أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عادل صوما - سبعينية انقلاب يوليو وصحوته













المزيد.....

سبعينية انقلاب يوليو وصحوته


عادل صوما

الحوار المتمدن-العدد: 7317 - 2022 / 7 / 22 - 17:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الدراسة التالية يمكن أن يكون عنوانها أيضا: "سبعون سنة على الصحوة الإسلامية"، لأن كل الوقائع تقول ان ما حدث في مصر سنة 1952 كان انقلاباً إخوانياً، فقد ذهب عبد الناصر نفسه بعد نجاحه لوقفة تأمل وصمت على قبر حسن البنا مؤسس "الإخوان المسلمون"، في إشارة واضحة لعقيدة "الولاء والبراء"، التي لا تختلف في الاصطلاح الشرعي عن مدلولها اللغوي، فقد أُطلق الولاء والبراء في النصوص الشرعية على عدة معان تدور حول المحبة والطاعة والنُصرة والوفاء.
كما أدى هذا الانقلاب مع غيره من الانقلابات التي أوحى بها أو صدّرها إلى السودان واليمن والجزائر وليبيا، وساندها في إيران، وحاول تصديرها إلى دول مَلكية أخرى، إلى بناء مُدخلات أدت إلى مُخرجات ما سُميّ بالصحوة في ما بعد، التي نتج عنها حالة الدول الدينية الفاشلة المارقة عن الشرعة الدولية، وحالة الدروشة الهستيرية التي يعاني منها المسلمون بشكل عام.
تعددية وأدوار
الموافقة الأميركية الضمنية على انقلاب يوليو وتأكيد واشنطن على خروج الملك فاروق سالماً، للدخول إلى المنطقة بعد بدء غروب شمس بريطانيا السياسي، جعلت الانقلاب يُنفّذ بالسهولة والسرعة التي تم بها، بعدما وقف الجنود المحتلون البريطانيون في مصر على الحياد، يشاهدون يخت " المحروسة" يُبحر بالملك المتنازل عن عرشه إلى نابولي، لكن من جهة أخرى، كان ضباط الانقلاب يدركون ويخشون جميعاً صعوبة مواجهة كوزموبوليتية التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر وخصوصيتها، ويعلمون أن الجاليات الاجنبية تمصرت وصارت مؤسساتها أعمدة اقتصاد مصر وبنوكها وإعلامها وثقافتها، وأن الجيش ليس موالياً بكامله لهم، أو عالماً بهم في أيام الانقلاب الأولى.
كانوا مجرد عناصر عسكرية من وحدات مختلفة في الجيش المصري، وكان أمراً حتمياً على ضباط الانقلاب صغار العمر آنذاك، البحث عن رتبة عسكرية عالية محبوبة محايدة تأتمر بها الوحدات لتتحرك وتحاصر قصر الملك فاروق الأول، وتبث الطمأنية في طبقات المجتمع لاحقاً، حتى تتم السيطرة على الجيش كله، وكانت نية المتآمرين وضع هذه الشخصية بعد أداء دورها في مكان ما حسب الظروف، ووقع اختيارهم على اللواء محمد نجيب الذي آمن بفكرتهم وحركتهم ضد الفساد السياسي وخَلعْ الملك فاروق، وكان محمد نجيب كلما سنحت الفرصة له بعد نجاح الانقلاب يبث الطمأنينة في أصحاب الأعمال والقوى المختلفة والجاليات المتمصرة مؤكداً أن الثورة هدفها فتح صفحة جديدة، وليس استهداف أي فئة، وفي هذا الاطار زار اليهود القرائين المتمصرين في معبدهم كبرهان ملموس على أنهم جزء من نسيج الشعب المصري، وأن السادة الجدد يؤمنون بالتعددية.
بدأت تختفي التعددية الثقافية للمجتمع المصري خطوة بخطوة بعد اعتقال الرئيس محمد نجيب سنة 1954 وتولي عبد الناصر السلطة، الذي كان يعلم تماماً تركيبة العقلية السياسية المصرية العَلمانية آنذاك، ويعلم كيفية التآمر عليها، فاستخدم فبركة اتصال الرئيس المحبوب محمد نجيب بالاخوان ليثير فورة غضب حوله، بينما السبب الحقيقي كان مطالبة محمد نجيب بعودة الجيش إلى الثكنات وترك الحياة السياسية للمدنيين، وحصر دور الجيش في مراقبة النظام الجديد وحماية البلاد. لم يكن هذا الأمر في نية الانقلابيين، خصوصاً عبد الناصر، منذ بداية تأسيس جماعته.
تجلت مظاهر الاختفاء العلني لتعددية المجتمع المصري في هجرة أصحاب رؤوس الاموال اليهود والمسيحيين في الجاليات المتمصرة، وحتى رجال الأعمال المسلمين المصريين المتنورين الذين بدأوا يدركون خلفيات عبد الناصر ونواياه.
أمّا الاختفاء الذي لم يشاهده العالم، فكان هجرة أفراد الجاليات الأوروبيين العاديين أنفسهم يوماً بعد يوم، علاوة على اللبنانيين، الذين أخذ الخناق يضيق على ثقافتهم وأرزاقهم، وأحد الذين عبّروا عن ذلك الكاتب أمين معلوف في كتاب "غرق الحضارات" عندما ذكر أن عائلته اللبنانية المتمصرة تركت مصر بسبب عبد الناصر وشعاراته وتأميماته.
فرّغت هذه الهجرة مصر من قوتها الناعمة أيضاً، فقد هاجر فنانون كانوا في بدايات حياتهم الفنية مثل داليدا وديميس روسس وجورج موستاكي، وبدأت أسماء المتمصرين تختفي تدريجياً في تيتر أي فيلم وفي الاعمال الفنية بشكل عام، والممثلون الذين ظلوا لم يكن يُقدم لهم سوى دور الجاسوس أو البارمان أو الخواجه الذي لا يُحسن العربية، ثم لحقت المضايقات حتى الفنانيّن الكبيريّن فريد الاطرش وصباح اللذين شعرا بأن لا مكان لهما في مصر فعادا إلى لبنان، ناهيك عن أسماء فنية وأدبية كثيرة يستحيل ذكرها كلها في دراسة مختصرة.
انسحب هذا الانزواء أيضا على أهل الفن المتبقين خطوة بخطوة، وانحسرت الأضواء عن المطربة الكبيرة ليلى مراد اليهودية رغم اسلامها، وجلست في البيت عاطلة عن العمل رغم براءتها مما نُسب إليها، ولم يظهر بعدها أي مطرب يهودي أو مسيحي واحد في مصر، والممثلون المصريون المسيحيون لم يصلوا إلى الدور الأول سوى نادراً وبصعوبة، وأحياناً بفرضهم على العمل من ممثلين نافذين أو منتجين، ولم يقولوا أبدا أنهم مسيحيون للإعلام أو يؤكدوا على مسيحيتهم، بل أن رياض عبد السيد أطلق على نفسه المنتصر بالله حتى يستمر.
وحتى في الرياضة لم يظهر لاعب مسيحي واحد، واللاعب الوحيد المسيحي الايطالي المتمِّصر الذي استمر حتى اعتزاله هو ألدو ستيلّا أيقونة وحارس مرمى نادي الزمالك، وقد استمر ألدو لأنه لمع قبل انقلاب 1952 وكان مستحيلا ازالته لأنه من أعمدة الزمالك والفريق القومي. ورأيتُ في بدايات هذا القرن في لوس آنجلوس لاعب الزمالك جورج الذي هاجر أميركا مضطراً وعمل فيها كمدير لأحد مطاعم الوجبات السريعة.
نسخة عسكرية
أسس عبد الناصر قبل انقلاب يوليو جماعة "تنظيم الضباط الاحرار" على غرار "النظام الخاص" لجماعة الإخوان المسلمين، ولم يكن فيه ضابط مسيحي مصري واحد، بل كان على الأقل ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الانقلاب ينتمون للاخوان المسلمين، علاوة على عبد الناصر شخصياً، فقد كان إخوانياً من "النظام الخاص" أقسم على القرآن والسيف كما ورد في عدة كتب، وعدم اختياره لضابط مسيحي واحد يعكس عقيدته الإخوانية ورؤيته لمسيحيي مصر، الذين وصل بعضهم في دولة محمد علي وابنائه إلى منصب رئيس وزراء، وشكلوا نصف ثورة 1919 التي وقف فيها سعد زغلول ضد الإنكليز.
الثقة والولاء
حسب شهادات خالد محيي الدين، لم يكن أحد خارج تنظيم "الضباط الاحرار" يعلم بموعد انقلاب يوليو المُعد على النظام الملكي سوى حسن الهضيبي مرشد عام الاخوان المسلمين، الذي أبلغه عبد الناصر نفسه بما سيحدث، بل أجّل عبد الناصر يوم الانقلاب بضعة أيام حتى يحصل على "بركة" الهضيبي الذي كان موجوداً في الاسكندرية، ويستحيل في السياسة والدين أن يكون الولاء لغير المؤمنين أو الأعضاء الذين يثقون في بعضهم بعضاً ثقة تامة، خصوصاً بشأن إنقلاب عسكري قد تكون نتيجة فشله الاعدام.
وفي خطاب 5 سبتمبر/أيلول سنة 1981 قال أنور السادات حرفياً: "إحنا دعينا الإخوان يشتركوا معانا .. في ثورتنا.. فجبنوا وخافوا". قال ذلك بعدما انقلبت التيارت الدينية كافة ضده، ورغم حيازته على صك غفران وثقة من كبير الدعاة الشعراوي الذي وصفه بأنه "الذي لا يُسأل عما يفعل"، أصدربعضهم فتوى بهدر دمه لأنه خرج عن إجماع الأمة وأهان علماء المسلمين.
ويبدو أن رفض مشاركة الإخوان العلنية يعود إلى مبدأ التقية والنأي بالذات وادمان العمل السري القذر تحت الأرض، حتى يرون من الرابح ليؤيدوه.
الشرع والقانون
بدأت أولى مُدخلات الصحوة ودولتها في مصر، بعدما استطاع الإخوان المسلمون الاعضاء في مجلس قيادة الإنقلاب اقناع الاخرين بعدم جدوي وجود الأحزاب السياسية لأنها فاسدة، وكونوا أغلبية تؤمن بقناعة ضرورة حلها، بدعوي أنها غير قادرة علي تحقيق أهداف الثورة الستة، ما جعل مجلس قيادة الانقلاب بعد أربعة أشهر من مغادرة الملك فاروق وتنازله عن العرش لإبنه، يصدر قانون حل الأحزاب السياسية وتم إلغاء كافة الأحزاب ما عدا الاخوان المسلمين باعتبارهم حزب دعوة وليس حزباً سياسياً.
بعد ذلك صدر قانون تحريم القمار ومنعه، كما صدر قانون إلغاء الدعارة الرسمية التي كان يتم فحص العاملات بها دورياً للتأكد من خلوهن من الأمراض، وهكذا تم إلغاء تراخيص العمل الممنوحة لبائعات الهوى واغلاق أماكنهن، ما يعني أن دولة عبد الناصر أصبحت قيّمة على تنفيذ أحكام الدين والاخلاق، وليست الجهة التي تُطبق أو تُحاسب على انتهاك القانون. كما تم إغلاق كل المحافل الماسونية ونوادي الروتاري والمحافل البهائية، وكل ما يتعارض مع المذهب الحنفي/السُنّي الذي تميل مصر إليه.
كما تم في عهد عبد الناصر مصادرة الرقابة لكتب الباحثة أبكار السقّاف، الأم الروحية لكل المفكرين المتنورين المسلمين الذين يتناولون مسألة لا معقوليات وتناقضات كتب التراث الديني، واتُهمت أبكار السقاف بالكفر، وصدر حكم بتحديد إقامتها في بيتها، وهذا الحكم يستحيل أن تصدره جهة غير سيادية، وتحديداً بإيعاز من عبد الناصر.
كان مسيحيو مصر قبل عبد الناصر في وزرات سيادية، ثم أصبحوا بعد ذلك في وزارت غير مؤثرة في القرار السياسي، الذي كان على كل حال للزعيم "المُلهم"، وظلت بعض الشخصيات غير المؤثرة في وزاراته مثل كمال رمزي ستينو موجوداً كديكور، إلى أن اختفى العنصر المسيحي تماما في الوزارات بعد ذلك. كما لم يُسلّم عبد الناصر أي قيادة عُليا لمسيحي في الجيش المصري أو في المصالح الحكومية أو الشركات التي أممها وتسلمها ضباط مسلمون ليديروها.
ذكر عبد الناصر في خطاب علني متلفز رفضه فرض الحجاب أو الطرحة، التي طلب مرشد الاخوان المسلمين منه فرضها على نساء مصر، لأنه يعلم تماماً استحالة تطبيق أمر لا يطبقه المرشد على ابنته وشيوخ الأزهر على زوجاتهم، بسبب الاجواء الكوزموبوليتة في بلد كان يتحدث أهله سبع لغات في البيوت واللهجة المصرية في الشارع.
لكن بعد الصدام بين المرشد وعبد الناصر المفترض أن يقدم الولاء والسمع والطاعة، ظهر الديكتاتور الناصري الذي يستحيل أن يُملي أحد رأيه عليه أو يلزمه حتى بنصيحة، فهو المركز والرجل الأوحد وصاحب القرار و"الكل في واحد" كما أطلقوا عليه، وكانت نتيجة الصدام اطلاق عنصر اخواني الرصاص على عبد الناصر في منشية الاسكندرية، لكنه لم يصبه.
بدأت مطاردة الساحرات بين نظام عبد الناصر البوليسي والاخوان، وتم ضربهم أمنياً بيد من حديد، ثم بدأ كأي حاكم مسلم البحث عن شرعية دينية ثانية تواليه، رغم موالاة الجيش تماماً له وارتفاع رصيده الشعبي، وليس مستبعداً أن تكون رفعة الاسلام بعد سنوات من استعمار مسيحي غربي لمصر ودول الشرق الأوسط، كانت أيضا من أسباب لجوء عبد الناصر إلى الخطوات التالية التي فعلها.
الدولة الدينية
بدأت في عهد عبد الناصر مظاهر بناء الدولة الدينية مثل تبني الحكومة ترجمة القرآن إلى لغات العالم المهمة، وقد سبق عبد الناصر الملك خالد بهذه الترجمة بثلاثة عقود، وإنشاء "إذاعة القرآن الكريم الحكومية" التي تذيعه على مدار الساعة، وزاد عدد المساجد في مصر من أحد عشرة ألف مسجداً حكومياً قبل الثورة إلى واحد وعشرين ألف مسجداً سنة 1970، وهي السنة التي مات فيها، والفارق بين العددين يساوي عدد المساجد التي بُنيت في مصر تقريباً منذ غزو عمرو بن العاص واحتلال مصر حتى سنة 1970، كما جعل مادة "التربية الدينية الاسلامية" إجبارية في المدارس العادية يتوقف عليها نجاح أو رسوب الطالب المسلم كباقي المواد لأول مرة في تاريخ مصر والدول العربية.
استهل عبد الناصر قرار تأميم شركة قناة السويس بالقول "بإسم الامة.. قرار رئيس الجمهورية". لم يقل باسم الشعب، ومعروف تماماً مدلولات كلمة "أمة" بين المسلمين.
وعندما بدأ العدوان الثلاثي سنة 1956 بسبب تأميم شركة قناة السويس، ذهب عبد الناصر إلى الأزهر وألقى خطبة لحشد الناس خلفه ولم يذهب إلى البرلمان أو مجلس الوزراء. واجه اعتداء عسكري محض بحشد الناس دينياً.
جامعة دينية
طوّر عبد الناصر ما كان يُطلق عليه منذ تأسيسه سنة 972 الجامع الأزهر، وحوله لجامعة تُدرّس فيها العلوم الطبيعية والطبية بمنظور معلومات القرآن، وبنى مئات المعاهد الأزهرية والدينية في مصر، وأنشأ مدينة البعوث الإسلامية التي ضمّت الطلاب المسلمين من مصر والدول الأخرى، الذين يتعلمون ويقيمون في القاهرة إقامة كاملة مجانية، وأرسل بعثات الأزهر إلى الدول الاسلامية للتدريس، والأفريقية للتبشير، وتم افتتاح معاهد أزهرية للفتيات فقط رغم أن التعليم الجامعي كان مختلطاً في مصر منذ نشأته، وأوعز بتنظيم مسابقات تحفيظ القرآن على مستوى الجمهورية والعالم العربي والإسلامي، وكان يوزع بنفسه الجوائز على حفظة القرآن، وليس شيخ جامعة الازهر، وأسس موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي، التي ضمت كل فقه الدين وأحكامه في عشرات المجلدات وتم توزيعها مجاناً في العالم.
سكيزوفرانيا الزعيم
في سنة 1967 وعقب هزيمة يونيو، لم يُركز مطلقاً على أسباب الهزيمة المُذّلة، وأخطرها عشوائية قرار الحرب الذي اتخذه عبد الناصر منفرداً، وبرره لوزير الحربية عبد الحكيم عامر بأن الأمر لن يعدو كونه "مظاهرة عسكرية"، وبدأ أئمة مساجد مصر تلقين المسلمين أن الهزيمة حدثت بسبب قلة ايمانهم واهمالهم شأن دينهم، وبرروا الهزيمة بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، إذ لن تقوم الساعة حتى يدخل اليهود بيت المقدس. كذبة كبرى انتشرت في أجواء خوف وهزيمة ورعب، لأن اليهود في القدس منذ قرون.
كان تواطؤ السلطان واضحاً مع المنابر التي يتلقى شيوخها رواتبهم الشهرية من وزارة الاوقاف، لأن الهزيمة كانت بسبب عشوائية عبد الناصر شخصياً وعدم الاخذ بتقارير قيادات جيشه الذين أكدوا له عدم صحة المعلومات الواردة من الجبهة السورية عن حشود إسرائيلية، ومن ثمة لا داعي في التمادي في تصعيد اللهجة السياسية، والحشد العسكري الذي يصّر عليه، بينما الجيش المصري يعاني من سوء التسليح وتراجع معداته تقنياً بعدما أُنهك في حرب اليمن، وكان غير قادر على خوض حرب أعدت إسرائيل جيشها لها، وهيأت دول العالم إعلامياً بأن عبد الناصر هو المعتدي.
فقد تفقد الفريق أول محمد فوزي الجبهة السورية، وكانت النتيجة التى رفعها للمشير عبد الحكيم عامر، كما جاءت فى مذكراته ووثائق وزارة الدفاع المصرية هي: "إنني لم أحصل على دليل مادي يؤكد صحة المعلومات، بل العكس هو الصحيح، إذ انني شاهدت صوراً فوتوغرافية جوية عن الجبهة الاسرائيلية التقطت بواسطة الاستطلاع السوري يومي 12 و13 مايو، فلم ألاحظ تغيير للموقف العسكرى العادي".
ومن المؤكد أن عبد الناصر قرأ تقرير الفريق أول محمد فوزي، ورغم ذلك قال للمشير وراء الكواليس قبل إسبوع من الخامس من حزيران/يونيو: "إنك متخلف ما لا يقل عشر سنوات عن العصر الذي أنت فيه. كيف ستلحق هزيمة بجيش حديث حسن التدريب مثل الجيش الاسرائيلي، وجيشك لم يتمكن لسنوات أن يخضع شراذم اليمنيين المدمنين على المخدرات؟".
لكن عبد الناصر امام الميكروفونات واثناء مؤتمر صحافي قبل الحرب مباشرة سأل المشير عبد الحكيم عامر في ايار/مايو 1967: اذا قفلنا المضايق فالحرب مؤكدة 100%؟ وكان رد المشير: برقبتي يا ريس، كل شيء على أتم الاستعداد. وفي 29 آيار/مايو 1967 قال الرئيس في خطاب سمعته الدنيا: "لقد باتت إستعداداتنا كاملة، ونحن الان مهيئون لمواجهة إسرائيل.. لقد اصبحنا قادرين على معالجة قضية فلسطين بأكملها.. سوف نقرر نحن وليس هم زمان المعركة ومكانها".
اعتقد عبد الناصر ان "المظاهرة العسكرية"، وهو المصطلح الذي ردده وزير حربيته آنذاك المشير عبد الحكيم عامر ليطَمئِن قيادات الجيش التي كانت مندهشة من قرار الرئيس، ضد إسرائيل ستعيد له هيبته بعد هزيمته في اليمن، ولم يقدّر أبدا أن الأجواء لم تعد كما في سنة 1956 وأن الدول العربية الفاعلة تتمنى هزيمته فعلا بسبب تصريحاته غير اللائقة ديبلوماسياً عنها واتهاماته لها، ناهيك عن محاولاته تصدير الثورة والفتن لها.
لم يقدّر بطل الأمة العربية تماماً أن أميركا هذه المرة لن تغفر له شعاراته غير الديبلوماسية التي كان يقولها امام الميكروفونات ومنها على سبيل المثال: "طظ في اميركا" و"أللي مش عاجبه يشرب من البحر الاحمر.. يشرب من البحر المتوسط"، و"حنهزم إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل".
ناصر/الخوميني
على الصعيد الخارجي كان أول مبلغ يقبضه الخوميني كمساعدة من رئيس أجنبي هو مبلغ 150 ألف دولار من جمال عبد الناصر في الستينات. الحقيقة اعترف بها الخوميني نفسه في عدة مناسبات، ومن بين أشهر المؤلفات الإيرانية عن عبد الناصر كتاب "الإمام الخوميني وجمال عبد الناصر"، للمرجع والعلامة الشيعي الإيراني البارز سيد هادي خسروشاهي الملّقَب بحجة الإسلام، الذي حقق رواجاً كبيراً في إيران، تناول خلاله دعم عبد الناصر للخوميني، الذي ساعد على نجاح الثورة الإيرانية كما يقول.
كان عبد الناصر أول من ساند القيادات الميليشياوية الشيعية كموسى الصدر الأب الروحي لحركة "أمل" و"حزب اللاة"، الذي قال إن رحيل عبد الناصر كان خسارة لهم باعتباره أرسى قواعد الجمهورية الإسلامية من خلال مبادئه التي تهدف للوحدة بين المسلمين، وتمت هذه المساندة لأهداف بعيدة المدى في لبنان الذي يحكمه رئيس مسيحي ماروني.
كما كان عبد الناصر صديقاً حميماً للميليشياوي محمد يعقوب مؤسس النظام الميلشياوي الشيعي في لبنان مع موسى الصدر، وهو أمر مستغرب من رئيس دولة بحجم مصر لا يجب أن يهبط في علاقاته لهذا المستوى.
الدستور الشرعي
مات عبد الناصر موتاً سريرياً سياسياً سنة 1967، وبعد وفاته سنة 1970 جاء الرئيس أنور السادات بعده، وافتتح خطاباته السياسية "باسم الله"، واختتمها بآيات من القرآن، وأوعز للإعلام باطلاق "الرئيس المؤمن" عليه، في إشارة واضحة لإعلاء شأن الدولة الدينية التي تحكم مصر، وطلب فى بداية حكمه ملفات "الاخوان المسلمون" الذين أطلقوا الرصاص على عبد الناصر في منشية الاسكندرية ولم يصيبوه، وقرر الإفراج عنهم وألمح إلى الاجهزة الامنية أنه لا مانع في عودة الهاربين منهم إلى مصر مرة ثانية.
كانت صفقة سياسية بدون مقابل منهم أو تعهّد بموالاته على الأقل، ومن طرف واحد فرض هذه الصفقة على أجهزة الدولة هو الرئيس السادات، رغم تحذير جميع الأجهزه الأمنية بخطورة الإفراج عن قادتهم وعودة الهاربين منهم، فقد كانوا جميعا مصنفين "خطر جدا". رأى أنور السادات أن الإخوان المسلمين لا خطر منهم، وانهم القادرون عن درء الخطر الشيوعي على حكمه، ضمن رؤية دولية رأت في المد الإسلامي حائطاً ايمانياً مجانياً ضد انتشار الشيوعية.
في سنة 1971 صدرت نسخة جديدة لدستور مصر، بدلاً من دستور 1955 الذي لم يُطبق أبداً، لكنها غيّرت جوهره تماماً إذ نصت مادته الثانية على أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. ما يعني أن الرئيس السادات أرسى المُدخل الأهم لنقل مصر رسمياً من دولة مدنية إلى دولة دينية.
هذه النقلة الجبارة التي فعلها الرئيس السادات، لم تُقابل بالامتنان ممن أعادهم إلى الحياة السياسية ويطلقون على أنفسهم حماة الاسلام، لأن اللعبة هي كرسي الحكم، أما الاسلام وتطبيق الشريعة فمجرد شعاريّن لحشد العامة.
اعتبروا السادات عدوهم، وقد جنّد يحيى هاشم وكيل نيابة في سوهاج سنة 1972 جماعة "التكفير والهجرة" ووضع خطة للقيام بتفجيرات وهجوم مسلح في القاهرة واغتيال أنور السادات حين تحين الفرصة، وأوهم أتباعة أنه سوف يهاجر كما هاجر الرسول إلى يثرب، ثم سيدخل مكة وكان يعني القاهرة، لكن أجهزة الأمن المصرية حاصرته في منطقة جبلية بين محافظتي قنا وسوهاج أثناء إجراء تدريب عسكرى لمجموعته، وقُتل اثناء تبادل إطلاق النار.
وجاء من بعده شكرى مصطفى الذي كان في سجون عبد الناصر لأنه من الاخوان المسلمين، وأعلن نفسه أميراً للجماعة نفسها، وخطط لإقامه دولة إسلامية بعد تجهيز جهادييه، لتُطهر مصر من الفساد والشرك والكفر، وانتشر أتباعه في عدة محافظات خصوصاً فى محافظتي إلمنيا وأسيوط، وتدربوا على الأعمال العسكرية فى منطقة جبلية، لكن نهاية شكري مصطفى كان شنقاً بعد اغتيال جماعته للشيخ الذهبي وزير الأوقاف.
رفع الرئيس السادات، رغم خطورة هذه التحركات على الدولة وعليه شخصياً، شعار "دولة العلم والإيمان"، وبدأ الارسال التلفزيوني الحكومي يُقطع لبث الآذان حتى في مباريات كرة القدم على الهواء، ورغم ذلك حدثت مذبحة الكلية الفنية العسكرية، وكُشفت خطة صالح سرية للإستيلاء على أسلحة ثقيلة من الجيش بتخدير أفرادها واغتيال السادات وكبار رجال الدوله الذين كانوا مجتمعين في وقت واحد في مبنى اللجنه المركزية بكورنيش النيل.
كانت ردة فعل الرئيس فكرة ما أطلق عليه "حركة الإحياء الإسلامي"، فقد كان يريد حصار التيار الشيوعي وجذب التيار الديني وضمه إلى صفوفه عقب هزيمة 5 يونيو 1967، واقترح المحافظ محمد حسن عثمان والمهندس عثمان أحمد عثمان وآخرون، بناء على رؤية الرئيس، إنشاء "تنظيم الجماعات الإسلامية" ليقفوا ضد التيارات اليسارية في الجامعات المصرية، ويسيطروا على اتحادات الطلبة بالفوز في الإنتخابات على التيارات الناصرية واليسارية، وتبرعوا بالمال للجماعات الإسلامية المقترحة وأُنشئت فعلاً، لكنها تحولت عن أهدافها إلى الوقوف ضد المسيحيين وبث الفتنة الطائفية، وراحوا ينتقدون سياسة الحكومة بعد انتصار سنة 1973 واعادة فتح قناة السويس، واستعملوا ضد سياسية الانفتاح الاقتصادي كلمات دينية مثل الربا والفساد والحرام، لنقد الميل للإستهلاك والإحتكار والسوق السوداء والانفتاح على العالم والمناخ الذى أفرز اللصوص والمرتشيين وتجار المخدرات، وكان السبب فى رأيهم هو الإبتعاد عن شرع الله وطريقه.
تلاشى في حقبة الرئيس السادات تماماً الوجود المسيحي الخجول في الوزرات، حتى بطرس غالي مهندس كامب ديفيد وصاحب ثورة الأرشفة العلمية في وزارة الخارجية لم يكن وزيرا، وعلى مستوى الإدرات قال الرئيس أنور السادات في اجتماع مع المحافظين: "انا مش عايز يوصل قبطي واحد إلى درجة مدير"، وعندما انتبه لوجود فؤاد عزيز غالي قائد الجيش الميداني الثاني السابق في حرب أكتوبر بين المحافظين لأنه أصبح محافظاً، ضحك السادات وقال له: "معلشي يا فؤاد دي سياسة زي ما انت عارف"، فرد غالي وقال: "مفهوم ياريس".
عوضاً عن استفادة مصر من نصرها والسلام مع إسرائيل والانفتاح على دول العالم، عانى البلد من زيادة التوترات الطائفية، واتُهم السادات بأنه خرج من "ساحة الجهاد"، و"أهان علماء المسلمين"، وأُبيح هدر دمه والخروج عليه بسبب تهمتين لم يُتهم بهما أي حاكم مسلم في التاريخ لأن الخروج على ( الحاكم الكافر والمرتد، وفي حكمه تارك الصلاة ونحوه، فهؤلاء يجب الخروج عليهم ولو بالسيف إذا كان غالب الظن القدرة عليهم، عملاً بالأحاديث: لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً، ولا ما أقاموا فيكم الصلاة، وما قادوكم بكتاب الله، ونحوها مع الآيات والأحاديث الآمرة بمجاهدة الكفار والمنافقين، لتكون كلمة الله هي العليا، أما إذا لم يكن هناك قدرة على الخروج عليه فعلى الأمة أن تسعى لإعداد القدرة والتخلص من شره".
بدا واضحاً أن نهاية مأساوية تنتظر "الرئيس المؤمن" الذي أطلقوا عليه الطاغوت، وانتهت حياة أنور السادات باغتياله من عناصر جهادية.
خيال المآته
رغم أن حسني مبارك نجا باعجوبة من رصاص وقنابل الذين اغتالوا السادات لوجه الله في المنصة، في لحظات غريبة لخصت بدقة مذهلة رؤية ملة المستفيدين من الإسلام سياسياً لخصومهم حتى لو كانوا مسلمين، إذ رفع أحد شيخ القتلة عقيرته قبل اطلاق الرصاص وصرخ: "ياكافر.. يا فرعون.. يا ابن الكلب"، فرد عليه السادات "إرجع يا ولد أنا مش حيسبك".
مشهد كان سيُجبر حتى ملكة بريطانيا لو تعرضت له على إعادة النظر في عقيدة وخطورة مَنْ هاجموها، لكن رغم موالاة الجيش لمبارك تماماً وشرعية انتقاله كرئيس يُعتبر امتداداً لإنقلاب يوليو، وعدم وجود تاريخ اخواني أو حتى تمسك ظاهري بالايمان عنده، استمر نظامه في توظيف الدين، من أجل ترسيخ قبول سلطة الدولة وقبوله رئيساً، ما أسهم في أسلمة المجال العام تماماً، وأدى إلى خلق بيئة سياسية/دينية راديكالية، خضع فيها مسيحيو مصر والمفكرون العلمانيون وذوو الآراء الدينية المخالفة لإجماع الأغلبية، للاضطهاد المنظّم ومصادرة الكتب احياناً بتواطؤ الدولة، التي كان من مفارقاتها استُخدام مصطلح "الأصولية الإسلامية" كخيال مآته يخيف الناس من أي تطور ديموقراطي سريع يأتي بالاسلاميين للحكم، وللتصدي لدعوات الإصلاح والقضاء على الليبراليين، والمنادين بانشاء دولة المؤسسات وليس الفرد.
كان بعبع تولي الإسلاميين المتزمتين للسلطة مبرر استمرار إقصاء الدولة لغير المقربين عن العملية السياسية، وتجاهل أشكال المعارضة العَلمانية المشروعة. ورغم التخويف من خطورة "خيال المآته" تجلت الدولة الدينية في عدم خضوع جامعة الازهر لرؤية وخطط وزارة التربية والتعليم التربوية في مصر، وخضوع الوزارة لرؤية الازهر.
في عهد حسني مبارك جرت لعبة سياسية غريبة، ساعدت ظروف دولية وأموال عربية على استفحالها وانتشارها كسرطان مميت، هي قبول الطرفين؛ الرئيس والاخوان، توظيف الاخوان المسلمين كخصم رسمي سياسي يدخل إلى مجلس الشعب، وقبول كل ما يقوله الاخوان على حسني مبارك شرط عدم المساس به كرئيس أو الاعتراض في ما بعد على ابنه كوريث، ولم يبال حسني مبارك بمحاولات اغتياله من خصومه داخل مصر أو خارجها، بل أدار ظهره لدول أفريقيا لأن إحدى محاولات إغتياله تمت في أديس أبابا سنة 1995 على يد متشددين اسلاميين، ولم يكن لأفريقيا أي دور فيها.
لم يطلب مرشد الاخوان المسلمين من حسني مبارك فرض الحجاب أو الطرحة على نساء مصر كما حدث في وقت عبد الناصر، لأنه لم يكن بحاجة لمثل ذلك المطلب، فقد فُرض الحجاب العقلي على ثقافة مصر وشخصيتها، وكان طبيعياً ان تتحجب النساء.
مكارم الأخلاق
ركب قاتلو السادات عربة عسكرية ليغتالوه في العرض العسكري سنة 1981، ولم يدر في خلد حسني مبارك أن يركب المتأسلمون ثورة 2011 الشعبية للإطاحة به بعدما نفذوا سياسة النأي بالنفس كعادتهم حتى يروا من الرابح على الأرض، ليطعنوه من الخلف، فقد أظهروا الوجه المتقبّل للتغيير لجميع القوى المعارضة في البداية، وعقدوا تحالفات سياسية مع القوى السياسية، ثم تم إقصاء جماعة الإخوان لحلفائها تماماً فلا كوادر قوية في مؤسسات الدولة لهم مثل الاخوان. كانوا مجرد ثوريين بلا كوادر أو نقابات أو مؤسسات مدنية، نزلوا إلى الشارع.
فاز محمد مرسي العياط بانتخابات الرئاسة بفارق ضئيل بالتزوير عن منافسه الفريق أحمد شفيق. جاء رئيس من الاخوان المسلمين "خيال مآته وحليف/عدو لإنقلاب 23 يوليو وامتداده العسكري".
كان محمد مرسي مطمئناً جداً جداً إلى شرعيته كأول رئيس منتخب منذ عصر الفراعنة، كما رُوج له، وكان مطمئناً جداً جداً لموالاة كل النقابات والوزارت والشارع ودور العلم بعدما صبغت الصحوة الجميع بصبغة واحدة، وبدأ التفكير بوضع أساسات دولة اسلامية، بدءاً من حركة سير السيارات في الشارع التي حاولوا جعلها مثل بريطانيا، لأن الرسول نهى عن استعمال اليد اليسرى في الأكل، مروراً بخفض عمر زواج الفتاة إلى تسع سنوات إن كانت تحمل الوطء ( إيلاج الحشفة أو قدرها في أي فرج)، إلى بناء شبكة صرف صحية اسلامية، ناهيك عن لامعقوليات الاقتصاد الإسلامي.
ثم ظهرت حالة الصدام التي اختار الإخوان خوضها مع المؤسسة العسكرية في مصر بإقالة وزير الدفاع آنذاك المشير حسين طنطاوي وقادة من الصف الأول في القوات المسلحة، بعدما حاول محمد مرسي العياط الضغط على المشير لمصادرة قرار المحكمة الدستورية العليا بإبطال انتخابات مجلس الشعب والدعوة لانعقاده، بعد حصار المحكمة الدستورية العليا وترويع القضاة.
ثم حدثت صدامات متتالية دخلتها جماعة الإخوان مع مؤسسة القضاء في مصر بدءاً من عزل النائب العام المستشار عبد المجيد محمود في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ووصولا إلى إصدار الإعلان الدستوري الذي حصّن قرارات رئيس الجمهورية وجعلها نافذة وغير قابلة للطعن، كأي خليفة في التاريخ الاسلامي، بالتوازي مع مخطط الإطاحة بالقضاة وتعيين قضاة ومستشارين محسوبين على جماعة الإخوان.
واُختير لمحمد مرسي، بغباء فريد لا يُحسد عليه من مكتب الارشاد الاخواني، الفريق عبد الفتاح السيسي ليكون وزير الدفاع، الذي أشيع وقتها أنه من الاخوان المسلمين، وبدأ محمد مرسي الاتصال بإيران لتأليف ما يشبه "الحرس الثوري" و"الباسيج" في مصر، وتبادل أسرار دولة مصر مع منظمة "حماس" لأنهم إخوة في الاسلام.
وبعد الصدام مع الجيش والقضاء ظهر العداء الذي يكنّه قادة جماعة الإخوان لأجهزة الأمن في مصر، حين حاولوا في فترة حكمهم القضاء على جهاز الأمن الوطني وتفريغ الشرطة المصرية عبر اقتحام وحرق مقرات جهاز الأمن الوطني، لتأسيس كوادر أخرى.
الغريب في كل هذه الأجواء ممارسة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضغوطا هائلة على مؤسسات القوى المدنية من أجل التعاون مع جماعة الإخوان حتى خلال الشهر الأخير من حكمِهم لمصر، الذي كان واضحاً فيه عدم رضى الشعب أو أي مؤسسة عنهم، لحث الجميع على ضرورة مساعدة الإخوان في إنجاح تجربتهم الديموقراطية.
تجربة غريبة أظهر الأخوان المسلمون فيها الوجه المتقبّل للتغيير لجميع القوى المعارضة في البداية، وعقدوا تحالفات سياسية مع القوى السياسية، ثم بدأ تهديد جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم لخصومهم مع تنامي الدعوات للخروج إلى مظاهرات 30 يونيو 2013 للتعبير عن غضب الشارع منهم، الذي وظفه السيسي ببراعة وعزل بسببه محمد مرسي لاحقاً.
كان التهديد واضح بعبارة موجزة بالصوت والصورة للقيادي في التيار (الديموقراطي المعتدل) السلفي حازم صلاح أبو إسماعيل "لم نكن نذبح لنأكل.. بل لنتدرب على الذبح"، تعليقا على أحداث العنف المصاحبة لحصار مدينة الإنتاج الإعلامي، حيث أطلق ذلك التهديد خلال لقاء مع قناة "العربية" في السابع من أبريل عام 2013.
مرشد الإخوان المسلمين مهدي عاكف ومحمد مرسي لم يقدّرا تماماً عواقب عدم موالاة قيادات الجيش والاستخبارات لحكمهما. استهان مكتب الارشاد بعدم موالاة قيادات الجيش والاستخبارات على أساس أن الولايات المتحدة والشارع الاسلامي المحلي والأقليمي والدولي معهم، وكما كان يردد مرسي أنه رئيس شرعي لمصر، بعد ذلك في قفص الاتهام، وجعلت الاستهانة والاستخفاف والبلطجة وغد مثل خيرت الشاطر يهدد وزير الدفاع ورئيس المخابرات بألفاظ سوقية ليخيفهما، وانتهت لعبة السلطة بين المستفيدين من الاسلام سياسياً والجيش باستيلاء الجيش على الحكم مرة ثانية، بعدما وقف ملايين الناس في الشارع حاملين شعارات تندد بحكم الاخوان.
أنا مسلم بس
جاء عبد الفتاح السيسي رئيساً بعد فترة قلائل كادت أن تجعل مصر مثل ليبيا واليمن، ورغم الزخم الشعبي الهائل الذي أتى به، تعمد الظهور في صورة معروفة مع إمام الجامع الأزهر وحاشيته الدينية، ما يعني أن السيسي، مثل أي حاكم إسلامي وامتداد لحكام انقلاب يوليو، يفضل أن يستمد شرعيته من الدين، لكنه نفى تماماً الانتماء للإخوان المسلمين أو السلفيين وقال "انا مسلم بس"، ويفُهم من كلامه أنه مع تغيير الخطاب الديني وفي طور الاعداد لدولة "المواطنة".
يسمع السيسي من المتنورين أنه لم يحدث في تاريخ أي دين أن جاء التغيير من رجال الدين بل من المفكرين، لكنه يطلب تغيير الخطاب الديني من الأزهر. ويوحي السيسي بأنه رئيس كل المصريين لكنه يفتتح خطاباته السياسية بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"، رغم سعيه لدولة مواطنة تقف من الجميع على قدم المساواة. ويصّر السيسي على أنه "مسلم بس" ويقول دائما عن أي عمل مؤسساتي يفعله: "ديني يحثني على فعل هذا"، وليس منطق الدولة أو ستراتيجيتها أو الاقتصاد أو الظروف العالمية.
تحولت عقيدة الجيش المصري إلى الاسلام، رغم أن عقيدة أي جيش دولة مدنية هي الوطن، وهو ما كان في جيش مصر من قبل (إنس كرامتك الشخصية ودينك بمجرد أن ترتدي الزي العسكري، فكرامتك هي كرامة الجيش، ودفتر يوميات الكتيبة هو كتابها المقدس)
احتفظ دستور 2014 بالمادة الثانية في دستور 1971 رغم مطالبة العَلمانيين ومعظم المشرّعين بحذفها، لأن وجودها لا يوحي بوجود دولة علمانية، وقد نصت المادة الثالثة من دستور عام 2014، على أن يحتكم غير المسلمين لشرائعهم في مسائل الأحوال الشخصية، وأقرت إحدى المحاكم تطبيق التعاليم المسيحية في الميراث، لكن لم تلتزم بهذه المادة باقي محاكم مصر. وفي أمر الإعدام ما زال رأي المفتي (وهو شكليٌ غير مُلزم وعادة يصل بعد تنفيذ الحكم) يؤخذ بالنسبة لإعدام المجرم حتى لو كان مسيحياً وليس بابا الكرازة المرقسية، وكانت أكبر مفارقة هي أخذ رأي المفتي بإعدام راهبين قتلا رئيس دير.
لا سبب واحدا يفسر في عهد السيسي، التناقض بين الحفاظ على مكونات الدولة الدينية العميقة في مصر ودعمها بمال الدولة، والمناداة بدولة المواطنة، سوى أن الدولة الدينية المصرية الممتدة منذ زمن عبد الناصر تستعمل الخطاب الديني/السياسي منذ سنة 1954 وتستمد شرعيتها من الدين، وهي قيّمة على أحكام الدين وليس تنفيذ أو معاقبة من ينتهك القانون.
ماذا يُفهم من تغيير قَسَمْ كليات الطب من قسم أبقراط المعروف إلى قسم إسلامي وقت التخرج؛ "أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوراها"، ناهيك عن قضايا خدش الحياء العام أو إهانة الذات الإلهية أو إزدراء الاديان، وغيرها من قضايا تُرفع ضد عَلمانيين بسبب كتاب أو رأي أو مقال، وفنانين بسبب أغنية، وراقصة بسبب ثياب غير لائقة، ومطربة غنّت أغنية جرئية.
الدين كان ولم يزل في خدمة السياسة، أو دعم أمير المؤمنين أو الخليفة أو الملك أو الرئيس، بعدم الخروج عليه (وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) أو الخروج عليه الذي (اختلف فيه سلف هذه الأمة وخيارها، ثم آل الأمر، أو كاد إلى اتفاق كلمة أكثر الأئمة المتبوعين والعلماء المعروفين على القول بترك القتال وعدم الخروج).
أما الصحوة فكان هدفها الانقضاض على الحكم، وليس نهضة المسلمين، أو إعادة نظام الخلافة المستحيل عملياً أن يعود لرفض أي حاكم مسلم التنازل لخليفة في بلد آخر ليحكمه، وكل دعاتها سواء كانوا إخوان أو سلفيين أو جهاديين اتخذوا من اللحية والحجاب والمصطلحات الفضفاضة وخطاب الكراهية جواز سفر لحشد الناس حولهم، وللتعريف عن هويتهم السياسية، ولم يزل التعاون بين السياسيين والفقهاء مستمراً، تحت شرط واحد في العالم السُنّي هو عدم وصول رجل الدين للحكم، أما عند الشيعة فقد حسم الخوميني الأمر بإعطاء نفسه لقب الولي الفقيه.
انقلاب يوليو لم يكن مختلفاً تاريخياً عما سبقه من فترات حكم منذ 1443 عاماً، بل هدم تماماً ايجابيات وأساسات محمد علي باشا وأولاده لبناء دولة حديثة، وقوّض عن سابق تصور وتصميم الوجه العلماني التعددي لمصر.
ويبقى تساؤل عن سبب سقوط الإخوان في الحكم: كيف تقبّل شعب أفكار جماعة لدرجة نكران تاريخه وثقافته، ثم أسقطهم عندما وصلوا إلى الحكم مع التمسك بتعاليمهم؟!



#عادل_صوما (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نيّرة تتمرد على امبراطورية الخيام
- خواطر حول -تغطية المسلمين- بجزئيه
- هل سيرمم الغرب ثغرات ديموقراطيته؟
- قيمة الفنان سمير صبري
- الإلهيون يخسرون مقاعداً في لبنان أيضا
- اقطاعيات المحتالين ورعاياها
- هل قام المسيح أو رُفع؟
- لماذا هم معتوهون؟
- التجديد سيتم معرفياً
- تم تنبيهنا لهذه المخاوف ونبحث فيها
- منتصف الليل في القاهرة
- العنصر المأساوي في تدهور الغرب
- عكس ما اشتهته سفن الصحوة
- إلاّ مخططنا ومصارفنا!
- فخامة الرئيس الدستوري اللبناني* (5)
- الواقعية السحرية في فيلم ريش
- الوكلاء الحصريون لله على الكوكب
- إرجع يا ولد أنا مش حيسبك
- سادة الكوكب الجدد
- هل أنا سكران؟


المزيد.....




- هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام ...
- زيلينسكي يشكو.. الغرب يدافع عن إسرائيل ولا يدعم أوكرانيا
- رئيسة وزراء بريطانيا السابقة: العالم كان أكثر أمانا في عهد ت ...
- شاهد: إسرائيل تعرض مخلفات الصواريخ الإيرانية التي تم إسقاطها ...
- ما هو مخدر الكوش الذي دفع رئيس سيراليون لإعلان حالة الطوارئ ...
- ناسا تكشف ماهية -الجسم الفضائي- الذي سقط في فلوريدا
- مصر تعلق على إمكانية تأثرها بالتغيرات الجوية التي عمت الخليج ...
- خلاف أوروبي حول تصنيف الحرس الثوري الإيراني -منظمة إرهابية- ...
- 8 قتلى بقصف إسرائيلي استهدف سيارة شرطة وسط غزة
- الجيش الإسرائيلي يعرض صاروخا إيرانيا تم اعتراضه خلال الهجوم ...


المزيد.....

- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عادل صوما - سبعينية انقلاب يوليو وصحوته