فؤاد أحمد عايش
كاتب وروائي أردني
(Fouad Ahmed Ayesh)
الحوار المتمدن-العدد: 7179 - 2022 / 3 / 3 - 11:16
المحور:
الادب والفن
اشتدّ القصفُ والرّعدُ ، لم تكفّ الأمطار عن النّزول لحظة واحدة ، كانت الرّيح تُصفّر صفيرًا مُخيفًا يُنبئُ بقدوم أمرٍ ما ، فجأةً لاحَ في الأفق بعض الصّحوُ ، تململتْ في فراشها ثمّ غادرته أخيرًا.
في هذا اليوم لم تُضع الكثير من الوقت و هي ترتدي ملابسها وتوضّب مظهرها ، ألقت ببصرها إلى السّاعة الحائطيّة ، كانت السّاعة الحادية عشرة صباحًا ، فهمست :- إنّه الوقت المناسب ، حتمًا سأجدهُ في المكتب ، سارت ”ندى” في الطّرقات تحت وقع حبّات المطر ، وبالها مشدودٌ هناك : أين … تحيطهُ الكتب والمجلاّت … عرّجت على هاتف عموميّ قبل بلوغ المكان لتتأكّد من وجوده بالمكتب : فجاءها صوته ممزوجًا ببعض التّعب وبعض الاشتياق والحنين إليها ، والحال أنّهما التقيا منذُ أيّام قليلة.
عزيزتي … أنا أنتظركِ … فهيّا إليّ ... ابتسمت ابتسامتها المتأتّية من الأعماق وسارت إليه … كان "فؤاد" منهك القوى ومبعثرَ الأفكار ، تحمل نظراته حزنًا عميقًا وحاجةً لا مثيل لها ، إنّه يحتاجها. فحين رآها أمامهُ بالباب جذبها إليه واحتضنها بقوّة كما لم يفعل ذلك من قبل ، ثمّ ببراءةٍ وبراعةٍ أجلسها على الكرسيّ المتحرّك ، وراح يُداعبُ شعرها ويبعثر خصلاته المتلألئة تارةً بحنانٍ ورفقٍ وتارةً أخرى بعنفٍ وقوّةٍ ، ثمّ صرخ قائلاً :- لماذا تأخّرتِ كلّ هذه الفترة ؟ أظنّكِ تعرّفتِ على شخصٍ آخر … آسف ، بغتةً صمت ، وكفّ عن الكلام وشرع يتأمّلها كأنّه يُسائل عينيها الصّدق والحقيقة ، كأنّه يناشد الطّمأنينة و الراحة.
هنا بدا مُرهقًا ، أتعبتهُ الأيّام جثّة متداعية ومترامية مبعثرةً هنا وهناك ، سمعت صُراخًا مُنبعثًا من أعماقه :- دثّريني بطيبكِ ولملمي شتاتي الضّائع. لم تقوَ على الاحتمال فنهضت من مكانها ودون أن تنبس بكلمة عانقتهُ ، عساها تُلبسهُ رداءً يُذهب عنه صقيع المشاعر ، عانقته حتّى أنّها نسيت الزّمن والمطر والرّيح.
إنّ ما يربط "ندى بفؤاد" لم يكن علاقة عشقٍ وهيام … كلّا إنّهما باتا شخصًا واحدًا وحلمًا واحدًا بالرّغم من المسافات الفاصلة بين تواجدهما ، فقربهما قد محا كلّ المسالك ، لا أحسبُكَ تشتاقني بقدر اشتياقي لكَ ؟ تساءلت ثمّ عادت إلى الكرسيّ المتحرّك لتجلس ، بينما شرع هو في بعثرة الأوراق المتواجدة على مكتبه وإعادة ترتيبها على غير هدى ، كان كأس الشّاي أمامهُ منذ عدّة ساعات ، لقد اكتسحه اضطراب مفزع ، انسلّ إلى صدرها غيظ : أَتُراهُ لا يبرأُ بوجودي ؟ أحسّته يتململ ، ينازع الحيرة ، يودُّ أن ينثرها أمامها ، هو يريد الكلام والتّحدّث في أمرٍ ما. لم تسأله ، فقط راحت تُمعن النّظر في هذا المكتب الّذي لم يُكتب له يومًا التّنظيم ، وهذه الكتب المصفوفة بمختلف الأحجام وتلك المجلّدات والمقالات هي بئرٌ عميقةٌ يصعب الاقتراب منها سواه. لمحته يسرق النّظر إليها من حين لآخر ، كان شوقها يكاد يصرعها ، أتصرخ في وجهه : "ما الأمر؟" غير أنّ رباطة جأشها جعلها تسأله في هدوءٍ وسكينة لا نظيرَ لهما : ألم ترَ الأمطار في الشّوارع والطرقات ؟ رفع رأسه ويداهُ تعبثان بالأوراق أمامه ، ثمّ قال : هل قرأتِ آخر مقال كتبته منذ يومين ؟ لم تنطق بحرف ، لكنّها رفعت جبينها مستغربة سذاجته ، والحال أنّه متأكّد من متابعتها كلّ ما يكتب ، رانَ بعض الصّمت ثم قال لها : هل تعلمين أنّ المرأة هي الوحيدة القادرة على تشكيل الرّجل ؟ نعم ، هي قادرة على صنعه كيفما أرادت لربّما لا تدري ذلك. فأنا مثلاً لأختي الكبرى عليّ فضلٌ وجميل لن أنساه ، لولاها لما تعمقت مشاعري الفيّاضة تجاه الأدب و الفنون. إنّ طريقة معاملتها صيّرتني أشعر وأحسّ بعدّة مسائل قد لا ينتبه إليها بقيّة الرّجال وقد لا يعرفونها ، صمتَ لحظةً فنهضتْ ووقفتْ وراءهُ تمامًا وبدأتْ تُداعب شعره كأنّه طفلها ، هي متيقّنة تمام اليقين أنّه يحتاج دفئها ، فلازمت الصّمت. لقد كنّا أربعة إخوة وكنتُ أصغرهم ، بعد وفاة والديّ ، تكفّلت أختي الكبرى بتربيتنا ورعايتنا ، أكبرنا أخ يدرس بالجامعة. كان نادرًا ما يجلس في البيت ، فأخواتي البنات يهبنهُ كثيرًا ويعرنه اهتمامًا كبيرًا : إنّه سيّد البيت ، يسكت الجميع إذا دخل هو ، نادرًا ما يتكلّم … أمّا معي ، فأخواتي يتصرّفن بكامل حريّة ودون اهتمام. رأيتهنّ يتهامسن ، يضحكن ، سمعتهنّ يروِين قصص عشقهنّ دون خجل. حقّا لقد صاحبتهنّ إلى كلّ الأماكن الّتي ذهبْن إليها : السّوق والحمّام … نعم ، لطالما دخلت معهنّ الحمّام مع النّسوة ، كنت أتأمّل هذه ، وأستغرب شكل تلك … وأجلب ماءً لأخرى … كنتُ طفلاً في عيونهنّ وكانت ذاكرتي قوية ، منذُ سنة تقريبًا رحت إلى قاعة السّينما لمشاهدة فيلم ( ... ) ، حينها سبح فكري … فأيقنت أنّه يسكنني حاضرًا … هو لم يُمّحَ … فأحسست أنّني كالعصفور ينطّ من سطح لآخر … رويدًا رويدًا.
مال صوتهُ إلى الحزن ، أحسّته ”ندى” يحمل بعض الآلام والشّجن. إنّه يختنق من الوريد فقاطعته :- لكنّ أختك قد اعتنت بكَ. هي قد حرصت عليك ، لذلك اصطحبتك إلى كلّ الأمكنة. أَتلومها الآن ؟ واصل ببعض المرارة : طبعًا لا. لكنّ كلّ تلك الظّروف جعلت منّي مرهف الحسّ والشّعور ، لربّما انتابني شعورٌ بالألم لرؤية مشاهد ومناظر قد لا تؤثّر في معشر الرّجال … قالت : هذا أمر رائع ، حتمًا. الآن أجدكَ تمتاز عنهم.
كالعادة "ندى" تجعلين منّي بطلاً أسمو عن الجميع. راحت تتحسّسه بطرفي أصابعها ، ثمّ همست في أُذنيه وهي ترفع إليه كأس الشّاي :- كان مقالك رائعًا ومميّزًا دون سواه … أما آن لهمسنا أن يتحوّل أنغامًا تُطربُ من حولنا ؟ بقي صامتًا … فواصلت بعزم شديد : علمت بمرض أختك وبزيارتك لها … و أيضا بأنّك قد بكيت عندما آلمك منظرها وهي تدخل الفراش تتألم … نعم ، ليسَ عيبًا أن نُظهر مشاعرنا تجاه المحيطين بنا … لكنّي لم أعهدكَ ليّنًا لهذا الحدّ ؟ بدت عيناه تبحثان عنها … طوّقتهُ بذراعيها بكلّ حنان. ثمّ همست : ما رأيك لو نسيرُ تحت حبّات المطر ؟ خرج الصّديقان مُلتحميْن مُتّحديْن ، وقطرات المطر تُذهب عنهما كدمات الماضي ، وفرحة الحاضر وحيرة المستقبل. لقد أحسّ "فؤاد" ببعض الرّاحة، وأيقن أنّ أخته ستشفى … وأنّ حلمه سوف يكبر. لأنّه امتلك روحًا تُساندهُ دومًا … وتبعث الانتعاش في أوردته كلّما اقترب من رحلة الماضي … أحسّته ”ندى” قد ناشد سكينة فكره … فأمسكت بيده معلنة في أعماقها : لطالما رويتك صدق مشاعري ونبض فؤادي … وأعلم جيّدًا أنّنا نمضي جنبًا إلى جنبٍ وسنظلّ … وكان القدر ينشد : مطر ، وسارا محمّلين بالشّوق الدّفين والرّيح تلفح الذّكريات فهناك … رسومٌ وخطوط ، فالمطر قد نزل ، كانا تحتهُ شهوة الصّمت المكبّل … والقدر كانا … أنغام طيرٍ في الأعالي والمحن … ثمّ وببعض الأمان صارا … صخرةً نحتها القدر صخرةً هما .. فانتشرا في أرجاء المعابد والمقابر … ها هنا أرواحهم وبعض السّلام. كُتبت لوحةٌ : "الفؤاد مرّ يومًا من هنا ".
#فؤاد_أحمد_عايش (هاشتاغ)
Fouad_Ahmed_Ayesh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟