أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض كاظم - بيت الشجعان















المزيد.....



بيت الشجعان


رياض كاظم

الحوار المتمدن-العدد: 1668 - 2006 / 9 / 9 - 08:11
المحور: الادب والفن
    


في نيويورك ستي ، وعلى وجه التحديد في منهاتن وبروكلين ، تنشط تجارة فنون الرسم التجارية الرخيصة الثمن ، وهي في الغالب نسخ عالية الجودة والأتقان ، تصور طبيعة الشرق الغامضة والمثيرة بما فيها من قصور مسحورة وحريم وخصيان وخيول عربية جامحة ، يقبل على شرائها الكثير من السياح وهواة الفنون واصحاب المتاجر ، ومعظم تلك الأعمال الجميلة خرجت من اصابع ( ابو عوف ) (المصور) كما يحب ان يسمي نفسه ، أو ( الآرتست ) كما يسميه من يعمل حوله من مساعدين واصدقاء ، تهكماً أو اعجاباً ، فبراعته بنقل الطبيعة الشرقية والوانها الساخنة وروحها تجعل الكثير من زبائن الطبقة المتوسطة ، يقبلون عليها بشغف باعتبارها تحف فنية سيكون لها شأن في يوم ما وقد تدر على مالكيها ثروة لا يستهان بها ، لكن الآرتست ابو عوف لم يكن يبدو مهتماً للمجد الذي قد تجلبه له اعماله ، بل كان همه ان يوفر منها احتياجاته الشخصية التي تمكنه من العيش حراً واعزباً في واحدة من اجمل واقسى مدن العالم .
ففي البناية المرقمة 123 التي تقع على مشارف بروكلين ، تخرج معظم اللوحات التي يمهرها ابو عوف بتوقيعه المميز ، الذي يرسمه بخط النسخي ويتركه في اسفل اللوحة ، دلالة على انه الوحيد القادر على جذب انتباه الزبائن وجعلهم يفتحون محافظهم ويدفعون بسخاء .....
تتكون البناية من ثلاثة ادوار ، في الدور الأول ( المعرض ) وتديرة ( ليسا حسن ) وهي امرأة عراقية كلدانية في منتصف الأربعينيات من عمرها ، مازالت تحمل آثار جمال غابر تحاول ان تعيد نظارته بالمساحيق والتدليك من اجل جذب الزبائن كما تدعي ، او من اجل زوج قد يحل ضيفاً على حياتها الكئيبة في اية لحظة ويغيرها ، فهي رغم مرور عشرات الرجال في حياتها وعلى جسدها مازالت تنتظر الفارس او ( الجنتلمان ) الذي يتفهم مشاعرها الفياضة ورغباتها كامرأة تعشق الطبيعة والسماء والآلهة .
وفي الطابق الثاني ( المشغل ) الذي يعمل فيه ( ابو عوف ) يساعده بضعة رسامين عراقيين من خريجي اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ، ويمتازون بحرفية عالية في التلوين وابتكار المواضيع ، ويخضعون مباشرة لتوجيه الآرتست ، فهو الأدرى باذواق الزبائن وحركة السوق ، حتى فاقت شهرتهم فناني شوارع نيويورك وخاصة في المواضيع الشرقية ، لكن أي من لوحاتهم لم تجد طريقها للمتاحف ، لكونها اعمال تجارية تخضع لرغبات الزبائن ومزاجهم الغريب .
اما الطابق الثالث فهو مكان سكن العمال وشقة الآرتست ببابها المميز من خشب ( الأوك ) وطلائها الماجن الذي يشي بذوق نيويوركي ، لا يتناسب مع شخصيته الشرق اوسطية ،( المنطوية والمكتئبة ) ، لكنه لم يمانع كثيرا بوجود تلك الألوان المجنونة وبقي يعيش وسطها كجزء مكمل للعمل الفني الذي يقوم به ..... وحينما يحدث ان يلتقط فتاة من الشارع ويجلبها الى شقته الماجنة الطلاء ، تقفز الفتاة من الفرح حينما تجد نفسها وسط مهرجان الألوان وتمني نفسها بليلة حظ مع ثري عربي ، لكنها سرعان ما تصاب بخيبة امل ، فالرجل يبدو اكثر حزناُ وصمتا من شقته الداعرة ، ولا يدفع كثيراً كما ان شرابه الثقيل ( تكيلى ) يجعلها تسكر بسرعة فتمنحه اكثر مما يستحق .
ايقاع الحياة السريع والعنيف في نيويورك لم يؤثر كثيراً على طريقة حياة ( ابو عوف ) كأعزب يعيش في مدينة غرائبية ، فهو ما يزال يمارس عاداته القديمة التي جلبها معه من العراق ، فبعد انتهاء عمله يأخذ حماماً يستمر لأكثر من ساعة يدلك جسده ويتفحص كل تفاصيله ثم يحلق ذقنه ويبصق على وجهه في المرآة ويخرج الى مقهى ( حلال بيتزا ) القريبة من الحي الصيني ، متئبطاً اوراقه واقلام الفحم عله يحصل على وجه بتعابير جميلة يرسمه ، وليأكل وجبته المفضلة ، طبق ( اجنحة الدجاج ) مع الصلصة الفريدة التي يجيد خلطها الطباخ المصري ( سيد ) ويقدمها له باحتفالية تليق بفنان تخرج من بين اصابعه اعمالا جميلة يبيعها بسعر زهيد .
- سبشل ... للآرتست .
ابتسم ابو عوف وعدل من جلسته وقد هجمت على انفه الروائح التي يحبها وقال .
- طز بالآرت وابو الآرت ...
ثم تناول طعامه باطراف اصابعه واخذ يأكل وعيناه تجولان في المقهى بحثاً عن وجه يرسمه ، ( انثوي وجميل ) هكذا فكر ، لقد سئم رسم وجوه الزبائن العرب حتى انه سئم رسم وجوه صديقاتهم السمينات ونساءهم الثرثارات ، ورغم انه لا يرسم سوى ( البورتريه ) فانهن حينما يجلسن ليرسمهن ، غالباً ما يدفعن صدورهن الى الأمام ويرتكزن على ذراع واحدة وعلى شفاههن ابتسامة مرتجفة توحي بالإضطهاد .
لكن ابو عوف لم يعد يتذكر منذ متى رسم ( بورتريه ) وشعر بالحب اتجاهه ، فجيمع زبائنه متشابهون رغم الأوضاع العديدة التي يرغبون في الظهور بها ، كفتيان لعوبين أو اغنياء أو جذابين أو مفكرين على وجوههم ابتسامة ( جييزز ) المفتعلة ...
- طزين برذر ...
اجاب سيد المصري .
وناوله قطعة ( نابكن ) ليمسح يديه من دبق الطعام .
في تلك الأثناء دخلت ( بتريشا ) بقوامها الرشيق ونظراتها القاتلة ، مع صديقها اللبناني ( ستيف ) .
كان مظهرها غريباً .. كانت منهكة وسعيدة ، كأنها خرجت لتوها من معركة السرير ( سرير الحب ) وحينما جلست حلَت شعرها ونثرته على رقبتها العارية فبدت كأنها آلهة أغريقية أصابها واحد من سهام ( كيوبيد ) فالقاها صريعة الحب ، فقرب ( ستيف ) أنفه من شعرها وأخذ منه شمة عميقة .
وجهها المثير وشقرتها النقية جذبت انظار ( الآرتست ) فأخرج قلمه وبدأ بتخطيط وجهها البيضوي النحيف وملامحها الدقيقة التي تشبه ملامح ( عذراء الصخور ) لوحة دافنشي الشهيرة .
سحب ستيف كرسياً لبتريشا فجلست دون ان تنظر ناحيته بل انشغلت بالتطلع في ارجاء المكان وكأنها تراه للمرة الأولى ، لم تنظر ناحية الآرتست او بالعيون الكثيرة التي تحدق بها بفضول ورغبة ، بل انشغلت بمراقبة جمر ( ناركيلتها ) مسحورة برائحة دخان الشرق الممزوجة بنكهة التفاح والصندل ، ولم تأبه لإلتصاق ستيف بها ومحاولته دس انفه في فتحة قميصها .
كانت ( بتريشا ) شغوفة بتعلم اللغة العربية ، درستها لأربع سنوات في الجامعة ، ثم قادها حبها للعربية الى زيارة القاهرة وتونس واصبح معظم اصدقائها من العرب ، لكن احدا منهم لم يفلح بجرها الى الفراش او حتى اختلاس قبلة من شفتيها الورديتين ، رغم ما قدموه لها من اغراءآت تلين قلوب اكثر الفتيات صلابة ، حتى اشيع عنها انها لا ترغب بالرجال . وازدادت تلك الأقاويل حدة حينما عرض عليها ثري عربي عشرة آلاف دولار مقابل قبلة من شفتيها الورديتين ، لكنها رفضت عرضه وهي تشد على يده مواسية ، لأن المال لا يغريها كثيراً ، كما انها تكسب ما يكفيها من عملها ك ( موديل ) يعشقه كل فناني نيويورك المجانين الذين يتخذون ارصفة الشوارع مكانا للعمل ، يعشقون شقرتها النقية ونهديها الصغيرين ومؤخرتها العامرة ، فهي لا تمانع كثيراً بخلع ملابسها والتمدد عارية على الرصيف قبالة فنان مجنون يحاول ان ينهي عمله قبل وصول الشرطة .
كان ظهور بتريشا بتلك الهيأة الناعسة التي تشبه غانية شرقية استيقظت لتوها من النوم ، لابد وان يثير الكثير من اللغط في المقهى ، فليس من المعقول انها نامت مع ( ستيف ) الشاب اللعوب والتافه الذي لا يصمد لحظة امام قوة وطغيان تلك الفتاة المتنمرة ، ومن خلال دخان ( النركيلات ) المتصاعد رفعت بتريشا نظراتها الناعسة ولمحت ( الآرتست ) ابو عوف يظلل حواف لوحته ، فنهضت من كرسيها ناحيته ودارت خلف مقعده لتنظر الى ما يرسمه ، شعر بانفاسها المخلوطة بالدخان والنبيذ تلفح عنقه وشعر بلهجتها المكسرة تدغدغ اذنيه .
قالت
- مستر ... انت كلش حلو ترسم .
ارتبك ابو عوف قليلا وتطلع بعينيها الملونتين وشعر برعدة تسري بداخله ، وبيد مرتعشة قدم لها الصورة وهو يتمتم
- شكرا لك ...
سحبت بتريشا كرسياً وجلست قبالته قريباً جداً منه ووضعت كفها اسفل ذقنها واخذت تنظر له تلك النظرة القاتلة التي يخشاها الجميع ، فلم يدر ما يفعله سوى ان يدعوها الى كأس نبيذ مع الجبنة الفرنسية ، فابتسمت بتريشا وقبلت عرضه . قالت وهي تتذوق آخر قطرة من النبيذ .
- انت من العراق بالتأكيد ؟
- من بغداد .
اجاب الآرتست وقد منحه النبيذ بعض من شجاعته امام جمالها الطاغي فوضع عينيه بعينيها .
قالت .
- اتمنى زيارة بغداد ، لكن ليس الآن بالتأكيد ... هناك حرب ... لا ادري ماهي الحرب ، انها موت بلا شك ، شاهدتها في التلفزيون انها تشبه ال ( فاير وورك ) ....
- انها موت ... كل شيء يموت خلال الحرب .
- حتى القطط والكلاب والطيور ؟
ابتسم بأسى فبانت اسنانه التي بان عليها آثار التدخين والشرب .
- نعم حتى القطط والكلاب والطيور .
- ما ذنبهم ... يا للخسارة .
ثم اكملت
- سمعت انكم لا تفعلون شيئا هناك سوى الحرب ؟
قال – انت على حق .... لا شيء سوى حروب خاسرة .
- لماذا ؟!
لم يجد جوابا لسؤالها ، فهو ايضاً لا يدري لماذا ؟
قالت الفتاة – وانت ... ماذا كنت تفعل خلال الحرب ؟
- كنت جندياً ..
ارتسمت الخيبة على وجهها ومطت شفتيها .
- كنت اظنك جنرالا ... او ضابطاً كبيراً تقود جنودك في معركة يائسة .
- كلا ... كنت جندياً فحسب .
جندي شارك في ثلاثة حروب خاسرة وخرج منها بلا شارات ولا أوسمة ، لكنه ورث منها الذعر ، الذعر من صوت انفجار اطار سيارة او قعقعة قدر ، ورث منها اللارغبة في أي شيء مهما كان ذلك الشيء مثيرا وجميلا ، حتى انه حينما حط به الرحال في نيويورك ، نظر الى ناطحات السحاب والناس الملونين والحياة الصاخبة ، ولم تند عنه اية شارة اعجاب او دهشة ، بل انتابه دوار ورغبة بالتقيؤ على الناس والشوارع ، انتابته رغبة بالعويل على حياته الماضية والقادمة ، فلم يكن يدري كيف سيواجه مصيره في هذه المدينة وهو لايمتلك أي من مقوماتها .
قالت – لماذا اخترت العيش في نيويورك ؟
قال – لا ادري ... حقا لا ادري ...
تململ ستيف في مقعده ثم نهض ناحية بتريشا وجرها من ذراعها وخرجا من المطعم .
قالت .
- وداعاً .
- وداعاً ....
وحينما وصلت الى الباب التفتت ناحيته وقالت .
- ساتحدث معك لاحقاً ..
قال – وماذا عن الصورة ؟
قالت بمكر – علقها عند سريرك .
نظر اليهما من خلل زجاج المقهى وهما يترنحان في الشارع وسط امواج من البشر الغرباء ، كل شيء غريب في تلك المدينة ، غريب وقاس وغير مبال ، مدينة جاحدة تشبه قلبه القاسي الذي لا يؤمن بشيء ولا ينتمي لشيء ، حتى لنفسه او لإسمه .... تتبع خطوهما حتى اختفيا عن الأنظار ، ثم دفع ثمن عشائه ووضع الصورة بين اوراقه وخرج .
زعق جندي مقطوع الساق بوجهه .
- اللعنة على الحرب .
ابتعد عنه قليلا وهو يشيح بوجهه عنه .
آثار الحرب بدأت تظهر في الشوارع ، هناك جنود شوهتهم الحرب ( زنوج واسبان ) اخذوا يظهرون في الشوارع والأزقة ويكيلون السباب لكل من يصادفهم وخاصة لمن كانت له ملامح شرق اوسطية .
تابعه الجندي مقطوع الساق .
- ابن القحبة .
لم يجبه بشيء فهو قد اعتاد سماع الشتائم وواصل سيره ناحية ( تايم سكوير ) ووقف ينظر الى التلفاز الضخم الذي كان يبث تقريراً مصوراً عن المختطفين التسعة عشر وصور انهيار البرجين ، وضع يديه في جيوبه وقد شعر برعدة قوية تسري بعروقه ، ربما بسبب البرد أو الخوف .... لم يكن هو البرد بالتأكيد ، لكنه الخوف من الملاحقة ثانية بسبب لون بشرته وشعره ولكنته ، لكونه من هناك ، من العراق البلد الصحراوي البعيد ، من العراق بلاد الجمال والمدن المغبرة والموت .....
تتالت صور المختطفين ، وجوه بذقون شعثاء ونظرات فارغة ، وجوه حليقة بمختلف الأعمار ، عرب مأخوذين بشهوة القتل والتدمير .
- ماذا يريدون ؟
تمتم بسره وتلفت من حوله ... كان هناك بضعة شباب وقفوا قريباً منه يدخنون ويتحدثون بصوت عال عن المؤامرة والعرب القذرين الذين شوهوا مدينتهم .
تطلع به احدهم لبرهة وقال .
- انت عربي ؟
اجاب الآرتست .
- كلا ... مكسيكي ...
صرخ الشباب بحبور .
- أميكو ... أميكو ...
انتهى التقرير المصور وبعده مباشرة ظهر وجه بتريشا من على الشاشة ... كانت تعرض دعاية للملابس الداخلية وهي تبتسم ، ابتسامتها القاتلة تلك ، دارت الكاميرا من حولها ، كشفت مؤخرتها ثم دارت وصعدت الى صدرها الجميل ، ثم وجهها ثانية وهي تبتسم ، ظنها تبتسم له وتذكر صورتها بين اوراقه ، فأخرجها واخذ يتطلع بوجهها الجميل .
- من أين اتت بتريشا ؟
غمغم بسره واسرع خطوه ناحية شقته ، فالمدينة في مثل هذا الوقت المتأخرتصبح خطرة ، خاصة حينما يخرج له متسول من احدى الزوايا ويطالبه بقطعة نقود بنبرة تهديد ، وقد علمته تجاربه الماضية ان ينفح المتسول ما يريد مع ابتسامة رضى .
انعطف ناحية الشارع 12 فوصلت اذنيه قهقهات ولغط بالإسبانية ورائحة ماريجونا مدوخة ، انه يعرف تلك الشقة جيداً ، وكر الدعارة والمخدرات ، التي تديرها ( مارثا ) العجوز الحكيمة التي لا تغادر دكة الباب ابداً ، تراقب المارة بفضول وتعرض عليهم بضاعتها ، كل ما يرغب به الزبون يجده عند ( مارثا ) الحكيمة ، فتيات من كل الأجناس والأعمار ، مخدرات ، اوراق هجرة مزورة ، اجازات قيادة السيارات ، سلاح ، مسدسات ، بنادق أو حديث ناعم معها عن موطنها افريقيا ، أفريقياي ، كما تسميها ، أفريقياي ، قارة الأسود والفيلة والعاج الذي يشبه بياض أسنانها .
- انظر اليَ ايها العراقي ، بلغت السبعين ولم افقد سناً واحداً ..
ضحكت بصوت عال وصاف ثم اكملت .
- انظر الى نفسك ، من يراك يظن انك في السبعين من عمرك ، عش حياتك تمتع ، سكس ، طعام جيد ، دخان جيد ... انها اميركا ايها المغفل ... قل لي من تريد من هؤلاء البنات ؟ أختر واحدة وإطفي بها رغبتك ...
واحدة من حفيدات كولومبس الساخنات ...
غمم كأنه لا يريد ان تسمعه .
- الواحدة بعشرين دولاراً .
ردت ( مارثا ) .
- خمس وعشرون مع لفافة ماريجونا ، انصت لي ، لفافة واحدة تجعلك ترفس كالبغل .
دخل الى الشقة ، كانت نصف مضاءة وممتلئة بفتيات ضجرات وثملات يقذفن الشتائم كالحلوى في وجه ( مارثا ) العجوز .
قالت – خذ تلك القحبة ، انها مازالت ضيقة .
اشارت الى فتاة اسبانية ممتلئة وعامرة الصدر .
كانت الفتاة تبدو ضجرة من قلة الزبائن هذا اليوم .
قادته الفتاة الى غرفة في العلية ، كانت تفوح منها رائحة ويسكي رخيص وزيت شعر ، جلست على حافة الفراش تنظر له وعلى شفتيها ابتسامة سخرية .
قالت – ماذا تنتظر ، لننتهي من هذا ، لدي شغل .
لم يدري ما يفعل ، اشعل لفافة الماريجونا واخذ منها نفساً ثم قدمها لها ، جلسا يدخنان ويثرثران ، اخبرها انه من العراق ..... لم تكن الفتاة تعرف اين يقع ذلك البلد ، لكنها تذكرت انها سمعت عنه اشياء غريبة ، حرب ، اسلام ، الرجال يتزوجون اربع نساء ، الرجال يضربون النساء هناك .
وعندما انتهيا من التدخين وضع وجهه بين نهديها وانتابته رغبة بالبكاء .
قالت الفتاة .
- مالك ايها العراقي .. هل تريد النوم على صدري طيلة الليل ، لدي شغل .
كانت عيناه حمراوين من أثر الدخان والتعب ، ولم تكن بداخله أي رغبة اتجاهها .
قال – اود لو نمت الليل كله بين نهديك .
قالت الفتاة ببساطة – أدفع لي ...
- ادفع لي مائة دولار واشخر الى الصبح بينهما يا حبيبي ، فلا مانع لدي .
نظر الى النهدين العامرين وتحسسهما باطراف اصابعه عله يعرف سر تعلقه بهما .
كان يصعدان ويهبطان مع حركة تنفس الفتاة وهو ينظر لهما كالمأخوذ .
قال – حسناً ... سأدفع .
اخرج محفظته ونقدها المبلغ وهو يمني نفسه بليلة من حرير .
تمددت الفتاة على السرير ، فاستلقى الى جانبها ودس وجهه بين فتحة نهديها وهو يفكر .
- ماذا افعل هنا ؟
قالت الفتاة – بماذا تدمدم دعني اسمع ما تقول .
تحدث مع نهديها بالعربية ، اسمعهما كل ما عن بخاطره من افكار وقصائد حب وتمنى لو ان العالم كله يتحول الى كرات رقيقة تشبه نهديها وهو يسبح عليهما الى عمله الى شقته الى وطنه ربما .
قالت الفتاة وقد داخلها الخوف من حديثه الذي لم تفهم منه حرفا واحداً .
- انا لا افهم ما تقول .
قال – ومن قال لك اني اريدك ان تفهمي .
- انا خائفة يجب ان افهم .
قال بجفاء .
- لقد دفعت لك مبلغا كبيرا من اجل هذا الخراء .
صمتت الفتاة وعاد الآرتست لحديثه مع الكرات العجيبة .
صرخت ( مارثا ) العجوز .
- الشرطة ... الشرطة .
قفزت الفتاة من الفراش مرعوبة وهي تحاول لملمت اثدائها .
- يا الهي ... لا اريد العودة للسجن ثانية .
كان ابو عوف ثملا بفعل النبيذ ودخان الماريجونا وحرارة صدرها فلم يهتم لصخب مارثا العجوز وارتباك الفتاة .
قال – ليذهبوا الى الجحيم ... لقد دفعت لك ...
قالت الفتاة – أرجوك .. لا اريد ان اذهب الى السجن .. اخرج من غرفتي .
- كيف سأخرج ؟
- اقفز من النافذة ...
كانت النافذة تطل على الحديقة .
قالت – اقفز ارجوك ...
- فك يووو
فتح النافذة ونظر الى أسفل ، كانت النافذة عالية ، دفعته الفتاة من ظهره .
- اقفز ... اقفز .
قفز وسقط في الحديقة وشعر بألم ممض في ساقيه ، لكنه نهض وخرج من الباب الخلفي للمنزل ، وسمع ( مارثا ) تتشاجر مع الشرطة وتكيل لهم السباب .
انسل الى البناية 123 وصعد السلم الى شقته ودفن رأسه في الوسادة واخذ ينتحب دون ان يدري لماذا ...



@@@


في الطابق الثاني من العمارة ينشط الرسامين الخمسة في مثل هذا الوقت من النهار ، فعليهم انجاز تخطيطات كثيرة ، لمشروع ضخم ، من اجل ثري عربي يملك معظم محطات البنزين والمطاعم وفنادق الدرجة الأولى في منهاتن وبروكلين ، وهو رغم ثرائه الفاحش ما زال يحن الى موطنه الأصلي الذي جاء منه ( الصحراء ) ، ويريد ان يجلب تلك البقعة القاحلة الى منزله الفخم الذي شيده على تل مرتفع في ضواحي نيوجرسي ، ومسح غابات الأشجار المحيطة به وزرع مكانها شتلات صحراوية تدعو للرثاء ترعى وسطها قطعان من الأبقار الوحشية والجمال والصقور وكلاب الصيد ...
ومن اجل ان يكتمل مشهد الصحراء في نيوجرسي ، أراد الرجل ان يلون قصره بألوان ذهبية كلون الرمال ، يرسم على جدرانه حكايات اجداده العظام وقصائدهم النبطية ، فوقع اختياره على ( ابو عوف ) وفريق عمله من اجل انجاز ذلك العمل الضخم .
دق جرس الهاتف في شقة ( ابو عوف ) ، فقفز من فراشه ونظر الى الساعة .
كانت تقترب من الثانية عشرة ظهراً ، لقد تأخر كثيرا عن عمله ولا بد ان تكون ( ليسا ) هي التي تتصل ، كانت ساقاه تؤلمانه ، فتذكر مغامرة الليلة الفائتة ووصل بصعوبة الى الهاتف ورفعه .
قال – نعم ؟
اتاه صوت ( ليسا حسن ) الرقيق والحاسم .
- هل مازلت نائماً ؟
- استيقظت للتو ..
- لا تقل لي انك كنت سهران في بيت مارثا ..
- نعم كنت في بيت مارثا ، انه ليس شغلك .
- بل شغلي ايها الحشرة ... انا ادفع لك اجرك وانت يجب ان تكون هنا في الثامنة .
قال بلا مبالاة .
- فك .. يو ...
- اخرس ايها اللقيط ابن ال ...
- فك .. يو ..
- أسمع .. يجب ان ترتدي ملابسك وتأتي الى المشغل حالا .
ثم اغلقت الخط .
- ماذا تريد هذه المتصابية ؟
خلع ملابسه ودخل الى الحمام ، فتح الماء البارد وتركه ينساب على جسده لفترة طويلة .
تذكر صراخ ( مارثا ) وعراكها مع الشرطة ، وهجمت على انفه روائح الفتاة الأسبانية وروائح حلمتيها السمراوين ، فأراد طردها بتدليك جسده بالصابون ، ثم تحسس ساقيه ومرغهما طويلا وسمع الهاتف يرن مرة ثانية .
- لا بد انها ليسا ثانية .
سمع صوتها في جهاز التسجيل وقد اختفت منه تلك النبرة الرقيقة والمفتعلة .
- يا للحشاش ... يا للطيز الكسول ... ابن ال .....
طيز كسول ، طيز ذكي ، طيز غبي .... ما علاقة المؤخرة بالذكاء والغباء ... ارتدى ملابسه وخرج وهو يفكر .
التقته ( ليسا ) مقطبة الحاجبين ، فتصورها طيزاً ذكياً ، يجلب الزبائن ويتعاقد مع المشترين ويبيع اللوحات التافهة التي يرسمها من أجل ان تجمل شقق وبيوت بقية ( الأطياز ) الثرية .
صرخت بوجهه .
- ابو عوف نحن لدينا بزنس وشغل مع ناس مهمين جداً ، وانت تغط في النوم حتى الظهر .
كانت ترتدي قميصاً ابيض مفتوح الصدر ، وبنطال ضيق يشد مؤخرتها ويبرزها بطريقة مثيرة ، وهي لا تفعل هذا عادة الا حينما تكون على موعد مع زبون مهم .
قال – تبدين جميلة هذا اليوم ( مس ) ليسا .
افترت شفتاها عن ابتسامة خاطفة ولمعت عيناها ببريق شباب غابر .
قالت – مستر ( محجوب ) ينتظر منذ ساعة في المشغل .
- مستر ( محجوب ) ... البدوي !
- تقصد العربي ؟
قال – العربي ... البدوي ... كلهم واحد .
دفعته من ظهره وهي تدمدم .
- انتم العراقيين تظنون انفسكم افضل من الآخرين ولا ادري بماذا ؟
قال – بالخراب ...
- امشي .. اذهب الآن ؟
صعد الى الطابق الثاني حيث ( المشغل ) فتقدم ناحيته شاب عربي يتحدث الأنكليزية كأي نيويوركي وقدم نفسه باسم (محجوب ) .
كان محجوب طويلا ونحيلا بعيون سوداء حالمة كأمير شرقي ، ويتحدث بخفوت وثقة نبي صحراوي ، وقد علق حول رقبته قلادة من خرز ملون رخيص ، ووضع في اصابعه عشرة محابس تلمع كشعر رأسه الحريري الأسود .
قال بخفوت وكأنه يحدث نفسه .
- أين فنانا الكبير ؟
فتقدم ابو عوف ناحيته وصافحه بكلتا يديه مرحباً وقد اخذته المفاجأة من مظهره الجميل والحالم ، فقد كان يظنه شيخاً بعثنون تحت الحنك ، وتنبعث من جسده رائحة بعران ولبن
- مستر محجوب آسف جداً لتركك تنتظر كل هذا الوقت .
- لا يهمك يا أخي ... كنت مشغولا بالتطلع الى أعمالك ... انها فرصة بالنسبة لي ان اجد فسحة من الفراغ اقضيها مع هذا الفن الرفيع .
- وكيف وجدته ؟
- جميل ... الفن كما افهمه هو محاكاة للطبيعة ، محاكاة للطيور والشجر والسماء والصحراء ، نقل الصورة كما هي ، كما وجدت اصلا ، لأن الله خالقها وهو الفنان الأصلي ، المبدع الوحيد ، اما انت فلا تستطيع ان تضيف لها شيئاً سوى ان تنقلها الى الورقة او اللوحة ... انظر الى هذه المدينة .
فتح النافذة واطل على الشارع والناس واللغط وناطحات السحاب ودخان السيارات .
- انظر لها ، انها من صنع البشر ... هل تجد فيها أي فن ؟
- انها لوثة ...
ندت عن محجوب حركة مفاجأة .
وردد – لوثة .... هذا ما كنت اريد قوله بالضبط ... لكن بعض الناس هنا يشبهونها بالمرأة الدائمة الشباب ، والتشبيه هنا كما ترى يرتبط بالجنس أي انها تأخذ فقط ، مدينة نهمة لا تشبع تستنزف حياتك كلها من اجلها دون ان تعطيك شيئاً سوى وجبة عشاء وسرير ....... ربما هذا هو كل ما نحتاجه ونحصل عليه في النهاية .
ضحك محجوب من استرساله المفاجيء
ثم التفت ناحية ابو عوف وسأله .
- منذ متى تعيش في هذه المدينة ؟
- عشر سنوات .
- تحتاج الى عشر سنوات اخرى ، لتفهم طبيعتها وانساقها وتعرف كل زواياها وعندما تعرفها تماما ستكرهها وتتمنى لو انك لم تتورط بالعيش فيها ، ولأنني تورطت بها فلا استطيع العيش فيها او مغادرتها ، لذلك اردت ان اجلب لها بعض من روحها المفقودة ...
قال ابو عوف بنبرة سخرية واضحة .
- تجلب لها الصحراء .
- نعم الصحراء ... ما تحتاجه هذه المدينة بقعة صفاء .... سماء مفتوحة ورمال صفراء .
تحرك وسط المشغل كأنه ممثل مسرحي واخذ يعبث بمحابسه وخرزه .
ثم اكمل .
- احن الى الصحراء يا اخي ... احن اليها كأنها توأمي .
- لا بد انك خبرتها وعشت فيها طويلا .
قال .
- قد تظن انني نفاجة أو ثري أصابه الضجر من متع الدنيا كلها ، لكنني مختلف كطائر في سجن او زهرة في زريبة .
قال ابو عوف – ذلك ما يشعر به معظم المغتربين ، كلهم يشعرون بانهم مختلفين ، لكنهم في الحقيقة ليسوا كذلك ....
- ماذا تقصد ؟
- انه مجرد شعور بالإنقطاع وليس بالإختلاف .
غمغم محجوب واخرج نصف جسده من النافذة كأنه يريد ان يغادر منها .
قال ابو عوف .
منذ متى غادرت موطنك الأصلي ؟
- انا لم اغادر نيويورك في حياتي ، ولدت هنا ، لكن موطني الأصلي في القلب .
ضرب على صدره بعنف – هنا ...
تطلع ثانية بأرجاء المكان فبدا وحيداً وغريباً . قال كأنه يحدث نفسه وهو يتطلع الى اللوحات التي تنتشر على الجدران
- كل هذه اللوحات جميلة ، لكنها ليست لمنزلي ولا لفتاتي ...
- كل هذا لا يعجبك ... ؟
نظر بعمق في عيني الآرتست .
- ما اريده وما تريده فتاتي ، لا يشبه هذا ... لا يشبه هذا على الأطلاق ، نريدك ان تجلب الصحراء الى منزلنا .
ثم اغمض عينيه وتحدث كأنه يحلم .
- أريد من يدخل الى منزلي ان يشعر بان الصحراء تحيطه من كل جانب ، وان المنزل واحة مفقودة وقع عليها صدفة بعد جوع وعطش ...
- مستر محجوب انت تعلم ان لا شحة لا جوع ولا عطش في نيويورك ، كل شيء على ما يرام هنا .
- من قال لك هذا ... في نيويورك كل الحرمان ، هناك ناس لا يجدون لقمة خبز .
فجأة اتخذ مظهراً جدياً واستدار ليخرج .
قال – سأدفع لك ما تشاء من أجل الصحراء .
قال الآرتست .
- في مثل هذا الحال يجب ان ارى المنزل اولا ؟
- ستراه ... ستراه حتماً .
دس اصابعه ذوات الخواتم في جيبه واعطاه العنوان .
- سأنتظرك هذا المساء بعد العاشرة مساءا .
خرج محجوب تاركاً وراءه احلامه الغريبة وعطراً شرقياً ثقيلا .
المجنون ابن القحبة ، ماذا يفعل بالصحراء في نيويورك ؟
ثم فتح المراوح والنوافذ ليطرد العطر الثقيل ...
دخلت ( ليسا ) الى المشغل وعلى شفتيها ابتسامة ماكرة وقالت .
- مستر محجوب راض عنك جداً .
- حقاً ؟
- يظن ان بداخلك روحاً ... هكذا قال ولم اعرف ماذا يقصد .
- انه احمق ..
ضربته على كتفه
- لا تقل عنه هذا ... ان شخصيته ساحرة كما انه وسيم جداً كممثل من هوليوود .
- هل تفكرين بالنوم معه ؟ قالها وهو يضحك .
- بالطبع سأنام معه اذا سألني .
- انت بعمر والدته .
- اخرس .
نظر الى صدرها الضخم وشعر بالرغبة في لمسه .
قال – هل ستنامين معي اذا طلبت منك ؟
قالت وهي تقهقه – انت ... لماذا ؟
ثم اكملت – اسمع ... ستذهب الليلة الى منزله .. صح ؟
- صح ..
- ذكره بي ثانية .. قد يدعوني يوماً الى حفلة او مطعم .
- مقابل ماذا ؟
فكرت قليلا وقالت .
- سأنام معك ثانية اذا فعلت .
- مثل تلك الليلة الخائبة ؟
اجابت بسخرية – انت الخائب وليس انا ...
- كنت كريماً معك واحترمتك .
- لا .. يا حبيبي ان تحترم المرأة هو ان تشبع رغباتها ، لا ان تضع رأسك بين اثدائها وتنام ..
- سأفعل ما بوسعي .
- وعد ؟
- وعد .....
خرجت ( ليسا ) وهي تهز مؤخرتها بطريقة مغرية ، فضحك ابو عوف ، ضحك بأسى ومد رأسه من النافذة ينظر الى امواج البشر المتلاطمة في الشارع ... كان الجو بارداً لكنه بقي متسمرا عند النافذة ينظر الى شبح فتاة يتهادى عن بعد ، اقتربت الفتاة فتبين ملامحها جيداً فهمس .
- بتريشا !
مرت الفتاة من تحت نافذته وهي تضع يديها في جيوب معطفها ثم اختفت بين حشود العابرين .
خرجت حشرجة من فمه .
- بتريشا ثانية .....
اغلق النافذة وخرج مسرعاً خلف طيفها عله يصادفها في الطريق ، فلمحته ( ليسا ) من خلف زجاج المعرض واشارت له مودعة وعلى شفتيها ابتسامة واعدة .
بادلها الإبتسام ولاحق طيف بتريشا ، لكنه لم يصادف اي وجه جميل يشبه وجهها . قادته قدماه الى ( سنترال بارك )
المزدحم بأفواج السياح والمتسكعين الذين يلتهمون ( الهوت دوك ) ويشربون البيبسي ويقبلون بعضهم ، او يسترخون على الرصيف وعلى وجوههم ابتسامة رضى وحبور ، لما تقدمه لهم المدينة من لهو ومفاجآت ، بحث عنها بينهم فلم يجدها هناك ...
كان الرصيف يغص بجموع من رسامي ( البورتريه ) ، الصورة الواحدة مقابل عشرون دولاراً ، فأنتابته رغبة بالجلوس ولو لمرة واحدة في حياته امام رسام ليرسمه ، ليرى شكله كما يراه فنان ، فجلس على مقعد احدهم ووضع يديه في حجره .
وقال ..
- اريد صورة تشبهني تماماً ؟
تمعن الرسام بوجهه لوقت طويل ثم بدأ بتخطيطه وقال .
- سائح ؟
- كلا أعيش هنا .
- وماذا تعمل ؟
- رسام ايضاً ..
ارتجفت يد الرسام قليلا وتطلع بعينيه قليلا وقال .
- ماذا ترسم ؟
- مطلوب مني ان ارسم الصحراء على جدران منزل .
ضحك الرسام وقال .
- تقصد منزل العربي محجوب .
- هل تعرفه ؟
- انه اشهر من ممثلي هوليوود في نيويورك ستي .. الكل سمع عنه او لديه قصة غريبة عنه .
- نعم انه غريب بعض الشيء ... شخصية ظريفة وشكل جذاب .
- النساء يتهافتن عليه كبقعة عسل .... ثراء ووسامة وشباب ، هذا كل ما يحتاجه المرء في نيويورك ، ولولا اصله العربي لأصبح عمدة هذه المدينة ...
حدق بوجه ابو عوف قليلا وقال .
- هل انت عربي ؟
كانت ملامح الرجل لا تنم عن بغض او كراهية اتجاه ملامحه الشرقية .
قال – من العراق ...
زم الرجل شفتيه وهمس كأن هناك من ينصت له .
- آسف يا صديقي نحن السبب بتدمير بلدكم ، لم ندخل الى مكان الا وقلبناه رأسا على عقب ... نحن اشبه بحيوان خرافي يعيش على النفط ، لا نشبع من النفط يا صديقي .
ثم اكمل .
- قبل اسبوع اتت ابنت اختي من العراق ، انها مجندة وكانت في قاعدة في الحبانية .
- ماذا كان انطباعها عن الوضع هناك ؟
- لا ادري لم اسمع منها شيئا مفيدا انها تسكر وتسب وتلعن طيلة النهار ، تقول لن اعود ثانية من اجل ناس يكرهوننا ومدن مغبرة وشمس حارقة .
دفع له الصورة ، فتطلع بها ابو عوف طويلا ، وقد انتابه الأسى لمظهره الحزين والبائس .
قال – كم ثمنها ؟
- اعتبرها هدية ...
- شكرا لك .
ابتسم الرجل وهز رأسه .
- نحن آسفون يا صديقي .
- ونحن ايضاً ..



@@@



مرت سيارة التاكسي الى جانب حطام البرجين ، فأشاح ابو عوف وجهه عنهما .
قال السائق الهندي والرذاذ يتطاير من فمه .
- انظر الى ما فعله العرب اولاد القحبة .... انهم لم يهدموا البرجين فقط ، بل هدموا حياتنا ايضاً .. الشرطة تضايقنا في عملنا ودائرة الهجرة ترفض معاملاتنا والزبائن لا يصعدون بسياراتنا .
فتح النافذة وبصق .
- انا هندي ( سيخي ) ما علاقتي بالمسلمين .
اخذ يدمدم بالهندية على شكل سباب ، ثم اكمل
- انا سيخي متدين ، وقد اضطررت للتخلي عن عمامتي وحلقت لحيتي ، اطفالي في المدرسة يتعرضون للضرب من زملائهم وزوجتي تخاف ان تذهب الى السوق ... اولاد القحبة .
نظر الى ( ابو عوف ) في المرآة .
- لماذا فعلتم هذا ؟
قال ابو عوف .
- ليس انا ...
- نعم انتم .
- اخرس والا لن تحصل على اي بخشيش .
- العن ابو البخشيش ... انزل من سيارتي .. انزل .
اوقف السيارة في مكان ممنوع وهو يصرخ .
- لا اريد اجرتك ، انزل من سيارتي .
- ( فك يو )
- فك ... يوووو .
فتح ابو عوف الباب ونزل من السيارة وهو يرتجف من الغضب والشعور بالخزي .
ولم يجد ما يقوله سوى كيل السباب للبقرة المقدسة وغاندي ولم يسلم منه حتى الممثلين الهنود ، ونكاية به دخل الى اول مطعم صادفه وطلب قطعة ( ستيك ) بقري نصف شواء واكلها بلذة عجيبة ، وشعر بأنه يأكل ربهم وتاريخهم وثقافتهم وعندما انتهى اشعل سيجارة وواصل سيره ناحية الجسر الذي سيقوده الى نيوجرسي .
كان منزل محجوب على قمة تل يشرف على ضواحي نيوجرسي ، وتحيطه مساحة جرداء واسعة كانت فيما مضى أشبه بالغابة الصغيرة ، لكن محجوب عمد الى قطع تلك الأشجار وحولها الى مايشبه الصحراء ، بعد ان فرش أرضها بالرمل وزرع اطرافها ببضع نخلات بائسات جلبهن من فوريدا ، يحطن بواحة صغيرة الى جانبها خيمة شعر ، ترعى بها حيوانات صحراوية وطيور مات معظمها من الثلح والبرد ، ومن قاوم منها وبقي حياً أصبح مظهره يدعو للشفقة ، لكن الرجل بقي مصمم على رعايتها وتكثيرها لأنها تمثل حلمه الفريد ، الحلم الوحيد الذي صارع من اجل ان يحققه في قلب اميركا ، رغماً عن سخرية وهزء الآخرين به ... وفي قلب تلك البقعة الجرداء بنى منزله الكبير على الطراز الشرقي ، وصممه بأسوار عالية ونوافذ ضيقة لا تتيح لعيون العابرين الفضولية رؤية ما يدور بداخله ، هناك في تلك القلعة القصية كان محجوب يهرب من ضجيج المدينة وضغط الأعمال الى منزله ، يختفي فيه لأسابيع او ايام ، يتجول في غرفه او ينام في شرفاته ينظر الى السماء والنجوم ، او يذهب في جولة صحراوية يطعم حيواناته ويعنى بنخيله وحينما يصيبه التعب ، يلجأ الى خيمة الشعر فيوقد الموقد ويدق القهوة بانتظار ضيف لا يأتي عادة ، فينام فيها وحيداً يحلم بقمر واطلال وقبيلة .
في داخل المنزل الكبير المكون من ثلاثين غرفة وعشرة حمامات وصالات سبع انبثق صوت ( بتريشا ) تنادي على طفلها .
- علي ... علي .. أين انت ؟
وصله صدى صوتها من بعيد .
- تعال الى هنا ... تعال يا حلوي ... يا عسلي .
ركض ( علي ) وهو يتعثر بثوبه العربي واعوامه الستة ، إجتاز غرفة أبيه ( محجوب ) مسرعاً خوفا من ان يراه ويقبله بعنف .
كان باب غرفة ابيه موارباً ، فلمحه يتحدث مع شخص ما بالهاتف .
صرخ محجوب بابتهاج حينما رأى وليده يركض .
- علي ... أهذا انت ؟
اجاب علي وهو يلهث .
- كلا يا أبي ... ليس انا .
- الى أين انت ذاهب ؟
- الى غرفة أمي ...
- لا تذهب هناك ... ابق معي .. لا تذهب .
ركض علي يبحث عن امه في غرف المنزل العديدة .
- اين انت ؟
- هنا يا عسلي .
دلف الى غرفتها واستلقى الى جانبها على الفراش ... كان يحب رائحتها أكثر من رائحة ابيه ، رائحتها تشبه زهرات ( القلب الدامي ) ، لكن رائحة ابيه تشبه طلع النخيل والواحة ... إندس بين ذراعيها وشعر بالدفء .
قالت .
- اين كنت ؟
- كنت العب في الصحراء .... ابي علمني لعبة .
- ماذا علمك ؟!
- ادق القهوة في الخيمة .
بكت ( بتريشا ) .
- يا للرجل المعتوه الفارغ ... اذا كان حقا يحب الصحراء ، لماذا لا يعود الى وطنه ... سيفسد علي هذا الصغير ... سيفسده علي .
قال علي .
- لماذا تبكين يا أمي ؟
- أسمع لا اريدك ان تذهب الى الخيمة ثانية ... ابق معي .
- حسناً يا امي .
دخل محجوب الى غرفتها وهو مقطب الحاجبين .. لم ينظر ناحيتها وكأنها غير موجودة .
نادى طفله .
- تعال يا علي .. عندي شيء ظريف لك .
صرخت بتريشا بوجهه كالنمرة .
- اترك صغيري وشأنه ... انه وقت نومه .
- تعال يا علي ؟
قالت بتريشا .
- لقد وعدته ان احكي له حكاية .
قال علي – اريد ان أسمع الحكاية .
زم محجوب شفتيه وصفق الباب ورائه .
- أذهب الى الجحيم .
غمغمت بتريشا .
قال علي – أحكي لي حكاية .
أغمض عينيه وأخذ ينصت لصوتها العذب وهي تقص عليه تأريخ أجدادها ذوي العيون الملونة والشعر الأحمر ، أجدادها الذين عبروا المحيط من أجل الثروة والذهب ، وبنوا هذا البلد الكبير .. جاءوا من بريطانيا قبل أربعة قرون وإستوطنوا في ( اوكلاهوما ) يحاربون الهنود الحمر من اجل الرب والملك والوطن ...
قالت – سآخذك يوماً الى اوكلاهوما لترى منزل جد جدك ( جوني التفاح ) ..
- جوني التفاح ... ما هذا ؟
- واحد من اجدادك الشجعان الذين هاجمه الهنود الحمر في منزله ، وارادوا قتله وسرقة مواشيه ، لكنه لم يستسلم لهم بل حاربهم بكل ما يملك من أسلحة ، وحينما نفدت ذخيرته هاجمهم بالتفاح حتى ابعدهم عن منزله .
قال الطفل – اريد ان اكون مثل ( جوني التفاح ) .
قالت .
- لولا سواد عينيك لكنت أشبه الناس ب ( جوني التفاح ) .
قال الطفل وهو يلتصق بها .
- وانت .... تشبهين من ؟
- انا أشبه جدتك من جهة أمي ( مرسيليا ) .. مرسيليا الوديعة التي خطفها مهاجر اسباني يسمي نفسه ( خوزيه الفحل ) وهو بالفعل فحل كما سمعت ... يقولون انه كان ضخم الجثة كخنزير بري وجسده مليء بالشعر كالغوريلا ، وهو مغطى بالوشم من رأسه الى قدميه وله جديلتان طويلتان كهندي أحمر .. كان الجميع يخشى ( خوزيه ) ويتجنب الإحتكاك به أو الحديث معه ، والفتيات حينما يرونه يهربن الى بيوتهن ويغلقن وراءهن الأبواب ، فرجل مثله لا يتورع عن فعل أي شيء ، لكن مرسيليا وكانت حينذاك في السادسة عشرة من عمرها ، جميلة ورقيقة كزهرة ( الداليا ) ، لم تكن تعرف ماذا يعني ان تقع عليها عينا خوزيه ، مسكينة تلك الفتاة الغرة ، إعترضت طريقه ذات صباح وبكل شجاعة إقتربت منه وهي تدفع صدرها الصغير الذي يشبه صدر حمامة الى أمام ، وابتسمت له متحدية .
خوزيه الفحل بادلها الإبتسام بكل لطف واحنى لها رأسه كأي جنتلمان حقيقي وتركها تمر .
بعض من شهدوا ذلك اليوم يقولون ان خوزيه ذهب الى الحانة مباشرة وطرد جميع من فيها واخذ يشرب لوحده ثلاثة ايام متواصلة ، دون ان يجروء احد على الإقتراب منه او الدخول الى الحانة ، حتى حل صباح الأحد حيث اوقظته اجراس الكنيسة فخرج ثملا تفوح من جسده رائحة العشق .
في ذلك الصباح المشؤوم ، دخل خوزيه الى الكنيسة ، للمرة الأولى بحياته وجلس يستمع الى مرسيليا وهو تعزف على ( البيانو ) ، وحالما انتهت نهض من مقعده وهو يترنح واتجه ناحيتها وسط ذعر الجميع وصرخات التوسل ، توجه ناحيتها بكل ثقة دون ان ينظر الى أحد ، فنهضت مرسيليا وهي ترتجف كقصبة في مهب الريح واسلمت له نفسها ، فحملها على كتفه وخرج بها من الكنيسة ناحية الغابة وأختفى ، مرسيليا الوديعة لم تقاوم او تصرخ بل لفت ذراعيها حول عنقه واستسلمت له كأنه قدرها .
منذ ذلك اليوم لم يرها احد ... مسكينة جدتي مرسيليا .
ترقرقت الدموع في عيني بتريشا واخفت رأسها في صدر طفلها كأنها تنشد الأمان .
قال علي .
- وماذا عن أبي ؟
- أبوك ...
- نعم ... يشبه من ؟
- أبوك يا حبيبي لا يشبه أحداً ... ابوك قد يشبه قطاً متوحشاً أو حيوان صحراوي ... كان هذا انطباعي الأول عنه حينما رأيته أول مرة ... رأيته في الجامعة حينما كنت ادرس اللغة العربية ، كان هو طالب ايضاً في نفس الفصل يعرف قليلا من لغته الأم ، لكنه يعتبر نفسه اكثر الناس دراية بها ، جلس خلفي مباشرة وكنت أشعر بفحيح انفاسه تلفح عنقي ، فحيح حيوان متوحش يريد ان يفترسني ، فلم أمنحه نظرة واحدة أو التفت اليه طيلة وجودنا في الدرس ، لكني كنت أشعر به يحوم حولي طيلة الوقت وكذلك شعر به كل من كان بالقرب مني .
ورأيته ثانية في مطعم ( سيبون ) في الداون تاون .. كان يجلس وحيداً على طاولة في مواجهة الباب وكأنه ينتظر فريسة ، ينتظرني بالتأكيد . كان يرتدي في ذلك اليوم قميصاً مرقطاً وحذاءاً من جلد التماسيح وقلادة من خرز رخيص ملون ومحابس فضية ، كان ينتظرني هذا ما حدست فمشيت كالمنومة ناحيته ، نظراته اتعبتني فأردت ان انهي تلك الحكاية مثل جدتي ( مرسيليا ) تماماً ، خذلتني قدماي بمجرد ان وصلت الى طاولته رميت نفسي على الكرسي قبالته ورجوته ان يتركني وشأني .
قلت له – سوف لن تحصل مني على أي شيء .
كان واثقاً من نفسه كنبي صحراوي .
قال بخفوت .
- اسمعي يا بتريشا ، نحن خلقنا لبعضنا .
شعرت بالدوار والتعب من نظراته القاتلة ، وحتى هذه اللحظة لا اعرف كيف وجدت نفسي في منزله وعلى سريره ، في تلك الليلة شعرت بك تتحرك باحشائي ...
ربما كل ذلك حدث من أجلك أنت .. يا حلوي ... يا عسلي ... يا رجلي الصغير ..
لكن الصغير( علي ) كان يغط بالنوم فلم يسمع الحكاية كاملة ....
كانت علاقة بتريشا بمحجوب علاقة عنيفة ومتذبذبة ، خالية من الحب تماماً ، لم تشعر ناحيته بأي حب لكنها كانت تنقاد له كالجارية تنفذ رغباته المجنونة فتلبس ملابس شرقية وترقص له وحده ، في صحرائه ، في خيمته على ضوء القمر ، وهو يجلس في الظلمة يدخن الماريجونا ويكتب قصائد مضحكة وغريبة ، عن بيوت غادرها من أجل عشب أخضر وعن حيوانات هزيلة وكلاب تنبح ، قصائد بلا روح تشبهه تماماً ، يلقيها على مسامعها وهي ترقص ثم يرسم قصائده بلسانه على بطنها وصدرها .
- دعني أذهب يا محجوب ... لا فائدة من كل هذا الخراء ...
كانت مراهقة ومغفلة حينما انقادت له في أول ليلة ، غرة لا تميز الصواب من الخطأ ، طيشها قادها في ليلة مكتملة القمر الى خيمته العابقة بالبخور والماريجونا ، رائحة مضحكة جعلتها ترقص الليل بطوله وهو ينشد قصائده الغريبة ، وحينما أخذها التعب من الرقص والدخان القت بنفسها على الفراش واستسلمت لدغدغة لسانه ، لسان الأفعى على رقبتها وشفتيها وعنقها ، إنزلق لسانه بين فتحة صدرها والى سرتها ، فلم تقاوم أو تند عنها همسة أو تنهيدة ، استسلمت له حتى انها لم تنظر الى وجهه وعينيه الصحراويتين ، ولم تشعر به وهو يولج بداخلها ، كانت تشعر بالإشمئزاز واللزوجة وتمنت لو انها لم تأت الى خيمته ولم تلتقيه أصلا .
- بتريشا ... بتريشا ...
كان يصرخ بإسمها طيلة الليل كأنه ذئب أو حيوان جريح .
في صباح اليوم التالي هربت من خيمته وهو نائم ، تركته يفترش اوراقه وقصائده ، ينام فوقها كأنها قدره الذي يبحث عنه ، غادرته وعاهدت نفسها ان لا تراه ثانية الى الأبد ، لكنها عند المساء وكالمخدرة بدخان الماريجونا وجدت نفسها في مطعم ( سيبون ) من أجل فنجان قهوة ، فنجان قهوة مر يعيد لرأسها توازنه ، جلست على طاولة الأمس وأغمضت عيناها لتطرد خياله المزعج ورائحة بخوره الثقيل ودخانه المدوخ .
فجأة شعرت به يقترب منها وذراعاه تطوقان كتفها .
- بتريشا لماذا تهربين مني ؟
أرادت أن تقول له انها لا تريد رؤيته ثانية .
قال – لنتزوج يا بتريشا ....
- لا أريد ... لا أريدك ..
- لماذا اتيت الى المطعم ثانية ؟
- لا أدري .. أردت أن أشرب فنجان قهوة ..
- انت تعلمين بأني سأجدك هنا ... لماذا أتيت ؟
سحبها ليأخذها الى الخارج ، الى خيمته ، فقاومته بعنف وأخذت بالصراخ ، مزقت ملابسه بأظافرها وخدشت وجهه وصدره ، لكنه لم يأبه لصراخها واحتجاج الزبائن ، حملها الى سيارته وأخذها عنوة الى منزله ، الى خيمته حيث الرائحة المدوخة والقصائد التي لم تفهم منها شيئاً .
طرق ( ابو عوف ) جرس المنزل وبقي ينتظر لدقائق ، كانت الساعة تشير الى ما بعد الحادية عشرة مساءا ، وهو قد تأخر عن موعده كثيراً ، نظر الى ساعته ثانية وأراد أن يقفل راجعاً ، لكن الباب فتح أخيراً وأطلت منه بتريشا .
قالت .
- ماذا تريد ؟
شعر انها لم تتعرف عليه بسبب الظلمة .
كانت شبه عارية وشبه نائمة .
قال .
- عندي موعد مع مستر محجوب .
ردت بصوت ناعس .
- انتظر لحظة .
- ماذا تفعل في بيت محجوب ؟
غمغم الآرتست وأشعل سيجارة وقد شعر بأن انتظاره سيطول .




@@@


فتحت مس ( ليسا حسن ) درج ملابسها ووقفت حائرة أمام أكوام الملابس والأحذية التي تمتلكها ، ملابس من كل الأنواع ، تصاميم لدور أزياء مشهورة وأحذية باهظة الثمن من جلود الغزلان والأفاعي وحقائب يد تنفع للسهرات والحفلات ، ارتدت في باديء الأمر تنورة سوداء من تصميم ( كالفين كلين ) الكلاسيكي الرزن ، وقميص أصفر من تصميم ( تومي هالفكر ) وحذاء أسود من جلود الأفاعي ونظرت لنفسها في المرآة ، لكنها لوت فمها غير راضية عن نفسها ، فاعوامها الأربعين لا تصلح لمثل تلك التصاميم الصبيانية ، خلعتها وجربت ما في الدرج ثانية وثالثة حتى نالها التعب والإنهاك فقررت ان تلبس قميص أبيض مفتوح الصدر ، لا سيما وانها تمتلك نهدين كبيرين ورائعين وحلمتين منتصبتين ، وكل ما تحتاجه هو حمالة اثداء صلبة ترفع بها ثدييها الى أعلى ليبرزا وهما في أشد عنفوانهما ، ولباس داخلي ضيق جداً يشد مؤخرتها لتبدو في أحسن حالتها كأمرأة ناضجة وخبيرة بما يشتهيه الرجال ، فتجاربها السابقة والعديدة علمتها ان الرجال عادة لا ينظرون الى ما في داخل المرأة ولا ماذا تلبس ، بل ينظرون الى ما تخفيه وتظهره الملابس من صدر ناهد ومؤخرة مكتنزة ، لا سيما الشرقيين منهم أمثال الآرتست ابوعوف ، ذلك المعتوه العبقري الذي لا يفرق بين المرأة الناضجة الموفورة العطاء وبين ممارسة العادة السرية في الحمام أو ارتياد البيت المشبوه في شارع (12 ) بيت ( مارثا ) الحكيمة وفتياتها المصابات بكل انواع الأمراض .
دارت ليسا حول نفسها أمام المرآة ونظرت الى جسدها وهي راضية عنه ، فهي ما تزال تمتلك بضع سنوات من شبابها لتغري به ابو عوف في اقل احتمال او تجذب انظار زبونها الجديد والثري ( مستر محجوب ) .
استيقظت مبكرة هذا الصباح ، في السادسة على غير عادتها ، فهي تعرف نفسها جيداً حينما تكون على موعد مع زبون مهم ، يصيبها الأرتباك ولا تنام جيداً ، تبقى تحلم بتلك اللحظة التي تجعل فيها الزبون يفتح لها قلبه ومحفظته فتغرف منهما ما تشاء ، وتعطيه ما يشاء ، تنثر عليه مشاعرها بلا حساب أو تأخذه الى غرفتها تشكو له وحدتها وغربتها القاسية في هذا البلد الذي لا يرحم .
ولدت ليسا حسن في ( الموصل ) من عائلة اقطاعية تمتلك أراضي واسعة وبيوت عديدة ، استولت عليها الدولة ووزعتها على الفلاحين ، وتركتهم محشورين في منزل واحد ، فقرر والدها مغادرة العراق الى اميركا وأستقروا في مدينة ( ديترويت ) مع الجاليات العربية الأخرى ، وكانت حينذاك في الثالثة من عمرها ، فنشأت كفتاة أمريكية من أصل عراقي تتحدث العربية في المنزل مع عائلتها والأنكليزية في المدرسة والشارع .. ولكونها من العراق ومن عائلة محافظة بقيت عذراء ترفض النوم مع اصدقائها رغم الإغراءات الكثيرة من حولها خوفاً من والدها واخوتها ، لكنها حينما بلغت السابعة عشرة من عمرها ، سمحت لصديقها الكلداني ( يوسف كشمولة ) ان يقبلها في خلوة رومانسية ، قبلة طويلة جعلتها تشعر بالدوار وتلقي نفسها بين ذراعيه وهي ترتجف من اللذة والدهشة ، لكن الولد الخبير بفنون الحب لم يكتف بقبلة بريئة من الشفاه ، بل حملها الى سيارته وجلسا سوية في المقعد الخلفي يدخنان الماريجونا ويستعرضان جسديهما ، كان هو اكثر جرأة منها فخلع قميصه واراها الشعيرات السود القليلة على صدره وتحت ابطيه ثم وعدها انه سيريها ( حيوانه ) المشعر مقابل ان تخلع قميصها .
ولكونها ساذجة وبريئة وبفعل دخان الماريجونا المدوخ خلعت ( ليسا ) قميصها وحمالة نهديها وتركته يمصهما كالرضيع وهي تصرخ كذئبة جريحة ، ثم اخذت بالنحيب حينما تجرأ الولد وخلع بنطاله كاشفاً عن ( عضوه ) المخيف ، اصابها الرعب فارادت الهرب من السيارة ، لكنه رجاها بكل لطف ان تلمسه فقط ولثانية واحدة ثم يتركها لحالها .
وبعد ممانعة وتردد طوقت عضوه النابض بأصابع مرتعشة وابقته داخل كفها لدقائق تتطلع به بمزيج من الرغبة والإشمئزاز .
منذ تلك اللحظات اصابها الهوس بالرجال ، فأخذت تنام مع كل من يصادفها سواء في المدرسة او العمل او الشارع ، دون ان تشعر بالإكتفاء أو تجد الرجل الذي يشبع رغباتها ونهمها للجنس ، فهي لا تكتفي برجل واحد بل تريد ان تنام مع كل رجال الكون ...
ودون ان تشعر وجدت نفسها في الأربعين من عمرها عزباء دون زوج او طفل ، تنظر الى التجاعيد التي غزت جفنيها وما تحت فمها وتبكي ، لكن هذا الصباح قد يحمل لها اخبارا جيدة فهي على موعد عمل مع اكثر شباب نيويورك اثارة وغنى ( مستر محجوب ) .
في الساعة الثانية عشر توقفت سيارة ليموزين امام المعرض ونزل محجوب بهيئته الحالمة التي تشبه نبي صحراوي ودلف الى محلها ، فتقدمت ناحيته وقد دفعت صدرها الى أمام وقالت .
- مستر محجوب مرحباً بك ... أنا ليسا .
أرخى محجوب جفنيه كمن يتذكر وتطلع طويلا بعينيها ثم نزل الى صدرها ، فارتبكت ليسا من نظرات عينيه الباردة ومشاعره الثلجية فشعرت بالبرد حتى كادت ترتجف .
أخيرا ابتسم لها وهز رأسه .
- مس ليسا .. هل تقابلنا من قبل ؟
قالت وهي تتصنع الإبتسام ، لكونها لم تتذكر انها التقته من قبل ...
- ليس في هذا العالم كما أظن ... ربما في حيواتنا الأخرى ...
- اية حيوات ؟
- هناك ، أو هنا ، في هذا البلد او ذاك ، فنحن كما اؤمن لا نفنى بل نعود ثانية باجساد أخرى ، ربما التقينا في عالم أخر ...
قال محجوب .
- اين تظنين اننا التقينا ؟
قالت كمن تتذكر .
- في باريس ... في دير منعزل ...
قال .
- كنت راهبة جميلة ... وانا كنت راعي خراف أرعى حول الدير فتريني كل صباح . اليس كذلك ؟
- مستر محجوب انا مدهوشة من قوة ذاكرتك .
وضع محجوب كفه تحت حنكه وتطلع بها طويلا .
- أتذكر اني كنت جندياً وقتلت في معركة ، واتذكر اني مت من المجاعة في أفريقيا ...
- لا نهاية لحيواتنا مستر .. ولا شيء غريب او جديد في هذا العالم .
فجأة شعرت بطوفان هائل من الحب اتجاهه وودت لو انها تأخذه بين ذراعيها وتتركه يتذكر طيلة حياته .
قالت – تعال سأريك شيئاً يعجبك .
- ما هو ؟
أخرجت له لوحة بالوان عديدة وكثيفة ممتزجة مع بعضها بعشوائية .
قالت – لشهور عديدة كان الآرتست يمسح فرشاته على هذا اللوح ، فخرج هذا الشكل الغريب الذي كلما نظرت له ، اجد حياة مفقودة ، فاتذكرها ... اليس هذا عجيباً ؟
- مدهش ... روحاني ... ماذا رأيت فيها ؟
- رايت حيوات لا تنتهي ... رأيتني اتنقل بين الأجساد مرة رجل ومرة امرأة الى ما نهاية ..
واصلت ليسا ثرثرتها عن حيواتها العديدة التي عاشتها في كل العصور وعن ( الآلهة ) العديدة التي تؤمن بها وتقدم لها النذور وعن طقوسها الروحانية وعلاقتها بالأرض والزهور والطبيعة .
قال محجوب .
- الحديث معك ممتع مس ليسا ، لكن يجب ان ارى الآرتست الآن فلا وقت لدي ، ربما سنتحدث مرة ثانية .
قالت بلهفة – من دواعي سروري أي وقت تشاء ... متى تريد ان نلتقي ؟
- سنلتقي حتماً ... اذا لم يكن لقاؤنا في هذا العالم سنلتقي بغيره كما نفعل عادة .
ثم التفت وكأنه يبحث عن الآرتست .
- أين هو ؟
- من المفروض ان يأتي الى عمله في الثامنة صباحاً ، لكنه لم يأت بعد ، سأتصل به حالا .
رفعت الهاتف وتحثت مع ( ابو عوف ) ، بينما صعد محجوب الى الأعلى حيث المشغل .




@@@



قطعت بتريشا الطريق المؤدي الى الحي الصيني على قدميها ، واتجهت ناحية مقهى ( حلال بيتزا ) لتدخن ناركيلتها ، تلك العادة السيئة التي تعلمتها من اصدقائها العرب فأدمنتها ، لذلك فهي تضطر لقطع تلك المسافة كلما شعرت بحاجة لذلك الدخان اللذيذ الذي يمنحها راحة ونشوة تنسيها ما تلاقيه من علاقتها المتذبذبة بمحجوب ، ومن علاقتها بابنها منه ( علي ) ضحيتهما معاً ، فهي لم تكن مهيأة لأن تكون ام ولم تتعلم ان تهتم بوليدها الصغير الذي يتشبث بها كلما هربت من المنزل .، ولم تكن مستعدة لتمثل دور الزوجة المخلصة لمحجوب الذي يريدها ان تكون جارية في منزله ، تعد له الطعام وتغسل ملابسه وتنام معه حينما يرغب ، كل ذلك يدفعها للهرب في محاولة للأنتقام منه واذلاله ، فهي لم تعتد حياة المنزل وخاصة مع رجل من جذور شرقية لا يرى في المرأة سوى وعاء للذة وانجاب الأطفال ، رغم انه ولد في نيويورك ويتصرف كاي رجل امريكي ، لكنه مازال يحمل في داخله لوثة الشرق وتلك الأحلام المجنونة بالصحراء والجمال والخيام .
- بتريشا ... بتريشا ..
صرخ ستيف من خلفها وجاء يهرول ناحيتها .
- يا ألهي ... ستيف ... الممل والسخيف .
توقفت بانتظاره وعلى شفتيها ابتسامة لا معنى لها ، فهي تعرفه منذ ان كانت تدرس في الجامعة ، وقد عانت كثيرا من ملاحقته لها وايهام الآخرين بانها صديقته .
قالت – مرحبا ستيف .
- رايتك تمشين مسرعة على غير عادتك فظننت ان احدا ما يلاحقك .
قالت – لا احد يلا حقني يا ستيف .
- الى اين انت ذاهبة ؟
- الى المقهى
- من اجل الناركيلة
- نعم .
- تعالي الى شقتي سأوظب لك واحدة .
- لا شكرا لك احب التدخين في المقهى .
- هل تحتاجين الى رفقة
فكرت قليلا وقالت
- حسنا ، لا مانع لدي .
سار الى جانبها وهو يحاول الإحتكاك بها .
قال – عندي صاروخ ماريجونا رهيب ، سيعيد لوجهك الإبتسام .
قالت بتردد .
- لا ... لا داعي لذلك .
- تعالي .
اتكأ على جدار مقهى ( سيبون ) واشعل لفافته ، اخذ منها نفسا عميقا وحبسه لوقت طويل في رئتيه ثم قدمه لها .
قال والدخان يخرج من منخريه بكثافة .
- هل ما زلت ترين محجوب .
- نعم .. في بعض الأحيان ..
حبست الدخان طويلا وشعرت به يضرب جمجمتها .
قال – هل تحبينه ؟
- من ؟
- محجوب ؟
- لا أدري ... لم اعد احب احداً ...
- ما رأيك لو طورنا علاقتنا الى اكثر من اصدقاء ؟
- لا افهم ما تعني ؟
- اقصد ان نجرب ان نكون سوية ، نعيش معاً مثلا .
لم ترد ان تقول له ان محجوب سيقتله ، سيقتلهما معاً ...
تابعت طريقها وهو يلاحقها كظلها .
قالت – هل تتذكر الآرتست ... العراقي الذي رسم لي ( بورتريه ) .
- نعم .. اتذكره .
- ليلة امس جاء الى منزل محجوب .
- بدأ يلاحقك هو الآخر ؟
- كلا .. لا اعتقد ، انها مجرد صدفة ... كان على موعد مع محجوب ، انا الذي فتحت له الباب واعتقد انه لم يتعرف علي بسبب الظلمة ..
- ماذا كان يريد ؟
- لا ادري .. لكنهما تجولا في المنزل ثم غادر ..
اقتربا من مقهى ( حلال بيتزا ) وكانت بتريشا تشعر بالعطش نتيجة الدخان ، فجلست على اول مقعد صادفها ، تنظر بحزن في الوجوه المحدقة بها ، بينما انشغل ستيف بتلبية مطالبها ومحاولة الألتصاق بها .





@@@



وصل الآرتست الى منزله متأخراً ، قبل منتصف الليل ببضع دقائق ، وجد ( مارثا ) العجوز جالسة على دكة الباب تغالب النعاس وتطرد الضجر بالعراك مع المارة .
- مساء الخير يا مارثا .
- ايها العراقي .. ايها العراقي ؟ ... تعال
تجاوزها كأنه لم يسمع ندائها ..
- ابن القحبة ..
ضحك بسره وواصل سيره ، صعد السلم وهو يلهث وبمجرد ان فتح الباب
سمع رسالة صوتية في هاتفه من ( ليسا ) .
- حينما تصل الى منزلك ايها الحشاش اتصل بي فوراً ..
ضحك من الوصف الجديد الذي اطلقته عليه ( الحشاش ) وكأنه الوحيد في هذا البلد الذي يدخن ماريجونا ، كلهم يدخنون من صغيرهم الى كبيرهم ، بلد مساطيل ، كل ما في الأمر انه يرغب ان ( ينسطل ) قليلا ، بلا هموم ولا تفكير ، سطل فارغ يجلس وحيدا لمشاهدة التلفاز يتابع أخبار الحرب في بلده البعيد ، ينظر الى الشوارع التي احبها والى المدينة التي تحولت الى خرائب ، خرائب كأحلامه التي لم تتحقق ، احلامه التي اختفت تماما وتحولت الى لوحات جامدة يضع فيها ناس كالموتى وجوامع وبيوت آيلة للسقوط ثم يزرع في تلك اللوحات شخص بملامح غير مرئية يراقب المشهد بعيون ميت .
مشهد الحرب الطويل في التلفاز جعله يشعر كأنه لم يغادر ذلك المكان اصلا ، لأنه لم يكن يريد ان يغادر ، يريد ان يعيش ويموت هناك في المنزل الذي احبه والشارع الذي اعتادته قدماه .
نهض وفتح النافذة ينصت للغط المدينة الجديدة ، مزيج من اللغات والوجوه والرغبات ، مشهد يشبه لوحات ( كاندنسكي ) ، لطخات الوان تشكل مزيج مديني تنبثق منه غربة روح وغربة بدن ، وشعر بأنه مجرد لطخة داكنة اللون تتوسط مهرجان الألوان .
- ماذا افعل هنا ؟
غمغم الآرتست ابو عوف واغلق النافذة حتى لا يهرب منها الدخان .
فهو لا يستطيع ان يعيش دون دخان ، ولولا دخان الهنود الحمر ذاك لما استطاع مواصلة حياته ، فمع نفاد آخر لفافة حشيش في جيبه سيجدونه معلقا من رقبته متعفنا وعلى وجهه البليد خريطة من الأسف .
قال – ماذا تريد مني هذه المتصابية ؟
أشعل لفافة حشيش سمينة وجلس يدخن ويسعل ، فشعر بالوحدة ، وحدة قاتلة كأرملة لا تنتظر زوجاً يعود ، وبدت شقته الغريبة الألوان اشبه بكهف رجل بدائي سقط فجأة في نيويورك ، من السماء ربما ، لا يدري كيف سقط في نيويورك ؟! من اتى به الى هذا المكان الغريب ؟... أخذ نفسا اخيراً من لفافته وقد اطبقت عليه الوحدة من كل جانب ، فرفع الهاتف واتصل ب ( ليسا ) .
- نعم ابو عوف ؟
كانت نبرتها مفتعلة كالعادة ، مزيج من الرفض والدعوة .
قال – ماذا تفعلين ؟
- لا شيء ... اتهيأ للنوم .
- لوحدك ؟
- كالعادة لوحدي .. اختفى الطابور من على باب غرفتي ، كلهم ذهبوا بمجرد ان بلغت الأربعين .
- من هم ؟
- السفلة الأوغاد الذين كانوا يتوسلون بي من اجل نظرة واحدة .
- تركوك كلهم ؟
- لم يبق احد ..
ثم ضحكت واكملت ..
- ماذا فعلت مع محجوب ؟
- اتفقنا على بضعة امور ... كالأجر والألوان .. .
- هل سأل عني ؟
- كان مجرد موعد عمل كما تعرفين ...
- لم يسأل عني اذا ؟
- اسمعي ما رأيك بليلة ساخنة تعيد لروحك بعض من طراوتها .
- معك .. لا يا حبيبي ... ان حزنك لا يطاق وانا لا اريد ان احمل همومك ودخانك فلدي ما يكفيني . كما اني لا اطيق منظر شقتك المضحكة .
قال – سآتي الى شقتك ..
صمتت لدقيقة وقالت .
- حسنا .
اغلقت الخط ، فانسل ابو عوف من شقته وتسلل الى الشارع واخذ سيارة اجرة الى حيث تسكن .
قالت وهي تسد المدخل بجسدها نصف العاري .
- لا تدخين بشقتي كما تعرف .
قال هو يعود ادراجه .
- وماذا سنفعل اذن ... نجلس ونبكي حظنا العاثر .
ضحكت ليسا وسحبته من كفه الى الداخل ، الى غرفتها ...
كانت هي المرة الأولى التي يدخل بها غرفتها ( وكر الملذات ) كما كانت تسميها في ايامها الغابرة ، ففي هذه الغرفة وعلى السرير نفسه ، نام العديد من رجالها وعشاقها الكثار وتركوا عليه رائحتهم وذكرياتهم ، نام عليه سفراء عرب وخليجيين ومطربين من لبنان ومصر ومهاجرين ومعارضين لحكوماتهم ، عدد كبير من عشاق الليلة الواحدة الذين كانوا يرحلون عادة بعد ليلة غرام ساخنة ، يعودون الى ديارهم او الى زوجاتهم ويتركونها وحيدة تبحث في ذاكرتها عن لحظة نشوة هاربة ، جميعهم نسوها في خضم الحياة التي لا ترحم ، الا واحداً ، ( مالك روحي ) كما تسميه ، الفتى الوسيم والغريب ذي الأعوام العشرين الذي كان يقف بمواجهة مقهى ( سيبون ) ، يعزف لرواد المقهى الأجانب الحاناً شجية وأغان تجعلهم يتوقفون عن الثرثرة والشرب وينصتون بحزن الى عزفه الغريب وغنائه الذين لا يفهمون منه حرفاً واحداً ، فلا احد يدري ماذا يغني ذلك الفتى الجميل وماذا يقول ، لم يسمع احد مثل غنائه من قبل ولا لغته التي تشبه خليط من اللغات ... كان يأتي كل يوم في الموعد نفسه ويغني للزبائن والمارة والنساء المخذولات الوحيدات ، يغني بحرقة كأنه سيموت غداً من الحزن او الفراق ، وحينما رأته ( ليسا ) اول مرة وقفت قبالته فاغرة الفم ، وأخذت تنصت له لساعات طويلة وتحاول ان تتذكر اين التقت بذلك الوجه الجميل ، حتى نسيت موعد عملها وهمومها الكثيرة وعندما انتهى من غنائه منحته كل ما تحمل في جيبها من مال ، وهي تتمتم .
- كأنني كنت اعيش معه في غرفة واحدة .
في منزلها وداخل غرفتها أخرجت كل ( البومات ) صورها القديمة والحديثة تبحث فيها عن وجهه ، عسى ان تراه هناك ، فليس من الممكن انها لم تلتق به يوماً في حديقة او بار او شارع .
بحثت عنه طويلا في ذاكراتها وحينما لم تجده ، ذهبت ثانية الى مكانه فوجدته يستند على جدار مقهى ( سيبون ) ينظر الى العابرين بحزن .
فقالت .
- ما اسمك ؟
قال – ( تيبو ) .
- حسنا يا تيبو هل تعرفني من قبل ؟
- كلا ... لكني كنت أغني من أجلك طيلة الوقت .
- وهل وجدتني ؟
- كلا ... لا اريد ان اجدك حتى لا اكف عن الغناء .
اخرجت له قبضة من النقود ودستها في يده وقالت .
- تعال معي ...
وواصلت سيرها وهي تنصت لوقع خطواته خلفها ، وحينما دخلت الى غرفتها غرقا بعناق طويل كأنهما كانا يبحثان عن بعضهما منذ الأزل .
في الصباح لم تجده ايضاً لقد رحل هو الآخر، رحل من واجهة المقهى ومن نيويورك كلها ، كأنه لم يكن هناك أصلا ، لكنه لم ينساها بل ترك لها اثمن شيء في حياتها ، ترك لها رائحته العذبة في كل مكان ، تركها على صدرها وشعرها وافخاذها ، على السرير والأغطية والوسادة ، رائحته التي ما زالت تعبق في ارجاء غرفتها رغم مرور كل تلك السنوات .
قالت ليسا وهي ترمي نفسها على السرير .
- لماذا نكبر بسرعة ؟
قال ابو عوف .
- حتى نكف عن ارتكاب الأخطاء .
جلس على حافة سريرها ينظر الى اثدائها الضخمة وهي تعلو وتنخفض ، فقرب فمه منهما واخذ يرضعهما بنهم كأنه طفل .



#رياض_كاظم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وداعاً يا راعي البقر
- الجلوس في مدينة الذكريات
- ليلة غريبة قصة قصيرة
- مرآة الغرفة والجليس الصامت


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض كاظم - بيت الشجعان