أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسان عشاق - رواية ( الارهابي)















المزيد.....



رواية ( الارهابي)


الحسان عشاق
روائي وكاتب صحفي


الحوار المتمدن-العدد: 7236 - 2022 / 5 / 2 - 22:39
المحور: الادب والفن
    


فالصو عنيد و مشاكس مند الصغر ، يتعارك لأتفه الاسباب مع الاتراب في الحي الصفيحي، حي شهد شهقة ولادته الأولى على شاطئ الشقاء المتوارث ابا عن جد، يحبو في منعرجات الحياة ليشق طريقا وسط هواء فاسد ينشر الانين والتأفف والقحط ، الصوت منكسر في حضرة النتانة والعراء، يهرب من قساوة الوقت مثل الفراشات مند اعتلى سدة الفهم، نور الشمس في الحي باهت عاجز عن اضاءة العتمات، حارة (الجعبور) عبارة عن بيوت طينية شيدت في غفلة عن عيون الرقيب وبتشجيع منه في احايين كثيرة، الاوراق النقدية تضرب عرض الحائط قوانين التعمير تكنس المراقبين، كثرة اقلام الكحل تعمي العيون ، اغلب الساكنة غرباء جاؤوا الى المدينة الكبيرة بحثا عن فرص العيش، حين تحاصرهم الصعاب والمشاق يهرعون إلى واحات الخيال والمخدرات، ارواح مرصودة للضياع تبحث عن الخلاص بأية وسيلة، تسطر الأيام حياتهم على ورق الاوجاع، الجماجم ارض جدباء يعشب فيها قلة الحيلة وندرة الفرص ، ادمغة جدباء صالحة لزراعة أي شيئ ، الله مات في الصدور حين ارتشفوا دفعات متتالية من الوجع والانين، صلوات الجنازة تقام كل ساعة ودقيقة على شرف الانهزام ، لا شيء يتغير ويتبدل مند الازل، لا جديد في نشرات الاخبار سوى حفلات التدشين والاستقبالات وتوقيع الاتفاقات وتبادل الخبرات، عبارة تبادل الخبرات مضحكة جدا ، كيف لبلد في الدرك الاسفل من الجهل تبادل الخبرات مع دولة متقدمة سنوات ضوئية .

- جافيل ....جافيل قراعي للبيع.... البالي للبيع.

صوت مشتري المتلاشيات و بائع المنظفات يطمس كل الاصوات، الجو مغبر والهواء فاسد يجرح الحناجر والانوف، والاحلام العابرة للوقت تتارجح بين الامل الشقي والسراب الوهمي، الحاكم اصم واعمى يمتحن في الجلود خلطات سياسية، ابكم من نشوة السكر، المبشر حامل الاسطورة القديمة في اماكن العبادة يوصي بالصبر والجلد، يركل المواضيع الجادة من دفتر النقاشات، بيوت الله مختبرات لقياس درجة التدجين والاستسلام، الامام يوزع اقراصا مزخرفة من التخدير، يرتشف بزهو بخار لعابه، يعجز عن قطع دابر الشك باليقين، فوق المنبر يمتشق النصيحة بنبرة العالم ويتلو من ورقة مختومة بختم السلطات خطبة الجمعة المكررة، يقيئ نفس الاحاديث النبوية والايات القرآنية ويمطر ولي الامر بالدعوات.

في الضفة الأخرى من المدينة يستوي الليل بالنهار ويغرق الواعظ في بركة التجشؤ والدعاء بدوام النعمة على قطاع الطرق وتجار الذمم والفسدة، يبرنق الكلام على أرائك الطامعين في الخلود المدثرين بأحضان الرقيق الابيض وقناني الخمور المستوردة من بلاد العجم، الحديث عن الدين والشرع والنهي عن المنكر في الاحياء المنسية يرغي في كأس التبرم والامتعاض، النهي لا يستقيم في مسارب الجثو فوق قلوب جهلة شكلوا احزمة للفقر والجريمة وصدروا الرعونة والخشونة الى باقي الاحياء، لا شيء يخضع لمقاييس الاخلاق والقيم، على السحنات تقرا قصص الحزن والشقاء الابدي، ينطحن الكبير والصغير في بطون الظلمة والأوجاع ، الجدران الطينية لا تلد غير طبول القساوة، الياس ينبجس من النظرات الحائرة، الحالمة الثاقبة، الشزراء، من الإشارات والأصوات القاسية والخافتة، قسمات تحمل مزيجا من الخير والشر متمنطقة بالاحتراس الدائم، ففي الياس يستوي الجميع الطاعنون في البطالة والسائر منهم مرغما على نفس الخطوات، الصيف والشتاء تزداد مشاكل العيش صعوبة، الممرات الضيقة مجاري للمياه العادمة ، ممرات ضيقة ينقل المريض و حمل متوفى في الافرشة ، ان شب حريق في كوخ محكوم بالرماد، سيارات المطافئ تجد صعوبة في اخماده ، الروائح الكريهة والمغثية تكبس على الانفاس ، تخنق هواء الدور الطينية المبنية على عجل في جنح الظلام ، اطفال شبه عراة يلعبون في مجاري المياه العادمة، شباب يكرعون كؤوس الخمر ويتناوبون على لفافات الحشيش بدون اكتراث، الحرية المشتهاة في المخدرات، فتيات تفجرت الحياة على صدورهن موعودات للافتراش ، عربات تجر بالدواب تستريح في الساحات الفارغة التي تتحول كل صباح الى سوق للخضر، روث البهائم يستدرج اسراب الجعلان في عز الحر، حشرات سوداء تسحب كرات الروث اكبر من حجمها الى وجهات مجهولة ، ذباب وكلاب ودجاج وطير البقر ، قمامة في كل شبر، اينما وليت وجهك ثمة مزبلة، مشاهد مقززة تؤثث المشهد اليومي، صور بخسة تقدم تفاصيل حية بدون رتوش عن حياة القرف ، الوقت يتكدس في الرؤوس في بلادة ، تنام تحت انفاس هاربة من قمطر الاستسلام ، تهبط مكرهة الى دهاليز النسيان والتعايش المر ، تسقط ضحكات طازجة على وقع المستملحات لعجزة يفترشون الارض ، يثرثرون بدون انقطاع على كماشة حياة شاقة تسوقهم للطحن والعجن لكنهم غير مبالين، عدم الاكتراث شعار المهزومين ومن فاتهم الركب، ضحايا الوقت الصعب مزخرفين بحشوات انتهاء الصلاحية في معركة الكبر ، اصوات نشاز في محبرة الكلمات، قفاشات تستعرض ما تحت الحزام ، الاحاديث الشيقة التي تشد الانتباه تلك التي تخدش الحياء وتتناول اعراض الناس، تمر شابة تعصر جسمها في ملابس ضيقة تلتوي الاعناق وتصهل قوافل الرغبة تحت ابط الهرم ، توقظ في الاشلاء حكايات قديمة عن مغامرات شيقة مع النساء.

- الله الله يا ولي الله ...

-مشات الصحة بقا فينا غير التهرنين .

- لي ما شرا يتنزه.

خربوش عاطل عن العمل على مدار السنوات ،كل يوم يلملم العظام ويزحف إلى المقاهي ليلتقي بالكادحين وأولئك الذين تقوست ظهورهم بالشقاء، الفقر يقض فيهم مضاجع البوار والذبول، وجوه كالحة نازحة من مفرمة الوقت ترتدي جميع الفصول متخمة بشتى التفاهات ، لم يبق لديهم من أبجدية الانتاج سوى قتل الوقت والغرق في احلام اليقظة، كحات ،سعال، ضحكات، قهقهات، الكدح في الوطن سمة تلازم الانسان من المهد الى اللحد، عاطلون يمتهنون مهنا هامشية، حمل الامتعة في محطات الحافلات ،القطارات ،الميناء، حراسة مواقف السيارات والعمارات، بيع الخضر فوق العربات في الاحياء، تلميع الاحذية امام المقاهي والساحات العمومية ، نوادل مقاهي، تجارة متلاشيات على الارصفة، اصلاح وتسليك مجاري الصرف الصحي، لا مكان للورع التقي النقي المتخشع ، لا مكان للباقة والمرونة في الكلام، الحوارات عارية من أدوات التجميل تقتحم الاخر مباشرة، دخان الحشيش والسجائر تكبس على المكان المكتظ عن اخره على مدار الساعات، براريد الشاي والسائل الاسود مشروبات مفضلة، بدون ممنوعات يكبر الاحساس بالنقص وترتفع معدلات الاحباط والسخط ، حشو الأذهان بالأوهام والسعادة المؤقتة امر مستحب ومتوارث، فارس الاوهام المنتظر بجنون على ناصية المراهقة ، الروح لا تستفيق من غيبوبة التمني الرابضة في الاوصال مند المهد، الضباب كثيف يملا المقهى واجساد منشورة على الكراسي المهترئة، ذباب يرعى في الاجساد المكورة ، أوراق اللعب تسقط من الايدي الخشنة، يرتفع صوت الرابح وينكص المهزوم، تستقبل القفاشات والتقريع بصدر رحب، يلفعهم الصمت لبرهات مشوبة بالحذر، تجرجرهم الاحاديث الفارغة والمكررة على الايام المصابة بالجدب والعقم، على مجمر التسكع صابرين ، المدينة مسورة بالعطالة والكساد، يدخل صبي راكضا ويصرخ بان جارهم العربي مات اثناء الليل، يضرب كفا بكف، يتوقف اللعب، وجوه يهرب عنها الدم، يرفعون الروؤس الى السماء ويطلبون مغفرة الله.

- انا لله وانا اليه راجعون

- العربي مسكين كان معنا البارح ما باين عليه لا مرض لا والو

- علاه الموت كتشاور ولا كتدي غير لمراض الله ارحمو

- خلا وليدات صغار

- الله يرحمو ووسع عليه و اصبر امهم وجداتهم وجدهم عمر الطاشرون الرجل الطيب

خربوش يقف متسمرا، متبرما، ينظر من ثقب وقع الكلمات القاسية، ملاك الموت يتربص بالحي يحمل المنجل لجز الاعناق في غفلة، يبحث عن قيمة الوجود في جغرافيا الزمن الهارب، مكسور الخاطر يشفي الغليل من لذة الصمت، مبلل بصور ماض سحيق كله حب وصداقة مثينة، على الشفاه رذاذ من اهات، العربي مات، تكبر الغصة والصدمة، تزدحم الروح بنوبات الاسى، تدمع العيون، الحياة بدون معنى، الانسان يعيش الوهم وينتظر دوره في الطابور، تحضنه اجساد شاردة الاذهان معبئة بمشاعر غريبة، تربت على الظهر ايادي فوق لهيب متنامي، الموت والمرض يرممان الجسور المهدمة.

بسرعة نصبت خيمة في الساحة الفارغة، جمعت القمامة وروث البهائم والمتلاشيات و روائح بقايا اسماك تحبس الانفاس، اول مرة تتنفس الساحة لحظة نقاء ، ساكنة الحي الشعبي تقوم بالواجب ، الرجال يبكون يتمرغون في تعاسة من هول الصدمة ، نساء تولول في ذروة السام ، العربي ميكانيكي دراجات هوائية ، عاش كريما، لطيفا ، مؤدبا ، حسن المعشر ، ترجل في العقد الرابع عن صهوة الحياة ، مات نائما، لم يودع الزوجة والاطفال الاربعة، لم يطلب عفوا ومغفرة من الله، لم يحتضن الاصدقاء المقربين ويلتمس منهم الاهتمام بالأولاد، لم يطالب مستحقات متخلفة عند الزبناء ، لم يترك مالا ولا اطيانا ولا وصايا ، ورشة لا صلاح الدراجات وادوات العمل، مفكات البراغي مختلفة الاحجام والمقاسات ، علب غراء اصفر ، دزينة عجلات مطاطية معلقة في حبال وقضبان معقوفة ، اطارات معدنية، قضبان حديدية اشبه بأسياخ اللحم ، دراجات هوائية متهالكة تؤجر لساعات للأطفال والشباب، العربي كان دراجا واعدا يشارك في السباقات الوطنية، احتل مراتب متقدمة ونال بضعة جوائز، اصيب بكسر في الساق ولم يعد قادرا على المنافسة ، الظفر بالمرتبة تزيد من معدلات المخاطرة، مكورين على المقود يتصببون عرقا، الدواسات تدور باقصى سرعة، يهرب من الظل الى الارتقاء، تجاوز احد الدراجين في منعطف ضيق وخطير ، احتكت الاطارات، فقد التوازن، انزلق في منحدر عميق، تكسر المقود، من شدة الانزلاق وسرعة الاندفاع نحو الاسفل ، ارتمى في الفراغ مثل قطعة ورق ،سبح في موج من الغبار والألم، بصعوبة سحبوه مدرجا بالدماء والكدمات، كسر في الساق انهى الأمنيات، خرج من المستشفى بعكاز، قضى اشهرا في المستشفى لم يزره اي مسؤول محلي او وطني، سلوك زاد من درجات الحنق ، انه لاشيئ في محافل الشامتين، اغتيلت الفرحة والطموح ، حاول تأسيس نادي للدراجات الهوائية حين استعاد عافيته، طرق ابوابا كثيرة بحثا عن الترحيب والدعم ، اصيب بالإحباط والتذمر، تزوج وانجب اولادا ، ماتت الفكرة في الدماغ وما لبثت ان تلاشت مع الايام ، تغيرت الرؤية في العيون المنكسرة ، الوطن يلفظ ابنائه في دورة المياه بدون اكتراث، لا حاجة للهرولة وراء الريح والركض وراء الاحلام التائهة، اصعب سباق يخسره الانسان في الحياة حين تسد ابواب الطموح والرغبة في الارتقاء، افتتح ورشا لا صلاح الدراجات وسط الاسطبلات و المنبوذين اللطفاء ، موسوم بالفرح اللذيذ، رسم نهاية للرياضة المفضلة و لن يعود لرسم الشارات في الطرقات والساحات ، تلقي اكاليل الازهار وكلمات الثناء ودعوات العشاء ، يجوب الاسواق والمدن المجاورة بحثا عن دراجات متقادمة ، يفككها ويبيع الاجزاء الصالحة ، يصلح القطع المعطوبة ، اعادة تدوير المتلاشيات المكسب اليومي جيد ، بعد كد وجهد وصبر اصبح له زبناء من الاحياء المجاورة ، على يديه تعلم شباب كثر، داخل الدكان ثمة صور معتقلة في اطار مذهب لشاب في العقد الثاني بلباس رياضي يقف شامخا بجوار دراجة هوائية، صورة اخرى مع مجموعة من الشباب، قصاصات اخبار لجرائد وطنية مدفونة بعناية في صندوق خشبي ملفوف في خرقة، في الجانب الايسر للدكان صورة حديثة بمعية سيدة تحمل في اليد اليمنى رضيعا وبالجوار ثلاث اطفال اكبرهم في العقد الاول او اكثر بقليل، العربي يقف مزهوا في بدلة رمادية وربطة عنق فوق قميص ناصع البياض، يفتر عن ابتسامة تطفو فوق الانفاس، نظرة عميقة الى ام الاولاد تبحث في العيون الناعسة عن سر السعادة، رآها لأول مرة في شهر رمضان قبل أن يعلن المؤذن موعد الافطار، تمشي هادئة مطأطأة الراس، وجه صافي خالي من التبرج، قرع جرس العشق نافذة القلب، ادار عقارب الساعة نحو الحلال ، ابتلع آخر نفس من جرعات التردد، استعجل قطاف الشمس، ارسل في طلب والدها، على نسمات براد شاي منعنع وبضعة مستملحات، قرأت الفاتحة ودعا له عمر الطاشرون بالهناء والسعادة ، قبل راسه واقسم ان يعالمها مثل الاميرة واكثر.

- الله اكمل بخير ولي خصك يا ولدي مرحبا والا عصات الاوامر ديالك هاني موجود.

- الله اطول عمرك اسي عمر

عمر الطاشرون بناء محترف، اغلب الدور الطينية في حي الجعبور شيدت على يديه، المساحات الفارغة تنبث فيها الدور مثل الفطر، الاشتغال ليلا افضل بكثير، دائم الابتسام منشرح الاسارير، يربت على الاكتاف ويسأل عن الغائبين ويدعو على المرضى بموفور الصحة والعافية، يقبل رؤوس العجائز وينثر المستملحات على اسماع لاعبي الورق والضامة، يحيل الغضب النامي في اشلاء الغاضبين الى قهقهات عالية، اكترى مند عشرات السنين منزلا طينيا ، وما لبث ان قام ببناء بيته في بقعة فارغة تحت جنح الظلام، دفع مبلغا زهيدا لصاحب الارض ووقع التراضي، العقد العرفي كتب على عجل ، وثيقة مضمخة ببصمتي البائع والمشتري واسماء بضعة شهود ، تزوج وانجب اكثر من نصف دزينة انات ذوات حسن وجمال، اغلبهن تزوجن في سن مبكرة ، مكان المرأة بيت الزوجية كلمات يلقيها على المسامع في المجالس، جميعهن دخلن المدرسة لبضعة سنين تعلمن القراءة والكتابة، حين تكور الزمن على صدروهن غادرن المقاعد الدراسية بمشيئة الوالد، يرفع عمر الطاشرون انخاب الفاتحة، زغاريد وموسيقى صاخبة، العروس مخضبة اليدين والرجلين بالحناء ، لطيفة تشع جمالا ونقاء، تزهر أشجار الريحان من اهداب العذارى، من رائحة البخور والعطور تكتب للعروس بشارات الانشراح، تقرع الدفوف وترتفع الزغاريد في المنزل الواسع المبني بالأجور والاسمنت، في حي الجعبور رغم الفقر المشترك، فان ساكني بيوت الطين في مرتبة ادنى من ساكني بيوت الاجور والاسمنت، العروس مزينة بأساور النجوم وقلادة القمر، تقرع طبول الفرح و تحمل في هودج البهجة، العريس يكتب الاسطر الاولى من سفر الحياة، بكت زينب المراكشية على فراق البنت، وقفت في الباب ساهمة منقبضة، العيون مغرورقة بالدموع تزف الابنة إلى موكب الرحيل على تخوم الزغاريد، الفراق صعب، اقسى شيئ يحمل في حقيبة نازح نحو الشمس.

لم يبق من الماضي البعيد سوى إشارات شحيحة تتراقص في المخيلات وبعض المخلفات ، تذوب ولا يبقى منها سوى اصوات شاحبة مقدودة من وخز اللحظة، اطفال يركضون بدون اتجاه ، يتسابقون بين الازقة الضيقة، يتصايحون، يحدثون ضجة، عربات مجرورة ترسل قعقعات عالية ، في ركن من الخيمة الكبيرة ثمة نسوة منهمكات في اعداد الطعام ، رائحة المرق والكسكس تصفع الانوف، الفقيه يقرأ بصوت رخيم ، شجي ، حزين آيات قرآنية، ترسل القشعريرة في الابدان المتخشعة ، القراءة تحرك العواطف المتكلسة تبعثر الافكار فيبدو الوجود غريبا ، شباب ينشرون اجسادهم على الكراسي امام المقهى، يراقبون الحشود تتسلل الى الخيمة، عشرات الرجال مشوا في الجنازة يأكلهم الاسى، كلمات الله تتردد عاليا في الطريق الى المقبرة، آيات تستدعي الالاه الى الأرض ليشارك الحزانى الالم، تنكمش الاجساد في غور المعاني، ينكشف زيف الحياة المقرف وعظمة الخالق ، الانسان عابر سبيل اشبه باللاجئ في الليالي الحالكة، اقيمت صلاة الجنازة، الموت نهاية رحلة مطلسمة لكذبة حقيقية، الحفرة الضيقة اكتملت، يحمل الجسد المسجى من فوق الارض، يمدد بتواده في الحفرة نحو السبات الأبدي ، يطير مع أسراب الموت في الفضاء الموحش والمجهول ، تفرقت الجموع حين استوت الربوة ،واندثروا في عباب دعوات الرحمة والمغفرة، العربي يرقد الرقدة الاخيرة في أعماق النسيان، لن يبقى منه سوى ذكرى عابرة في المخيلات ، الارملة تعيد تشكيل الضوء والألوان، الايام القادمة لن تمطر سوى زفيرا ونحيبا ، ستنطفأ مصابيح الحب والاحلام، ستطوي صفحة وستبدأ صفحة اخرى،( يبكي عليه قيلا ثم يخرجه... فيمكن الارض منه ثم ينساه) رحم الله ابو العتاهية لخص علاقة الناس بالاحبة بشكل دقيق.
تمشي بين الجموع منهكة القوى، تنتابها نوبات الاختناق، يسافر الاطفال فوق الصدر، فلا شيء واضح تتوجس من المجهول والحمل الثقيل، المقبرة تستقبل المزيد من الموتى، تستقبل المزيد من بكاء و دموع اليتامى والثكالى، تحت الالسنة تذوب مرارة الفقد الدفين في الأعماق ، عمر الطاشرون يستقبل المعزين بوجه حزين وكئيب محاطا بأبناء المرحوم ، يرد على المواساة فيئن من صرخة الصدمة .
حول المائدة سماء ملبدة بالهموم وكمشة من بسملات، تغسل ذيول الخطايا في المرق وقطع اللحم الطازجة، تجشؤات وصمت مطبق واصوات مخنوقة ومختلفة، قصاعي الكسكس تفرغ في رمشة عين، صحون المرق الموشح بالدجاجات المحمرة تشحم البطون، ينسحبون تباعا حين عبأت الكروش ، في الهواء الطلق ينفضون الايادي من الدسم ويمسحون ما تبقى بالأوراق والتراب ، الفقيه بوهلال تكفل بجمع المال من العائلات الميسورة، اشترى خروفا وعشرات رؤوس الدجاج ، زيت وتوابل ،خبز وخضر، استقبال المعزين يحتاج الى التازر والتكافل ، في الموت ينشط الجميع ويفيض السخاء ويرتفع منسوب الكرم و الخوف من مصير اكيد ينتظر الجميع مع نهاية المسرحية ، فالإنسان يلعب دورا في الحياة حتى تنزل الستارة عن اكتمال المشهد الاخير، ان تعيش فقط لتموت دون معرفة الاجابات عن الاسئلة العميقة لماذا وكيف ، ان ترحل دون رغبة وارادة شخصية قمة الفزع ، ان تظل تدور في حلقات مفرغة بين المرئي واللامرئي ، معلق في سراديب الثواب والعقاب ، انه سر الوجود المخادع و الغامض ومأساة الانسان الحقيقية .
خربوش يمارس جميع الحرف ، قامة طويلة، سحنة شاحبة، نظرات ثاقبة متشحة بالسواد، اشبه بوثن قديم ، صهرته عقارب الوقت مند عقود ، يموت على مهل ممدا على طحالب التمني، يرفع كل صباح اكف الضراعة الى الله ان يرزقه بغير حساب ، دائم البحث عن الضوء في نهاية النفق، مدمن على المخدرات والخمور والقمار وجميع انواع الموبقات، متمرس في توجيه اصابع اللوم جهة ام الاولاد خديجة المتحدرة من الارياف، يفجر الغضب المتجذر والمتنامي في المقربين، الضرب والسحل اجوبة جاهزة على صرخات الجوع والعراء ، يعزي الفشل في الحياة للأولاد والزوجة التي تعمل خادمة في البيوت وتلد كالهرة ، خديجة تعرف الاصول وتصون العشرة وتحفظ الكرامة ، حين تغضب تسرع الى الجارة حادة سيدة الحي المحترمة جدا، في العقد السابع تضج بالعاطفة والحنو الزائد، تعيش وحيدة في بيت واسع مشيد بالأحجار والحديد، في الباحة اشجار مورقة، جدران مدهونة بالأبيض الباهت، اثاث فاخر كراسي وطاولات من الخشب الرفيع ، خزانة كتب تمتد على مساحات ، لا احد يعلم من اين جاءت ومتى، حادة تتواجد في الافراح والاتراح بدون دعوة، تحفظ اسرار الحي عن ظهر قلب، تعرف تاريخ الحي واول القاطنين ، تعدد اسماء من ماتوا ومن هاجروا الى مدن اخرى بحثا عن الرزق الوفير، حادة اصبحت جزءا من حي الجعبور، هادئة، متسامحة، القلب الملائكي لا يكف عن الخفقان لفعل الخير، تضيق الدنيا بنساء الحي من قسوة الزمان ، يشعرن بالاختناق يسرعن اليها طلبا للنصيحة والتفريغ ، افتتحت في سنوات مضت كتابا لتعليم الاطفال القراءة والكتابة، كل مساء يفتح الكتاب ابوابه لأطفال الحي، تسمع اصوات الاناشيد والآيات القرآنية عند بعد، اطفال يتهجون الحروف.

خديجة تبكي بحرقة وتندب الحظ العاثر الذي ساقها الى الجحيم، مرات عدة جمعت الاغراض مهددة بالرحيل والهرب بحثا عن راحة البال، لا يهم الى اين المهم الهرب والتواري عن الانظار، ارض الله واسعة، حين تسمع النداء والطرقات الخفيفة على الباب، تمتزج الرغبات بأعثى اللحظات الدافئة، تطوف في الرأس كل خصومات الايام الاولى الحلوة والسعيدة ، تسترضى بحروف مبعثرة لا تجيد الرقص على اوتار الكلمات ، تلين بمشاعر منتهية الصلاحية ، شجارات كثيرة في الزقاق وفي الكوخ الحقير، غالبا ما يظهر ممزق الملابس كدمات على الوجه بفعل الضرب او السقوط في مجاري الصرف الصحي العارية من كثرة الثمالة، الابن البكر تسرب من مقاعد الدراسة في سن مبكرة، التعليم لا يستقيم مع الفقر والجوع والعراء، طريق التحصيل طويل وشاق، يتطلب ميزانية لشراء الكتب والدفاتر والاقلام والملابس، ماذا ينفع العلم في وطن جل أبنائه حملة الشواهد عاطلون عن العمل، ماذا تضيف الشهادة لحاملها إذا كانت لا تفتح أبواب العيش الكريم، ألا يستوي في البلاد الجاحد الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، أليس مجتمعنا مجتمع الأميين و يشجع على الأمية، دواليب السلطة يديرها الأميون بمرتبة شرف، الإدارات تحبل بالأميين والجهلة، البرلمان منتجع كبير لفصيلة لا تحسن من شيئ سوى الكلام وانتاج الضحالة والاسفاف، الأمية في الوطن شرط أساسي للظفر برضا آلهة العصر السعيد، المفكرون يموتون فقرا ، يسافرون إلى العوالم الأخرى في صمت، ولا نعي ولا كلمة، ولا تأبين، كأنما سقطوا من السماء، وإذا ماتت راقصة نادي ليلي، كثر النائحون والنائحات، وهلل الكتبة وتجار الكلمة بالمناقب العظيمة للفنانة الكبيرة في تطوير الأغنية الوطنية والرقص الشعبي.
طائر مقرور سدت عليه منافذ الفرص ، انتزعت منه اجنحة الطيران ، فشل في ملاحقة كمشة احلام مستحيلة ، الزوايا تزأر باردة متشحة بالسواد، تحنط الحواس وتكبر الدهشة والمخاوف، الصمت مرفوض، الكلام مرفوض في حضرة الشيطان ، تتدحرج الأيام والأحداث مفخخة بالإهانة، العواء والصراخ يثقب الدماغ كل يوم ، يتبرعم الطيش وتتوسع مساحات الكراهية ، النار تولد النار، يخرج الطاغية من الجسد النضو في لحظة الم ، اللكمات اقامت حفلة على شرف الدم، الآية القرآنية ( ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما ) يغتالها السوط، طفل الامس لم يعد يتلهى على قارعة البكاء، انفتحت دفعة واحدة جعبة الكلام، امسك بالسوط في الهواء، جدبه بقوة افقدت الشيطان التوازن ، المفاجأة اربكت و لجمت الاندفاعات الهوجاء للشيطان ، انخرس، انكمش، جحظت العيون، لم يعد يلقي كلمات الرجم على الوجه الدامي، انزوى المهزوم في ركن من الغرفة وامسك الراس بكلتا اليدين، لأول مرة يشعر خربوش بالانهزام في لعبة القوة العضلية، يرتج الباب ويصفق، يدخل في أنفاس الظلمة فاتحا الحضن، يستقبله الليل بوجه باسم عريسا تحنطه الدهشة، والقمر ضياء يغازل المتشردين الفارين من الجحيم، في هدأة الصمت لطمه الحنين للام والاخوة والدفيء ، في الصدر ينام بعض الخوف، والكبرياء ينفخ في الاشلاء عنادا واصرارا، يستعيد الضرب والصفع والرفس، انطفأ في العيون شرارة الايمان ، يكفر بالدنيا، في الشارع يبحث عن مصدره المفقود في وطن يتسع للمنسيين .

ظل لشهور يقاوم الجوع والبرد والظلام، يفتش في حاويات القمامة بحثا عن الرزق، حذاء على المقاس ، قميص ، نعل مطاطي، انية متقادمة، قابلة للبيع في دكاكين الخردوات ، يخطو بثبات في سراديب التسكع مرتشفا نعال اللامبالاة ، محترس من الخطوات الحثيثة والنظرات المتفحصة، محترس من الاسئلة المستفزة والحنو الزائد ، ففي كل زقاق ثمة مفترس يتربص بالفريسة ، سمع كثيرا عن الاغتصابات والاستدراج الذكي الى جحور استباحة العرض ، نام في المرة الاولى داخل قسم المستعجلات تحت حراسة المرضى والاطقم الطبية واصحاب البدل الكاكي ، ادعى الاصابة بتسمم غذائي ، كتبوا له وصفة طبية دون ان فحص ولا كشف ولا تدقيق، طلبوا منه شراء الادوية ، الفقيه افضل بكثير من هؤلاء يقرا على المريض بضعة آيات واضعا راحته على الراس، يسال اكثر من سؤال، يكتب على ورق ابيض تعويذة، ويطلب من المريض احراقها في مجمر، ، دس الوصفة في الجيب، تكور وغاب عن العالم المحسوس محلقا نحو حدود الامان، سيارات الاسعاف لا تكف عن نقل المرضى والمصابين في حوادث السير وبضعة نازفين على مشرحة العراكات بالأسلحة البيضاء ، نام فوق الاشجار العالية مستعينا بحبال مشدودة الى الاغصان ملفوفة على الظهر منعا للسقوط متدثرا بأكياس البلاستيك وقطع الكرتون ، ممنطق بسكين من الحجم الكبير، مستعد لطعن وبقر بطن اي متحرش، في هدأة الليالي يمتلا الحي بنباح الكلاب، حراس السيارات والعمارات السكنية يؤنسون الوحدة بكلاب مدربة تحرس نومهم ، امتهن الحرف الوضيعة ليأكل حتى الشبع، يتحرك بحرية بدون اوامر ولا موانع ، الوجه مخضب بسخام الهزائم يمزق الازقة والشوارع، خادم الناس سيدهم كما قيل له في المقهى الشعبي حيث دخن اول سيجارة وابتلع اول قرص من حبوب الهلوسة، المخدرات جرعات من اكسير الحلم الهلامي .

- الدماغ لي مكيصنع لا مدفع ولا مصنع اعطه المخدرات والصدر لي مكيعلق ميداليات زيدو الممنوعات.

ولد الجربة يرقص على نعش الاستهتار والليل جاثم على العيون ، يسامر لفافة من حشيش عالي الجودة ، التيه يفترش الوجه المبثور، يعتمر قبعة صوفية زرقاء اللون في البرد والصيف، شعر طويل متموج، حين يشتد الحر يهرب لأول حلاق ، يخرج اصلعا ، ينفض ما تبقى من شعر من القميص في الهواء ، يضحك عاليا معلقا انه خرب اعشاش القمل و الاوساخ فاركا الراس القاحلة ، يحشو الراس تحت صنبور الساقية ، يمرر قطعة الصابون ويصرخ من لسعة الرغوة في المقل ، عند اول عطار يذهن الراس بالزيت البلدي، ولد الجربة مهووس بالسفر الفيروزي على اجنحة المخدرات حين ترقص المدينة فوق الاشلاء ، الانسان عابر في الدنيا، في بحث طويل على موجات تقذفه إلى احضان السعادة الهاربة والمستعصية ، ولد الجربة اصبح فيلسوفا ينطق بالحكم، يركز النظر على صدر نادلة في العقد الثاني ، يشتهيها ويشتهي ذوات الصدور الكبيرة، مع كل حركة يندلق البطيخ الاصفر ينفلت من العقال، لعق شفتاه وغمغم كلاما غير مفهوم، زبناء محل الوجبات السريعة عيونهم مشدودة الى الشابة، في كل حركة تنسكب الحياة في الشرايين تنتشر بسلاسة في مسامات الجلد، حين تضع الطلبات وتنحني تنغرس النظرات في الفج العميق، تنسحق أفئدة الياسمين والريحان، بعضهم يغمز ويهمس بكلمات غزل، سباق محموم يجري في صمت للظفر بالجائزة الكبرى، الكل يهرول خلف الدجاجة الطازجة المتبلة بالكمون ، الكل يرقص هنيهات فوق ربوات الرجولة ليتلو من كوة النزوة اغنية، انات تسافر مع المضغ والبلع ، صاحب المحل يطلق كلاما على عواهنه اشبه بصفارات الإنذار.

- تبارك الله.... جنان كامل مكمول فيه التفاح والبطيخ ولفريز

- الله يهديك على راسك.. جنان مزرب

يسمع من ضجيج الليل الصاهل في الرئة نسمات الخلاص المفقود، الأصوات الخشنة تخترق طبلة الاذن، الرذاذ المتناثر من الفم يحاور رعشة الاوصال، انتصب الطفل المرعوب عفريتا كسر اغلال الاذلال، العيش مع اب تقاعد عن دوره في تربية الابناء غاضب طوال الوقت الجحيم بعينه، لأول مرة يستنشق هواء معقما من شهقات الفرار والارتعاش ، لا احد ينتظره في باحة الغروب ليمطره بالسباب والشتائم والصفع والركل، لا جدول زمني للدخول والخروج من البيت والخضوع للتفتيش ، تقطعت الوصايا والنواهي لحظة اعلان الاستقالة والهرب من كوابيس الجلد ، فكرة الرحيل تخمرت في الدماغ مند شهور، سئم من دفع نفقات يومية لاب يقامر و يشرب الخمور، يستنزف الدراهم المعدودة ، الدفع او المبيت في العراء.

فالصو يتنفس الحياة بصعوبة، يبتسم صامتا لدخان السيجارة متضرعا الى المجهول، ولد الجربة حالم يقضم اخر لقمة من خبزة محشوة بكويرات السمك المفروم المغمس بالفلفل الحار، تدمع عيناه من شدة الحر، يكح كحات متتالية، يسيل اللعاب يعصر ارنبة الانف من المخاض، يمرغ الاصابع في التراب ، يصب في الجوف نصف زجاجة من ماء الصنبور، يضحكان بصوت عالي ويمضغان سوية شوارع وازقة الحرية المشتهاة ، يكبره بسنة تقريبا، هادئ وغير مبالي في وعيه الباطني رسم مدينة بكماء، صماء، عمياء، ناما سوية في الدور المهجورة ومحطات القطارات والحافلات ، في قوارب الصيد، يحميان بعضهما البعض، كبر في ملجأ للأيتام، كل ما يعرفه عن ماضيه انه ابن الملجأ، عشرات الاطفال امثاله من اليتامى جيء بهم من جهات متعددة، لكل واحد قصة مختلفة عن الاخر، اخرون بدون قصص ولا ذكريات، لا يعرفون اين كانوا ومن اين جاؤوا بهم، يلبسون نفس الملابس ، ينامون في اوقات معينة، تلعثمت قدماه في قراءة الحروف، اخبروه انه تلميذ فاشل فلفظ مثل الجيفة الى جوف المدينة ، يقتات على العطايا وينام في الخلاء وفي كل ركن يحرس كوابيسه بعناية ، يهيم القرف على الوجه المثقوب ، يهرب من زحام الاضواء ، يظهر ويختفي عن حي الجعبور لشهور، عاشره لمدد متفرقة وتعلم منه فن الاحتراس ، الثقة معدومة في الشارع، سبقه الى التشرد بسنوات ، الازقة ابتلعت طفولته ، جاء الى الدنيا اعزلا ، اسرج دمه من زغاريد الحرمان ، في الوجه يحمل ندبا كبيرا ، توقيع شجار عنيف، في الطريق الى الميناء ظل يحك الجلد باستمرار ، بسبب الحك المستمر للجسد حصل على اسم الشهرة ، لا احد يعرف اسمه الحقيقي ، وحيد مند الصرخة الاولى وسيبقى حتى الشهقة الاخيرة ، حلمه الوحيد الهجرة الى بلاد الروميات ، اللهم العيش مع النصارى ولا المسلمين، الاختباء في باخرة للسلع للسفر المجاني الى الضفة الاخرى، حدثه كثيرا عن نزلاء دار الايتام الذين هاجروا الى مدن الخبز والحرية والكرامة، لربما يرضى عنه الالاه في بلاد الكفرة ، يحسده كثيرا له هدف يلهث خلفه، هناك مسافة عميقة ما بين الفكرة والتنفيذ ، الأفكار وليدة المشاعر والاحاسيس انها دليل الوجود والابداع الإنساني.

الأيام كالموتى يرحلون في صمت ولا يعودون، ولد الجربة خارج دائرة الياس والقنوط، يعشق الكرة حد الجنون، كل اسبوع يبتاعان تذاكر ويدخلان ملاعب الكرة، يهتفان مع الجماهير، يصرخان، يحتجان على قرارات الحكم ، لا فريق مفضل لديهما ، المتعة في الصراخ والشتم والسب ، ترفع الشعارات الهادرة، تتماوج الاجساد، ترفع الايادي وترقص الاصابع، الفرحة تهدهد الجماهير الغفيرة، لاعب يفشل في تسجيل هدف محقق، تنهال عليه الشتائم.

- الله ينعل بوك يا لحمار

- العب يا ولد الهجالة

- واش ما كتشوفش

ولد الجربة يرتدي قميصا رياضيا للنخبة الوطنية ، يلوح بشال في الهواء على شكل دوائر، يرقص على دقات الطبل الكبير، يزرع رياحين البهجة على قارعة ايام مكفهرة ، منشرح الاسارير، لأول مرة يراه يهرب من ضغط الهموم المزدهرة ، حين يغادر الملعب يشعر باليتم والفراغ رغم انه يحب الانزواء ، شاهده مرات عدة يلعب الكرة في الاحياء ، يجيد المراوغة وتمرير الكرات ، يسجل اهدافا رائعة تنتزع التصفيقات ، يركض متمايلا معانقا الهواء ، موهبة كروية ضائعة ، ملاعب الاحياء الشعبية خزان للمواهب والنجوم الكروية، اغلب الفرق الوطنية تخطف الطاقات الواعدة من ملاعب تفتقر الى التجهيزات، السلسول اشهر منظم للدوريات الكروية في الاحياء، يطرق ابواب الادارات لجمع بعض المال، يبدا في تجهيز رقعة الملعب، يرسم منطقة الجزاء ووسط الميدان بمسحوق الجير الابيض ، يضع اعلاما في الزوايا الاربع ، يختار لاعبين سابقين حكاما لا دارة اللقاءات، عشرات الفرق يتبارون على قمصان واحذية ومبلغ مالي، الدوري يستقطب جماهير غفيرة، السيارات الموشومة تربض قريبا حرصا على سلامة اللاعبين من الرشق بالحجارة، فالخسارات غالبا تنتهي بحروب الحجارة ويمتد سعيرها الى باقي الاحياء، السلسول يعرف ولد الجربة معرفة جيدة، كلما التقاه يؤنبه اكثر على اضاعة الفرص، يظل يبحلق في الوجه من غموض الجواب، الفقر والنوم في العراء لا يستقيم مع الرياضة، اراده ان يستمر في اللعب ضمن فريق الحي لأنه موهوب ، يمتاز بتقنيات اللاعبين الكبار لكن الانحراف والادمان قتلا الموهبة، السلسول لقب اشهر منظم الدوريات في المدينة، التصق به مند الصغر، يشبه سلسلة عظام العمود الفقري، طويل وضعيف البنية، عظام بدون لحم ولا شحم ، خط مرسوم في الحائط بالطبشور، يحفظ عن ظهر قلب اسماء اللاعبين الذين تألقوا والتحقوا بأندية كبيرة والذين اضاعوا الطريق في لحظات ضعف، في العيون القاحلة والجاحظة يشع بريق وحب جارف للمستديرة .

تعلم من ولد الجربة صناعة لفافات الحشيش، يفتت السيجارة الشقراء ويضعها في باطن الكف، يسحب الاعواد الجافة ويلقيها بعيدا ، يفرش ورقة رقيقة( نيبرو) يضع عقب السيجارة في المؤخرة، يمرر لسانه على الورقة يبللها باللعاب ويفتل بروية الى ان تستوي اللفافة، صار يفهم في المخدرات الجيدة والرديئة، الصافية والمخلوطة بغراء العجلات وحبوب الهلوسة، الممنوعات ترسم خريطة مبرنقة لوطن المقهورين.

اشترى عربة لليد بعد اشهر من الادخار الشقي ، يحمل أغراض الناس من داخل محطات الحافلات والطاكسيات و القطار والميناء، حمار يحمل أثقالا ، يقطع آلاف الأمتار في سبيل دراهم معدودة، يغسل العرق الجلد ،تصفع الشمس صفحات الوجه، الأمطار تبلل العظام، تأكل البرودة الاشلاء، الايدي كدمتا من كثرة الضغط على مقبض العربة الحديدي الزلق، تنتابه نوبات الحنق الشديد، يلعن الدنيا ألف مرة في اليوم ، يشتهي تكسير جماجم البشر النزقين ، الرحمة أسقطت من قلوب العباد، المظاهر الخارجية خادعة، لمعرفة حقيقة هؤلاء المتأنقين ، المتعطرين ، المتبرجين، ضعهم تحت اختبار الانسانية، ستكتشف انهم شياطين مقنعة في ثوب الملائكة، مصاصو دماء من الطراز الرفيع، عند الأجر يتحول الزبون إلى ابخل خلق الله، يحز في النفس انهم ينفقون بغير حساب على المومسات والليالي الداعرة، الشجارات على الأجر البائس، والتصرف الأخرق وردات الفعل القاسية، تنتهي عادة في أقسام الشرطة ، لا أحد ينصف متشردا اشتكى من جحود الاخرين، المتشرد ظالم وشرير، قليل الحياء والتربية، ابن الشوارع ، يستحق العقاب .؟ الحياة شديدة القسوة ،مرهقة ،عنيفة، العنف وحده من يصنع للمتشرد مكانا تحت الشمس، في الشارع ينتفي الوعي والفكر وتحل القوة العضلية، لماذا لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، هل الفقر هبة من الله ، هل الله موجود أم غير موجود..؟ فإذا كان موجودا فلماذا لا ينتقم للضعفاء من شر الأغنياء الأغبياء، حقيقة الخالق لم يعد موجودا في هذا البلد وغادره بغير رجعة ،يقال ان الغنى الفاحش ابتلاء للأغنياء، كلام سخيف مضلل بدون معنى .

مثقل بالأمل العريض الطويل ، مثقل بالانتظار الاجرب على قارعة الايام ، والصبر الجميل في جوف الاتي المجهول، مفعم بالحيوية والحب والنشاط ، ينطحن في الجمجمة احساس بالمقدرة على تغيير عالم مليئ بالخيبات، مسافر مكرها في متن الوجع ، أراد الاستراحة من عملية الدفع والجر التي تاتي منها المشاكل وانهاك القوى، اشترى علبا للسجائر الشقراء والسوداء، يطوف على المقاهي والشوارع والأزقة يشرب ثمالة الكؤوس ويأكل بقايا الطعام من الموائد في المطاعم ومحلات الوجبات السريعة، يدخن اعقاب السجائر، يتعرض لمضايقات النوادل بعضهم يشفق عليه، يهش في كل مرة لكنه لا يبالي، يرد على التقريع بابتسامات طفل لطيف يبتلع بحرقة لعاب الحرمان، المكسب اليومي جيد، التدخين سمة من سمات العصر والتمدن ، هناك من يدخن رغبة في التميز وابهار الاخرين، وهناك من يدخن لاعتقاده الراسخ أن التدخين يهدأ الاعصاب المتوترة، وهناك من يدخن بسبب نزوة طائشة ويصبح التدخين عادة، وبذلك تحول نصف الأمة الى مدخنين ،حتى الفتيات اصبحن ينافسن الرجال في التدخين خاصة النرجيلة التي انتقلت من شرق المتوسط الى شمال افريقيا، ربما مع مرور الوقت سيصبح تدخين المرأة شيئا عاديا في الأماكن العامة كما في الدول الغربية، الشيطان لا ينعم براحة البال في الزمن الرديء، زمن السفالة والغدر والضرب تحت الحزام ، لم يعد يكفي الرقص للآلهة عاريا لتنعم بالحرية وراحة البال ، يجب ان تمزق الاوردة وتنزف قطرات الدم على قارعة الطريق واكثر، اهتزت الارض من تحت القدمين، سمع صليل الاحذية العريضة تدك الارصفة، صرخات تستدرج إلى سقيفة الاحتراق، تمتد اليد الفولاذية تمزق جراب سبل العيش، تفتت علب السجائر امام العيون المنكسرة ، دوريات الشرطة استنفدت الرأسمال الهزيل، في كل مرة يصادرون السلع في كرنفال تنفيد القانون، يتلقى ركلات موجعة بالأرجل المدربة، صفعات تشعل في الرأس الفوانيس الخابية، مرة يخلون سبيله ومرة تستضيفه برودة المخافر والاقبية العفنة ،المدينة تقضم بشره احلام الطفولة، تلتهم براعم الاقحوان النابتة في الجماجم، اعياه الهروب من قبضة إلى قبضة، قوة المخزن كبيرة كأنما يخوض معركة مع الهواء، تستوقفه مشاهد الدوريات تعتدي على الراجلين باسم تحقيق الهوية، فالصو بدون هوية ،بدون عائلة ولا نسب، بدون وطن مجرد عابر في كوكب غامض، اشبه بسيارة بدون اوراق كما قال له شرطي اثناء القبض عليه متلبسا بجريمة الاستعطاء، تهمس الكلمات في الاذن وتحفر خنادق من المغص، استيقظ من الشرود على صيحات الشارع الطويل، تصادر السلع على الرصيف باسم جريمة التهريب، ايادي ترمي السلع في مؤخرة الشاحنة، سراويل، عطور، بدلات واحذية رياضية من الماركات العالمية، مبيدات الحشرات، افرشة واغطية صوفية من بلاد الواقواق، اقراص اشرطة سينمائية مقرصنة، التهريب يوفر الشغل لألاف السكان، والتهريب في الوطن مباح في مدن الشمال لكنه ممنوع في المدن الداخلية، عشرات الحواجز الامنية والمعابر الحدودية تجتازها السلع المهربة بسلاسة ، حين تعرض على الارصفة تصادر ، فبدل معاقبة فرق الامن يعاقب التاجر ، الدولة تكيل بمكيالين ، تتدافع الاجساد الهاربة ، عجوز تقسم بكل حرف من الكتاب المقدس انها تعيل نصف دزينة اولاد يتامى، العويل يشق سراديب الصدر، تنتفض الاهات من صنابير الخوف، يرفع من درجات آذان البكاء، عيون المتفرجين تبحلق في صور كريهة تلهو على ضفاف الاستقواء على الضعاف في الارض الجريحة، تشعل نيران الغضب في النفوس، يعلو الصفير والهمهمات وكلمات العفو، صاحب البدلة الكاكي يخجل، يفتش عن مقاسات الخروج من الورطة، يلملم اللعنات المتساقطة من كل جهة، تذوب الشراسة في طبلات الاذن، يتركها ترحل محملة برزمة ملابس تنزف اوجاعا ، راقبها تبتعد وتمسح بقايا دموع في المآقي، تحسس الاوردة المسجية في مغارات الحنق ، ضحك في اختناقات القهر، تحاصره نوبات الجنون تضغط عليه ، الدنيا تقدفه بوابل من رشاش الخيبات، العيون الثاقبة قضمت أظافر الابتسامات في المهجة، خر راكعا يمسح الأحذية النتنة ، وكلما أصابه مكروه ازداد شراسة وسخطا على العالم الصغير من حوله، يتعارك لأتفه الأسباب امعانا في فرض وجوده ، شفرات الحلاقة والسكين يتكلمان باستمرار في تضاريس الاجساد ، عالم التسكع يحتاج إلى قوة بدنية اكثر من قوة فكرية، الأتراب يتجنبون الشرس مخافة توقيع أبدي على جغرافية الوجه .
في سن السادسة عشر بدأ لقب فالصو يتردد داخل الأحياء المجاورة ، صرخة هائجة تعج بالفوران والعنف والشراسة ، الصولات والجولات حديث الأتراب وفتوات باقي الاحياء ، كائنات مرتجفة تخر راكعة اتقاء للشر المندلق من النظرات المقتحمة والمشتعلة ، تقدم التحية وتقر بالهزيمة في الطرقات والازقة ، تقفز أضواء الفتوة من عيني بطل صاعد يحتاج الى التتويج ، يشعل نزيف الخوف في جماجم الاخرين ، انتفخ زهوا في حضرة التابعين والنازفين من وجع التنمر، اينما حل وارتحل يلقى الاحترام والتودد، ذا قيمة وشان في عالم المتاهات والعدم في المدينة الغاصة بالمتسكعين والمتسولين الحماية ، سيد اللكمات والعراكات الدامية ، البنية الجسدية القوية والطول الفارع والقبضات الحديدية جواز المرور الى الاحترام وارتكاب المعاصي ، دائم الاحتراس ممن يحمل فوق الجلد الغموض تحت شمس النهار او ظلمة الليل، الانسان لا يثبت ذاته في الشوارع والاحياء بالنظريات والفكر والعلم بل بقوة العضلات، الشيء الوحيد الذي يمقته أن يعتدي على شخص دون أي فعل مسبق.

يجلس في ذلك المساء الصيفي على عتبة أحد المنازل المهجورة، ساهما بعد أن خسر جميع الدراهم في لعبة العيطة، لعبة القمار لا تحتاج سوى الى اوراق اللعب، يكفي ان تقطع دزينة الاوراق الى نصفين وتطلب رقما، يراقب الرؤوس الحالمة بالثراء المستحيل، المهووسة بالربح السريع متحلقة في دائرة اشبه بالمتحلقين على قصاعي الكسكس في مأتم، ترتفع وتنحني الهامات، رنين الدراهم له وقع خاص، تريس، كواترو، السوطة، الكبال، الراي، اللاص، الكلام النابي يفرقع بين الفينة والأخرى، الاتهام بالغش يؤدي غالبا إلى الشجارات الدامية ، اقترب منه ولد فطومة صديق الطفولة، بخطو وئيد وحركات راقصة كأنما تمرح في الدماغ فرقة موسيقية غربية ، على الشفاه يعلق ابتسامة عريضة، يرتدي سروالا من الجينز اخر صيحة وقميصا خطت عليه عبارات بالإنجليزية لا يفهم كنهها ومغزاها، صورة مغني اسود خصلات الشعر الملولبة اكثر اثارة، لفافة الحشيش المعتقلة في الشفاه الدخان يتصاعد في الهواء ، أثار النعمة تقفز من الوجه الأنثوي ، يرسل الانفاس من رائحة عطر قوية تصفع الانوف تتغلغل في الدماغ ، كاعب على موعد غرامي مع الخليل، اقتعد مكانا بالقرب منه بعدما مسح الدرج بمنديل سحبه من الجيب مخافة اتساخ السروال الازرق ، أشعل سيجارة شقراء ومد له أخرى، تناولها في خفة بيد خشنة واظافر متسخة، يخاف أن ترجع إلى التابوت حيث كانت مسجية، يبحلق فيه كأنما يراه لأول مرة ، في العيون اشتعلت نيران الحسد والحنق، خمن كيف لابن العاهرة بهذه الملابس الأنيقة والسلاسل في العنق والمعصمين، ساعة انيقة تطن تكتكاتها الدقيقة في الاذن...؟ اكيد ازدهرت تجارة الام ، فتجارة الاحواض التجارة مضمونة والاكثر ربحا، يكتفي ان تفتح متقاعدة من لعبة الايلاج محلا وكرا وتجلب الحريم حتى تبدا في جني الارباح، توطد العلاقات مع الامن واعوان السلطة وتقدم الاتاوة كل راس كل شهر، ستكون بمأن من المداهمات ، والدعارة أخطبوط يلتف على بيوت الفقراء، كل فتاة في الزمن الزئبقي مشروع مومس ، كلما ازدادت الفاقة اكثر ازداد عدد المرشحات لممارسة اقدم مهنة في التاريخ ، السياحة الجنسية محرك اقتصادي مهم في جلب العملة الصعبة وإنعاش التنمية الداخلية التي تعاني من الركود، تبادلا أطراف الحديث عن الطفولة الشقية والعائلات التي رغم الفقر تلد دزينة اطفال، في الوعي الجماعي كل مولود جديد يسخر له الله الرزق ، من النظرة الاقتصادية فكل ارتفاع في الكثافة السكانية زيادة في المشاكل الاجتماعية، ابناء الفقراء يدخلون إلى عالم البطالة والجريمة من الابواب الواسعة، جل بنات الحي يتحولن إلى بائعات الهوى الا من أخطأتهن اجهزة التعقب ولم يستطع الكلام العاطفي الذي يهز الافئدة النيل منهن ، كل اللواتي يفتشن عن صبح بعيد ينشرن البضاعة على الأرصفة في الشوارع الاهلة بالحركة ، يترددن على بيوت العهر والنوادي الليلية ، آفات مكتسحة غريبة تتناسل كالوباء في اغلب الاحياء الشعبية ، تنهش جسـد الوطن الجريح والمثخن بالطعنات ، العائلات التي تعيش على الخبز المغموس بالشقاء تدفع الثمن باهضا، الزمن العاهر يتبول عليها ، يرميها بالأمراض والأوبئة، في مقابل كل محنة ، يزداد التمرد اكثر على التقاليد والأعراف والضحية طبعا القيم الروحية والحضارية للامة، من ذهبت أخلاقهم ذهبوا، حدثه عن والده الذي اصبح مستقيما اكثر تدينا يمضمض الكلام المقدس في الذهاب والاياب، اقلع عن التدخين والقمار ، والوالدة ما تزال تعمل في الدور وتعيل الاخوة الذين يتابعون دراستهم في مستويات مختلفة ، اللحظة مكتظة بالمشاعر تجره من حبال الدموع، احس بغصة والم في الحلق، الم موشى بالخيبات والقرف ، ايقظت الهة الحب من نومة اهل الكهف واستعاد في هنيهات ساعة قطع تذكرة اللاعودة ، لكنها لن تمسح وشم الخطيئة والجرح من الدماء ، المجد للزمن المدثر لتفاصيل الحرمان والذي يجعل المحروم مجردا من دفئ الاهل خالدا في الضياع ، ظل منشغلا بتدخين السيجارة الشقراء، يستمع الى ثرثرة ولد فطومة، ترحما معا على الذين ماتوا من الصالحين والطالحين، حدثه عن موت امي حادة المرأة العجوز المقابلة لمسكنهم، اختفت عن الانظار لمدة اسبوع اعتقدوا انها مسافرة كما العادة تزور الاولياء الصالحين للتبرك وطلب المغفرة، اشتبهوا في الامر حين بدأت روائح كريهة تنبعث من الباب الخشبي تم اخبار السلطات ، حضرت اجهزة مسربلة الوان الطيف، كسروا الباب وجدوها ميتة، احضروا نقالة وحملوها الى الساحة حيث كانت هناك سيارة اسعاف ، شمعوا الباب ووضعوا عليهم حراسة، في اليوم الموالي افرغوا الدار من المحتويات، حملوا اكياسا وصناديق خشبية ، عشرات الكتب من مختلف الاحجام ورسائل باللغة الفرنسية والاسبانية، صور قديمة لشابة بجدائل متدلية على الصدر اية في الحسن والجمال، سرت شائعة في الحي ان امي حادة تتحدر من اسرة ثرية من مدينة طنجة، اسمها الحقيقي سامية بنجلون تزوجت سرا من جندي اسباني مسيحي، تبرأت منها العائلة لان الزيجة جلبت الخزي والعار ، انهالت عليها مطارق التأنيب والشماتة، ادخلت مصحا عقليا وقضت به قرابة السنة، مورس عليها شتى انواع التعذيب والقهر، هربت من الاستبخاس والتحقير والتجريح ، اختارت العيش في عزلة بهوية مزورة مدعية اليتم ، ستون عاما استغفلت الناس ولم ينكشف السر، ستون عاما تحمل الخراب النفسي والحزن، سنوات طوال تدربت على نكران الذات ولم تنكسر، تعجب ساكنة الحي كيف قاومت هذه السيدة واختارت منفى اختياري ، تستمع لمعاناة الناس وتسعى للتخفيف عنهم ، بفضل اجادتها للغات اشتغلت في الفنادق المصنفة في قسم الحسابات ، اختارت السكن في الحي الصفيحي بعيدا عن مكان الشغل مخافة من الصدف غير المستحبة، الراس مغطى بمنديل والجسد محشو في جلباب هربا من الاسئلة المستفزة والعيون الفضولية ، اسقطت الزواج من المفكرة وضعت الفكرة في صندوق حديدي، اغلقت القفل ورمت المفتاح في البئر العميقة، زهدت في متع الحياة مفضلة مضغ سيقان الاحلام في صمت.

- قلب على طريقة فيها الربح وما فيها وسخ، بيع الكارو ومسح الاحذية لا يليق بأقوى شاب في الحي .

-واش لقيتي لي خدمة في دار السكة....؟

-بزاف دلحوايج فيها لفلوس وتبعد عليك لوسخ لي كتنفر الناس منك .

-مستعد نخدم أي شيء غير اكون الربح مزيان.

-أي شيء.....؟

-مكنتفلاش

ولد فطومة لفظته مقاعد المدرسة مثل باقي شباب الحي، الشارع الزئبقي يلتهم الضعاف المدفونة رؤوسهم تحت ابط الخوف ،لم يكن الوحيد المتخلف عن سجلات الحضور، على مقاعد الدراسة نسي كتابة اخر كلمة من لغة لم يثقنها، القى نظرة وداع اخيرة على الكراسات ،حملها الى مكب النفايات واشعل فيها النار، لم تغضب الام على سلوك الابن ، تعرض للتحرش من قبل الاتراب في الطريق والمدرسة، كل ابن عاهرة او وسيطة دعارة هو بالضرورة شاذ جنسي ، مشروع للتفريغ يسري عليه ما يسري على امه او اخته ، حكى له مرة ان ثمة زبون اراد ان يقد قميص عاهرة من دبر، انتفضت وصرخت صرخات عالية ، هرولت جميع مومسات الماخور فابرحنه ضربا مبرحا بالأحذية وعصي المكانس، اطلق الزبائن سيقانهم للريح واكملوا تزرير السراويل و شد الاحزمة في الفضاء الواسع ، لشدة الغضب انهال الزبون الوقح على الباب الخارجي بالحجارة ، يهتز الباب الحديدي ويعوي، استمرت عملية الرجم لبضعة دقائق ، حاصره شباب الحي وامطروه بالحجارة واطلق سيقانه للريح، اهم شيئ في الاحياء الشعبية التآزر والتأخي في مواجهة الغرباء، اذا عاكس شاب فتاة الحي تحاصره عشرات القبضات واللكمات دفاعا عن الشرف، هذه النخوة والرجولة والشهام لم يعد لها وجود في الزمن الكسيح، استقبله مرات عديدة في الماخور، مكنه من ملابس نقية، تشاركا في شرب كؤوس الراح ، ينامان بين دفتي زفرات اجساد حبلى بالسراب، اختلفا في قياس جمال الأنثى، اهدرا ساعات طوال بين السرة والوجه والأفخاذ، يجمع ولد فطومة قناني الخمر الفارغة، يفرغ المرمدات من اعقاب السجائر يتخلص منها في سلة النفايات، اعقاب السجائر تفسد الهواء.
الحوار يجري بهمسات متقطعة، الجسد العاري يقيس نبضات القلب، فالصو يحتضن البندقية على تخوم المغارة ، تتزاحم الاسئلة فتشتعل المصابيح في العتمة تضيئ سماء السفن المتوجسة، مد وجزر وحرث مشتهى على ترنيمة الكؤوس ولفافات الحشيش ، الثمالة نشطت جعبة الكلام والبوح ، التلاحم يوقظ في لهيب الخلايا سفرا عابرا للقارات ، طبول الانتشاء تقرع بين الشرايين ، الصدر مفعم بالأهازيج والطنين ، تنطلق القذيفة وتصيب الهدف بدقة عالية، مثل رياح مكدسة في قارورة ، يستلقي على قارعة مطر يزف ولادة الربيع.

تنقل ولد فطومة في مجموعة حرف، عمل في محل تصليح الدراجات الهوائية ولم يستطع مقاومة نداءات التسكع ومرافقة المراهقين الى الشاطئ ودور السينما ، لم يفلح في تعلم صنعة تمنع الجوع ولا تمهد للثراء ، ظل متسكعا على شرفة الاختيار، الف القبض كل صباح الاوراق الزرقاء من الام المتفهمة لطباع المراهقين، عاش طيلة حياته من عرق الأفخاذ، اشتد عوده وصار يستعمل الوسامة لاستقطاب الرقيق الابيض لماخور العائلة، الربح السريع امر مستحب، تكبس دوريات الامن على الام فيدير الماخور بحنكة وحرص شديد على الحريم، يختار الزبناء بعناية فائقة من الشارع مخافة اللدغ، يوفر للزبون سبل الراحة، الاجر يدفع مسبقا واي احتجاج يقابل بالضرب والجرح، اصبح سيد المكان الناهي والامر، يصرخ في الحريم ويهدد ، يستلطف السلع الجديدة، يعدهن بالمستقبل الزاهر ، يقدم النصائح ويضمن العيش الكريم للأخرين، اغلب اللقطاء يحملون اسماء الامهات، ولد فطومة يتحدر من اسرة ثرية في الارياف ، حين اخبرته الام عن والده، اجابها فليذهب الى الجحيم، انه اب نفسه.

فطومة آمنت بتمثلات فارس الاحلام الذي يأتي على صهوة جواد ابيض، يقطع الفيافي والخلجان، يقف ضد الجميع ، يخطف المحبوبة ويهرب بها الى الفردوس الموعود ، افقدها الكلام المعسول المقدرة على التمييز والاحتراس من الثعالب الماكرة، ابتلعت غصة الخيال، مساءات التلاحم تنتهي بارتعاشات الاذعان، والليل يقيس النبضات المتسارعة، تتلعثم الكلمات في عرس الاشتهاء، فتحت الجراب للحبيب، تحت وابل القصف ارتويا، تكرر الالتحام المحرم والنجوم شاهدة، وصوت الزيز، وزمجرة الرعد، العادة الشهرية انقطعت، تقيأت اكثر من مرة ، الحياة دبت في الاحشاء، حملت سفاحا، فاتحت فارس الاحلام، غلت الدماء في العروق، لا شيء يبتسم على ربوات النجدة، تنكر وهدد المحبوبة بالخنق والرمي في البئر المهجورة ، كل شي انهار تحت سقف الخطيئة، على بعد الزفرات الاخيرة للظلام ظلت تصارع دقات الساعة، انسحبت في هدوء والابوين نيام ، فضلت الهرب خوفا من العار والفضيحة ، ركبت اول حافلة وظلت ساهمة طوال الطريق تجالس الوجع النامي في خوف ، في المحطة المترامية الارداف، قنصتها عيون محترفة، تلتقط لعاب التائهين مجهولي الانتماء، تقدمت سيدة تبدو عليها اثار النعمة، ظلت تمضغ اجوبة مقتضبة منكسة الهامة، استسلمت ومشت ورائها حين نثرت على المسامع بعضا من مخاطر المحطة.

الشايطة تاجرة الاحواض تستقبل الوافدة الجديدة بالأحضان والترحيب الزائد، وعاء جديد للتفريغ، طري ، نقي ، شابة جميلة صغيرة في السن، امتنعت في البداية عن لعبة الافتراش، وما لبثت ان اذعنت مكرهة خوفا من الرسو في حاويات القهر، الشايطة خبيرة في طباع النساء، استقبلت على مدار اربعة عقود عشرات النساء الهاربات من لسعة الاخطاء، الهرب نحو آفاق بخسة ضيقة تنتهي على ايقاعات الافتراس تحت قبضات خفافيش الظلام ، سقوط النساء في الاخطاء لا يبقي شيئا نظيفا في الحياة يستحق ان يتأسفن عليه .

- شوفي لي عطا الله اعطاه ..دابا خدمي على راسك.

- راني حشمانة ا لالة الشايطة

- حتى وقعات الواقعة وهزيتي الكرش عاد عرفتي لحشوم.. ملي كنتي كتحلي رجليك مزيان

كلمات الشايطة قاسية ومقتحمة، ترمى في الوجه الرائحة الكريهة ، تنطفئ اضواء التردد ببطء تحت وطأة مواويل التحرش والتهديد بالتسريح الى الشارع ، الشايطة سريعة الغضب ، شاهدت طوال شهر كيف تخلصت من مومسات في جنح الليل دون رحمة ولا شفقة، من يجرؤ على مقاومة برميل من اللحم المندلق، الخطوات الثقيلة تدك الارض و ترتج لها الحجرات، من يستطيع مواجهة ملاكمة محترفة تسدد الضربات بدقة وترسل الغريم في غيبوبة،مرة اسقطت زبونا على الارض رفض الدفع ، نزعت السروال الفضفاض، افترشت بالمؤخرة الوجه المنقبض، الزبون احس بالاختناق ، رجلاه ترتجفان، تركلان الفراغ مثل كبش مذبوح، عنف يلتهم ديدان التمنع في القلب، يولد الاذعان في الزمان والمكان، فطومة لم تأت في الوقت المناسب لكي تملي الشروط، تختار ما يناسب الذوق والمزاج ، لا حاجة لمضغ الكلام الممنوع من الصرف والسير ضد التيار الهادر ، المقاومة لا تفيد شيئا في بيت يمزق الاخلاق والقيم في الاشهر الحرام ، الاجساد تتداخل في الحجرات الضيقة المعتقلة في الحموضة والنتانة، النظرات الحالمة تلج المعبر الى الدفيء المشتهى ، تسمع الضحكات المنفلتة من قمطر الضعف والقوة والحرمان، تجارة الاحواض نوع اخر من انواع العبودية.

انتفخت البطن وهاجمها المخاض في يوم صيفي ، صرخت الارض وزغردت النسوة، طافت بالدماغ الصور القديمة والحديثة، صور مدفونة تحت تقاسيم الخوف، بفضل سيدة طاعنة في السن ولدت ابنها الوحيد في الوكر، الابن اصبح ابن جميع المومسات اللواتي حرمن الامومة، ماتت صاحبة الماخور بعد سنوات من تفريخ وتخريج افواج من محترفات البغاء، ورتث فاطمة المنزل الطيني الممتد على مساحة كبيرة، وامتلكت الحريم ونجت من عفونة الضياع الفاغر الأحداق ، تعقبت خطوات الخلاص بلهاث، تتوارى السنوات في كف النسيان، يكبر الابن ويلتحق بالمدرسة، تعلم فك شيفرة الحروف لكنه لم يكن تلميذا نجيبا ولا تستهويه الكراسات والجلوس لساعات طوال فوق كراسي مهترئة ، الطفل الناعس بين الهضاب الملتهبة، يفتح عينا ويفهم ما يجري في الظلمة ، الضحكات التي تأتي بغير حساب مفتاح السر، ترحل الاجساد المتداخلة في غياهب الفرحة الى سماوات بلا ضفاف ولا حدود ، ينهار فردوس الاحلام حين يرمى في الزقاق بالنعوت القدحية، كلمة ( ابن القحبة) تشنف الاسماع ، الطفل المسالم في عنق النار يتوسد في الذهاب والاياب تجريحا وغمزا ولمزا، لاشي يضيئ الفضاء الاسود الكالح سوى الانزواء هربا من التلميحات المكبوتة، والروح نازفة على شطآن الانطواء الى حين، يقف وحيدا منكسرا في مفترق الطرق، الهوان تسلل الى الجسد وكبر التمرد ، يرمق طفلا في مثل عمره يحشر الانف في خرقة بالية، الاجفان مرتخية والعيون حمراء، يخطو خطوات متعثرة وتفر هالات الترنح من قوس الانتشاء.

- اجي يا ولد فطومة . اجي تشم شوية تعمر الراس..

ضحكا معا ضحكة تهكم ، افترقا على أن يلتقيا ليلة الغد وسط المدينة، لينطلقا إلى عالم المال والجاه والثروة ، شاهده يختفي في الزقاق ملوحا باليد، تذكر ولد الجربة صديق الطفولة، خاضا معا غمار معركة البقاء ، رآه يهرب صندوقا من السمك الطازج ،يدسه تحت سيارة مركونة، يدحرج الجسد من تحت المركبة، يركض في اتجاه مرسى البواخر، يراقب من بعيد مالك الصندوق ، يسب ويشتم، يهدد ويتوعد اولاد الحرام، يبحث عن رزق اضاعه في لحظة سهو ، باع الغنيمة بثمن بخس ودفع الثمن لاقتناء قطعة مخدرات في حجم حبة فول وعلبة سجائر شقراء ، هربت منه قهقهات مكتومة، يجلس القرفصاء يشوي اسماكا من النوع الجيد، النار تلتهم الاخشاب والاعواد المنزوعة من الاشجار، رائحة السمك شهية، يرفع الانخاب بين الدخان عاريا من النفاق ، يشم رائحة صوت يحاوره من هضاب الاخوة ، ازدحمت في المخيلة الاف الصور والمشاهد والاصوات المضببة، مشاهد تستوقفه في مسارب البحث عن الذات حين تنتفض غصة الحرمان ، انقطعت اخبار ولد الجربة ودخل في عالم النسيان، الدنيا الخبيثة تبتلع الاشياء الجميلة وتلوح بالدخان، تفرق بين الاحباب والاصحاب بلا رحمة ولا شفقة، اصر له متشرد شاركهما السطو على صفائح القهوة ذات مساء ماطر من شاحنة تفرغ الحمولة في مخزن كبير، ان ولد الجربة رحل الى الخارج في باخرة فرنسية او اسبانية ، ابتسم وخمن على الاقل تحققت احلامه وهرب من وطن الذل والاستعباد ، انبطح على الفراش الحقير و الوسخ في أحد المخازن المهجورة الذي أعده للسكن خلسة عن العيون، يتسلق السور ليلا وينهض في الصباح الباكر كي لا ترصده اجهزة الرصد البشري، الوطن العربي يفرخ المخبرين والقوادين بالعشرات، لكي يظل الحاكم في الكرسي دون ارادة الشعب عليه وضع حراسات مشددة على البشر والحجر ، توفي مالك المخزن واختلف الورثة على الانصبة المستحقة فاغلق ، لم يكن امامه سوى الشارع بعد الطرد من البيت الطيني الذي يقطر في الشتاء ماء ويحرق الاجساد في الصيف وتمص الدماء الحشرات التي يسمع طنينها في الليل، في الصباح تتحول الاجسام الصغيرة الى بقع حمراء لشدة اللسع، لكثرة الخصومات والشكاوى من الجيران وعنف الأب الشرير اختار التشرد، التشرد ارحم الف مرة، العيون الناعسة مسمرة على السقف المقشر، اغلق الثقوب بصور الفاتنات المنزوعة من المجلات، كل ليلة ينفخ فيها الروح،يحمم الزناد باللعب، وعلى سرير الدعك يستغيث بالانفاس الاخيرة ويغرد مع اجنحة الهدوء، يذرف الزناد اخر رشقة،تغزو السحب الماطرة المسام، تسترخي العضلات، يحدق في بؤبؤ عارضة ازياء شبه عارية، ثمة حشرات تتدلى من السقف، شبكات عنكبوت تطرز الاركان الاربع ، برص صغير يتربص بالذبابات العالقة في شباك العنكبوت على ضوء الشمعة الباهت، حين يعم الهدوء تأتيه اصوات وخربشات الفئران تقضم اوراق الاشجار اليابسة وفتات الخبز، مرة وجد جردا كبيرا تحت الفراش، حرك الفراش فنط في اتجاه الفراغ متعقبا خطوات الحرية، رماه بفردة حذاء لكنه افلت، لفافة الحشيش تعيد ترتيب الاشياء في الدماغ وتصفو، يشرد التفكير في شريط الحياة الملغم بالفقر مند المهد ، الملغم بالكلمات النابية والجارحة، الرعب الأخرس خرب أحلام الصبا ، عاريا مضى في متاهات الأيام الشقية، غرقت المقل في القرف والسحل والضرب المبرح، اشتهى الموت آلاف المرات ليخلص النفس من عالم يدق الأضلع النحيلة ، اشد الناس تمسكا بالحياة أشدهم ألما فيها، ليطفئ الفوران الداخلي المتنامي والمتكلس في الحوباء ، ارتمى في مسارب المخدرات المباحة والممنوعة ، المصنعة والمستوردة ، هروب مؤقت من الواقع المر الذي يكبس عليه حين مات الطفل الهادئ في الدم ، المخدرات تحمله على جناح السلامة الى البحار البعيدة ومحيطات واسعة وبساتين مخضرة مزدحمة بالفراشات والطيور المغردة ، يشرب من اجود الخمور حتى الثمالة ، ضاجع جميلات الكون ووصل الى الرجفة الكبرى، لا شيء يمنحه العزاء سوى الخيال الجامح والسفر في الفضاء الواسع بدون اجنحة ولا حواجز، الخيال رصيده واللكمات زورق النجاة وتذكرة المرور الى عوالم الاحترام، لم يعد يذكر متى دخن أول لفافة حشيش ومع من ..؟ الحشيش يجلب سعادة مؤقتة حين يشتد صهيل الضغط، يجنب التفكير في الغد ، ومشاكل الغد التي لا تنتهي، في سبيل الحصول على دواء المشاكل كما يسميه، احترف كل شيء، الممنوع و المباح.
لرابع مرة يدخل السجن، عرف سجن الأحداث مبكرا بسبب العراك والضرب والجرح، ودخله بجريمة التشرد و النوم في العراء، اقروا في جل أطوار المحاكمة انه متشرد لكنهم حاكموه، كأنه اختار التشرد عشقا أو هربا من غنى فاحش، لم يحاكموا من تسبب في تشريده والآلاف من أمثاله، المضحك المبكي أن تخسر دعوى قضائية سيقال أن القضاء كان نزيها وان تربحها سيقال نفس الكلام ، استنتاجات سخيفة بغير معنى .

فتح السجن أفخاذه المتقيحة للـمرة السادسة، تحول من مستهلك للمخدرات إلى موزع على الموزعين الصغار، وراء كل موزع من العيار الثقيل موزع آخر، تماما كما في الإدارات الحكومية هناك سلالم ودرجات لابد من ارتقائها للوصول إلى درجة أهم، والوصول طبعا يتم عبر العديد من الطرق...؟، عشق تجارة الحشيش عشقا ابيقوريا ، تدر أرباحا مهمة رغم المخاطر ، الحوارات مع الزبون تجري بهمسات مرتعشة، يقيس نبضات الخوف المضطربة في الكلام، السلاح الابيض يستريح على بعد جيب ، المدية تزف ولادة الطعن، تقريع وتجريح تشعل فتيلا في الحوباء، في رمشة عين وقع الهجوم والضرب، وجه ينزف دما، صراخ وعويل اخرج المتفرجين من الدور وتدلت اجساد من النوافذ ، هرولات في كل اتجاه، اتقاء لضربة طائشة، الطعنة أطفأت لفافة من تبغ الادمان، اجهضت حلما في زقاق مكتظ بالحماقات ، المخدرات تكتب الأسطر الأخيرة من سفر الهروب ، زقاق يمتد من هيجان إلى هيجان، جماجم تهاجر الى حدود النسيان، تسكب الدخان في محبرة الانتشاء، الرصيف المحفر يرتشف قطرات الدم القاني، تحضر السيارة الموشومة تخرج من الجوف العفاريت المذمومة، سيارة اسعاف ايادي مدربة تحمل الجريح مدرجا في الدماء، يتنفس بصعوبة ، فالصو مبحوث عنه في اقسام الشرطة، محاولات سرقة امواله ساقته إلى هاوية الجرم، المحقق يعدد التهم في صدر الصفحة الاولى، رغم الخطورة المنتصبة في كل فرملة سيارة، أضواء قوية، ركضة مجهولة ،نظرات شزراء ، احب الخطورة والمغامرة، يشعر بقوة لامثيل لها، يشعر انه انسان حي بعث من جديد من الرماد والدود والصديد، شيء مهم دخل حياته، كسر الرتابة التي تخمش أفكاره المشتتة، افضل بكثير من أعمال كلها إذلال واحتقار، ولد فطومة كان على حق ، على الإنسان أن يركب الخطر ليسقط الخوف الداخلي وينطلق في مصارين الحياة بدون مركبات نقص، لم يعد يحتاج إلى القوة البدنية وحدها لكي يفرض وجوده ، توزيع المخدرات يحتاج إلى ذكاء اكثر واحتراس اكبر، فطنة وذكار وحضور اكيد للبديهة، معاملة خاصة مع الزبناء الذين يوزعون أيضا على أصناف، من يبحثون عن سعادة مؤقتة بدون مشاكل وفي سرية تامة، ومن يحاول إيذاء الغير ليصل إلى السعادة، الأيام الجميلة في عمر الإنسان لا تدوم في الوطن الكسيح، كبست عليه دورية للشرطة في مقهى شعبي، وشى به احد المخبرين وما اكثرهم في المدينة المغتصبة من المرابين واحفاد ابوجهل، أجهض الحلم الذي ترعرع في المخيلة واستنبث اجنحة وعلى وشك الطيران الى الضفاف الاخرى ، حلم بأن يصبح تاجرا كبيرا، يمتلك أسطولا من السيارات الفاخرة تحيط به الجواري والقيان والخدم والحشم ،السكن في الأحياء الراقية بدل غرفة في السطح يتقاسمها مع شابة مدمنة على المخدرات، وجدت فيه صيدا ثمينا ووجد فيها وعاء للتفريغ،تنظف، تكنس، تطبخ، تغسل الملابس والاواني.

- كون غير تزوجتي بيا

- هداك شي لي بقا

ينفخ في السماء دخانا، ضغط على الزر المذهب، انفتح باب القصر ، استقبلته اميرة في مقتبل العمر تعلق ابتسامة عريضة، سحب كميات من الحشيش الجيد، ناولته رزمة اوراق نقدية، اعطته مشروبا باردا وشكرته، ظل يبحق فيما تحت الحزام، يراقب الحمامات النافرة، ضحكت بمكر، كم يشتهي المهرة الجامحة، ايام السبت والاحد يكثر الاقبال على الممنوعات ، المجتمع المخملي يحتاج الى الهرب من الضغوط اليومية، بضعة شهور كانت كافية ليتعلم أسرار الحرفة ، تقرب اكثر من المتحكمين في الشبكة الأخطبوطية التي تدير خيوط المهنة في الخفاء ، مهنة تذر الملايير شهريا، كيف توزع الكميات الكبيرة، كيف يتم شحنها في طنجرات الضغط في العجلات الاضافية للشاحنات، وخزانات الوقود ،وسط الخضر والفواكه، طرق التواصل بين التجار تتغير باستمرار، الشاحنات والسيارات المحملة بالممنوعات مراقبة من سيارات اخرى من الخلف والامام استعدادا للمفاجآت غير السارة، تركن في الأماكن المقفرة المتفق عليها سلفا ، كل جهة تنتظر الإشارة من الأخرى، غالبا ما تكون الطرق مؤمنة خالية من الشرطة، فالجميع يتقاضى نصيبه عدا ونقدا، عندما تتم عملية المداهمة و الاعتقال والمصادرة لسبب أو لآخر، فان أكباش الفداء هم الموزعين الصغار، إنها نفس القصة، القانون يحمي الكبار ويدهس الصغار، لكنه في المرة السابعة حكم عليه من اجل الضرب والجرح واحداث عاهة مستدامة.

داخل العنبر الضيق الشبيه بعلبة سردين، عشرات الوجوه هرب عنها الدم ترسم ابتسامات كسيحة ، رائحة المرحاض تطبق على العلبة، أشلاء نتنة متناثرة على أفرشة بالية، تحك الجلود حكا، تهرشها هرشا، سقطت في المخيلة بدون سابق انذار صورة ولد الجربة، يحك اجزاء من الجسم بكلتا يديه، اصر له مرة انه سيشتري فرشاة بعصا طويلة ليفرك الاجزاء التي لا تصل اليها اليد، ضحكا كثيرا في عيون الصخب ، بصق على اشباح شاهرا قبضته في الهواء ، يحاول أن يبدو متماسكا ، متعود على الهزائم ، متعود على السقوط في القاع لكنه لا يستسلم، النور دائما يتسلل الى الحوباء من حيث لا يدري ، التقى بوجوه كثيرة في الزنازين، متشردون، تجار مخدرات، نشالون ، لصوص ، مدمنو الكحول الرخيصة، يدخلون ويخرجون ، السجن بالنسبة لهم فترة راحة وزيادة الوزن.

البق والقمل خفافيش تمص الدماء مصا، دورة المياه بدون سقف ولا باب، مكدسة بصفائح الماء الدائم الانقطاع عن الصنابير، السجن مسكون بالطاعة والظلم والعسف ، مسكون بطقوس ونظام قاسي يروض الخيول الجامحة في الاوردة، يحيل الادمي الى شبح تافه، رقم بدون قيمة في زنازين الوجع ، السجان كلب مسعور يتعقب اثر رائحة التمرد في الشرايين ، مستعد للرقص على اشلاء الكبرياء ، تائه في صحراء قاحلة لا تنتهي ، يستعرض في مرارة شريط الماضي القريب، زفر بقوة كمن يرمي من على الظهر حملا قويا ، لا أحد يزوره ولا يعرف بوجوده ان كان حيا ام ميتا، انقطعت الصلة بالعائلة مند زمان، أصبحت مجرد ذكرى عابرة في الدماغ، لم يعد يذكر تقاسيم وجوه الاخوة السبعة ، سحقا لكل عائلة إن كانت كالتي خرج من صلبها، من يفهم اليتامى سوى اليتامى، ليس اليتيم من فقد الوالدين ، اليتيم من فقد الدفيء العائلي ويعيش منفى داخليا.

حياة البؤس تحتك به من جديد، كان له معها عقدا أبديا، سنوات ينفق بغير حساب ودون التفكير في الغد، يلبس ثيابا نظيفة تختار بعناية تماشيا مع التقليعات ، يبتلع اشهى الاطباق في مطاعم محترمة، يسكن حجرة فوق السطوح نظيفة، وهناك شابة تحلم بالزواج تنتظره ، لكنها اكثر ادمانا ، لم يعد يجد سيجارة رخيصة للتدخين ، يلتقط اعقاب السجائر، وجبات السجن مليئة بالقاذورات تجره من حبال القيء ، تدفع في البطن بدون شهية حبا في البقاء ، عذاب آخر غير عذاب فقدان الحرية، من لا يزار لا قيمة له، يصنف في اضمامة القمامة، ولا شيئ يعزي غربته الداخلية سوى قوة العضلات، عليه أن يفرض وجوده بأية طريقة وإلا داسته الأقدام ، السجن وكر لحثالة ونفاية المجتمع، معهد لصقل مواهب المنحرفين الذين يعانقون الحرية بشواهد علمية في الاجرام، وكر لتفريخ العصابات الإجرامية ، لان الإدارة لا تميز بين الجانح والمجرم فالجميع يوضعون في سلة واحدة المرضى منهم والأصحاء.

تنفتح المصارين الحديدية الضخمة ، تتقيأ أشباحا متهالكة كأنما انفتحت عليهم قبور أغلقت مند زمن سحيق، وجوه تحمل على التضاريس والقسمات سر الأسر، تنشر الجثث على الجدران كالجيفة، تذرع الباحة الضيقة طولا وعرضا في تتثاقل روماتيزمي ، تتوجع عند كل حركة، في انتظار وجبة إفطار بائسة، ، في السجن توجد طبقات، والطبقة الاهم هم السجناء المتهمون بالاختلاس والتزوير واصدار شيكات بدون رصيد، تجار المخدرات في المرتبة الاولى، يطوف على الزنازين والعنابر عارضا الخدمات على السجناء الميسورين، تصبين الأغطية والملابس ، غسل الأواني، جلب المخدرات بشتى الانواع للمدمنين الذي يعتبرون الحشيش اكسير الحياة، مقابل بعض المأكولات الدسمة وعلب السجائر السوداء ، علب السجائر تعد العملة الاكثر شيوعا وتداولا في السجن ، قضى عقوبة بسبب المخدرات واعتقد أن السجن سيكون بمعزل عن هذه التجارة المربحة ، كميات مهمة تروج داخل الزنازين وبتشجيع من النواطير، تغلق الأبواب الحديدية على الأموات/ الأحياء ، اللفافات المحشوة بالمخدر الوطني و عصير العنب يمرران بدون احتراس، لكل شيء سعره الخاص، اللحم البشري موضوع في سوق المزاد، الدندون اشهر تاجر للممنوعات داخل اسوار السجن، تصله كميات مهمة من الموظفين المتواطئين وما اكثرهم، لا يمكن ان تكون عطشا والماء الزلال يجري على مقربة منك وتظل عطشا، ولا ان تكون تاجرا للعسل وتمتنع عن لعق الاصابع ، حكم احد النواطير التي يلقيها على المسامع مضيفا ان الاجرة الشهرية لا تكفي لتسديد السومة الكرائية وفواتير الماء والكهرباء والتطبيب، ولا عيب في اقتناص الفرصة وزيادة الدخل.

يقطع صفائح المخدرات الى قطع صغيرة، يدثرها بقطع البلاستيك الشفافة، توزع على الموزعين الموثوق بهم لنقلها الى باقي اطراف السجن الممتد على مساحات كبيرة، الاغلبية الساحقة من النزلاء مدمنون، الدندون اشهر من نار على علم، الجسد مليئ بالاوشام، الايادي تحمل ندوبا عميقة من توقيع شفرات الحلاقة، عندما يتعرض السجين للتضييق ومصادرة الممتلكات، يلجا الى شفرات الحلاقة لقطع الشرايين للضغط على الادارة، لكن ليس كل مرة تنجح العملية، كثيرون يرمون في الزنازين الانفرادية عراة عقابا على السلوك المستفز، اعتقل بجريمة التجارة في المخدرات وحكم مرات عدة بنفس الجريمة، الدندون يرسم دائرة الفرح في النفوس المنكسرة والتائهة في منعرجات الاحكام القاسية والتحقيقات الطويلة، لفافة واحدة من الحشيش الوطني ، تنهار القيود والاسوار ، الدخان المعطر بالحشيش الوطني تأشيرة الولوج الى فضاءات الحرية الرحبة والفسيحة، يجتاز المدخن البوابات الثقيلة والحدود ، يعبر الأسوار والجدران العالية، تعتلى الروح صهوة الانتشاء وتدخل في عالم النسيان، الدندون انشـأ محمية داخل السجن، عشرات الخدم والحشم ، الحراس يخافون منه يطيعون اوامره، يتحكم في عصابة تضم عشرات المنحرفين في المدن، يكفي ان يأمرهم ليرتكبوا الجريمة فرحين، لكل شيئ ثمن في السجن البئيس، الزيارات المفاجأة للتفتيش مجرد عملية سطو مدبرة على السجناء الذين لا يدفعون الاتاوة.

كل ليلة يمضغ مصيرا ملولبا يطحن العظام، سيزيف اللعين يدفع الصخرة اللعينة، يتدلى الغضب من سقف الجمجمة ، يسترق السمع إلى قصص عمليات السطو والاغتصاب والنشل، كل سجين يتفاخر بالغزوات الشقية، نشوة عميقة تطفو على الوجوه واحلام العودة الى الشقاوة ينمو كبيرا تحت قبة الخيال للالتحاق بقافلة الظلام، انهم كتلة كبيرة من الطيش المتكلس في العقول ، الطيش شعور بالوجود والعيش ومداراة الخوف من الغد ، لن تفلح كل الآلهة في ضخ مصل التوبة في الابدان.

طواحين مجنونة تطقطق في الحوباء، الخيال الجامح يشق الدروب والأزقة المضمخة بالنتانة، دروب رمته بالحقارة والافراد، يهرب من المشاكل فتأتى فاتحة الأحضان ، تغرس المخالب الحادة في الشرايين ، عبثا حاول إيجاد معنى للوجود لكن عسر الفهم يقفز من الذاكرة متوجا بالمرارة، الروح ملطخة بالجفاء مند الصبا، امتطت قسرا صهوة الضوضاء والتمرد على الجاهز والمتعفن، مبحرا بالأظافر في دهاليز الحياة الصعبة والشقية، ناحتا دفئا مؤقتا في ميادين الغياب، متناثرا فوق أشـلاء الفقر الذي ينمو فوق الجلد، ترثيه القطط والكلاب الضالة في زمن التسكع ، راكضا فوق رعشة الخطيئة المتجذرة في العائلة التي تنفخ في فقاقيع مثقوبة ، تحصد في الوهم حقولا من الطحالب، متضرعة إلى الله أن يفك الكربة ، يطهرها من بؤس الأيام وقسوة العيش، وكثرة الافواه المفتوحة التي تبتلع الطعام الرديئ بدون مضغ، صرخات عالية تشد الانتباه، انهال السوط على الجسد المتكور في الحضيض ، ركلة على الصدر وضربة بالحذاء العريض على الوجه، اطلق صرخة في زوبعة السحل المتواصلة، رقص رقصات الالم تحت أقدام الوجع ، الارض المتربة تمتص الدماء، دقيقة من ابتلاع صوته وحسب في عداد الاموات، يموت الانسان/ النفاية من الضرب او المرض لا احد يكترث، ناقص واحد زائد واحد تلك هي المعادلة في الاقبية المظلمة، عشرات العيون المندهشة ، المتحسرة ، المرتعبة تتابع فصول المشهد الدامي، تكبل الايدي الى الوراء بعد الباسه قميصا من الثوب الخشن ، لا احد ينتشله من حلبة السلخ سوى الالطاف الالاهية، يحمل من الاربع الى سراديب اكثر ظلاما ، يستلقي بالكدمات على قارعة البكاء ، الملائكة غابت عن حفلة الرجم على أشلاء النزيل حين تضرع الى الله، تعرض للجلد لأنه اهان و شتم سجانا ودفعه دفعة قوية اسقطته على الظهر كما قال احد الوشاة، سجان غليظ يهش السجناء بالعصا، الزنازين تغلق بقوة، الابواب ترتج، الهدوء يعم المكان .

الاختناق يكبس عليه يجره من التفاحة الى حبال الدموع ، العرق يتصبب من الابطين باردا، انزلقت إلى الرأس آلاف الأسئلة المطلسمة والملغزة، لماذا ولد بدون ملعقة من ذهب في الفم ، لماذا جاء إلى هذه الدنيا بغير إذن ولا حماية من البؤس والشقاء ، لماذا حكم عليه قضاء حياته في الشقاء والتعاسة والمشي في حقول الالغام، هل من معجزة تغير حياته رأسا على عقب... ؟أوهام هي الحياة ، من يظن انه قادر على تخليص نفسه من صروفها إنسان يخدع نفسه.


-السلام عليكم

-وعليكم السلام .

-علاش انت مهموم يا بني، كتفكر بزاف، و تتبغي العزلة...؟

-انا هكا نبغي التيقار وكنبعد من صداع الراس.

-اجي عندي ورا العصر، بغيتك في خدمة .

-مرحبا.....

يشيع العجوز المحدودب الظهرالمرتجف الاطراف بنظرات متسائلة ، يمشي الهوينى كأنما يمشي حافيا فوق ارض مشوكة، في اليد تتدلى سبحة يطقطق الحبات البلورية باستمرار، يمضمض كلاما غير مفهوم، بلحية بيضاء مرسلة على الصدر ، رأس صلعاء اشبه ببيضة النعامة مغطاة بطاقية بيضاء، رائحة عطر زكية تفوح شبيهة بتلك التي تستقبل الزوار في الأضرحة والزوايا، نام مرة في ضريح حين اغارت عليه الشرطة بسبب مخبر افشى امره ، الساعة تشير الى التاسعة ليلا، صفعته ضوضاء المحرك ، همهمات في الخارج ، تساقطت أوراق النوم من تحت المقل الملسوعة بنزيف الهروب، من كوة صغيرة في الجدار شاهد السيارة الموشومة رابضة تحت عمود كهربائي، اسراب الفراشات والحشرات ترقص في دوائر حول ضوء المصباح ، الموت وحده يمنح الانسان لحظات سكون دافئة، المخبر يشير بالأصبع الى حيث الطريدة ، المطارد ينتظر بفارغ الصبر هنيهات قنص اكيد ، الجو ماطر وبارد ، سحبوا سلما من تاجر قريب، ارتقوا الحائط بحذر شديد، لم ينتظر طويلا، قفل الزنزانة يطن في الاذنين، تسلق السور المقابل بخفة متأبطا الاف الظنون والمشاعر الغامضة ، سحب الجثة على سقف ندي لبناية ملاصقة ، قفز الى غصن شجرة كليبتوس عالية، اغصان كثيفة تضم اعشاش منسية لعصافير الدوري ، ترك الجسد يتدلى الى زقاق جانبي، ودع بأسف المخزن المهجور، حزن كثيرا على فراق مأوى احتضنه لسنوات، امنه من التشرد والنوم في العراء، سار في الشارع بدون اتجاه متلمسا العتمة ، مدجج بالتوجس والخوف من اضواء السيارات، نط سور المقبرة الغارقة في الهدوء، فتح باب الضريح اشعل الولاعة وارتسمت خيالات بأحجام عبثية، القبر مدثر بثوب اخضر وزربية ثقيلة مزركشة، احس بالبرودة تتسلل الى العظام ، الليل طويل وموحش، يرتجف من صقيع الوقت الصعب، يرتجف من قساوة الايام، لا زخرف يطرز النوايا، الذاكرة تعبرها عواصف هاربة ، كلمة الله منقوشة في جميع الاركان ، بالحناء طبعت عشرات الايدي على الجدران الاربع، عشرات الايدي بمقاسات مختلفة ، المقبرة خالية من ضجيج الانسان ، خاوية الوفاض من رقصات الاضواء ، دخن عشرات السجائر الشقراء، نفت الدخان في اتجاه كوة صغيرة، سحب الاغطية وترك القبر عاريا، تكور بجانب الضريح محتضنا السكين استجداء للدفيء والاحتياط ، فكر ان ساكن القبر في غنى عن الافرشة، الاحياء اولى من الاموات، الهدوء يعم المكان الا من عواء الكلاب ومواء القطط ، في الصباح الباكر وجد كمية من الشموع وبعض الدراهم المتصدق بها، اغلب الزوار يفضلون التصدق بدراهم على طرق ابواب اطباء يكلفون كثيرا، يفضلون التحدث مع الموتى بدل التحدث مع الطبيب خوفا من مشاركة اسرار شخصية مع الاخر، الطبيب النفساني في وعي العامة يعالج الحمقى والمجانين، والمجنون يضيع في قفص التراشق، دس الغنيمة في الجيب وشكر الله عن نعمه، اختفى في الزحام، غنيمة ستضيئ يومه المضمخ بغبار التشرد، القى نظرة وداع على المقبرة وانهى ما تبقى من براءة .

الفقيه يبدو كنبي نزل للتو من السماء وعما قريب سيطلع على الناس بمعجزة مثلما فعل أنبياء ورسل قبله في الازمنة الغابرة، انتهى زمن النبوءات والمعجزات حين ظهر خاتم الانبياء ، الجميع يحترمون الفقيه، يقدسونه، يتمنون خدمته، إذا تكلم فالقول ما قاله، في كل مساء، قبل أن تغلق الأبواب الحديدية الضخمة، يتحلق حوله جمهرة من السجناء، يخطب فيهم، كلام لا يبرح الجنة وجهنم والكفار، الغزوات التي خاضها النبي في سبيل نشر الإسلام ، الشهداء الذين ماتوا في سبيل اعلاء كلمة الله، تقترب أوقات الصلاة، يعتلي درجا متصدعا ومتأكلا ، يؤذن في أمة المجرمين، لعل الله يهدي النعاج الضالة وتلتحق بالقطيع الصالح ، صالح لماذا ولمن..؟ لم يعد هناك فرق بين الخير والشر في الوطن الكسيح، العالم مليء بكتائب الشر اكثر من كتائب الخير، لحظات تنزلق من عمر الزمن المضمخ بإشارات الترهيب والتخويف، يبدأ التقاطر على نبي السجون بحثا عن مخاض وولادة سهلة من رحم الندم ، يحتشدون وراء الامام في زي موحد كسرب اللقالق يلاحق حراثا، في الأول كانوا بضع عشرات ، يتكاثرون كالجراد عام بعد عام ، لا أحد يعرف لماذا هم في السجن، تساءل عن الجرم الذي ارتكبوه ، هل هم أيضا لصوص أم تجار مخدرات أم قتلة...؟ فإذا كانوا كذلك فلماذا يصلون...؟ هل هم نادمون على الافعال المقترفة ويطلبون المغفرة من الله ، إن الله غفور رحيم ، هكذا قال مدرس اللغة العربية صاحب الوجه العبوس على الدوام ، عيناه تغرورق بالدموع عندما يبدأ قراءة الصور القرآنية التي يحفظها عن ظهر قلب، كأنما يتذكر فعلا خطيرا أتاه في لحظة غضب أو لربما كان عاقا قاسيا وتجتاحه نوبات الندم بين الفينة والاخرى، يلوح بالعصا في الهواء، يعم الصمت داخل القسم فيسمع طنين الذبابات .

- انهم ضد النظام

- يعني

- باغيين اديرو دولة اسلامية ويحكمو بالقران والسنة

- مزيانة هذي

- مزيانة لمن

- لينا كاملين

- الله اجيبك على خير... ما تبقا تسكر ما تبقى تفسد

- يا ربي السلامة

كلمات السجين اثارت في الدماغ كمشة اسئلة عميقة، اصحاب اللحي اعتقلوا من الجامعات والكليات بسبب الانشطة السياسية ، في الليل والصباح الباكر يطلقون العنان للأصوات الشجية تصدح بالآيات القرآنية ، ثمة مقرئين يجهشون بالبكاء كالثكالى ، الخوف من عقاب الله ،ولكن لماذا يخاف المسلم المؤمن من الله، الخوف يلبس مرتكب المعاصي والكبائر والصغائر..؟ ثمة مقرئ استمع لبعض شرائطه صدفة في مناسبات شحيحة، يسلط اللسان على جميع الحكام، يتهكم منهم بقسوة ، يفضح العورات امام الشعوب، لم يسلم أي حاكم عربي ولا مغني ولا سياسي، يقيم محاكمات خاصة، يؤلب الشعوب ويقتل بذرة الخوف طمعا في الثورات على الظلم والقهر الساكن في الافئدة لمعانقة الحرية المشتهاة ، الشعوب العربية راضية مرضية بالأغلال التي يرفلون فيها، الشيء الوحيد الذي يثير الانتباه تلك النظافة الزائدة في مجتمع المتأسلمين، روائح زكية تضمخ الاجساد ، هل نظافة الجسم تعني طهارة النفس وكبحها عن اقتراف الجرائم والمعاصي، رآه مرة يعنف موظف السجن حاول ابتزاز سجين في علبة سجائر ، الابتزاز شيء مألوف داخل السجون التي يحكمها المجرمون، احتجاج السجين تلفق له تهمة، فالتهم موجودة في جراب اصحاب الوقت، إهانة موظف تقود إلى الزنازين الانفرادية.

- ادخل يا الكلب

- ادخل الله ينعل لامك الوالدين يا ولد القحبة

حراس المداومة يقضون أوقات القيلولة في زنزانة الفقيه ،زنزانة لشخصين بجميع الامتيازات، الزنازين الاخرى يتكدس فيها السجناء بالعشرات، يزدردون الأطعمة الشهية المتوصل بها من جهات متعددة من مختلف المدن، من الاتباع والمتعاطفين والذين يحلمون بالجنة والمغفلين والطامعين في التوبة..؟، يدسون في الاكياس البلاستيكية زجاجات مربى المشمش والفراولة، صفائح البن الجيد، علب الشاي والسكر ، الأوراق النقدية مقابل أعمال خاصة يقومون بها لصالحه، غالبا يحملون رسائل مشفرة الى اسماء معينة .

الفقيه اسم الشهرة بين سكان الزنازين ، في السجن كل من نبس بما يرضي الله لقب بالفقيه ولو كان فاحشا داعرا من قطاع الطرق، منغمس في قراءة كتاب سميك ذي غلاف اخضر، على العيون الضيقة ترتاح نظارة مذهبة، زجاج سميك يشبه قيعان الكؤوس، يلتهم الصفحات الصفراء في تلذذ ظاهر، غائب عن الوجود أو الوجود غائب عنه، لربما سافر مند زمان إلى عالم آخر مجهول، غير بعيد مجموعة كتب بأحجام مختلفة موضوعة بعناية في ركن الحجرة ، سلع مكدسة في ركن اخر من الزنزانة، علب القهوة والشاي والسكر ، الفرق كبير بين سجناء الراي وسجناء الحق العام، لكن سجناء الراي اكثر خطورة من المجرمين، الحكام في الوطن العربي يخافون من التنوير والمعارضة الفكرية ، رفع حمام الراس ، انفرجت الاسارير وصدرت عنه آهة تحمل في طياتها اكثر من معنى ، استقبله بحفاوة كأنما يعرفه مند زمن بعيد، أجلسه بالقرب منه بعد ان نفض براحة اليد الفرش من العوالق، دارت بالخلد العديد من الأفكار، انزلقت إلى الجمجمة كركام الأحجار مخاوف عميقة، مد له كوبا من الشاي المنعنع وبعض الحلويات، يتحرك داخل الزنزانة بخفة وحركات نشطة تشم منها رائحة شباب متجدد رغم الشيخوخة التي ترقص على محياه والتي تدحرجه إلى العقد السابع أو اكثر، يتكلم بنبرات متقطعة، شرع في الكلام ، انتفخت الرقبة بالعروق والهواء، تماما كعازف ناي، يتمرغ في الحديث بين أدغال الكلمات، العيون الضيقة تتحرك في كل اتجاه ،تبحث عن شيء ما، دفع اليد تحت فرش صوفي ابيض مصنوع من جلد الخروف، خرجت محملة بسبحة ، طفق يطقطق الحبات في تثاقل، ركز النظرات على الجالس بالقرب منه لهنيهات وباغته .

-علاش انت في الحبس ...؟

-ضربت شاب بجنوية وتسببت لو في عاهة...

-وعلاش طعنتيه..؟

-لانه حكرني بغا ياخد ليا رزقي .

-الفقر قوة لا تعترف بالأخلاق والقيم، واش لي طعنتيه تستحق تسجن عليه مدة طويلة.

-عندي سوابق

.- كاينين لي قتلوا وعذبوا الابرياء ومازالين مشدهومش ومعمرهم يتشدو عرفتي علاش ...؟

-لا.....

-هدوك عندهم الحماية من جهات كبيرة كيعملو لحسابها وكينفذو الاوامر... عصابات إجرامية موجودة في كل المدن والمؤمن لي كيستنكر.

تكلم كثيرا عن الفوارق الاجتماعية و الشباب التائه الذاهب إلى مصير مجهول نتيجة ابتعاده عن طريق الله ووصاياه في الكتب والسنة، كانت طريقته في الكلام أشبه بهمس، لكنه همس يفتح في الجمجمة سراديب من الحيرة، أسئلة عميقة تجر من حبال الدموع، يتكلم بهمس ويلقي برسائل ممهورة بالتقوى على جمرات البوح، هل يخاف شيئا ما ويجنح للهمس ، هل للسن دخل في ذلك ، أم أن الإنسان الذي يتكلم بهمس يكون واثقا من نفسه....؟، دون سابق انذار انتفضت صورة الأب السكير مخدوشة كأنها تنتفض من تحت الأنقاض، يتمايل يمنة فيسرة يرتطم بالحائط، يسقط ،ينهض، يقيئ عصارة العنب، يسب ،يشتم ، يصفع الام خديجة بغير سبب، انزلقت صورة الام في المخيلة وشعر بغصة في الحلق ودموع في المآقي ، خربوش يركل الأبناء وقطع الاثاث، يرتفع العواء والصراخ والشهيق، البيت الضيق العاري حلبة للمصارعة، كل ليلة يتدخل الجيران لانقاد جسد يمزق و روح تزهق، لو كان أبوه بهذه الرقة والطيبوبة لعرفت حياته اتجاها افضل، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن او تجري السفن بما لا تشتهي الرياح.

يبدو الفقيه أشبه بإنسان اعتقل خطأ من قبل قوة غاشمة، أو ضل طريقا في منعرجات الحياة، دائم التفكير في اشياء اعمق ، لكن لا أحد يعرف فيما يفكر ، عندما ينظر إليه يحس بأنه على علم بما يعتمل في دواخله، له قدرة خفية قادرة على تعرية الروح والغوص في الاعماق، كأن البشر أمامه كتب مفتوحة، كتلك التي ترعى فيها عينيه كلما حاصره جوع العقل، كما الرضيع يندفع بغريزة إلى صدر أمه ليستمد منها الحياة، تعددت الزيارات ، تعددت اللقاءات التي تستمر لساعات ، أشياء جديدة يغرف منها ويختبرها لأول مرة ، لم يعد الهم الوحيد خدمة الفقيه والحصول على المقابل، صار يجد لذة في تلك النقاشات الخاصة بأمور الدين والدنيا مع سجناء اخرين يحسنون الانصات والكلام، يناقشون الفكرة بالفكرة، وتطمان القلوب بالخلاصات ، تحولت إلى رغبة جامحة في المعرفة ،وجد فيه الفقيه شابا كتوما قليل الكلام، شغوفا بالعلم والمغرفة قربه منه، صار تلميذه النجيب الذي يحضر الدروس بدون تغيب، وما لبث أن عمل على نقله لنفس الزنزانة حين افرج عن رفيقه، تحسنت أحواله المعيشية، لم يعد يقوم بأعمال الكنس والتصبين لقاء بعض السجائر والفتات التي يجود بها عليه السجناء، لم يعد منبوذا يعامل كحشرة من قبل المساجين والحراس الذين لا يهمهم من أمر الضيوف سوى ما يملأ البطون والجيوب.

كان الفقيه ذكيا في المعاملة والتلقين، يدفعه إلى العمل برفق واصفا إيـاه بالابن فتضرب الكلمة وترا حساسا بداخله، فيبدل مجهودا مضاعفا لإتقان العمل واتمامه ونيل الرضى، لم يناقشه في أمور السجائر، كلما رآه يدخن يطلب له الهداية والتوبة.

الشهور تغتال الشهور، فصول تنتحر على صدر الفصول، العلم سلاح فتاك، يفتح في العقول السراديب المظلمة ينزع الغشاوة عن العيون، الاحتكاك يولد المعرفة، تعلم أشياء لم يكن يقيم لها وزنا في السابق، ظل لشهور يتأبط الكتاب المقدس يلتهم الآيات ويحفظ الصفحات، يقطف عناقيد الراحة النفسية ، الايام الصعبة الجاثمة فوق الراس تتوارى، يصطف وراء الامام يؤدي صلوات على قارعة التوبة، في النقاشات يقيس جروح الوطن فتهين جروحه، لم يعد الأمر مقتصرا على أركان الإسلام الخمسة وحفظ القرآن ، ليصل الإنسان إلى الإيمان الحقيقي، ويتقرب اكثر من الله، هناك آلاف ، ملايين من الطقوس التي يجب عملها ومحاربتها قولا وفعلا، ثمة كلمات مطلسمة تتكرر باستمرار تشنف المسامع تبلبل الكيان، المعركة الذاتية والمعركة الخارجية، الجهاد الضخم، التجلد بالصبر والخلق، الثقة بالله، الجهر بالحق والثبات على المبدأ، أسلحة من أسلحة المؤمن الحقيقي كفيلة بحمايته من براثن الانحلال والتفسخ ، ومقاومة الدعوات الفاسدة المنمقة التي يسقط فريسة لها أصحاب العقول الحائرة وسذج الفكر.

الفقيه ليس إنسانا عاديا كما تصور في البداية، كل شيء فيه مختلف، كلاهما من عوالم متباعدة بعد السماء عن الأرض، واحد يحب التلذذ بمتع الحياة ما استطاع إليها سبيلا والآخر زاهد فيها، تفكيره منحصر في الغد حين تطلع الروح إلى خالقها وتقف عارية أمام ملائكة الرحمان، تساءل عما يجعل الفقيه يقربه منه، يعطف عليه ويضعه في مرتبة الابن ويدفعه الى النهل من العلوم الدينية والفقهية، المسألة لا علاقة لها بصحة الفقيه كما قيل له ، علمته سنوات التسكع أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، لا أحد باستطاعته تغيير مصير انسان اخر ، الحياة في عمقها فساد في فساد، وليس كل من يصلي معصوم عن الخطأ ، كم من فقيه يشع البدر من محياه يأتي الكبائر والصغائر، هناك ائمة ضبطوا في احضان نساء متزوجات، واخرون يفترشون الغلمان، يستغفرون الله على الفعل الاثم ويعيدون الكرة، ما يحصل معه يحير العقل ،ربما يكون الأشرار هم من ينعمون بالحرية والطيبون يقبعون وراء القضبان.

ملأ الرئة بالهواء البارد النقي في ذلك الصباح الربيعي ، زفر الهواء الراكد ذو الرائحة النتنة والعطنة العالق بالجلد مند اربعة سنوات داخل زنزانة خاصمتها الشمس ، البرودة والرطوبة أكلت العظام وقشرت الجدران ، البق والقمل يمص الدم مصا اثناء الليل ، رفع الراس شيع الأفق البعيد ، السماء صافية واسعة ، الشمس ترسل أشعتها الدافئة، اغمض عينيه التي اخترقتهما خيوط الشمس، أدمعت، فركهما برفق وما كاد يفتحهما حتى امتدت إليه اذرع، احتضنته بقوة ، هنأته على نيل الحرية ، لم يكن سوى رفيق الفقيه القديم في الزنزانة، لاحظ انه ازداد وزنا، اللحية بدا يغزوها الشيب ، قدم له الاخوة الذين سلموا عليه باحترام كبير، اخذ منه شاب في مثل سنه رزمة الملابس، ألقى بها في صندوق سيارة سوداء مروكنة غير بعيد، انطلقت بسرعة خفيفة، تطوي المسافات ، تذوب في زحمة الشوارع والأزقة، الصمت يخيم على الركاب ، إلا من بعض الكلمات العابرة للوقت، اللوحات المعدنية على جنبات الطريق متآكلة، الأيدي عبثت فيها خربشت قلوبا وسهاما تخترقها وتنزف دما، اسماء من مروا من الطريق نقشت هناك للذكرى، السيارة تهتز بين الفينة والفينة بفعل الحفر، الحفر في الطرقات ماركة مسجلة في الوطن، تيار الهواء يصفع الوجه، اندفعت الأسئلة في الرأس كالسيل الجارف، راحت تخدش الفكر، تفسد الفرحة بالحرية، الخوف من المستقبل يؤرق، يبلبل الكيان، لا يريد أن يعيش على الهامش، متسكعا ، متسولا، البرودة انهكت الاشلاء، الجوع و الوجبات الرديئة والشحيحة خربت الأمعاء، دوريات الشرطة تترصد نفايات المجتمع في الازقة المعتمة ، إلباس التهم شيء سهل، المتشرد كبش فداء خصوصا إذا كان ذا سوابق عدليه، لا يؤمنون بالتوبة النصوحة ولا بطي الصفحة، كلما استعصى عليهم حل لغز جريمة وكثر الضغط الظاهر والخفي يقدم المنحرف قربانا، انعطفت السيارة بهدوء نحو محطة بنزين على يمين الطريق، تقدم عامل المحطة بزيه المتسخ وشعره المنفوش، اخد المفاتيح ، فتح خزان الوقود، نزل الشاب الذي يجلس بالقرب منه، فتح حقيبة السيارة، اخرج رزمة الملابس البالية والباهتة ،قذف بها فوق كومة قمامة وراء سور المحطة ، اخد مكانه داخل السيارة وعلى وجهه وأدت بسمة غبية.

-هاد لحوايج ما بقاتش نفعاك،أنت انسان اخر تولدتي من جديد، وغتكون لك هوية جديدة ان شاء الله.

لم ينبس ببنت شفة كان قوة خفية تتحكم فيه، المخيلة تمطر بالدواخل عشرات الاسئلة المطلسمة، فكر سيموت شخص لقب ذات سنوات عجاف بفالصو وسيدفن في مقبرة مجهولة بدون مشيعين ولا معزين، لقب لازمه مند الطفولة وحوله الى قوة ضاربة في الاحياء، حين كان يسافر من الظلمة إلى الظلمة، يسافر من عضة الجوع إلى غصة الحلق، رأى ابوه يحمل السوط المجفف المصنوع من ذيل بقرة ، يلوح به في كل الاتجاهات داخل البيت الضيق ، يمزق الأجساد الصغيرة المتكورة كالفئران.

-أنتما اولاد عاهرة، العاهرات كيخراو اولاد خانزين ، والو ،فالصو ،زيرو....زيرو....زيرو.

يضغط على الحروف، تتمزق الكلمات ،تتفتت ، يتطاير رشاش اللعاب، عايش المشهد الشاذ ثلاثة عشرة سنة، الفقر والزواج لا يلتقيان، أبناء الفقر مشروع متشردين أو مجرمين او عبيد في قبضة لصوص الشعب والخونة، في ليلة ظلمت موشومة في الدماغ، دخل خربوش مخمورا، يتمايل كالفنن تحركه نسمات الصباح ، يرتطم الجسد الثمل بالجدران، عيناه اكثر جحوظا واحمرارا، يداه تقبض على ذيل البقرة المجفف، انهال عليه بقوة، ألهب الذيل الظهر، اشتعلت الفوانيس الخابية في الدماغ، الجسم يتمزق، نيران تلتهم الجدع العاري إلا من قميص رث مثقوب ، تضور من الألم وانكمش، ارتفعت اليد الى السماء مهددة، امسكها في نصف الطريق، انتزع بخفة ذيل البقرة من اليد الخشنة، المفاجأة ولدت ترددا لهنيهات، تقدم نحوه وعيناه الملتهبة كالجمرة، تتطاير شررا وغضبا، سدد له ضربة بقبضة اليد، تفادها، دفعه بتهور ، اصطدم بالحائط ، تهاوى ورجلاه تلعب في الفراغ ، التقط الحداء في اليد، سمعه يردد بصوت عالي.

- باغي تقتلني يا ولد القحبة ....يا المسخوط

استقبله الليل بوجه باسم وذاب في تلابيبه، قطع قضبان السكك الحديدية، اتجه صوب وسط المدينة، ممتلئ بالخوف المريب وغصة منتفخة الاوداج تنهشها مخالب الضعف، نمل بشري يندفع في كل الاتجاهات، أجساد مكتنزة ناعمة تمارس فعل الاستدراج ، ازدهرت نظرات الاشتهاء تتيه في الاشكال، ترتشف من العري لهفات تجفف مواسم العطش، تتأوه لروعة التحدي المستفز والمغري، في سوق المزاد معروضة ، كان للحم البشري في البداية سعر باهض ومكلف، ومع كثرة العرض اصبح ارخص من كيلو طماطم، وكلما هبط السعر كلما زاد العري، ولربما في الغد القريب ستسقط ورقة التوت المتبقية، محلات الوجبات السريعة غاصة بالجياع، بشر ينشر الاجساد فوق الكراسي .

عقارب الساعة تزحف نحو الخامسة مساء، نزلوا من السيارة وتمددت الاجساد تطرد العياء، طقطقت العظام ، عبروا بوابة خشبية مبرنقة، تتوسطها رسوم دقيقة لأزهار متفتحة ، ساروا في طريق حديقة واسعة، رائحة الورود تضمخ بالعطر الفواح المكان، ارتقوا ثلاثة درجات من الرخام الابيض، ضغط السائق الملتحي على زر، دقائق معدودة انفتح الباب على مصراعيه، دخل الثلاثة بعد ان بسملوا وسلموا ، ظل واقفا متسمرا في مكانه، حول عينيه في أرجاء الحديقة الفسيحة، غير بعيد حوض سباحة محاط بشجرات نخل ورمان، سور الحديقة عالي جدا ، ثمة نسوة محجبات مقمطات في لباس اسود، يثرثرن بدون انقطاع، لم يطل الانتظار، أمره الشاب بالدخول، انخلعت الاحذية، اشار إلى كرسي خشبي، وضع عليه المؤخرة واحس براحة تكتسح المفاصل، اختفى الثلاثة الذين رافقوه طوال رحلة استغرقت سبع ساعات أو اكثر، توقفت السيارة ثلاث مرات، مرة للتزود بالبنزين، ومرات لاقامة الصلوات، تناولوا حبات الثمر وكؤوس الحليب المعلب ، استبدت به رغبة قوية في التدخين ، قاومها بشدة حتى لا يبدو سخيفا ومشمئزا، صعب التخلص من عادات فرضتها مرحلة صعبة لان الصراع بين الذات والأدوات التي أوجدت تلك العادة لازالت قائمة.

-اول حاجة غديرها ياولدي في حق نفسك،بعد على الموبقات وتقرب من الله.

-غادي نحاول إن شاء الله.

-الكفار يابني فسدو عقول الشباب وتاهو عن طريق الله،شد بحبل الله وغادية تفتح لك بيبان الدنيا و تلقى لي اعاونك ويشد بيدك .

صورة الفقيه حاضرة في الوعي الشقي باستمرار، استطاع في ظرف وجيز ،ان يفتح في الصدر ثقبا، تسلل عبره ضوء خافت، كبر مع الأيام بفضل القراءة وحفظ الكتاب المقدس والتهام عشرات الكتب الدينية السميكة، كتاب ظلوا لأشهر ولربما لسنوات يكتبون ليستنير بعلمهم الناس ، يزرعون ليحصد الناس الغلل، احب هؤلاء العظماء الذين تظهر اسماؤهم في الاطارات المذهبة للكتب، بفضلهم بدا يفهم الكثير من الامور المستعصية ، صار الثقب في حجم السماء المشرعة ولازال يكبر، طريق أخرى تفرض عليه كما فرضت عليه سابقا، لم يعد يتحكم في مصيره هناك دائما من يقرر نيابة عنه، جميع المحن التي تعرض لها من دخل البشر، ترك مقود سفينة حياته في أيدي الغرباء ، رجع من شروده على وقع خطوات.

-السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

-وعليكم السلام.

-كيف حالك يابني،وكيف حال الفقيه...؟

-بخير إن شاء الله.

-الحمد لله.

ظل ساكنا بدون حراك يتلهى بالبحلقة في الجدران، تلميذ في أول عهد له بالمدرسة، غربة المكان تزيد من معدلات الارتباك، الخجل هجم عليه دفعة واحدة ، لا يدري من أين اصيب بجينات الخجل، في عقده السادس تقريبا لكنه ما زال قوي البنية، يتحرك بسهولة، شامة الصلاة تلمع على الجبين كقطعة نقدية، جلس بالقرب منه ، فاحت رائحة زكية كأنه في ضيافة ولي صالح، ظل يثرثر بدون انقطاع، يشنف مسامعه بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وخيل إليه ان الفقيه خرج من السجن ، وانه ثاو بالقرب منه بهيكله العظمي، يحرك الراس بين الفينة والفينة، واهما الجليس انه منتبه ، تلميذ نجيب يستوعب الدروس بسرعة، النوم والعياء يحتكان به، الأشلاء ارتخت، المصارين تتمزق من الجوع، العصافير تزقزق، كلما صمت برهة لاخد الانفاس ، اعتقد انه أنهى درس الوعظ والإرشاد، ما ان ينهي حديثا حتى يبحر في آخر لا يبرح الجنة والنار والخير والشر، عرف ان الفقيه أخاه وأوصاه به خيرا، كان له ابن في مثل سنه تقريبا ، مات شهيدا مدافعا عن الإسلام في ارض الكفار والخنازير.

الشيخ أبو أيوب خطيب متمكن من علوم الفقه والدين ، فصيح اللسان ذا صوت جهوري ، داع صيته في المدينة وخارجها، يتميز بجرأة لا حدود لها، يوجه انتقادات لاذعة لرموز الفساد، الفتاوى قنابل انشطارية في وجه الاعداء وازلام النظام، الخرجات اصبحت حديث العام والخاص ، أيام الجمع يتحول المسجد العتيق إلى محج حقيقي لكل الفئات العمرية، المخبرون يندسون بين اللحم والعظام، يدونون كل كلمة وتنهيدة على مشرحات التحقيق لقياس درجات الحرارة ونبضات التبعية، حتى الصلاة لها نواطير في الوطن، لان الإسلام له عدة وجوه ، الإسلام الذي يعري مساوئ المجتمع وحكامه، والإسلام الرسمي الذي لا يبرح الزكاة ونقائض الوضوء، الاسلام السائد طبعا والمستحب لأولي الامر، على المسلم الحقيقي ألا يفكر فيما هو غير مسموح به، ألا يفتح المحرمات ويتجاوز الخطوط الحمراءالمرسومة سلفا، حتى لا يجد نفسه مدفونا حيا تحت الأرض، فالتفوه بكلمة الحق يعد عدوا، يتربع على سجادة الصلاة، حوله يتحلق المريدون من مختلف الأعمار، رؤوس تعتقلها طواق ناصعة البياض كأنداف الثلج ولحي مختلفة الاحجام، أجساد نسائية ذات مقاسات متباينة ملفوفة في جلابيب ومناديل كأنهن ذاهبات إلى استخراج العسل ، حدثهم طويلا عن مفهوم المؤمن الصالح، بسطوا ادرعهم إلى السماء قال الشيخ ابو أيوب عبر مكبر الصوت : » ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا« رددوا خلفـه: »آمين« ،تنحنح وأردف: » كيف يهـدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم« تخرج تكبيرة من الأفواه، تغيب عيناه ويدخل في نوبة صمت، يبح الصوت، أحنى الراس المعتقل في طاقية بيضاء، انتشرت اللحية على الصدر كمكنسة من حرير، رجع إلى الوراء في حركة متثاقلة ،اسند الجدع على الحائط، اعتقدوا انه غاب عن الوعي وان الروح صعدت الى الاعلى، فتح عيناه الضيقة، بحلق في الوجوه الفاغرة الأفواه، مرر اليد البارزة العروق على اللحية الكثة كأنما يعصرها وصرخ( إن بلادنا يا أبناء المصطفى أصبحت وكرا للفسق والفجور، فضاء للعقائد الباطلة والأفكار المسمومة، إن بلادنا تتعرض لحملة مسعورة لدحر راية الإسلام، و الحملة الاثمة جند لها الكفار وتجار الأعراض جميع الوسائل للتحريض على الفجور وإغراق الأجيال في الأعمال المنحطة، المسلم الحقيقي من يتصدى لهذه الأفعال قال تعــالى( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون بها عدو الله ) الله في أعماق المهجة ،يختلج، يدغدغ الاحاسيس ،يستنبت اجنحة للحالمين بالفردوس الموعود، أبواب الجنة تنفتح في المخيلات على مصراعيها، طير ابابيل تلقي على المعدم بأكياس الياقوت والمرجان، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جوائز للمتعبدين والمتخشعين، سحقا للكفار والملاحدة ، المعجزة المنتظرة مند قرون قاب ركعتين من الحدوث، الإحساس بالظلم والقهر يشعر بالاحتقار فالعالم في الوعي الباطني للمحتاج يتآمر ضده، ظهور بصيص أمل يجعله يرتمي في أحضانه، كالغريق وسط بحر هائج يتشبث بلوح خشبي مهترئ، يتفتت عند كل لمسة .

يلتهم ألوان الأطعمة بشهية وشراهة، يغسل المعدة من بقايا آثار السجن، الملل يتسرب الى الخلايا، يحاصره ، يطوقه ،حياة العربدة تنادي، محروم من دفئ الأجساد، اختلاس النظرات إلى الأجساد الملفوفة كحبات الذرة لا يشفي الغليل، تستولي عليه رغبات غامضة في أن يغادر البيت بحثا عن ماخور ليطفئ عطشا تكلس مند سنوات، يخاف أن ينكشف الأمر ، عيون الشيخ وأدنيه في كل شبر من المدينة، الإحساس بالفراغ يمطرق الدماغ ، قراءة كتب الترغيب والترهيب ، سماع أشرطة الوعد والوعيد، والنهوض في الفجر والركض لمسافات والتمرن على فنون الدفاع لم تعد تستهويه، انه محارب بالفطرة ويتحدر من سلالة المحاربين، دوران في حلقات مفرغة، تفاقم التوتر وارتفع منسوب الملل في الدماء، البيت من الداخل أشبه بمتحف اثري، الصمت يلفه كأنه مقبرة مهجورة، ساكنوه جلهم عابسون، كان السماء سقطت عليهم، قطعة مركونة في زاوية ما، ساعات طوال يقضيها حالما على الكرسي في الحديقة، في الليل يعانق كواعب ذوات حسن وجمال يقطع الانفاس، يحتضنهن الواحدة تلو الاخرى، يمزق الملابس اربا اربا ، يشتهي كل الاجساد العارية، يسحب السيف من الغمد وينادي على الحرب، يركض مسافات طوال ، يتصبب عرقا، ينتفض مبللا السروال، الاستحلام متنفس المحرومين من دفئ النساء ، تصطدم عيناه بالعيون الأنثوية، يغلي الدم في العروق، تتبلبل الأفكار وتنتابه قشعريرة، صاحبة الخال على صفحات الخد الأيسر أجملهن جميعا، ترعد الفرائص، تقطع الأنفاس، ترتفع دقات القلب ، جسد ثائر، قامة بديعة، عينان فيهما سرد الخلود، ابنة من..؟ ،لايهم من تكون، مصير المرأة بين يدي الزوج، هكذا تكلم الشيخ الذي يبدو كالاه من آلهة الكلمة الطيبة، حاول أن يكلمها ، ليكاشفها بحبه، لكن كيف السبيل إليها، جميع الطرق مسدودة ،الخادمة العجوز صمتت أمام الاسئلة المحرجة، هل يكاشف الشيخ بصدق نواياه، أم أن الحب شر تصدر فيه الفتوى واهدار الدم.

ارتفع منسوب الحرمان في الدم، الجنس نعمة من نعم الحياة، اقطع عن الشعوب العربية الجنس والمخدرات ستنشط الثورات وترتفع معدلات الجريمة، تراقصت امام العيون صورة ولد فطومة ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة، كان خبيرا في استمالة الفتيات، تتلمذ على يدي الام حتى اصبح ملما بطباع النساء، قال له مرة إن مشية المرأة تكشف شخصيتها، طيبة أم شريرة ، شهوانية أم قنوعة.

تذكر البيوت التي كان يزودها بالمخدرات، عالم غير العالم الذي يكبله ، لا مكان للأخلاق والقيم والشرف، الشرف سيف مسلط على الرقاب، لا يقطع سوى رؤوس الفقراء والأغبياء الحالمون بالجنة الموعودة، أجساد بضة، تماثيل من الشمع والعاج ، ظهور عارية تغازل في تحد الجنس الخشن، صدور ناهدة مندلقة، حلمات تثقب الفساتين الشفافة، شياطين متمردة تعتقل الأجساد، صاحب البيت إمام من أئمة مدارس المجون والعربدة، عندما لعبت الخمرة في رؤوس الضيوف المختارين بعناية شديدة ، تقطعت فرامل الضمير، ارتقى صاحب الفيلا مائدة مستديرة ، رقص بجنون مثل راقصة شعبية، يلعب بالمؤخرة، بالصدر، مقوسا اليدين، يحركهما في حركات لولبية ، تحلقوا حوله، اشتد التصفيق والصفير، التحقت به فتاة شبه عارية، احتدم التنافس، العرق يغسل الأجساد، زجاجات الخمور تفرغ، تزيد من معدلات الحرارة، تسقط ما تبقى من فرامل الضمير، تكبر النشوة، يغيب الوعي، تكسرت كل القيود، الراقصان يلقيان بقطع الثياب على الحضور الذي تحلق حول المائدة، اتحدا في قبلة طويلة، في ثوب آدم، جرت الدماء في العروق، تدحرجت الأبدان بالعرق والخمرة، أنات متقطعة ،حشرجات جريحة، صفق الجميع على الوصلة الاشهارية الناجحة ، كل واحد اخذ وعاء التفريغ إلى اقرب ركن، مع الأيام سيصبح المجون شيئا مألوفا كما في الأفلام الخليعة، أنخاب تشرب على شرف من غيبهم الغياب، يشتد الرقص، أفواه تأكل أفواه، الشجرات العارية تنز شبقا واشتهاء، تمتد الأيادي تقطف الثمار بدون غنج ودلال وتمنع، سفن تبحر في مياه الآسن باسم الحرية، الأشرعة تلعب بها الريح، كل يوم يمتطيها ربان جديد حتى يخبو الوميض ويلقى بها في ميناء مهجور فتغرق في النسيان، هل التربة الفاسدة تصلح لبذر العقيدة...؟،لم يلتق أي توجيه في الصغر، أبواه أميان من سلالة اميين، يجهلان أمور الدين والدنيا، وان كانت كلمة الله حاضرة في وعيهما المخروم، لكنها مقرونة بالموت والعذاب ويوم القيامة، لماذا يصرخ بداخله هذا الزخم من الأسئلة الشقية، انه يؤمن باللذة بدون قيود، الأرض الفاسدة مند نزوح ادم وحواء م الجنة ، ستظل فاسدة وستنبث فسدة، ليست بحاجة إلى مصلحين، الفقير في وطننا يلقى به إلى القمامة فتدوسه الأقدام كما تداس الحشرات الصغيرة، والشيخ ابو ايوب يعتقد أن أمة الإسلام ستتقوى وستنهض وسيتحول الوطن إلى مسجد كبير ، الإسلام وحده الكفيل بحماية المجتمع من الانحرافات الخطيرة المهددة لهوية المسلم ووجوده و محاربة الفوارق الاجتماعية.

- السلام عليكم ورحمة الله...... أراك حزين يابني

-عليكم السلام يا سيدنا الشيخ لست حزينا ولكنني تعبت من الراحة أريد ان افعل شيئا،لا أريد ان أبقى حبيس الجدران مثل النساء.

- كل شيء بأذن الله ، وما نفعله لمصلحتك، إننا نأخذ بيدك إلى بر الأمان حتى نضمن انك لن تعود إلى حياتك السابقة، املأ قلبك بالإيمان وتجلد بالصبر،ان الله مع الصابرين.

تفرس في البطاقة الممدودة أمامه، تأمل الاسم ، من يكون حمزة الشافعي الذي لبس جلده ، أحياه من جديد، أخرجه من العالم المجهول الى العالم المعلوم، أكان عالما فقيها أم مجرد تابع..؟ ربما يكون ابن الفقيه الذي مات في غزوة من الغزوات للدفاع عن الإسلام في ارض الزنادقة والكفار والملاحدة، إذا صدق حدسه فان الشيخ سيصبح عمه، وتمنى في قرارة نفسه أن تتحقق هذه النبوءة ، أن يفعل الله شيئا مهما من اجله، منذ زمان والعمر ملفوف في دودة الإهمال ، والنفس مشدودة إلى شمس الغد القريب تروض بالصبر مهرة الأحلام، تأمل تاريخ الميلاد، مكان الولادة، المهنة، كل شيء تغير بقدرة الرشاوى ، فالإدارة في الوطن تتنفس بالتزوير، كثير من الضحايا بيعت ممتلكاتهم العقارية بفضل التزوير، هناك من طلق الزوجة بدون علم وظل يعاشرها لسنوات، جرائم التزوير لا تعد ولا تحصى ، شيع الصورة الملونة طويلا، لحية صغيرة تأكل وجهه، لم يبق من الشخص القديم إلا صورة باهتة، لم يبق سوى أن يملأ قلبه بالإيمان، هل يمكن إرجاع صورة ممزقة إلى حالتها الأصلية، لكن أليس وضعه اليوم افضل بكثير من الأمس ، كان يلتقط رزقه وسط القمامة كالكلاب الضالة، نظرات الاحتقار تفترسه، الشوارع مملكة لمن لا مملكة له ، المواخير جنات عدن تعيد ترتيب الاوراق في هضبات النفس، الحانات إكسير الأرواح المشردة الهاربة من جحيم الزمن الرث، بحثا عن سعادة مؤقتة، حياة التشرد لها مرارتها وعذاباتها و حلاوتها ايضا ، عاش الحياة طولا وعرضا دقيقة بدقيقة.

املأ قلبك بالإيمان عبارة تنقر في المخيلة صباح مساء، كيف لمشوش الدماغ ان يملا قلبه بالإيمان، وصاحبة الخال متربعة على عروش الفؤاد، عيون هادئة مفعمة بالوقار والثبات، ( أنكحوا ما طاب لكم من النساء ) هل تعرفين يا ست الحسن والجمال إرادة الله هاته، هل ستعبسين وتتولين الادبار كما العادة، شيعته بنظرة ثاقبة اكثر غموضا، غلى الدم في العروق، غمز بعينه، أطرقت خجلا وتوردت الخدود، اقتربت ، لأول مرة تغامر بالاقتراب دون خوف من الغول، وحدها تقترب مطأطأة الراس، نعجة ضلت القطيع، ارتفعت نبضات القلب، انطفأت فوانيس المخيلة، ساعة الحقيقة تدق بعنف، ساعة البوح تتهادى، تلاطمت في الراس الأفكار، خيل إليه لحظة انه سيتلقى صفعة قوية على الخد، الاظافر تنغرس في الخد، دم مالح ينبجس من الجرح ، الباب العريض يصفق ورائه، الجبين ينز عرقا، الجسد يقطر تقطيرا، كيف يعاكس فتاة محجبة، وقتها منحصر بين القراءة والعبادة، لا مكان في قلبها للهو والعبث ، لا يعرف حتى اسمها، ان كانت متزوجة أو مطلقة أو أرملة، يا له من أحمق ساذج، كيف فاتته تلك الأمور، جوع القلب قوي ليس كجوع البطن، لماذا ترك أبواب القلب مواربة وانغرست مخالب الحب في جلده.


-السلام عليكم ورحمة الله

-وعليكم السلام

-المسلم الحقيقي يدخل البيوت من الابواب.

-على المسلم ان يعرف ان كان صاحب البيت يقبل بطلبه.

-توكل على الله اذا كنت تنوي خيرا.

تجمع الدم في الوجه ، الحرارة تأكل الأشلاء، راقب صاحبة الحسن والجمال تنصرف بخطو وئيد، غابت خلف الحديقة المزهرة، سمع ضحكات مشنوقة غير بعيد، غراميات الضيف لم تعد سرا، جعل يستعيد الحديث، كلمة، كلمة ، جملة، جملة، تسلقته نشوة غريبة، أحس بالأرض تدور من حوله، تهدهده، تدغدغه، الأشجار تخضر، ترقص طربا، الزهور تنثر العطر، الطيور تملأ المكان شدوا، فرحة قوية تغمره، تهزه من أخمص القدم إلى أرنبة الأنف، انتصر في الحرب الخفية، جعلها تحبه، لكن هل يقبل الشيخ فعل الهوى في بيته ،أم انه على علم بما يفعل، انه لا يضمر شرا، يحبها ويود الزواج منها على سنة الله ورسوله، من هو حتى يقرر في مصير فتاة تعيش في حماية الشيخ ،مجرد متشرد ، نزيل السجون، الكل يعلم بالحقيقة التي لا غبار عليها ،لم يتغير فيه شيء، إطلاق اللحية واللباس التقليدي ليستا ميزة، فالأرض تجيش بالملتحين الذين يجبون الطرقات والازقة، يعرضون سلعا، كتب صفراء واعواد الارك ومسبحات وبخور، من سيعيله بعد الزواج ان تحقق المراد والمبتغى، لا يتقن أية حرفة، حرفته الوحيدة تجارة المخدرات، التسكع في الشوارع، النوم في العراء، مطرقت الدماغ المنتشي الحقيقة المرة، انكمش كندف من الصوف لسعته السنة النيران، في قرارة النفس الامارة بالمكسب، مستعد أن يفعل المستحيل لكي لا يهجر حياة البذخ، من أين له بحجرة كبيرة مستقلة في فيلا مترامية الارداف، مجهزة بأحدث الأجهزة، تحف نادرة، كؤوس مزخرفة بألوان وأحجام، لوحات فنية لآيات قرآنية، الأرض مطلية بالرخام الأبيض، شمعدانات فضية منقوشة بعناية، السجادات الفارسية والتركية يقفز منها ثراء فاحش وذوق أصيل ورفيع ، الهدوء يلفه من كل مكان، لا وجود لشيء ينغص الحياة، لا دوريات للشرطة، ولا متشردين يعبثون في جيوبه أثناء الليل، يأكل حتى التخمة ، ينام دون احتراس في سرير مريح، وخادمة ترعى شؤونه، وشابة كأنها البدر في تمامه، تقاسمه هموم القلب.

سنة ونصف السنة من الحرية الناقصة في البيت الكبير، عرف أصنافا من الوجوه الودودة والوقورة، واخرى متجهة مقطبة على مدار الايام ،احب البعض وكره البعض الآخر، احب منشد الجماعة رشيد السباك، شاب انيق ودود يجيد العزف على آلة الوتر، حين يحضن الوتر المقعر، يحضنه بطلف كأنما يحضن طفلا صغيرا، يداعب الاوتار برشاقة، تخرج النغمات اكثر جمالا وعمقا، ينشد الاغاني الدينية يشعر المستمع براحة غريبة، راحة داخلية تنطلق منها قبرات السكينة والخشوع، ترفرف في ادمغة التائهين عن طريق الله ، تضرب لهم موعدا مع التوبة، منتصب الحواس ينتظر ولادة جديدة، ليملأ الفراغ المشحون بآلهة النفي، يجمع أشتات الماضي وتيهان الحاضر، الصوت الشجي يتجول في الدماء ، ينثر رهبة تتسلل من ثقب الروح، يستنفر عواطف شحيحة مندلقة من شرايين جفت فيها ينابيع الايمان ، الآهات تختصر المسافات وتعيد المستمع من حالات الضياع المباغتة وضباب الحرمان، تتلألأ كلمة الله في الاعماق، تتعمد في الخلايا، تتمايل الاجساد العطشى ، تشرئب الاعناق وتغمض العيون ، تسافر المخيلات الى عوالم فيروزية، تذوب تحت أكوام من الابتهالات والادعية، رائحة البخور والمسك تضمخ المكان ، عبد السلام الباز المرشد الروحي للجماعة الاسلامية يحرك الراس افقيا حركات متلاحقة، ضعيف البنية يغرق في كرسي وثير مطرز بالوان ذهبية، في الجبهة شامة الصلاة اكثر سوادا، تأمله جيدا وتساءل في قرارة النفس كيف لهذا الهيكل المحدودب الظهر التحكم في الالاف عبر الوطن الباحثة عن الاجوبة لألغاز الحياة تحت قوة غامضة مشهود لها بالخداع ، اجوبة عن الارواح الشاردة على أرصفة شديدة التعرجات ، لديه قوة غريبة وعجيبة فوق مستوى البشر العاديين، انه فصيلة نادرة موشكة على الانقراض، لا يتوقف عن شرب كؤوس الشاي بنهم وقضم الفواكه الجافة ، يتحرك غالبا تحت حراسة مشددة لإضفاء المزيد من العظمة والابهة، تنحني الهامات، تتقوس، تقبل ايدي الباز، مشهد من صنع الخيال الخرافي، يربت على الاكتاف بحنو زائد، يمد الرقبة المكللة بالسر السماوي خلف حجاب من الضوء الانثوي ، يرش عليهن بعضا من مساحيق الالفاظ الساخنة والمقتحمة لعتمة القلوب التائهة.

- بارك الله فيكن

- بارك الله فيكم

بحصي نقرات الدف على الجسم، الطنين لا زال عاليا يبقبق في طبلة الاذن، الجماجم ملطخة بأساطير الأزمنة العتيقة، عيون تبحث عن الخالق في حفظة القران والاحاديث النبوية ، البلادة وقصر الفهم تسقط المثقفين والفكرين في افخاخ دجالين في ريعان الشيخوخة، عبد السلام الباز وصل الى اعتاب الشهرة في الوطن وخارجه بفضل رسالة وجهت الى راس النظام، جاء الرد سريعا على مطولة ( الخلافة او البركان) وضع الشيخ المتحذلق في الاقامة الجبرية، النواطير يحرسون البيت ليل نهار، يتناوبون على ايقاع الهمسات ، منع من التواصل مع المقربين وعموم الناس، ظل منزو في الركن الضيق من الوجود ،ارادوه ميتا على صفحات التهميش ونشرات الاخبار، رهان الدولة في قمع الايمان والمعتقد ساهم في انتشار الجماعة والتوسع والتغلل في عموم فئات الشعب، فكل ممنوع بالضرورة مرغوب، آلهة المنع لا تجيد قراءة المستقبل، الباز يحتضن كمشة احلام تسللت من غرفة سجان، المريدون يتغلغلون في طيات الآخرين، تلتقط الطرقات صدى الانفاس.

فالصو حائر وسط وجهات النظر المتضاربة وتلسعه ألف علامات استفهام وتعجب ، ارتفاع منسوب العواطف يشعل الساحات احتجاجا وتنديدا، مسيرات في الجامعات والكليات، بيانات الاستنكار والشجب، مشاعر جياشة ضلت طريق العقل، الواعظة الدينية نزهة البيروكي تنفخ في كير اعلان الجهاد في قاعة مرهقة الاعصاب مشحونة بالانفعالات ، سماء مكفهرة الغيوم والاسقف تقطر نواطير وعسس، نوايا مزلزلة مصنوعة من رغبات مشتعلة، لغط وهيجان ،الصبر والتروي يزفان الى متواهما الاخير ، الرسائل قوية ممهورة بالتحدي والمواجهة، انفتحت الابواب بقوة على مصراعيها، سقطت اجساد اخدت بغثة، تكورت اخرى اخترقتها قبضات التدافع، اقتحمت وجوه فولاذية القاعة الغاصة بالنساء والرجال ، تكلمت العصا في الظهور والسيقان، تعلو الصرخات والانات على صهوة السلخ، صفدت الايادي وحملت الى السيارات الموشومة ، غاصوا في ركب مجهول الوجهة ، اندثروا في ضجيج الهتافات والشعارات المستنكرة للقمع ، حمل بعض الجرحى الى المستشفيات، قطبت الجروح وضمدت الكدمات ، اعتقلت اسماء وازنة تعد وقودا للصراعات ، سرقت منهم رزنامة الانشطة وبرنامج اللقاءات المقبلة ، كماشة الدولة تلاحق ما تبقى من عناصر نشطة، الجماعة تقف على حافة الانهيار، لكنهم لم يعلنوا الاستسلام، ليس المهم ان تربح جولة ، الاهم ان تصمد لباقي الجولات.

- العسكر والبوليس ليسوا مشكلتنا هؤلاء مجرد خدم يتلقون التعليمات....مشكلتنا مع الدولة العميقة.

- وهذا العنف والدماء .

- ضريبة التقرب من الله

أوصد باب الحوار في وجه الطموح، تحتشد الوجوه والاسماء على نافذة القلب، كثيرون خرجوا من دائرة الضوء الى العتمة، تركت حقائب احلام المنشقين في دولة الخلافة الاسلامية على قارعة العمر ، نوايا مختومة بالشمع الاحمر ورماد الكآبة، الشيخ حمدان اكبر تاجر للملابس الاسلامية في الوطن، يمتلك عشرات المخازن في اغلب المدن ،كريم، سخي، كلماته تقرع ابواب الفؤاد على عجل، لحية مخضبة بعصير الحناء ، كل شهر يزوره في المحل، يشرب كوب شاي، يضع بين يديه مظروفا ويودعه وداعا مطرز بطقوس الكتمان، ينحني تواضعا كغصن يتيم على شجرة صلعاء، تزدحم الوجوه أمام المسارب، اسماء بلا علامات في سماء الضجيج ،تعرف على الشيخ زكريا بائع الفواكه الجافة، الشيخ المصطفى الخطاب تاجر مواد البناء، والشيح محمد الضاوي بائع الاثاث المنزلي، عشرات الشيوخ ذوي الجاه والنفوذ متهمون بالطاعة العمياء لذات المرشد ، وراء كل شيخ ملتح، شيخ اخر بطاقية ناصعة البياض ، اي زمن مشبع بالوفاء والتآزر والتآخي ، المسربل بالرياحين والبخور.

منجل المخزن يحصد الرؤوس اليانعة ، امتدت يد الاعتقالات العشوائية الى الطلبة ، الجريمة جاهزة والمحاضر مطبوخة، تتساقط اوراق دولة الحق والقانون، خطابات محشوة بالتمويه تمر بين أدغال البرنقة ، لا مكان لمن أزال الغشاوة عن العيون، حرية التعبير تتمزق في عباب التراشق السياسي، السماء تمطر قمعا من غبار الخوف، الوطن لم يغتسل بعد من حرائق سنوات الرصاص، من تلابيب الاحلام ينتشل الشرطي الهاربين من جحور الصمت، علي عمران الشاب المتمرد الغاضب ، الناقم على الاوضاع، يوجه القذائف الانشطارية للشيخ والمريدين، ينثر بين الشباب حروف الهيجان، يفتت بالجرأة والنقد اللاذع فردوس المخدوعين، اصر له اثناء الطريق الى المسجد.

- القيادة شاخت ولابد من دماء جديدة....

- الشيوخ يفهمون ما يفعلون

- تبدل الوقت وعلى العقليات التغير..الاستمرار بنفس التوجه سيؤدي الى خراب الجماعة

المصابيح الكهربائية تقيء الاضواء الخافتة، السيارة تنهب الطريق نهبا، السفر في الليل متعة لا تضاهيها متعة شريطة ان تكون السائق، تتحكم في مصيرك أثناء الطريق، تقف وقت ما تشاء، أين ما تشاء، ساعة تشاء ، السفر في الحافلات اصبح مزعجا، خصوصا إذا كان المسافر مثقلا بالأولاد، أو في مهمة مستعجلة، كان في السابق تلميذا لملتحي اكول ابو زياد لم ير شرها ونهما مثله في حياته ، يمضغ طوال الوقت، يحشو الجيوب بكميات اللوز والثين المجفف والجوز، قال له مرة ان تناول اللوز والجوز يزيد من القدرة الجنسية تعادل قوة حصان، يشتهي جميع النساء يتمنى ان يتزوج مثنى وثلاث ورباع ، ويعد هارون الرشيد احب الحكام الى قلبه، ليس بسبب العدل ولا تطبيق شرع الله لكنه باعتباره زير النساء زمانه، لكن لا يعلم ان هذه الصورة تعاكس حقيقة هارون الرشيد الخليفة العباسي المعروف بالزهد والتقوى وشديد الخوف من الله، بل عرف عن الخليفة انه كان يغزو عاما ويحج عاما مشيا على الارجل ويجالس العلماء .

كلما ترددا على شخص ما بمدينة ما إلا ويبدأ ابو زياد في النواح مثل الثكالى ليستدرج ويحرج الاخر، بأنه لم يدق طعاما مند البارحة وان معدته فارغة وان العصافير بها تنتحر، يملا بطنه ويشكر الله على نعمه، وبمجرد الانصراف يسب صاحب الدار على تقتيره وبخله الشديدين، سلوكات تفتح في المخيلة أسئلة محيرة عن المسلم الحقيقي،إذا كانت هذه تصرفات المتأسلمين فما بالنا بالكفار والافاقين والمجرمين ومن على شاكلتهم، الإيمان لا يتولد من التحايل على الناس أو إدخال الرهبة في القلوب وحشو الأدمغة البضة بالترهات والسفر بها في بطون الخيال ولكن بالحقائق الواقعية العلمية، حقيقة أن الرؤوس الفارغة غير المحصنة بالعلم والمعرفة فرائس سهلة للمتاجرين بالدين ومسخريه لأغراض سياسية، ولكن ماذا ينفع العلم إذا كان الإنسان يرزح تحت وطأة الاستعباد والفقر والظلم المتفاقم ،اصعب شيء من كل هذا ألا يجد الإنسان مكانه داخل المجتمع، ألا يجد دورا يلعبه على مسرح الحياة، لكي لا يتحول إلى لا شيء ،إلى عدم، إلى أداة مسخرة تعمل تحت الطلب .

بالجلباب البني والمنديل الاسود المرقط بالأبيض، احتلت مكانه واحتل مكان أبو زياد الشره، وجه مشرق وعيون تتلألأ على مدار الوقت ، بشرة خالية من كل زينة، تسطع هالة من الضوء الهادئ، جعل يقارن بين شريكة العمر وبين الفتيات اللواتي عرفهن في حياة التشرد، أجملهن بدون تبرج، بعض النسوة يفرطن في التبرج حتى يثرن الضحك والقرف، يشبهن السمكات المغموسة في صحن الطحين استعدادا للقلي لكثرة الأصباغ المتنافرة، المرأة تتزين لتعطي اقبح ما عندها، هكذا قالت له عاهرة ضاجعها في ماخور بالقوة ، استعطفته أن يخلي سبيلها ولما رفض تركته يعبث في الحوض دون أي حركة ، عندما تعب نام بجانبها، البطن منتفخة ،قريبا سيصبح أبا، سيختفي اسم حمزة من جديد وسيحل محله ابو مروان أو أبو مريم يراقبها من خلال المرآة الأمامية، تذكر كيف كانت تصده، كيف طاردها بخشونة ورعونة، جمالها عذبه وطير النوم من الاجفان، جمال كفيل بغسل القلوب من كل حقد وكراهية، لم يستطع الصمود اكثر، الضوء الأخضر أشعل والطريق خالية، الفرصة لا تضرب إلا مرة واحدة في العمر، ابلغ الشيخ عن نيته في الزواج، لم يقرا أية مفاجأة على تضاريس الوجه، كأنه على علم مسبق بما يدور في أرجاء البيت الكبير، هل أخبرته سيدة الحسن والجمال، ربما اخبره شخص آخر يتلصص عليه دون ان يدري، فالجدران لها نواطير تماما كما في السجن، بلدنا ارض للنواطير ،الكل يعمل مع الأجهزة السرية وبالمجان.

-اتريد تتزوج.

-نعم

-هل تعلم انها ابنة اخي الذي تعرفت عليه في السجن.

-لا

-على بركة الله يابني لن تجد مثلها ولن تجد مثلك كلاكما مر بمحن شديدة.

تنفس الصعداء، قبل راسه في خشوع وعيناه مغرورقة بالدموع، لفحت رائحة عطر قوي خياشيمه، كتلك التي تعفر جدران وممرات الأديرة وأولياء الله الصالحين المنتشرة في ربوع الوطن، انتابه دوار خفيف ،أحس ان الدنيا تركع تحت قدميه، هارون الرشيد زمانه، تمنى لو تسير الحياة على نفس الإيقاع، ان ينعم عليه الله بعمل محترم يؤمن له دخلا، وبيت يمارس فيه حريته، كلنا يحمل جنته بداخله ويظل يحلم، اركن السيارة جانبا، ساعدها على النزول، الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، صفق الباب الحديدي، دلفا إلى مطعم صغير، القيا بجثتيهما على الكرسيين الفارغين، تقدم منهما نادل يرسم فوق الوجه ابتسامة بلهاء، هنيهات انصرمت، امتلأت المائدة بأسياخ اللحم ، وصحن من المرق، وعصير البرتقال، غير بعيد ثمة شبان يتسابقون خلف حافلة مهترئة للركاب ،حبل من الدخان الأسود يملأ الفضاء، أصحاب عربات اليد يركضون بتهور، تماما كالكلاب الضالة جذبتهم رائحة جيفة متعفنة ،بعد قليل ستفرقع الكلمات النابية، تذكر الايام الأولى في طريق التسكع، توقف عن المضغ لهنيهات واطلق آهة، أيام المحن و الألم والضياع، يحس انه يعيش، يضع رجليه على رقعة صلبة، ورغم الإحساس المبهم الذي يلازمه ،هناك شيء محدد ينقصه، أمور غامضة في هذه الأسفار، لماذا لا يتم إخباره بما تحتويه تلك الأكياس الصغيرة التي يتم دسها داخل العجلة التي ترتاح في الحقيبة الخلفية، تنقل إلى أسماء وعناوين محددة ، أسرار تخفى ولا يريد ان يكون مغفلا، ما القيمة التي تشكلها حتى تعهد بها الجماعة إليه وليس لشخص آخر يعرفونه حق المعرفة، هل لأنه اصبح واحدا من العائلة ،أم لان التضحية به ليست خسارة ..؟أسئلة مطلسمة تمطرق الدماغ تجره الى مستنقع الحيرة، من حقه أن يعلم، أليس واحدا منهم، لقد اقسم على الكتاب بأن يحفظ السر، لن يخون عهدا، انه سيدافع عن راية الإسلام، الجهاد في سبيل الله حتى الشهادة متى طلب منه ذلك.

الشيخ أبو أيوب نقيض الشيخ عبد السلام الباز، يحمل مواقف اكثر تشددا، يؤمن بالعنف وسفك الدماء لحماية الذين من الملاحدة والكفار، فالرسول( ص) خرج في غزوات كثيرة لنشر الاسلام، الاسلام لم ينتشر في بلاد الله بالكلمة والسيف ، سمعه مرة يجاهر بكونه يتعاطف فصائلا متطرفة من قبيل الصراط المستقيم، الهجرة والتكفير، السلفية الجهادية، القاسم المشترك بيه هذه الفصائل انها تكفر بالدولة والمجتمع، معروفة بإصدار فتاوى هدر الدماء ، هذه الفصائل منشقة عن الجماعات الاسلامية التقليدية، الشيخ أبو أيوب

ينصح الاتباع بالعمل بحذر شديد لان أعين السلطة جاحظة، العمل بسرية مطلقة لان العدو اخطر واعنف، أسلحته اكبر من أسلحة المؤمن ، موجود في كل زاوية، يراقب التحركات يحصي الركعات، يلعب مع المؤمن لعبة القط والفار ،بالإيمان القوي النصر على القوى الغاشمة مضمون، فكر مع نفسه الأسلحة التي تمتلكها الجماعة لا تفيد شيئا في هذا الزمن ، أهي أسلحة الإيمان العتيقة، أم أسلحة فتاكة مستوردة من جهات مجهولة، وهل نحن مقبلون على حرب.

-مالك غائب ألا تأكل.

-لاشيء ،تذكرت أيامي الأولى في الشارع.

-انسى وعش حياتك الجديدة وفكر في مستقبل ابننا.

-صحيح.


طوال الطريق ظل العقل مشدود إلى السر الغريب التي تحمله الأكياس المخبأة بعناية، عليه أن يعرف ،ولكي يعرف لابد من جرأة، والجرأة لا تنقصه، السيارة تنهب الطريق نهبا، ركز نظرته عليها واجتاحته نشوة عابرة، لكن ثقل الأسئلة لا ينداح عن القلب، الأفكار المتلاطمة بالداخل تزلزل الكيان، تدافعت في الرأس كركام الاحجار ، وتلاحقت الضربات القوية، توقف الدماغ عن التيهان والشرود، والتيهان صار حاله منذ ركبه هوس حب المعرفة، معرفة محتويات الأكياس المخبأة في العجلات، ماذا يوجد بها ...؟ ليست أشياء عادية طبعا ، قد تكون ممنوعات ، حشيش أو أسلحة أو أوراق مالية ، واستبعد فكرة الأموال لان الابناك ما وجدت إلا لتسهيل تداول العملة رغم ان الجماعة تعتبر فوائد الابناك اعمال ربوية، تبقى فرضيتين لابد من فك طلاسمهما، الأسلحة والحشيش، فالأسلحة جد قليلة في البلاد والحصول عليها شيء صعب ومستحيل إلا إذا تعلق الأمر ببنادق قنص وحتى الحصول على رخصة حملها يمر بتحريات دقيقة تقوم بها الأجهزة العلنية والسرية، مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس، أمور عديدة تغيرت وتبدلت ، نمو السكان في ازدياد كبير، الفقر ولد الجريمة، الجماعة الدينية استطاعت منحه هوية جديدة ورخصة سوق بطرق ملتوية ، قادرة على فعل الاكثر خطورة، بالمال تستطيع شراء العالم، وفي الوطن فرخت عصابات في كل التخصصات ، مهربون دوليون محترفون بمقدورهم إدخال كل ممنوع ، والممنوع مرغوب فيه، كما أن الأجهزة تفتقر إلى التكنولوجيا المتطورة لمراقبة البر والبحر، طابور طويل من السيارات على بعد مائة متر ، سيارة الدرك الرابضة على جنبات الطريق ترسل اشارات حمراء، في بلدنا رجال الأمن دائما يقبعون وراء الأشجار ويفاجئ بهم السائق، يخرجون من العدم ، يرتمون في الطريق ، تسائل عما يجعلهم يستلذون بهذا السلوك السافر، قد يكون فعل المباغتة ذو تأثير سلبي على السائق كي يدفع الاتاوة بدون نقاش لاعتقاده انه ارتكب مخالفة مرورية، الطابور يكبر يمتد الى عشرات الامتار ، السيارات و الشاحنات والحافلات المركونة على اليمين واليسار ترسل أضوائها الخافتة تماما كما في المهرجانات أو الاحتفالات الوطنية، الدركيون ببذلهم الكالحة وسحناتهم المحمرة بالشمس ، يفتشون بدقة عن شيء ما في صناديق السيارات، تفرغ المركبات الواحدة تلوى الاخرى ، يصطفون على جنبات الطريق ، حاملين الأمتعة، عيون خائفة ، حائرة متسائلة، الذين يحملون الممنوعات سيضطرون إلى التخلص منها تحت المقاعد، لقد مر من نفس التجربة مرات عديدة، تقدم منه الدركي مؤديا تحية ميكانيكية يعتقد من رآه أن الوطن تحول إلى فردوس وان موظفيه ملائكة الرحمان ، مد عنقه إلى داخل السيارة كسلحفاة تستطلع الأفق.

-الأوراق...؟

دفع يداه في المرآة الأمامية ، مد رزمة الأوراق ، رسم النكاح وبطاقة تعريف الزوجة، يتهجاها في صمت، تحت ضوء المصباح اليدوي ، تدلت رخصة السياقة من يديه، رخصة في حجم فردة حذاء، اغرب رخصة سياقة في العالم، أما الأوراق الأخرى فإنها لا تقل غرابة ، طاف حول السيارة ككلب جائع يطوف حول فريسة تحتضر، أمره بالنزول، تلملم في مكانه، لطمه الهواء البارد، عيون تنتظر نوبتها تراقب شطحات الدركي، فتح حقيبة السيارة ، طافت بعقله الأفكار، تموجت الدنيا واندفعت الافكار اللعينة ، اشتعلت الحواس بقدرة خارقة، لغط المساجين يأتيه عبر البوابة الواسعة الاحداق التي تبتلع البشر والمركبات ، عبر الدهاليز الضيقة الباردة المضمخة بالنتانة والدود والصديد ، قعقعة المفاتيح تزمجر في الاقفال، تطن في الاذنين ، ابواب الزنازين تفتح وتغلق بشدة لترهيب السجناء، طقطقات الآلات الكاتبة تغثي ، محاضر التحقيق تتضخم ، تكبر وتكبر بالترهات والأكاذيب، للتخلص من الضغوطات الممارسة عليهم من قبل المسؤولين لفشلهم في حل لغز قضية اثارت الراي العام ، يبحثون عن اكباش الفداء وما اكثرهم في الوطن الجريح والذبيح من الوريد الى الوريد، استفاق من الشرود على صوت الدركي يمد له الأوراق ويأمره بالانصراف، صفق الباب ، تنفس تنفسا عميقا واحس بالطمأنينة، انطلقت السيارة تبعث الخدر في الارجل، نظر إليها خلسة ، عيناها حائرة ، والوجه الصبوح هرب عنه الدم، العمر ملطخ بطمي الفاقة، تعلم الاحتراس فكلنا يحمل بداخله شكل الإنسان الذي يريد ان يكونه، ولا احد بمقدوره استعمال الآخر.

الله منقوش على زرقة السماء وفي ظلمة الليل، الله في كل مكان وزمان، في القلوب والارحام، الله موزع الأرزاق بالتساوي، الفقيه القادم من الشعوذة ينفخ في رئة الميتافيزيقيا، يتلو على الوجوه الكالحة قصصا عن الحزن والخراب والدمار ، يبشر بعذاب القبور وسعير جهنم ومزايا الجنة، الحور العين وفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة وحياة رغدة وعيش كريم، المسجد غاص بالمريدين الخانعين والخاشعين، لا تسمع سوى كحات متقطعة وكلمة ( أمين) عندما يرفع الامام المعتلي للمنبر عقيرته بدعوات الفناء على القوم الظالمين والملاحدة والكفار الخنازير، يرصد حركات وسكنات الكائنات المدجنة، لا شيء يخضع لمقاييس علمية دقيقة ، للمستحيل والمجهول والغامض سلطة مطلقة على متعبدين يخشون الموت، ذر الرهبة في حقل الجماجم، ارتجفت الأشلاء من الخوف، دمعت عيون المهزومين، تسقط الأقنعة عن الوجوه الخطاءة، في المساجد الكل يريد التكفير عن السيئات والذنوب، يبحثون عن أحضان دافئة لبضعة دقائق، حين يغادرون بيوت الله ينسون ما سمعوه وما ارعبهم، يرتكبون نفس المعاصي وبعضا من الكبائر، يتكرر مشهد اعلان التوبة في كل صلاة والنفس اللجوجة تمنح الحياة طعما آخر لكن الكتب المقدسة تقطع وريد الأحلام ، الدين يكبل مشوار الانسان بالنقص والعجز، الفقيه علي زعنوف اليد اليمنى للشيخ ابو ايوب لفظته مقاعد الدراسة في وقت مبكر، اختفى عن الانظار وانقطعت اخباره بالمرة لسنوات، ذابت صورة الشاب الرياضي المفتول العضلات في ذاكرة الاتراب، بعض المقربين من العائلة يلتقطون اشارت شحيحة من ابويه تؤكد هجرة الرجل الى مدن الحرية والخبز الوفير تزوج من رومية ثرية وانجب منها دزينة اولاد، في رواية اخرى تجزم انه انتقل الى أفغانستان للجهاد في سبيل الله ونصرة الاخوة المسلمين المهددين بالغزو السوفيتي الشيوعي، حفظ بعض الآيات والأحاديث، تخلص من سراويل الجينز والقمصان، اطلق اللحية وصار خطيبا يؤم الناس، يحاول جاهدا بعثرة الحيرة في الجماجم، يمزق ستائر الوهم التي تعمي الأبصار، يحدث الناس في الشارع بلباسه النقي الطاهر، رائحة المسك تضرب منه، شامة الصلاة جواز مرور الى الافئدة، تقرب من فالصو والتصق به، حارس شخصي اينما حل وارتحل يلازمه كالظل، جميع الحوارات والنقاشات لا تبرح الجنة والنار، سأله مرة ان كان سيطيع اوامر اولي الامر في امور تفوق الخيال والدين والعقيدة، ظل ساهما يفكر في السؤال الفخ، سؤال يحفر نفق التيهان على جمر المعنى في الحوباء، تزهر في حقول الروح جملا متقطعة ومبعثرة حبلى بالأسرار، يفرش في الخلاء سجادة الصلاة يؤدي لله سجدتين ، يترك الوجه المعفر بالوجع مداسا للوقت.



- اذا امرك الشيخ الشيخ ابو ايوب بقتل كافر مرتد وزندسق هل ستنفذ...

- طبعا سانفذ اذا كان القتل يخدم الجماعة والاسلام.

يخرج دفعة واحدة من غمد الاسم المستعار، العيش في بحبوحة طيلة عشرة سنوات اوشكت على الانتهاء، شريط العمر يمر بين العيون يرسم هالات ضوء بألوان عبثية ، دائما يطمح الى طمر مخاوف المستقبل التي تكبر في الذاكرة، الاذن لم تعد تسمع اصوات التنبيه ، الشك قانون الوجود يكبر في المخيلة، اغلب الشيوخ والوعاظ والفقهاء يمتلكون العقارات والسيارات الفارهة، يزورون الاماكن المقدسة ويعودون محملين بالأموال والهدايا الثمينة، اموال الزكاة تتحول الى ارصدة بنكية، جلهم طلقوا وتزوجوا اكثر من مرة، يزدردون النساء كما يزدردون الاطعمة، جميع اللقاءات التي حضرها في القرى والمدن صاخبة بارتعاشات التكفير والتخوين ، في الكليات والجامعات بدا يتقوى الفكر الديني السياسي، الحوارات تجري بالتهديد المتبادل بين الظلاميين والملاحدة، تصنيفات خرجت من رحم مؤسسات العلم الى الشارع، كل مرة تغير الاجهزة السرية وتعتقل العشرات، تخرج المسيرات وتدبج بيانات الشجب والتنديد، حقوق الانسان في الوطن تدق نفير التراشق في فناء الدار ، يتعنثر التطرف الراكب فوق لهيب الاغتيالات، اغتيلت اسماء في الجامعات والاحزاب الديمقراطية، النفوس مشحونة بإراقة الدماء٠

- الكفرة واولاد المجوس القردة دنسوا ارض الاسلام الطاهرة علينا تصفيتهم ، ذبحهم من الوريد الى الوريد لارسال الاشارة.

تسمع اصوات الشعارات لفصيل المتأسلمين، هتافات نارية تدين الشيوعيين والمهطرقين واحفاد ماركس ، بيارق واعلام خطت عليها عبارات ( لا اله الا الله محمد رسول الله) نساء في زي اسود ومناديل تغطي الراس والعنق، رجال ينحشرون في فوقيات بيضاء وسراويل فضفاضة، وجوه ترعى فيها لحي سوداء كثيفة ، تراشق بالتهم يمطرق ساحات العلم والمعرفة، تفرقع كلمات الخونة ، الملاحدة، الرجعيين، الظلاميين، الاجساد تحتك بالأجساد، وهج ونار يتطاير من العيون، اساطير من العداء تشتعل، يحضر الصحابة ابوبكر يخوض حروب الردة ضد العرب المنقلبين على الاسلام، يلوح في الساحة بطولات فخر الاسلام زمن الفتوحات خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، طارق بن زياد ، صلاح الدين الايوبي.... ،ينتصب في الجهة المعاكسة كارل ماركس ولينين ، ماو تسي طونغ، هوشي منه، شي غيفارا ....، حكايات الأجداد والزعماء تستحضر من العدم، تراشق بالسباب والشتائم، ابابيل تمطر الحجارة فوق الرؤوس ، كر وفر ، ملاحقات في الشارع وتهديد بالسحل والقتل، طلبة يتبادلون اللكم ، تتكلم السكاكين والعصي في الاجساد، دماء على الاسفلت، اصابات خطيرة، جرحى ينقلون الى المستشفيات، اعتقالات بالعشرات من كل الجهتين، صراع الطلبة صراع بين الفكر الثوري التقدمي الذي يصبو الى الحرية واخر رجعي ينهل ثقافته من المرجعية الاسلامية ويطمح الى استعادة امجاد الامة الاسلامية لترسيخ دولة الخلافة دستورها الكتاب المقدس، توالت الاحداث وتدافعت، اعتقال عشرات الملتحين الذين يعدون مشعلو شرارة القلاقل، الشيخ ابو ايوب يستدعي الاتباع والمقربين على عجل، الاجتماع المغلق اكثر صخبا ونرفزة وهيجانا، في جميع التدخلات لعلعت كلمة القصاص، تهديد ووعيد بقطع الرؤوس وتعليقها في مخارج المدن، الحرب بدأت، من اين ستنطلق، الرصاصة الاولى معلقة على علامات الاستفهام، الحرب يشعلها الكبار ويؤدي الثمن الصغار والابرياء ، فالصو يستمع الى الضجيج ثاو على اريكة من الاضطراب الداخلي، من فوق روابي النسيان يمر شريط الزمان في لمح البصر، العنف يحتك به من جديدة ، الجو ملبد بالسحب الداكنة وقنابل انشطارية، حين اسدل الشيخ عباءته خفت الاصوات، سطر بضع كلمات في اوراق صغيرة ، الاذعان نائم في خميلة الصدور ، الكل عراة من نقاش التبخيس والتردد، بدا المقربون في الانسحاب مثنى وثلاث ورباع بعد تقبيل اليد، المريدون يحتسون رشفات إضافية من التبعية الجاثمة فوق القلوب، يهرولون في كل الاتجاهات يستعجلون قطاف الشمس، التعليمات و التوجيهات في علم المقربين ، الشيخ ابو ايوب يقيم صلوات على قارعة الرجم والدعاء على الكفرة ، دعوات تسقط من جمرات الغضب على الوطن الجيفة والمهزوم، الطوفان قادم الى الوطن المحجوز في ماخور للدعارة.

فالصو ينال صفرا في علامات التكليف، يرنو الى السماء مثل عصفور اظل الطريق ، يحاور في الحوباء طرقات ومدن مزقها طولا وعرضا، ونساء وشمن في الخلايا فرحا ومتعة وبعض من الترح والتأنيب ، اندفعت في الذاكرة عناقيد الاسماء وازدحمت في الروح اسئلة عميقة ، تبحث في تفاصيل بعض الوجوه والحوارات الشقية والنرفزات ، النساء ترى فيه فحلا يلبي الغرائز ويشعل المناطق المسكون بالبرودة، انتظر طويلا نيل شرف خدمة الجماعة ورد الجميل، تذكر الصناديق التي حملها الى وجهات محددة، راوغ ابوزياد في مرات عدة ، اشترى صمته بالوجبات الدسمة، تحجج بإصلاح اعطاب في السيارة ، ابتعد خارج المدينة خمد المحرك، فتش الصناديق الصغيرة المحشوة في عجلة الاغاثة المفرغة من من الهواء واستعمل ادوات لفصل الاطار عن القطعة الحديدية، تجمد الدم في العروق عشرات المسدسات وخراطيش الرصاص في حجم حبات البلوط ، احس بالعرق يتصبب من مسام الجلد، سال لعاب مفتش الطرقات في الفم.

- ماذا نحمل في عجلة الاغاثة

- لا اعرف

- يمكن ننقل المسدسات والقنابل

- يا الاهي ....هل تتكلم بجدية

- انني اسال

اربكها السؤال المفاجئ والملتبس، ربما لا تعلم اي شيئ عن الاسرار العميقة للجماعة، الكل يبحث في الوطن المستباح عن مكان تحت الشمس، الانتقادات القاسية للنظام و الحكومات الذيلية يدخل في باب كرنفال الحرية الهامشية، كل جوقة تدعي عزف لحن الحقيقة ، النظام منح لأحزاب اليمين واليسار والمتاسلمين وبعض الخلطات السياسية فرصة تدبير شؤون البلاد ، حصدوا شرارة الهزيمة والاذلال ، ينتهون بدون قواعد شعبية ولا مرجعية فكرية ، زعماء من ورق يسقطون تباعا في اختبارات تلبية مطالب الشعب ، بدلوا الافكار والبرامج واصبحوا اشد اعداء الشعب لنيل الرضى والطبطبات، يقال ان الارتواء والرعي من طعام النظام يبدد كل النظريات ويفك الارتباط بالشعب ويطفئ الفوران الداخلي .

شيئ خطير يحضر في الخفاء، الحوارات تزحف منها اشارات الحرب ، الكل يردد في تناغم دقيق وهادف ، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، لا يمكن ان تخطأ العين وجوها ملغومة السحنات، بعد اسبوع طرق باب الفقيه علي زعنوف، استفرد به في الشارع واستحلفه ان يخبره عن الحرب القادمة، وانه يريد ان يشارك فيها، تردد كثيرا واصر له ان الشيخ ابو ايوب يرفض ان يقوم باي عمل جهادي دون التجهيز المحكم والفهم الدقيق لتوجهات الجماعة.
مئات العيون تتلصص من الثقوب تلتقط الاشارات من الهواء ، تعيد ترتيب متناثرات الكلام ، اخد الزوجة والابن في السيارة ، يقطع الازقة سابحا في تجاعيد الصمت ، مند زمان قلمته آيات التوبة لكنه لا يتوب ، امتصت الدماء في غرف التفتيش وخسفت الملامح ، ارقام السجناء يتلوها بصوت اجش سجان ذو الوجه المجدور، السجان الغليظ يحشو الفم بالطعام يضرط بقوة ، يسمع صوت الاضراط ولا يبالي، تغلق الانوف تحاول بجهد طرد رائحة القذيفة السرجية، تهتز السيارة بفعل الحفر، تنسحب من الدماغ جيوش الماضي السحيق، اساطير الفتوة صور باهتة مقشرة ، الليل جاثم فوق المخيلة المشوشة، تتدحرج كرات الاهات في الصدر، ساكنة، صامتة ، الصمت يسكب التساؤلات على أوتار التردد، وضع اليد على الفخذ تفرسها بنظرة استعطاف، يتلمس تجاوبا من أزرار الرغبة الجامحة، لم تجفل ولم تبعد اليد الطائشة، إيماءات مبهمة المعنى تشبه دعوة صريحة للمضي قدما، الجمال يرسم دروبا الى الله، توقف في باحة استراحة لمحطة بنزين ، اسكت المحرك واطفا الانوار، الهدوء يلف المكان الا من اصوات المركبات التي تعبر الطريق، سحبها بلطف وتوارت الطلاسم المشفرة عن دماغ متخم بشتى التفاهات، الله في القلوب ، ضمها بقوة واحس بضربات القلب تتلاحق، الله في السماء، عزف على الشفاه سمفونية الاحماء وانطلقت زفرات الاستجابة، تقاذفته رياح ماضي جليدي وقاسي عجزت كل الشموس والنيران من اذابته، افرش سجادة الصلاة فوق العشب ، انبطحت على الظهر فاتحة الحوض ، الهدوء يهرب من العري ، والليل يقيم الاعراس الباذخة على هضاب المجون، سجلت ارقام وتواريخ على سلة الاهات ، رقصت النجوم فوق الشرايين ، لاحت غيمة حبلى بالأنين انجبت من القسمات العابسة ابتسامة وتعلو الاهازيج، في البداية يكن ممتنعات متعاليات مكشرات، مستعدات لغرس المخالب في الوجوه ، لكنهن يستجبن لنداءات الجسد بسرعة غير معهودة، تكفي صورة لفتاة تمسك بيد العشيق، قبلات مسروقة في وضح النهار، لتتحرك جيوش الاشتهاء وتهيج في المهج الشياطين ، الانسان دائما في حالة نقص جنسي مدقع ، لا حاجة للبحث عن معنى السقوط في مغزى الاشياء ، الجنس جواز العبور الى هويات النساء ، تكررت العملية مع نساء كثر ، مطلقات، متزوجات بالفاتحة، زواج المتعة ، يستعلمن لمدد محددة ويتركن لمصيرهن، طالبات جامعيات في عز الفتوة والاندفاع، تم ايهامهن انهن قادرات على تغيير العالم بتجمهر ورفع شارات النصر والقاء خطب في الساحات والمساجد، في نوبات الصحو من الاحلام العظام المتموجة بالانفعالات يصبن بالتكلس فتزف الحماسة إلى مثواها الاخير، ينقلبن عن القيم والمبادئ والاخلاق الا ما رحم ربك ، يحملهن الى مدن ومهرجانات خطابية، الى لقاءات دينية وسياسية، فالصو يحتضن البندقية على تخوم الخنادق .

- انت زير نساء

- الله اكبر...واما بنعمة ربك فحدث

الطالبة الجامعية اية جاد الله قريبة احد الشيوخ النافذين والمتنفذين في الجماعة المتطرفة، قائدة طلابية متمكنة ، فطنة ، نبيهة، حين تنخرط في النقاش يصمت الجميع ، تتنقل بين المدن لرفع الهمم ونشر الحماس ونقل التوصيات، الفصائل الاسلامية تكتسح الجامعات، لم يكن لها وجود في سنوات الرصاص، الاحزاب اليسارية دفعت ثمنا باهضا في سبيل توطين الديمقراطية ، بفضل السياسة المخزنية تم خلق اجنحة معارضة للطلبة اليساريين وفتحت شعب للدراسات الاسلامية ، قلصت العملية من حضور وتغلغل الفكر الثوري القاعدي، الصراعات داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ادى الى ظهور فصائل متناحرة ، تيار( البرنامج المرحلي) يتهم بقية الفصائل اليسارية بالابتعاد عن الخط الثوري واعتبرهم تحريفيين وبيروقراطيين، جناح ( الكراسيين) تيار النهج الديمقراطي القاعدي... .اما اتباع احزاب الصف الوطني والديمقراطي خشب مسندة، تجاوزتهم المرحلة، تشرذم الفصائل الطلابية ساهم في اكتساح الفكر الرجعي و الظلامي المعاقل العلمية واصبح قوة عددية تمددت افقيا وعموديا عبر الوطن، تضارب الافكار يشعل ساحات مكتظة بالحماقات ، ارتفع فتيل المواجهات الدامية في الصروح العلمية على امتداد الوطن، حروب بالعصي والهراوات، تراشق بالحجارة في الشوارع، مطاردات، سحل ،جلد، سلخ ، اصدار فتاوى اهدار الدم لرسم دروب الى الله في مخاض الجهاد، الفكر المتقدم والرجعي يتناطحان والمخزن يتثاءب ملئ الاشداق ، لا فصيل كتب له النصر ولم ترفع قبعات الاستسلام في ساحة الاندحار.

- ارهابيون .... ارهابوين .... لخوانجية

- الملاحدة الشيوعيين.... الكفار احفاد ماركس .

الظلام يسحق النور، النور يبتلع الظلام ، لاشيئ في الصراعات الطلابية يخضع لمقاييس معقولة ، الدولة تثقن اللعب بدفة التوازنات، طيلة اليوم جالس في السيارة ينتظر امام ابواب الجامعات لينقل اجساما الى وجهات محددة، يهجم عليه التعب والجوع ، تأتيه اصوات الشعارات والتكبيرات الهادرة من وراء الاسوار المحاصرة بالعسكر والمخبرين ، السيارات الموشومة والشاحنات الخضراء رابضة تبتلع عشرات الرؤوس المدججة بالأسلحة، امره شرطي بالابتعاد، الجو بدا يتكهرب، اثناء الابتعاد شاهد شاحنات اخرى تحمل جنودا بخودات وواقيات، الجامعة اشبه بثكنة عسكرية ، تسابقت في الجمجمة صور مدفونة تحت إبط العنف ، شرطي مستكرش يركض ممنطقا بالمسدس، يلاحق طفلا خطف خبزا محشوا باللحم ، لم يستطع اكمال بضعة خطوات، توقف لاهثا محمر العيون، جلس على الطوار يستعيد انفاسه، الطفل يبتلع الرغيف الدسم في شهية.

طلبة يندفعون الى الباب الخارجي، الكل يهرب مرتعبا من مسلخة الجحيم، الابرياء يدفعون ضريبة الحماس الزائد في ساحة النزال الفكري، المناضل الحقيقي اخر من يعتقل، خرجة لاحد الرفاق في حلقات التنابز ولي الاذرع ، كل معتقل ليس مناضلا حسب الاستنتاج السخيف للرفيق ، انهم قرابين يساقون الى قفص الاتهام عراة من الاحترام والتقدير، الحوار بين محجبات يعيد الاستنتاج الوقح والفج والمخزي ، الرفيق المغشوش جاحد وكافر، المخدرات والخمور خربت عقله ، حوار طالبات نقلهن الى العاصة للمشاركة في مهرجان خطابي حول حقوق المرأة ذات يوم ، في الكلام المضخم الذي علقت عليه جمرات البوح تختبئ الحقيقة الضائعة، حاولن معرفة موقفه فتسربل بالصمت، لكنه مهتم بتعقب رائحة الياسمين في الاجسام، امام النساء يحس بالضعف ، يهرب بدون وعي من سجلات افخاخ التوبة النصوحة ، بحثا عن تفاحة ذبلت كمدا في فنجان الانتظار ، تستعرض الانوثة الصارخة بلا حراسة مشددة ، مجردة من العقد و الفزع الاخلاقي ، ان الغواني يغريهن الثناء ويربكهن الرجل الصموت، كلما تكلست الشفاه وادمنت الصمت كلما سهل قطف الثمار المترنحة.
شاهدها تسرع الخطى وسط مجموعة من الطالبات المحجبات ، حين اقتربن تهامسن وفترت الشفاه عن ابتسامات ، العيون تتفحص سائق السيارة المفتول العضلات، احتضنتهن الواحدة تلو الاخرى وطبعت على الوجوه قبلات الوداع ، قرأ المعاني في تلك النظرات والإشارات والأصوات ، الحوارات المقتضبة تنتهي في الغالب الاعم بسوء الفهم، المرأة التي روحها التنافس واظهار علو الكعب مستعدة لأي شيئ ، تصوب نحوه المدفعية الثقيلة ، تلطم الوجه بالمواعظ وعذابات القبور، استحضرت الآيات القرآنية والاحاديث النبوية، التوبيخ يتدلى من تحت الحجاب، تلعثمت الشفاه في فهم التعابير ومجاراة الحوار الشقي، الطريق الى مدن الشمال مرهق وشاق، تناولا وجبة خفيفة في مطعم داخل محطة بنزين ، ظل ساهما يمضغ الطعام ببطيء شديد، النظرات المقتحمة تشعل ثورة في الحوباء، توقظ في رحم الدماء اشتهاء يستغيث، يحصي احجار الرجم على الجسد المكتنز ، دلفت الى حجرة صغيرة اقامت صلاة الظهر، السيارة تقطع المسافات، ظلا صامتين بانتظار عاصفة هوجاء تقتلع جذور التمنع ، يستمعان الى اشرطة صوتية لمقرئ يكاد يبكي من تلاوة الكتاب المقدس ، ابتسمت في المرآة او خيل اليه انها ابتسمت، في غابة صغيرة كثيفة الاشجار امرته بالتوقف ، انعطف يمينا وتوجه الى مسرب طرقي يغرق في الهدوء الا من اصوات العصافير وهدير المحركات المتقطع المنفلت من الطريق الوطنية ، ترجلت ومشت بتواده تملا الرئة بالهواء النقي فاردة الايدي كانما تستغيث السماء، نزعت غطاء الراس ،حررت الشعر الاسود الناعم، حركت الراس يمنة فيسرة، تموجت خصلات الشعر وانسدلت على الظهر وشارفت على الركب، كلما نزعت ثوبا أشعلت نيرانا في البراري ، وتضج العصافير في الروح ، رفرفت بين اعشاش الشك واليقين متأبطة اجنحة الريح، شيطان الشهوة يعوي في الشابة، الفراشة تراقص الحدأة حتما لا تريد تأجيل الافتراس ، سقطت من رحم التمنع حين صهل الوجع ، مرر الاصابع على مفتاح الجسد الدافئ، مفتاح يستعجل شهقة الولوج ، وشفاه تقيس نبض التفاعل ، يلتهم الهدوء الصرخات والآهات تحت وقع زفرات هيكل مشحون بالمواعظ، تلاشى الكنز الثمين لما اشتد الظمأ ، رقصت المسام فوق الشرايين ، فرسمت الضحكات طريقا الى الله، في الافق قمر يطلب المغفرة، الاشجار تمر مسرعة والجالسة في الخلف محمرة الوجنات، غابت النظرات القاسية والجادة، تسائل في خضم الانتشاء وتسجيل متعالية في قائمة الضحايا، لماذا تسرع الشابات الخطى الى مشاوي الاحتراق ، الانسان ضعيف امام ملذات الجسد، نصحته الا يكون ضحية سوء الفهم تحت سماء موبوءة بالظنون ، ليست كما يعتقد ، ثرثرة الجمل الفارغة والمحذرة عكرت المزاج بأساطير وخرافات يوم القيامة والحشر، تصحرت بين اللسان الافكار، المقود يرتج وتتعرق اليد ، ترتفع السيارة بفعل الحفر.

- مالك حزين

- غاضب لان الشيخ لم يكلفني باية مهمة كانه لا يثق بي.

- اهتم بالأسرة والعمل ودع عنك وجع السياسة التي تورث الصداع.

- معقول

غير رايه حين هاجمه سرب من الافكار المفترسة ، افترش سجادة الخوف والتردد، فتش في قول الزوجة متأبطا المعرفة المهلهلة بمقاصد الجماعة، ليس له موقف محدد اشبه بالواقف على الضفتين، اختلطت في المخيلة نداءات الجندي المتردد من صراخات بكماء، استبدل في لحظة عند باب المنزل الملامح المفرطة في الاذعان، فلا زال تحت رحمة الايمان المتذبذب، دفع المفتاح في القفل ، القى نظرة اخيرة على الزقاق ، اغلق الباب، فاصبح من القوم الصامتين.

توقف الزمن في الشارع، ترسم الصدمة في المآقي حلات الذهول، نشرات الاخبار في الراديو و التلفزة تذيع قراءات قرآنية، يزأر الخبر الفاجعة فوق جدار الدهشة ، ملك البلاد توفي بأزمة قلبية، المذيع يجهش في البكاء ، يتسلل الى أنفاس الشرايين، في سماء موبوءة بالتجاذبات، بكاء يستفز المشاعر، تستعرض مناقب وتاريخ المرحوم، تستعاد الامجاد والبطولات، محطات صعبة من تاريخ الوطن، المذيع متواجد في التلفزة مند عقود، اذاع الافراح والاتراح، يغمض العيون الضيقة، يعصر ارنبة الانف في محرم ورقي، يرتفع النواح بأصوات مسيلة للدموع، لكن لا احد يصدق، أمات الملك ، تكبر القشعريرة المطلية بالارتباك، تجتاح الوطن سماء من الغيوم الكئيبة، يعاد الخبر الفاجعة عشرات المرات، تناقلته قنوات عالمية، نكست الاعلام، خرجت المسيرات تبكي الفقيد الكبير ، وجوه غارقة في الذهول في شوارع تتصبب دمعا ، فالصو يعبر طريقا مزدحما بالأجساد المترنحة والشاردة الاذهان، انهكتها فصول الانتظار، لفظتها مكاتب النسيان بلا اسماء، اجساد شاخت على خارطة الضياع تحصي اعواما منسية بين دفتي الخطابات، يرتفع شيئا فشيئا صوت متهدج، سيارات خاصة، حافلات ،شاحنات تشحن المصعوقين الملطخين بسخام التصفيق ، الى العاصمة بحثا عن الظل المفقود، عن وطن متساوي الاضلاع، الاصوات جفت في الشفاه، السلطات معبئة توزع صور الراحل، في المقاهي رؤوس يتابعون الاخبار بتأثر بالغ، ورؤوس مصنوعة من احجار اللامبالاة .

- مات الملك....عاش الملك

من بين ركام الاحلام وحصار وسخط السنوات، ضمدت بعض الجراح، وخلق بعض الاجماع في لحظة فزع، الموت يعيد ترتيب الاوراق ، تختفي الآراء المفترسة والمتعصبة، الاعين مشدودة الى الجهاز تقضم الصور الملونة التي تاتي عبر الاثير، التوقيع على وثيقة البيعة، يوقع الامراء وكبار الدولة، مكسوري الخاطر والانفاس، النهار طويل ونور الفجر قادم بعد مغيب الشمس، الملك الشاب يتلقى التعازي، الموكب الجنائزي الضخم ينطلق الى المقبرة، حشود غفيرة على طول الطريق، صراخ ،عويل، لطم على الوجوه والصدور، الراحل يسكن وجدان الشعب الوفي، الاحساس باليتم يرقص على الصفحات ، المذيع يضيف ملح الاخلاق في التعابير، يحفر الخنادق في الارواح التائهة،( مات الملك....عاش الملك).

تمر الايام رتيبة محملة بالحداد والنسيان، ازدان فراش فالصو بولد ذكر، اصبح سائقا محترفا، افتتح للزوجة محلا للملابس النسائية في احد الاحياء الاهلة بالسكان، ، ازداد نشاطا ومعرفة بأسرار الطريق، ينقل الشيوخ الى اماكن محددة، مرشدات، واعظات، طالبات تربين في عنوسة الشعارات وحقنن بفتوحات الامس، جميعهن ينشدن اغاني الغزوات من ترسانة دولة الخلافة ، كل شهر يتلقى مبلغا ماليا محترما، الجماعة تقوم بالواجب، الشيخ ابو ايوب ينفخ في كير الهيجان، فوق طاولة محشوة بالذخيرة حين ترقص المدن على شفير الابتذال، يغرس في الاوردة وصايا الخالق قبل هلاك جنود المؤمنين ، عاقرة شفاه السياسيين عن ولادة الربيع، لا زعيم يرفع مسودات الرفض، الكل عراة من لغة الممانعة، وحده المسلم يحتسي جرعات إضافية من الوجع، يقيم صلوات الجنازة على نعش الوطن بالتكبيرات في المساجد، تطلق صرخات القيامة في الشارع العام، المخبر في كل زقاق وزاوية، يلاحق الهاربين من طقوس الانحناء، استدعاءات ، تحقيقات، اعتقالات عشوائية لقص الاجنحة، حجز سكاكين وسواطير، تظهر الصور في الجرائد والتلفزات، تعاليق تدغدغ العواطف ، تحرف

هيكل المعنى ، ينشر الهلع ، الخوف في صفوف الساكنة و الجماعة، يرتفع صوت المطرقات وتأتي التكبيرات، الجالس فوق المنصة بالبدلة السوداء يلتمس الهدوء، الفقيه علي زعنوف يقبع في السجون، لفقوا له تهمة الاساءة للرموز الدينية الوطنية ،وقف امام القاضي مرفوع الراس، جردوه من الطاقية، المتلحف بالسواد يلوي الاسئلة لانتزاع جرعة اعتراف من مخالب الندم، القاعة غاصة بالجماهير الغفيرة، عرض مسرحي ردي الاخراج، يقتات على التهم الجاهزة المضمخة في المحضر المطبوخ على نار هادئة ، يقلب المحضر ورقة ورقة، عشرات الشرطة تحرس المجررم الخطير، الكل جاء لينال فرجة من موسم الحصاد،انهالت التهم على ظهر الملتحي المعتقل في حالة تلبس،يردد بصوت جهوري، فليسقط الفساد والمفسدين، ينادي على الثورة، انتهى في مصب البرودة في سراديب التحقيق، المطرقة تنادي على الهدوء، عشرات البدل السوداء ترافع، تمزق محاضر العسف وانتهاك الحقوق، يسمع من فوق المنصة فرقعة الحكم الجائر، يخلع عن القاضي حروف الاحترام ويصرخ.

- الموت لازلام النظام

- الموت للخونة

ابو ايوب يوقع على تأشيرة الجهاد، يرسم طريقا الى ساحة المعركة، يجلد منكسي الهامات المتسللين بجانب الحائط، زعماء ذووا ألسنة مثقوبة ووجوه متعددة المقاصد، يرعدون ولا يمطرون، يقدمون الولاء لقاضي الزمان منزوعا من الكبرياء، تغسل احلام الشعب على حبال الوهم، تستيقظ من الرماد القلوب الظامئة للحرية الكاملة، القرآن دستور جنود الله هتف ابوب ايوب، الكلمة جمرة حارقة تزفر حمما ولهبا، تنشد الخلاص في ملحمة الوجود، تنادي للثورة والانتفاضة على المرابين ولصوص الشعب، المطلب كبير والطريق طويلة ومظلمة، ارتفع منسوب الصدامات في مؤسسات العلم وفي الشارع، طعن وسحل، كر وفر، صمت ،رهبة ،خوف، الحالمون بوطن يتسع للجميع يستعيدون على قارعة المقاهي احداثا وسمت تاريخ الوطن، انتفاضة (كوميرا) شاهدة على القمع الوحشي للمخزن الذي نشر قوات الجيش والمركبات والمدرعات في الشوارع ، شنت حملة اعتقالات في صفوف النقابيين وقاداتهم وفي مقدمتهم نوبير الاموي ، امتد الاعتقال الى صفوف الجماهير، لعلع الرصاص وحصد الارواح بعشوائية، ردا على الاحتجاج العام الرافض للزيادة الحكومية في الاسعار الاستهلاكية، غرقت المدينة في حمام دم ، اختفت الجثث ولم يظهر لها اثر، وارتفع عداد المختفين قسرا، لم تجن الرؤوس الحالمة سوى كمشة من سنابل الخيبات.

- لي باغي الجنة خصو اناضل عليها.... حتى لين نبقاو عبيد الدولة الفاسدة.

- المخزن اقوى منا

- ايماننا اقوى من المخزن



فالصو يناقش الثورة والثوار، ارتدى عباءة الواعظ والمرشد الديني، ارتقي في سلم الثقة، ابو ايوب يوشحه بوسام فارس الايمان، شباب كثر من الجماعة اعتلوا عرش الموت في دول الكفار، آخرون رجعوا من الغزوات يحملون النعوش فوق الاكتاف، متمرسون في استعمال الاسلحة وصناعة المتفجرات، عيون تتقد شررا يبحثون عن حتفهم لنيل الشهادة ، يرفعون في واضحة النهار راية الذبح من الوريد الى الوريد، جميعهم تخرجوا من عباءة شيوخ فتاوى القتل والسحل، حيوانات ميتافيزقية مسلوبة الارادة، ولدوا من بطون الخرافات يحلمون باقتلاع جذور الخطيئة من الادمغة والكراسات، يمضمضون صباح مساء بطولات وامجاد الاسلام العظام، القعقاع، سعد بن وقاص، البراء بن مالك، النعمان بن مقرن، صلاح الدين الايوبي.. اسماء كثيرة تمطرق الادمغة، موتى في سبيل تثبيت الاسلام، ملعونة الحياة التي تحيى على الخوف من الطاغية، الشمس لا تشرق في الادمغة المغلفة بالأساطير والخرافات، توقف الزمن عندها في كهوف العصور القديمة، لا يستطيعون بالمرة الانعتاق من رائحة الدم، الشر يعاقب بالقتل ليتحرر المؤمن الصالح من الخوف، لا حاجة للتفكير في الثواب والعقاب ولا اشهار الآية الكريمة ( من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا) كلمات الله اعلنت العصيان ، الفرق بين الحياة والموت يتضاءل، يكفرون البشر والحيوان وحتى الشجر، يهرولون وراء الريح ولا يرون سوى الظلام ، استعرضوا بعضا من الفتوحات والغزوات بفخر شديد ، اعدام بالرصاص، طعن من الخلف ، سحل، توقيع عاهات مستدامة ، جز اعناق مومسات وشواذ في حلكة الليل، طلبة ، اساتذة ، رجالات السلطة، اهدار الدم من الفتاوى المستحبة .

سعيد حيدر، محمد الابيض ، صلاح عزيز، سمير اسماعيل، عبد القادر خشان، سلافة بنحمادي، سلوى القاري، نورة الفلاح، شرسوا الطباع، متيمون بالتنزه في الاحمر القاني اللانهائي، مندفعون حد الهيجان كالثلج ينتظر الصيف للذوبان، استعصى عليه كبح الجموح الزائد عن الحاجة، النقاش يحتدم على وسائل الرد على زناة الليل وسلب الممتلكات ، لا حاجة لوقف دخان الروح المشتعلة.

- نحن لا نطلب الاذن على تنفيذ شرع الله في الطغاة .

- وماذا تطلبون

- نحن نطلب الدعاء لنا وعلينا في الصلوات لينصرنا الله على القوم الظالمين.

-....

يظهر بعض الرضا رغم الفوران الداخلي ، الشفاه مغلولة تحت نعال التردد ، فلا حاجة ان ينضح الوجه بغبار الهزيمة امام الاشقياء، ولا حاجة لتبخيس النوايا، كتيبة في ريعان الشباب منذورة للاحتراق المبكر في ساحة ملغمة بالاختلاف، شقت مند الصبا في الارواح الأنفاق والحفر المظلمة ، تعانق فرحا آخر همس يطلع من الجحيم ، بحثا عن الفناء الخالد في نهاية النفق، يشتهون القتل والسبي والخراب والدمار، السماء حتما ستمطر دما من غبار الغزوات ، ان تكون في الصفوف الامامية معناه ان تحسن التصرف، فالكل يبحث عن شيئ ما في مواكب الايمان، الشابات المحجبات اكثر اندفاعا وحماسا، يطلقن زفرات الانتصار من صراط الشهوة والآهات ، يركضن في حقول الضياع حاملات الكفان ، محجبات تفوح منهن رائحة الخناجر وإيماءات الطعن، يتحدث بلهجة المحارب القديم، في تجاويف الكلمات تقرع طبول حرب الردة .

تصدح التكبيرات في المساجد، طائرات تصطدم بناطحات السحاب ، تتلى آيات على قارعة التشفي ، عدو الشعوب المستضعفة يجلب الدمار الى البيت، البناء الكبير المعلق في الهواء ينهار في لمح البصر، تلتهمه سحابة من نار، حمم، دخان وسخام ، اجساد ترتمي في الفراغ من علو شاهق في زحمة الانتحار، الانسان يهرب من الموت الى الموت، لم يكن من ضرورة للهرب، رائحة الموت تنتشر في كل مكان ، الشيطان الاكبر يتلقى الضربة القاصمة، يتلقى النار في صيوان الاذنين، يقيس جروح الاوطان، عيون مشدودة الى التلفاز تلتهم الاخبار العاجلة، فوق السحنات تسبح الصفعة ممزوجة بالرعب والدهشة والمرارة والإحساس بالصدمة وبعضا من الفرح يلهو على هضبات القشعريرة ، المطلوب الاول عالميا( بن لادن) وراء التفجيرات الارهابية، الرعب جاثم فوق القلوب.

- الله اكبر الله اكبر

- شيخ المجاهدين يضرب الشيطان الاكبر.

القائد يحصي القتلى ويعلن الحداد ، في عينيه بقايا شظايا الدخان الاسود ، يتدرب على ابتلاع الصفعة، يفكك بيانات التضامن والشجب، يخيط بالصراخ والتهديد الدمار المتفجر في الاشلاء، الحرائق مرت من تحت العجرفة، الطاولة المستديرة مكتظة بجلسات الأمم بين المهم والأهم تسطر ردات الفعل، الاستنفار في العالم كبير، الانتقام سيكون اكبر، الغزوة اشعلت جمهرة المسلمين بأنخاب الانتصارات، ابو ايوب يتلقى التهاني ، تكتب الغزوة على ظهر النجوم، يكح كثيرا ويبصق دما،لم يبق منه سوى هيكل عظمي ولسان سليط، يعزف من فوق المسطبة ولادة الحرية، الكل يردد في تناغم وتنسيق محكم، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، فالصو يقف شامخا بجانب الشيخ،على اهبة الاستعداد لتنفيذ الاوامر، لم يعد مترددا كما في السابق، قبل اشهر وضع امام اختبار صعب، طرق عليه باب المنزل وامروه بالخروج،رأى وجوها معروفة ونظرات قاسية، ركبوا السيارة وتوجهوا الى خاردج المدينة، بيت مهجور منعزل في الخلاء ، رائحة عفنة تملا الحجرات ، يمشي بتؤدة وهدوء، تستبد به احاسيس شاردة ،أغصان يابسة تئن من الدوس، نبشت الارض بالايادي، سحبت اكياس محشوة بالمسدسات والمتفجرات، تسارعت الأنفاس، فتح صندوق السيارة ونقل الكنز الثمين ، غادروا تحت جنح الليل الطويل ، الجالس بالمقعد الامامي قائد الكتيبة مزهو، ظل يرشده على طول الطريق الى مكان التفريغ، توقفا لحظة عند مدخل الحي الطيني، تدافعت في الدماغ ذكريات الطفولة والشقاوة ، ذكريات مدرجة في لائحة النسيان، حي الجعبور ، انفلتت بعض الاهات ودغدغت الاعصاب، عشرون سنة لم تطا قدماه الحي، شاهد مرات عدة الام تتردد على محلات تجارية، تشتري الخضر في السوق، كمشة عظام تتحرك بتثاقل، سد الطريق فخافت ، هرولت بعيدا ووقفت قرب بائع توابل، خانتها العيون، حين القى بالاسم على المسامع توقفت وركبتها الدهشة، اقتعدت الارض من هول المفاجاة، تفرسته بعناية ، مسدت اللحية الكثة، تغير كثيرا ، نسخة طبق الاصل من الاب، احتضنته مثل طفل صغير، اغرورقت عيناها بالدموع، قبل الراس واليدين وطلب الصفح ، اباه توفي بعد مرض عضال، السجائر والممنوعات خربت جسمه، قرابة السنة طريح الفراش السرطان اللعين اكل رئته، وفاته لم تحرك بالدواخل اية مشاعر، ظل صامتا يريد ان يشفي غليلا من لذة الصوت الحنون ، اخوته يعملون في الميناء اصبح لديهم مركب صغير رزقوا بدزينة اطفال، اختاه تزوجتا من رجلي تعليم، لم يبق معها سوى اخر العنقود تزوج حديثا ويعمل محاسبا في شركة، سالته ان كان يتذكر اشرف الصغير،ابتسم ولم ينبس ببنت شفة ، اخبرها عن الزواج والابناء والعمل، سائق عند امام مسجد ، تجنب الحديث عن تغيير الاسم والنسب، ضحكا كثيرا حين سالته ان كان لايزال يحمل لقب فالصو، مشيا كثيرا حملها بالسيارة على بعد شارع من الحي، دس في اليد بضعة اوراق نقدية ووعدها بالزيارات، تسمرت في المكان وراقبته يبتعد حتى اختفى عن الانظار.

- الله يرضي عليك يا بني

- اه

استعاد اخر كلمات بالدمع والحسرات، لم يحضر الجنازة ولم يتلق العزاء، سيدة محجبة من حي الجعبور اخبرته بوفاة الام حين هم بالدخول الى مسجد ، احس بالدوار وغصة في الحلق، يزور القبر بين الفينة والاخرى، يتلو بعض الايات القرآنية طلبا للرحمة والمغفرة، دموع ممزوجة بزخات الحنين، ساهم يحدج الباب الخشبي الذي يصدر طنينا عند الفتح ، خيل للحظة ان الام ستطل وتنادي عليه، ينقب في السحنات بحثا عن سحنة قديمة ، رجال ونساء يسرعون الخطى للمنازل، في الساحة الفارغة تتكدس العربات المجرورة واكوام الازبال، بعض الجياد الهرمة ترعى في المخالي المعلقة في الرؤوس ، الدور السكنية تقيئ المياه العادة بغزارة، لاشيئ تغير سوى المزيد من البنيات النابتة في جنح الظلام، على الطرف الاخر من الحي عمارات ومحلات تجارية ومقاهي، دكان العربي مصلح الدراجات الهوائية استقبل محلا للوجبات السريعة، الشجرات المثمرة في منزل امي حادة ماتت واقفة، ثمة ضوء يتراقص من الداخل ، نبت بشر جديد وسط الدم والدود والصديد، تصفح عشرات الوجوه المارة على مقربة، وجوه غريبة، تهتز السيارة بين الفينة والفينة،صفق الصندوق وغادرا حي الجعبور.

- اما نحن واما الكفار والقردة

- الحذر واجب والاندفاع لا يفيد

الانفجار المباغث في صالة الانتظار يجز الرقاب، تناثرت اشلاء الاجساد، صراخ ،انين ، هرولات خارج الفرن،المارة يصطفون على جنبات الارصفة،تختلط رائحة البارود برائحة العطور ، تختنق الساحة القريبة بالمتفرجين ، بسرعة البرق تزايد عدد المتحلقين يمتطون الحسرة والخيال الجامح ، اصيب البعض بالسكتة الخرسية، انواع الطيف الامني تلاحق السراب، نصبت الحواجز الامنية، نزلوا من السيارة بالالبسة الناصعة البياض في الايدي ثمة حقائب صغيرة لجمع العينات من موقع الجريمة، شرطي يلاحق ملتحيا في زقاق جانبي، يمسك بياقة القميص، كرة نارية تشتعل في الهواء، يندفع الشرطي في الفراغ بقوة الانفجار،ملقيا على الظهر بدون حراك ، يرفع السبابة في السماء يلفظ اخر انفاسه، من اختار الدفاع عن الوطن يرى نفسه في كل لحظة ملفوف في الكفن ،على غفلة يشتهي الموت حين ابصم بالعشرة، يلملم الخطى ويسير مرفوع الهامة على درب الخطر، سيارات تقطع الطرقات بسرعة جنونية، صفارات الانذار تصم الاذان، المدينة تتلون بلون الدم ، ترسم الورد شوكا وتغازل الموت، هجمات على سفارة اجنبية ، طعن اجنبي بالسكين في حي راقي ، تفجيرات متفرقة مكانيا موحدة زمانيا، شباب في مقتبل العمر ممنطق باحزمة ناسفة ، يرفع عقيرته بالتكبيرات، يضغط على الزر الخطوة الاولى نحو العبث، يكون الملتحي المتشدد او لا تكونون ، سقطت جميع الأقنعة والرعب ينام على الرصيف يستظل بالذبيحة والنزيف، تنتفظ اقلية تعيش على القهر، تحلم بدولة الخلافة على مسطبات الدم وتبايع شيوخا خرجوا من العدم لا يحسنون من شيئ سوى اهدار الدم ،شاحنات خضراء تقيئ اجسادا فولاذية، تطوق حي الجعبور، حواجز امنية وتدقيق في الهويات، اخراج الساكنة بالقوة، اعتقال الشباب والملتحين، مطاردات للمطلوبين على ذمة قضايا اخرى، في جنح الظلام اقتحمت قوة خاصة مقنعة حيا في مدينة اخرى، انخلع الباب بقوة الضرب، رؤوس تتدلى من النوافذ، القعقعة العالية تستحضر الخوف والرعب في الادمغة النائمة ، سحبوا فالصو من غرفة النوم عاريا الا من التبان، الكيس فوق الراس والايدي مكبلة الى الوراء، حملوه الى سيارة مصفحة، اختفوا في ظلمة الليل.


انتهى التنقيح يوم 1-5-2022



#الحسان_عشاق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صدور رواية ( الولي الطالح بوتشمعيث)
- زمن الاحتجاج
- صائد المتشردين
- سفاح بحيرة الضفادع
- قاتل اخر الليل
- متناضل في المزاد الانتخابي
- بوشخرا زعيم عصابة مناعي الخير
- الجعواق واعوانه وموقعة شبكات التواصل
- فلفول والنوخو وفوفو حراس مملكة سدوم
- حفار القبور والعجائز الثلاثة
- الطاكسي 69 والديوث
- رواية ( حفيان الراس والفيلة)
- السياسي والحمار
- مول الزرواطة والبائع المتجول
- موعد مع الموت البطيئ
- مسيلمة الكذاب
- المستشار الكارطوني ومسكر الماحيا
- رواية اقطاعية القايد الدانكي
- بولحية ولد رقية
- فلفول كبير المفسدين


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسان عشاق - رواية ( الارهابي)