خطو مثلما طلع الفجرُ

فيجهل ماذا كان في بطن أمه

وأيامه الأولى وقد بزغ العمر

فطنتُ لنور الشمس والصوت واللُّغى
وخفت هزيم الرعد، ما انهمر القطرُ

عرفت ظلام الليل والمهد والدمى
وراحة نفسي كلما ضمني صدر

وميزت أمى ثم من بعدها أبي

وأدركت أني منهما الولد البكر( )

ويظل يسرد لنا حتى يصل إلى قوله:
ومرت سنون العلم حتى شبيبتي
وسار على درب الحياة فتًى غرُّ

دخلت خضم العيش والعيش ماكر
ففي كل ركن فيه قد كمن الغدر

لهوت ولكن كنت عزْبًا عن الهوى
فبعض الهوى حلو وأكثره مرُّ

وما شاقني ظبى لعوب وإنما
لقاء سفين ثم بينهما البحر

تحملت أوزارًا تعد كثيرة
وعذري شبابي الغِرُّ لو قُبل العذرُ

إلى أن هداني الله نحو قرينتي
لأحيا حياة لايدنسها هجر

وكان زواجي عن رضًا متبادل
وباركنا المولى فقد وجب الشكر( )

ففي هذا المقطع نجد نزعة واقعية، مغلفة بتعبيرات كنائية، انتقل بعدها إلى مشهد تال تاريخيًّا، وهو بعثته في الخارج،حيث يقول:
سلكت طريق الطب والطب منهك
مسالكه صعد وموطئه وعرُ

يطالبني المرضى بما ليس في يدي
فإن لدى الشافي البقاء أو البتر

فكم هزيل صح من بعد يأس
وكم ضمت الألحاد مَن زانه وَفر

ويصف مدى إتقانه لعمله قائلًا:
سهرت الليالي بعد يأس وفرحة
أخفف من آلام من مسه الضر

ونلت قليلًا في سبيل شفائهم
فما نال من مرضايَ ضيق ولا عسر

وما كان همي المال إن مكانتي
بعلمي وإتقاني لفني لا الأجر

وإن لم أكن كدست مالاً فثروتي
رضاء ضميري إن هذا هو اليسر

يظن الناس أن من زاد أجره
تفوق علمًا إن هذا هو الخسر

وما كان برء الناس يومًا بسلعة
تُباع وتغلو إن هذا هو المكر

ثم يقول مسجلًا تضحياته من أجل طلب العلم:
تركت وراء العلم أمًّا مريضة
وبين أبي والقبر من دائه شبرُ

وأمضيت حولاً في بلاد غريبة
أحصِّل علمًا والدُّنا حوليَ القفر

وكيف يطيب العيش والفكر مفعم
بأهلي وفيما بيننا الطود والبحر

ركبت جناح الجو من بعد غيبة
وقد زاد شوقي للحمى ووهى الصبر

ولما بدت أنوار مصر تحدرت
دموعي لرؤياها ألا إنها مصر

وعدت لألقى والدي زاد داؤه
طريح فراش لا يفارقه البهرُ

بكى إذ رآني ثم للصدر ضمني
ومن بعد شهر ضم جثمانه القبر( )

وأخذ يمدح والده، ثم ذكر شوقه ورغبته الشديدة إلى بيت الله وقبر المصطفى  ووصف حاله في تلك الزيارة في أكثر من عشرين بيتًا، إلى أن قال أخيرًا:
وعدت إلى مصر وقد عم مهجتي
من الدين أنوار أضاء بها الشعرُ

وإن كانت الأفكار في النفس لا ترى
فما جاش في نفسي سيظهره الخبر

فيا رب هل لي في رضاك مُؤمَّل
وهل لي مع الأبرار برك والحشر

ويا رب إن أخطأت إن وسيلتي
إليك هي التقوى ومنَّتك الغفر

وإنك للذكر الحكيم لحافظ
فصُنْ أمة الإسلام ما بقي الدهر

وما دام رب العرش للدين راعيًا
فللدين مد ليس يتبعه جزر( )

وهكذا نجد شاعرنا قد ابتكر لونًا جديدًا في شعرنا العربي، وهو لون السيرة الذاتية الشعرية، حيث نراه في قصيدته، السابق تحليلها، يبني بناءً واضحًا مرسومًا لوقائع حياته، فلا يختلط الزمان والمكان فيها، وليست أوصالًا ممزقة أو ذكريات متناثرة، فقد جاء الزمن فيها كلاًّ متصلاً، إذ تدرج من الطفولة إلى الشباب، ومنه إلى الكهولة، بأسلوب شعري جميل لا جفاف فيه ولا تعقيد. ولعله أراد أن يوضح ريادته لذلك اللون الشعري، ويؤكده فألقى على المجمعيين قصيدة بعنوان "مر السنين" في الجلسة السادسة لمؤتمر الدورة الحادية والخمسين سنة 1985م دار مضمونها حول حياته من الميلاد إلى الشيخوخة، ويبدأها بقوله:
هذا الوليد ترى ماذا يروعهُ
ولمْ تسيل على الخدين أدمعهُ؟

أهاله صرف دهر ليس يعلمهُ
أو هل تبدَّى له في الأفْق مصرعهُ؟

وغادر المهد وثَّابا وفارقه
وصدر أمٍّ رؤوم كان يرضعه

سرعان ما دب في درب الحياة فتًى
إن الطريق طويل سوف يذرعه( )

ويغلب عليها في أفكارها الحسرة على ما فات والتألم لما يُعانيه في شيخوخته، استمع إليه يقول:
ماذا يريد من الدنيا وقد ذهبت
وهل شباب تولى سوف ترجعهُ؟

هل الطعام غدا صعبًا تلوُّكه
لا يُستَساغ أم الأسنان توجعه؟

إن الضروس هي البلوى ليخلعها
فالضرس أصبح بعد الضرس يقلعه

والأكل صار قليل منه يُتْخمه
وكان كل طعام ليس يشبعه

وسُلَّم كان يجري في مصاعده
واليوم صار بشق النفس يطلعهُ

قد كان يسمع همس الريح عابرة
واليوم رعد دوي ما كاد يسمعه

كانت ذراعاه للأثقال حاملة
واليوم ناءت بحمل الريش أذرعه( )

ويستمر شاعرنا ـ مد الله في عمره ومتعه بالصحة ـ في رسم تلك الصور الباكية المحزنة التي تقطر أسفًا وأسًى، حتى يختمها بقوله:
متِّع شبابك بالدنيا وأنعمها
فإن كل نعيم سوف تُمنَعُه

أقول للناس عيشوا قدر طاقتكم
مع الشباب، وقولي من سيسمعه؟ ( )

وهذا الختام الدعائي الحِكْمي مناسب لطبيعة شخصية شاعرنا العالم، ويعد نتيجة منطقية لحياة حافلة بالحق والخير والالتزام:دينًا وفكرًا وسلوكًا.
ولعل الدكتور حسين علي محفوظ يكون قد تأثر بمذهب شاعرنا في هذا اللون فأبدع قصيدته"35 عامًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة"حيث سرد فيها حياته ونشاطه في المجمع ووصف علاقته بأساتذته وزملائه المجمعيين في دورات المجمع ومؤتمراته المتعددة. وهي متنوعة القوافي، مقسَّمة إلى مقطوعات، لكل مقطوعة قافية، وقد ألقاها على المجمعيين في الجلسة الحادية عشرة مؤتمر الدورة السادسة والخمسين سنة 1995م. وإن كان يميل فيها إلى المدح والإطراء على المجمعيين أكثر من إظهار شخصيته والحديث عنها، يقول في مطلعها:
منّ الزمان بفيض نعْـ

ـماه وأولانا جميلهْ

جمع الأحبة في ثرى
مصر وسقّى الصحب نيله

في مجمع ضم الأفا

ضلَ رُفقةٌ شمُّ الأنوفْ

جمعتهم الآداب با
هرةً منورةً بالحروف

والعلم والضاد المبيـ
ـن يفل بارقة السيوف

فصل تقضّى في محا
نيه الربيع من الفصولْ

تفترُّ في جنباته
عن نور فكرتها العقول

هذا بمقوله يجو
لُ وذا بحجته يصول( )

ثم يقول:
لاقيت عز الفاضليـ
ـنَ أعزةً شمَّ الشوامخْ

أطواد علم طاولت
أشرافهنَّ ذرى البواذخ

كان الشبيبيُّ الرضا

مني بمنزلة الأبِ

أنا نفحة من عطره الـ
ـعبق الذكيِّ الطيب

أنا غرفة من بحره
يهمى غزير الصيِّب

أدركت لطفي سيد
يُدعَى فَلاطون البلادْ

أستاذ هذا الجيل رسْـ
ـطا ليس مصر والعماد

عاصرته سبعًا كوا
ملَ تعدل السبع الشداد( )

وهكذا يستمر في سرد صحبته لمشاهير الأدباء المجمعيين، وإن لم يوضح الجوانب التي تأثر فيها توضيحًا كبيرًا. وواضح أن دخول الشعر المجمعي رحاب هذا الفن النثري في المقام الأول يعد تجديدًا يحسب للمجمعيين، ويُكتب بمداد بارز في تاريخ الشعر الحديث، وإن كان ما زال يحتاج إلى تعميق إبداعي، حتى يصل إلى آلياته السامقة الجذابة الموجودة في نماذجه النثرية غربيًّا وعربيًّا.



#صبري_فوزي_أبوحسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عظمة نهر النيل في السنة النبوية والتراث العربي
- المائية في عقل عصمت رضوان وشعره
- حرية الإبداع المسؤولة في مرآة وثائق الأزهر
- إمام أدب النفس والدرس: أ.د زهران جبر
- توثيق لامية العرب للشنفرى في المعاجم العربية العتيقة
- نقد النقد مصطلحا ومفهوما
- سمو الأمير علاء جانب قراءة في شخصيته وسيرته
- سلبيات البحث العلمي في المجال الإنساني
- تردي البحث العلمي في المجال الإنساني
- مفهوم البحث العلمي الإنساني
- كتاب (القرآن يتحدى: دراسة) للمهندس ياسر أنور مقاربة سيميائية ...
- دور الإبداع الأدبي في خدمة الوطن
- لذة السرد في رواية كوتشينة للقاص نشأت المصري
- شخصية الانتهازي في السرد القصير عبده الوزير إزازة سابقا أنمو ...
- النسوية في القصة الشاعرة عند المؤسس محمد الشحات محمد
- النسوية في القصة الشاعرة عند المبدعة ربيحة الرفاعي


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري فوزي أبوحسين - السيرة الذاتية الشعرية