أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - فان جوخ والسجن الإختياري














المزيد.....

فان جوخ والسجن الإختياري


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 7186 - 2022 / 3 / 10 - 16:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أركيولوجيا العدم
١٢٧ - السجن الإختياري

هذه اللوحة، "جولة السجناء - La ronde des prisonniers" التي رسمها فان جوخ قبل وقت قصير من إنتحاره، تعبر أحسن تعبير عن حالة الإنسان المحاصر في وعيه، عن حالة فان جوخ في المستشفى حيث أن مرضه لم يعد يسمح له بالسيطرة على الأشياء المحيطة به، الكل يخيفه ويرعبه، حيث يصبح الإنسان مثل الجرذ المحاصر، حيث لا يمكن رؤية السماء ولا أي شيء آخر ما عدا هذه الأسوار العالية التي تشكل ما يشبه حصن "الأنا" المنغلقة والغير قادرة على تجاوز إمكانياتها. الوجود كله محجوب ومحاصر بواسطة هذه الجدران الشاهقة، المبنية من الطوب مع القليل من النوافذ العالية العمياء. نشعر بأننا محاصرون، محطمون، الجداران الجانبيان يتقاربان، الجدار المقابل يوقف كل أمل في الخروج، يوقف كل النظرات التي ترغب في الهروب أو في قليل من الهواء والضياء. الطوب، ملون بالأخضر في الأسفل، يضيء باللون الأصفر الباهت في الأعلى، ومع ذلك يجب أن يكون هناك القليل من الضوء، القليل من الشمس التي تخترق هذا العالم الرمادي. أما أرضية الساحة فهي مكونة من لمسات مستطيلة متوازية تجعل الفضاء يهتز ويرتجف. في هذا الفناء ، يدور حوالي ثلاثين سجينا يرتدون ملابس العمل، بالإضافة إلى ثلاث شخصيات يمثلون السلطة، الحرس والشرطي وربما المحقق. اللوحة ذات تعبير قوي ومدهش، نشعر بالجو الخانق وبثقل الهواء على أجساد المساجين المنحنية وبرودة الأرضية الصلبة التي تقلل من قدرتهم على الحركة أو التنفس. فان جوخ بحساسيته المفرطة ووعيه الملتبس في هذه المرحلة من حياته يصور لنا هؤلاء المساجين، ليس كذوات بشرية تمارس الحياة، وإنما يصورهم بنفس الطريقة التي رسم بها مواضيعه الأخرى، ككائنات طبيعية، كالنباتات أو الأشجار والأزهار والمحاصيل في الحقول أو الأحجار، والتي رسم العديد منها في هذه السنة هروبا من وعيه المنفلت والمنفتح محاولا أن يتقبل مهنته كمجنون بدلا من تقبل مهنته كفنان "فاشل". ومن الملاحظ أن فان جوخ قد مثل نفسه في هذه اللوحة في شخصية سجين في مركز الصورة متميزا عن بقية السجناء، لكونه الوحيد الذي لا يلبس قبعة، مما يحعلنا نلاحظ شعره الأشقر والذي لا يدع مجالا للشك في أن السجين في مركز الصورة هو فنسنت نفسه والذي يدير وجهه ناحية مشاهد اللوحة، مما يعني أنه كان ينظر إلى نفسه، إلى الرسام، في شخصية الفنان فان جوخ الذي كان يرسمه. لقد صور فنسنت نفسه في عشرات اللوحات التي تمثله Autoportrait، بالقبعة أو بالغليون، وهو يرسم أو يتأمل لوحته ولعل أشهرها صورته بالضمادة على أذنه بعد قطعها. الصور الشخصية لفنسنت فان جوخ هي مجموعة من اللوحات والرسومات التي تمثل الرسام الهولندي بين عامي ١٨٨٦ و ١٨٨٩، خلال مسيرته الفنية القصيرة، حيث رسم فان جوخ نفسه في حوالي أربعين عملا، من اللوحات والرسومات، غير أنه لا تُعرف له أي صورة ذاتية تعود إلى إقامته في " أوفير سور واز Auvers-sur-Oise"، حيث رسم لوحة جولة السجناء. فيمكننا القول هنا بأن فان جوخ كان ينظر إلى نفسه في هذه اللوحة، رغم أنها منقولة بوفاء عن نقش جوستاف دوريه دون أي تغيير، ما عدا الألوان الزيتية بدلا من حبر المطابع الأسود، صور نفسه كسجين بين هؤلاء السجناء، رغم أنه هو الذي طلب الدخول لهذه المصحة بطريقة إختيارية. ظل فان جوخ يعاني من نوبات عصبية مروعة جعلت منه مرتبكا لعدة أيام أو أسابيع، على الرغم من ذلك ، فقد كانت تأتيه أيضًا نوبات من الهدوء والتي كان قادرًا فيها على ممارسة الرسم، وفي الواقع، يعد الوقت الذي قضاه في أوفير منذ مايو ١٨٩٠، بعد تركه للمصحة النفسية خارج سانت ريمي دي بروفانس شمال شرق آرل، هي الفترة الأكثر إنتاجية في حياته الفنية، ففي خلال ٧٠ يومًا، انهى ٧٠ لوحة زيتية وأكثر من ١٠٠ رسمة، ولكن بدون أي أوتوبورتريه.
أن تدهور حالته العقلية والذي صاحبته نوبات اكتئاب حادة ترجع، ولا شك إلى توقفه القسري عن الكحول، لم يتعافى منها تمامًا، الأمر الذي كان سيؤدي في النهاية إلى انتحاره.
هذا الإنفصام والإنقسام الرهيب الذي كان يعاني منه في الشهور الأخيرة من حياته، والذي أدى به إلى أن يطلق رصاصة على صدره في هذا اليوم المشرق، يوم الثلاثاء ٢٩ من شهر يوليو ١٨٩٠، هذا ما يمكن تسميته بالغربة الأساسية أو بالغربة الأنطولوجية، وهي غربة حادة وعميقة قد تؤدي إلى الموت في بعض الحالات المعقدة والمستعصية. فالعديد من الناس يعانون من حالات الإنفصام والشيزوفرينيا وتعدد الشخصية وغيرها من الأمراض النفسية المتفشية في المجتمعات المعاصرة والمحاصرة، غير أن أغلب هذه الحالات لا تصل درجة الإنتحار مثل حالات فان جوخ، فرجينيا وولف، نيكولا دو ستايل
‏Nicolas de Staël وغيرهم من ذوي الذوات المشروخة، والذين في لحظات الهدوء والإتصال بذواتهم، يكتشفون عدم قدرتهم على إحتمال "النسخ"، وبالذات النسخ الغير مطابقة للصورة التي رسموها طوال حياتهم عن ذواتهم، ولا يحتملون فكرة معايشة تجربة التحول أو الميتامورفوز إلى ذوات أخرى وأشخاص آخرين مغايرين تماما لأصلهم. هذه الغربة الأنطولوجية، وفقدان التوازن الزمني والمكاني والتي تمس روح الفرد وجسده قد تتخذ صورا مختلفة ومتعددة، لا علاقة لها في أغلب الأحيان بالإضطرابات النفسية أو الإختلال العصبي، بل تتصل مباشرة بالوعي وقدرته على إبداع أنوات وذوات متعددة حسب خريطته الوجودية. الأمثلة المعبرة عن هذه المواقف عديدة ولا تحصى، سنختار منها مثالا واحدا يمثل هذه الغربة والغياب الوجودي وقدرة الوعي على دمج ذوات مختلفة في تاريخ واحد، مثال نأخذه من الحياة العادية، لإنسان عادي من الطبقة البرجوازية الأوروبية، وهي حالة جان كلود رومان، الطبيب الفرنسي الذي هزت حالته وأعماله فرنسا وسويسرا في نهاية القرن الماضي.

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غربة فان جوخ
- المال والسلطة والسلاح
- اللامرئي
- الرفض
- حرب على الحرب
- كاليجولا ومطاردة القمر
- سرير بروكست
- بين الوجود ولكينونة
- أدونيس وتعطيل العقل
- جريمة في القطار
- أدونيس وعمامة رامبو
- الجرذ المحاصر
- الوعي وال - أنا - المتعالية
- الساحرة
- المعرفة عند الحلاج
- الحلاج
- ليلة الحشيش والبيرة
- النمل وكأس المساء
- المتسكع
- الشاعر الصوفي


المزيد.....




- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - فان جوخ والسجن الإختياري