أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عفيف إسماعيل - لقد عبروا النهر














المزيد.....

لقد عبروا النهر


عفيف إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 7206 - 2022 / 3 / 30 - 20:08
المحور: الادب والفن
    


قالَ لي جدي:
"عندما عبرنا النيلَ الأزرق إلى ضِفتهِ الغربيةِ
لم نرّ غير بيوتاتٍ طينيةٍ متناثرة وأكواماً من الحصى

والريحُ تلعبُ بدواماتِ الغبارِ التي تهبُ فجأةً هنا
وهناك
ثم تنطفي مثل نيرانِ البدو الرُحل"..
عندما تعبنا من المشي
قالت لي جدتكُ "دعنا نرتح قليلاً هنا تحتَ ظل شجرةِ السنط حتى العصر
ثم نواصلَ الرحيلَ لنجدَ مرعى أفضلَ لأغنامنا"
لكن..
..
في ذات المكانِ وُلدت أُمك وخالاتك وأخوالك
وانت وكل اخواتكَ واخوانك
فهذه البلدةُ الحبيبةً
المسماةُ الحصاحيصا..
قد تظنها كبيرةً بعددِ حروفها الخادع
لكنها صغيرةُ.. صغيرةُ بلا أسرارٍ
عند الحلاّق
أو في استاد كرة القدم
أو في العرضَ الثاني بالسينما الوحيدةِ تجد كلَ أخبارِها
..
لا شيئاً يميزني عن جوقةِ أطفالِ الحي الأشقياء
غير ذاك الهزال الذي يبرزُ عظامي الناحلةَ مثل هيكلٍ عظمي تغطى بجلدِ ملي بالخدوشِ
نفعل كُل شيء وفقَ بوصلةِ نزقٍ طفولي خفي يسكنُ ارواحنا
ولا نأبهَ كثيراً لتحذيراتِ الأمهاتِ الطيبات

الحق....

كانت قائمةَ الممنوعاتِ الطويلةِ التي نحفظها عن ظهرَ قلبٍ هي خارطةَ اكتشافنا لكنوزِ الحياة
وأول تلك الممنوعاتِ ألا نقربَ النهرَ الا في رفقةِ الكبار
في طقوسِ الختانِ والاعراسِ
أو الاحتفاءِ بميلادِ طفلٍ جديدٍ
أو نرافقَ الجدات لتقديم قرابينهن المبهمةَ لآلهة النهرِ التي لم نرها مطلقاً!
أما ما كان يثيرُ حماسنا لتلك الضفاف فهو أن نتسلقَ أشجارها الضخمة ذات الظلالِ الوارفة
أو نملأ أعيننا بالنظر لجروفِ الخضرواتِ الطازجة
التي تنامُ بدعةٍ وادعةٍ مثلَ قطيفةٍ مخمليةٍ إيرانية على الضفةِ الشرقية..
ونستنشقُ روائح البخور ِالمنعشةَ التي تفوحُ بلا انقطاعٍ من ضريحِ أحدَ الأولياءِ الصالحينَ..
ونرى الأسماكَ التي تتراقصُ في سلالِ الصيادينَ..
وتلك التماسيح التي تتشمسُ بكسلٍ على رملِ الجزيرةٍ الصغيرة في انتظارِ طيورها..
واحياناً نبصر افراسَ النهرِ الضخمة التي تأتي في موسمِ الفيضانِ
ونتفرجُ لساعاتٍ طويلةٍ على "البنطون" الحديديِ مثل سفينةِ نوحٍ ينقلُ بين الضفتين الناسَ
والانعامَ
واللواري..
ونتساءلُ كل يومٍ بحيرةٍ: لماذا لا يغرق!
كانت تفتنا الرمالُ اللامعة والقواقع
وتلك القلاعَ الرملية التي نتفننُ في بنائها ثم تأتي الأمواجُ لتبتلعها كلها في لمحة عين..


ذات نهارٍ صيفي كنا نتراشقُ بالمياه
ونلهو كأننا نملكُ النهرَ والضفتين
وتلك السحب العابرة التي تتشكلُ مثل قطيعٍ من الزرافاتِ الراكضة
عندما صاح أحدُ الرفاقِ: "دعونا نتسابق للضفةِ الأخرى"
ثم قفزنا مثل دلافينَ لاهيةً في الماء صوبَ الضفةِ الشرقية
وتركنا خلفنا صوت مزمار الصيادِ الخشبي الذي كان ينادي به اسماك البلطي
والقراميط
وخشم البنات،
كأنه مؤثرُ موسيقي جذاب يتواتر مع ضرباتِ اذرعنا المتلهفةَ للانتصارِ
كنتُ في الصف الأخير للسباقِ عندما أحسستُ بتلك اللسعةِ الكهربائية
فأرتعدَ جسدي وثقل وتصلبَ وغاصَ نحوَ القاعِ..

عند الشهقةِ الأولى
على غير العادةِ اضطربت أنغامَ المزمارِ الخشبي الطروبة
عندَ الشهقةِ الثانية
اختفى صوتُ المزمارِ تماماً
في شهقتي الثالثة
رأيتُ وجهَ أمي وهي تحذرني من السباحةِ في النهرِ
والملائكةُ تحملُ بين اجنحتها النورانية جسدَ صديقي في الصفِ الأولِ في المدرسةِ الابتدائية
الذي ابتلعهُ النهرُ قبل عامين..
..
..
افقتُ على همهمةٍ مبهمةٍ وغابةٍ من الأعينِ المذعورةِ التي تحدقُ في وجهي
ثم تبتسمُ عندما يشتدُ سعالي ويخرجُ الماءُ من فمي وانفي
والصيادُ الطيبُ راكعُ مثل قديسٍ يدلكَ لي صدري؛ ثم قال لي:
""أنت محروسٌ برقياتِ الأسلافِ.. لقد ادركتُكَ قبل أن تغوصَ في القاعِ
أو تجرفكَ الأمواجُ بعيداً"
..
..
لقد كبرتُ وأشتعل العمرُ بالسنواتِ أيها الصيادُ الطيبُ
وجرفتني أمواجُ المحيطاتِ بعيداً عن الحصاحيصا بلدتي المحبوبة
بعيداً عن بلدتي المحبوبة الحصاحيصا
لقد طفتُ كل القاراتِ، وزرتُ عجائبَ الدنيا السبع
لكنها لم تسحرني
كتلك اللحظاتِ الساطعة برفقةِ أصدقاء طفولتي على شاطئ النيل الأزرق.



#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوكب السودان .. وعزلة جائحة كورونا*
- المُعلّم.. أسرَى إلى البُطانة.. وأدّاها نمّة!!
- ما بين الناشط الثوري والإداري التنفيذي
- النساء ذوات الوشاح الأبيض*
- *الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا
- ارح مارقه*... والترميم الثوري
- -ارح مارقه-*... والترميم الثوري (1)
- *الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا..
- اسامة الفَراح عوان الحِله
- وتَبقَى طفلةُ العصافير الموسميّة*
- وداعا النقابي الجسور وسيم الروح فاروق احمد -جدو-
- من وصايا الشهداء
- تَشبَهي العيد في بَلَدْنا
- صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*
- وداعا ..زوربا السوداني(2-2)
- مُسامرة من وراء المحيط..محمود.. أرق المهووسين
- وداعاً زوربا السوداني1
- لوحة2
- مُسامرة حوارية مع الفنانة المغنية د. ياسمين إبراهيم
- رنين الحنين على أجنحة نوارس عائدة أو نغم أخضر


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عفيف إسماعيل - لقد عبروا النهر