|
سلطة الإعلام و إعلام السلطة
طارق الورضي
الحوار المتمدن-العدد: 7261 - 2022 / 5 / 27 - 07:55
المحور:
الصحافة والاعلام
لا مناص من الاعتراف و التسليم بدور الإعلام الهادف وتأثيره البالغ في صناعة الرأي العام و توجيه الفكر الفردي و الإجتماعي، و تحريك سيكولوجية الجماهير وترويض الذوق العام، فنحن نعايش طفرة تاريخية حافلة بانتعاش التكنولوجيا الرقمية وغزوها للفضاء السمعي البصري، و في ظل تنوع موارد استقاء الخبر و كثرتها، تبرز مدى هيمنة الإعلام على حياتنا العصرية ومدى تحكمه في صناعة الأذواق و بلورة الافكار، فوسائل التواصل الاجتماعي التي صارت متاحة لدى أغلب فئات و شرائح المجتمع تتجاوز دورها الترفيهي لتدخل في خانة التأثير المباشر على العقول و الافكار و توجيه السلوكات الفردية و الجماعية و تغيير منظومة القيم، و لا شك أن وسائل التواصل هاته أرخت بظلالها على نمط حياتنا اليومية وواقعنا المعيش وصرنا لا نستطيع الفكاك منها ومن تأثيرها على افكارنا و سلوكياتنا، فعلى الرغم من أنه لا يمكن أن نتجاهل مدى إسهامها في مد جسور التواصل بين أفراد المجتمع و تسهيل انسياب و تشاطر المعلومات بينهم في سياق عالم افتراضي طافح بما استجد و استحدث من أخبار، إضافة إلى شقها الترفيهي، لاينبغي كذلك أن نتناسى خطورة الدور الإعلامي الذي تطبع به جل مظاهر حياتنا اليومية. لقد صار صنع و ابتكار الإسفاف و الابتذال و التفاهة صفة ملازمة لمشهدنا الإعلامي المأزوم، و صار منطق الربح المادي هو الدافع الأساسي من وراء أغلب المنتوجات الإعلامية المطروحة على الساحة، وهذا يفسر إلى حد كبير مدى رداءة البرامج التي تعرض يوميا على المشاهد المغربي و مدى افتقادها للدقة و الحنكة و المهنية بل و مدى إسهامها في إخصاء الأذهان و تنويم العقول و تبلد الحواس بصناعة نوع من الترفيه التافه و الرخيص الذي يدغدغ عاطفة الجماهير و يعزف على أوتار الأحاسيس و المشاعر في تغييب تام لتحريك العقل و إستقصاء ملكة الحس النقدي لدى المشاهد حتى يستطيع التمييز بين الغث و الثمين فيما يعرض عليه من برامج في سياق ثنائية نطلق عليها علاقة الوارد بالمتلقي. و نقصد بذلك إلى أي مدى يتمتع المشاهد المغربي بحاسة نقدية تمكنه من قراءة ما وراء السطور فيما يعرض عليه يوميا من مادة إعلامية و هل يستطيع سبر اغوار الخطاب الإعلامي لتشريحه ثم تقسيمه إلى معطى جيد و معطى ردئ. في ظل كثافة المشهد الإعلامي و تعدد منابره ينجرف قطاع عريض من الجماهير وراء تيار الابتذال و التفاهة عن سبق إصرار أو بدون وعي بذلك و ترتسم صورة قاتمة لمن يحملون الفكر الخلاق و الثقافة الرصينة و المعلومة الهادفة لأن تأثيرهم في توجيه الذوق و الفكر الاجتماعي العام يكاد يكون منعدما إلا من بصيص ضئيل من النور يلوح في الافق من هنا و من هناك من حين لآخر. إن استبعاد رجال و نساء الفكر الخلاق و الثقافة الرصينة و الابداع الحر و العلم البناء، عن ساحة قنواتنا الإعلامية الموجهة و المتحكم فيها، في مقابل تخصيص فقرات إعلامية زمنية مهمة للوجوه المبتذلة التافهة المغرقة في الإسفاف و الرداءة و الجهل المركب يرخي بظلاله بشكل سلبي جدا على المشاهد المغربي و يخلق انطباعا عاما بأن تحقيق الشهرة و المال يمر بالضرورة عبر الرداءة و التفاهة و الخواء المعرفي و العوز الثقافي، وهي رسالة مبطنة خطيرة يلتقطها أفراد المجتمع و في مقدمتهم الناشئة و الشباب الصاعد الذين يفتقدون للمثل الأعلى و القدوة السامية التي قد يتخذونها منحى ومسارا في حياتهم و مستقبلهم، و في ظل تغييب هاته القدوات الرائدة عن مشهدنا الإعلامي فإن الساحة تخلو لكل من هب و دب من رموز الإسفاف و الرداءة و الابتذال و الاستلاب الثقافي و المسخ الهوياتي و العفن الفني. تعرفنا في شق الاول على تمظهرات سلطة الإعلام في حياتنا اليومية المعيشة، فمن يتحكم في صناعة هذا الإعلام و من يحرك الخيوط التي تمسك بزمامه من وراء ستار؟ يظل الإعلام وهو السلطة الرابعة منبرا متحكما فيه بقوة وموجها في كل مظاهره بسطوة الحكم أو السلطة الحاكمة، و كما تخضع السلطة الحاكمة في الدول المتخلفة كل مظاهر الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية لصالحها، فإن رحاها تضم الإعلام كشق متحكم فيه وفق توجهات و تعليمات القوى المتنفذة في الحكم خصوصا تلك التي ترعى الريع و الفساد السياسيين و تغتني من إهدار المال العام و تسلط آلتها القمعية لمصادرة الحناجر الحرة و مطاردة الاقلام المناضلة و تكميم الافواه و تأميم العقول، وهذا يفسر حملات المطاردة و الاعتقال الاعتسافي و التوقيف المتعمد التي شملت عديدا من الأوجه الإعلامية و الصحافية المناضلة الحرة، منها من ينشطون على صفحات التواصل الاجتماعي و منها نشطاء حقوقيين ميدانيين، طالتهم يد المنع و الاعتقال الآثمة لمجرد أن خطهم التحريري و اتجاههم الفكري و مواقفهم الشخصية لا تروق لأصحاب السلطة و صانعي القرار في ظل مشهد هلامي متكلس يذكرنا بعصور الظلمات و الرصاص حيث تصادر الحقوق و تعتقل الافكار و تقوض الحريات و بذلك يتلاشى و يتبدد أي حديث عن دولة المؤسسات و الحق و القانون و يضيع مفهوم المجتمع المدني بين ثنايا مصطلحات محنطة لا تسمن و لا تغني من جوع. لا يمكن أن نتصور إعلاما حرا فاعلا في ظل سطوة الرأي الواحد، و في سياق غياب فصل السلط و استقلالية القضاء، و إلا كان ذلك ضربا من الوهم ليس إلا. فإن الإعلام الحر لا يمكن أن يعيش و أن يتنفس إلا في ظل بيئة ديمقراطية سليمة و سوية تسمح بحرية الرأي و الرأي الآخر و تأخذ على عاتقها احترام بنود الدستور في قانون الحريات العامة، و تضرب بقوة على يد من تسول له نفسه أن يتطاول و يتجاسر على نصوص القانون خدمة لأهداف شخصية أو حزبية أو عشائرية، أو أن يكيف نصوص القانون وقفا لما يخدم مصالحه و يعزز نفوذه و سطوته. إن الإعلام لا يشذ عن المنظور العام التي تسير وفقه السلطة المستبدة أمور الشعب، فهي تمسك بزمامه بقوة خشية أن يطال تأثيره العقول فتستنير و ترتقي و تعي كل ملابسات الواقع السياسي و الاجتماعي المعيش ، فتتحول إلى أمواج هادرة من المحبطين و الساخطين و الثائرين و المناضلين المطالبين بمحاسبة رموز الفساد و الريع و الاستبداد و هادري المال العام و بإقرار العدالة الاجتماعية و المجالية و رفع شعار الحرية و تبني الديمقراطية السياسية الفاعلة و البناءة بعيدا عن الخطابات العقيمة الجوفاء التي تدغدغ مشاعر العامة، وهذا الحراك هو الكابوس الذي يقض مضجع المتنفذين و المستبدين القابعين على سدة الحكم، لأن تحرير العقول هو تحرير للشعوب من القيود المصطنعة و كسر لحاجز الخوف و إنذار بانقلاب الموازين لصالح جماهير الشعب التواقة للانعتاق من إسار الاستبداد و القمع و القهر و التفقير، و هو ما سيقلب الطاولة على قوى الاستبداد و القمع و يتنزع منها كل الامتيازات بما فيها الحصانة السياسية، و يجعلها عرضة للمحاسبة القانونية عن جرائمها السياسية و الاجتماعية في حق المواطنين. كل سلطة مستبدة تطمح إلى جعل الأعلام وسيلة لتلميع صورتها القاتمة و المهتزة أمام الرأي العام، عن طريق الترويج لخطاب إعلامي يروم تزييف و عي الجماهير و تمويه حقيقة الوضع القائم، عن طريق التفنن في تجميل هذا الواقع المأزوم بمختلف المساحيق من قبيل إدعاء أن السلم الاجتماعي قائم و لا خوف عليه في ظل انتعاش الديمقراطية وسيادة القانون وأن البلد لا تعيش أية أزمات سياسية أو اجتماعية وأن الاقتصاد يعرف انتعاشا ملحوظا وأن المواطن راض بالوضع القائم و مرتاح في ظله، و كل هاته الادعاءات عارية عن الحقيقية لا تسندها أية معطيات من الواقع المعيش و لا يقر بها المواطن السوي، غير أنها تظل وسائل مصطنعة لترويج الوجه المشرق للسلطة الحاكمة على مستوى الداخل و الخارج، و إعطاء الانطباع بأن الحياة السياسية و الاجتماعية لا تعرف أي احتقان و أن السلطة قائمة بدورها الدستوري في رعاية الشأن العام و هو وهم تحاول السلطة القائمة تمريره بكل الطرق و الوسائل ليسير حديث الراي العام و لتختفي في ثناياه الحقيقة المرة التي يعضدها الواقع المعيش ويلامسها المواطن عن كثب.
#طارق_الورضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المهرولون : قراءة في مخرجات الحوار الاجتماعي بين الحكومة و ا
...
-
الحراك الشعبي الأخير في ظل استعار موجة الغلاء
-
شهادة الباكالوريا و دلالاتها في الميزان
-
لماذا أقاطع التصويت في الانتخابات المغربية
المزيد.....
-
-القصة الكاملة- من برنامج رائج على يوتيوب إلى مسلسل مصري عن
...
-
كاميرا CNN توثق مشاهد فيضانات تغمر الطرقات في فلوريدا.. وعمل
...
-
-الروبوتاكسي-: شركة تسلا تستعد لإزاحة الستار عن أحدث سياراته
...
-
السيستاني على قائمة الاغتيالات بقناة إسرائيلية وردود فعل غاض
...
-
قوات اليونيفيل تقف بين لبنان وإسرائيل... هل لها قوة؟
-
قتلى في قصف مدرسة بغزة وإسرائيل تقول إنها استهدفت -إرهابيين-
...
-
مصر تعلن موعد التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير
-
تقرير إسرائيلي يكشف حجم ومواقع الأضرار التي طالت مستوطنات ال
...
-
الكرملين: بوتين سيناقش مع بزشكيان العلاقات الثنائية والتصعيد
...
-
الكرملين: بوتين لا يعتزم إجراء أي اتصالات مع نتنياهو
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|