أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد موجد - طواف في الادب الروسي، فصل من رواية















المزيد.....

طواف في الادب الروسي، فصل من رواية


ماجد موجد

الحوار المتمدن-العدد: 7176 - 2022 / 2 / 28 - 14:29
المحور: الادب والفن
    


ظلت تضغط على جمجمتي في العمق، هناك حيث يعتمل وعي ولا وعي التفكير، يوماً بعد آخر أخذت مني مأخذ الهوس الجنوني، ثمة تداخل على نحو غريب بين ما تختطفه رؤى النوم من صفاء وركود وعبث غريب احيانا وبين ما أهيم بتأمله وأنا في اليقظة والصحو، ومدار ذلك فكرة أن أكتب رواية، فكرة عجيبة بكل بهجتها وخيالاتها الأخاذة، بين الحين والآخر أرى أنني أجلس الى طاولتي منحني الرأس، أرفع قلمي وأهبط به لرصف كلماتٍ وجملٍ بأقواس وحروف مُحرَّكة، طاولات الكتابة تكون على حسب الرؤيا، بيضاء لها حواف منمقة بخطوط سود وأخرى من خشب الساج البني بقوائم منقوشة ومطلية باحتراف، الأقلام أغلبها ماركات من نوع بالمان، شيروتي، باركر. في الأسفل ورق صاف يلمع تحت رأس التيبللامب المعقوف، الى أذني وروحي تنسابُ مقطوعاتٌ موسيقية ساحرة، عادة أهجس أنها لأحد السحرة الذين لم أكن قد سمعت عنهم حينذاك سوى ثلاثة أسماء، باخ، بيتهوفن، شوبان، لكني سرعان ما أدرك أن ما اسمعه في واحدة من رؤياي هي موسيقا أغنية "مون أمور" الشهيرة، سأعرف فيما بعد أن اسم المقطوعة هو "حبي" بالفرنسية وان مؤلفها فنان فرنسي من أصل أسباني اسمه "خواكين رودريجو"، فقد بصره وهو شاب بينما لم تزل موسيقاه الفذة تفتح البصيرة والبصر. قريباً من ذراعي التي أرفعها ليستند جانب من وجهي على راحة الكف، كوبُ قهوة بإذنين ذهبيتين، طبع خزفُهُ بلوحات عالمية، أغلبها لفتيات أرستقراطيات شقراوات، ثيابهنَّ الطويلة لها حواش تلمع الوانها، ومشدّات مطرزة بخيوط يتوهّج فيها الذهب، تتطلع اليهنَّ الغزلان النحيفة من بين أشجار الفاكهة الدالية وفوقهنّ طيور وملائكة على شكل أطفال، أمام عيني جهة اليمين عادة ما أرى علبَ سجاير فاخرة، مالربورو، كِنت، روثمان. هل لديك كلّ هذه الاشياء؟ بالطبع لا أبداً، لا شيء من ذلك، في حياتي الواقعية لدي قلم جاف أزرق زهيد ودفتر مخطّط بغلاف مقوى باهت اللون، الى جانبي استكان شاي زجاجه معاد وعلبة سجاير محلي نوع سومر، ليس ثمة طاولة للكتابة، أنحني بجسدي كلِّه فوق فرشةِ الأرض وأكتب.
أغفو وأصحو محملاً بحكاية رؤيا لها أدواتٌ وشخوصٌ وأحداث، مرةً تلتئم كلّها على حدثٍ عابر صغيرٍ وواضح ومرة يتشظّى كل شيء فيها، أحياناً تمرُّ في زمنٍ قصير ليس سوى لحظاتٍ من أولِها أو جزءا قليلاً من آخرها، حتى أنني بالكاد أتذكّر ما حصل، لكن بعض الأحيان يكون الوقت كلّه مكرساً لتلك الرؤيا.
حتى في ليالي الأيام التي كنت أقضي نهاراتِها متعباً بعد أعمال شاقة كثيرة زاولتها، أعمال شاقة؟ نعم، كنت أقفز من عمل الى آخر، لكن أظن أن أكثرها إرهاقا للبدن والنفس حينذاك هي أعمال البناء، أذهب الى مكان تجمع العمال واسمه السِكَلَّة لأتطلّع وجوهَ المارين بسياراتهم، عادة ما تكون من نوع بيك آب، يتقافز العمال الى بطنها حد التخمة، ثم يظل الجميع يتطلع عسى أن يقتنع بهم صاحب العمل، منهم من يتم اختياره ويبقى يترصّد ما يجري بعيني منتصر ومنهم من ينزل مكضوماً لينتظر سيارة أخرى، أحيانا يبدأ العمل من أول إزميل يضرب الأرض لوضع الأساس، وأحيانا يكون في هياكل بيوت في طور الإكتمال، يدور العمال تحت إمرة أسطة يحاول بكل حرص أن يجهد أبدانهم، يتفحص خطواتهم على مدار الساعة وأيّ واحد ينهكه التعب سوف يمسّ كرامته بكلمةٍ واضحة أو بصوت مدغم غير صالح سوى لمناداة البهائم، يفعل الأسطة ذلك ليظهر إخلاصه لصاحب البيت أو المقاول لكي يبقيه مستمرا في عمله، فهو غالبا يُجَلَب بنفس طريقة اختيار وجلب العمال ومن نفس السِكلَّة.
فيما بعد صارت الرؤى تأخذني الى عوالم روايات كنت منكباً على قراءتِها أو التي انتهيت منها، ثمة رؤيا يحدث فيها أن أذهب الى بلدِ الكاتب، أقيم في منزلِهِ الكبيرِ الفاخرِ، أو آتي به الى بلدتي الصغيرة ومنزلي الفقير أو أتجسّده لأكونُ أنا هو، تارة يصير شخصاً أعرفه، ثمة صلة من نوع ما تربطني به، ربما أقرباء أو جيران، كل هذا يعتمد بطبيعةِ الحال على المزاج قبل النوم، حجم السرير ومتانتهِ، هل يُحدثُ صوتاً أثناء التقلّب، هل الفراش والغطاء مناسبان، ما شكل الوسادة وارتفاعها، أو إذا كانت موجودة تحت الرأسِ أصلاً في ذلك الوقت، الأمر متعلقٌ بالطقسِ أيضاً وثمة أشياء أخرى، يشرحها السيد فرويد وجماعته بشكلٍ مضحك.
في أحد الفترات كانت أغلب قراءاتي في الآداب الروسية، استهوتني حينذاك تماما، شعراً ورواية، تلك التعابير الإنسانية الفذة والأجواء المتقنة بالحزن والبهجة، أوّل كتاب كان ديوان شعر للشاعر الشاب ماياكوفيسكي، كل قصيدة فيه قرأتها مرتين أو ثلاث. أنتهي من نشوة الشعر لتسرقني متعة قراءة رواية، سحبتني الروايات من وعيي العادي العابر ورمت بي في سحرِ عوالم تمتدُّ حتى حوافّ العدم، تفكّرٌ عميقٌ مع دهشة فائقة يتشّربها العقل وتتدفق الى الروح والقلب حدَّ التلبّس، كان هذا التلبّس يحدثُ بقوّةٍ في رؤيا المنام، يكون أبطالها اما شخصيات في الرواية أو يدخل الكاتب نفسه بشيء من أجواء حياته لا سيما الشعراء منهم. إذ ثمة بعض من سيَرِهم يتفضّل المترجمون بتثبيتها عند مقدمة كل كتاب، رواية كان أم ديوان شعر، أو أحاول جاهداً البحث عن أي شيء يشير الى حياة الكاتب الذي يروق لي في كتب أخرى، أثناء قراءة المجلات المعنيةِ بالأدب المترجم، وأية ملامح لحياة أي كاتب تتكون في الذاكرة سوف تقفز معي الى مغطس النوم.
أحيانا تكون الرؤيا مزيجَ أحداثٍ وشخوص وأماكن وأزمان بين الروايات، مثلاً لو كنت في الواقع منكبّاً على قراءة رواية "بطل من هذا الزمان" لـ ميخائيل ليرمنتوف، أكون في رؤيا النوم طائفاً في رواية "الأبناء والبنون" لـ"إيفان ترجنيف" التي كنت انتهيت من قراءتها قبل تلك الرؤيا بأسبوعين أو أكثر، لكن هناك يبدأ سردٌ آخر وشخصياتٌ أخرى، يصبحُ الصديق المتمرد "بازاروف" في رواية الأبناء والبنون هو ذاته المتمرد "جريجوري بيتشورين" في رواية "بطل من هذا الزمان". هل كان ذاك لأنَّ بطلي الروايتين الشابين يمثلان دور المتمرد الذي كنت أريد أن أكونه؟ لكن من منهما أريد أن أكون؟ ما فعله الضابط اللص القاتل "بيتشورين" شيء، وما كان يطرحه "بازاروف" من أفكار احتقار ضد الإقطاعيين والمتعالين شيئا آخر.
ثمة في رؤيا أخرى تنفتح على حياتي أماكن رأيتها، أناس أعرفهم، تمتزجُ شخصيات الواقع بشخصيات الروايات، وهناك أتقبل الوجوه وهي تتراكم بعضها فوق بعض وما من شيء يبدو غريبا، ما من أسئلة تطرح أمام الأجواء المشحونة بالسحر والعجائب، كلّ شيء يبدو منطقيا، السؤال عن الكيفية يأتي باهتا ويذوب في لحظته.
مرة كنت مرافقاً لأبي الذي مرض بشدة وتطلب ذلك رقوده في المستشفى لثلاث ليال، في أحد هذه الليالي رأيت أبي وقد صار هو الطبيب، بدا أنه يحاول فحص شخص يتأوه فوق سريرٍ قديم وبائس من تلك الأسرة المعدنية التي توضع عادة في الفنادق الشعبية الرخيصة، نظرت صوب صراخ نهى لي، كان ثمة شخصان بملابس عسكرية رثة يحملان رفيقاً لهم، برزت عظمةُ ساقهِ وهي تشقُّ اللحم الوردي بنصلين، كذلك بانت وجوههم الشاحبة وقد علتها لطخات من السخام والدمِ اليابس، رؤوس الثلاثة بما فيهم المصاب الذي ما زال يصرخ لُفّت بخرق قماش بلونين. حاولت النظر بتركيز الى ما يحدث، هالني أن المكان كله ليس سوى خيمة كبيرة يئنُّ على جانبيها جرحى بإصابات مختلفة، يا الله، هذه الصورة ذاتها في رواية "الدكتور جيفاغو" لـ "بوريس باسترناك"، ماذا؟ نعم، هي كذلك تماما. طيف من التفاصيل التي اجترحها "باسترناك" تمرقُ صافيةً الى ذاكرتي، سرعان ما صار أبي بذات الهيئة التي كان عليها الدكتور "يوري أندريفيتش جيفاغو" متحمساً ومنهمكاً بإخلاص في متابعة المصابين، لكنها لم تكن ذات الأجواء في المستشفى الرسمي للثوار كم وردت تفاصيلها في الرواية، للحظة تذكرت اختطاف "جيفاغو" من قبل المشاركين في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد الثورة الروسية، هل هذه هي مخيماتهم ونحن الآن في خيمة الإسعافات؟ طرأ على بالي لحظتذاك ولا أعرف لماذا، أن زوجته "تونيا" هي من رتبت اختطافه، ألأن الأمر حدث بعد وقت قليل من اعترافه لها أنه خانها مع امرأة أخرى كان يحبها؟ لكي يتم مشهد الخيانة ذاك، لمحت في ركن من الخيمة فتاة شقراء بذات الملامح التي وصف بها جيفاغو حبيبة قلبه "لارا". قبل ان أصحو كانت الاحداث قد تداخلت بشكل يصعب عليَّ مهما بلغت من المهارة في تدوينها، منها أن أبي الذي من المفترض صار الدكتور جيفاغو في ذات الوقت صار أحد الجنود المصابين وقد لف رأسه بيشماغه، عند رأسه جلست أختي الكبرى وهي تحاول أن تلقمه ملعقة دواء، رأيت اثنين من أولاد عمي يدخلون المستشفى الذي تحوّل هو الآخر من خيمة كبيرة الى بناء يشبه مبنى مدرستي، أحدى المدرسات رأيتها وهي تهرول تحمل في يدها كيس مغذي وحفنة شاش كانت وجهتها جريح دخل للتو حين دققت النظر كان هو ذاته مدير المدرسة، بعدها ساحت التفاصيل شيئا فوق شيء حتى عجزت أن أمسك أيّ معنى لها.
في رؤيا أخرى، يطوف عليَّ بعض جيراني وهم يقيمون حفلة زفاف في قاعة قصرٍ مهيب، الأكثر وضوحا هو "شلتاغ" العربجي وابنه الملقلب أبو الهيم ثم دخلت ابنته سميرة التي كنت وقعتُ في حبها حتى كاد قلبي يتلف، رأيت أيضا "أبو عماد" عريف الشرطة بصحبة زوجته، ومن بعيد يتقدم ياسر سائق التاكسي وأخوه المجنون، كانوا محشورين مع مجموعات من أناس آخرين من أولئك الذين يرتدون ملابس الأوساط العليا في المجتمع الروسي كما وصفها "تولستوي" في روايته "آنا كارنينا" وهو ينعتهم بعبيد المال، حينذاك لم انته من قراءة الرواية لكن رؤيا المنام شدتها من الذاكرة ورمت فيها في سرد عجائبي مختلف، سرعان ما يدخل القاعة حصان مهيب يعتليه الضابط "فرونسكي" الذي أوقع الفتاة "آنا" في حبائل حبه، كما تخيلته وانا اقرا الرواية بوجه طولي داكن وعينين بنيتين غائرتين تحت حاجبين نحيفين، على أسنانه شيء من الصفرة بسبب علكه لأرواق التبغ، ضحكته بالكاد يتبين مغزاها، وما كنت لأفكر بالتكلف في صنع قبعته التي جمع فيها الريش والمعدن والحجر والجلد حتى سقطت بعثرةٍ من الحصان، ثم ليسقط هو بعد ذلك بعثرة أخرى أمام الحضور الباذخ الأنيق، في متن الرواية أيضا يسقط "فرونسكي" من فوق حصانه، لكن هناك في مضمار سباق الخيول وليس في قاعة قصر. عندما نهض وتقدم باتجاه "آنا" التي تقف قرب زوجها وتنظر إليه بفزعٍ، صارت ملامح وجههِ هي ذاتها ملامح شخص اسمه سيد حردان، يا لها من سخرية، ما العلاقة التي يمكن أن تجمعها رؤيا منام بين شخص يلقب بالسيد بين فقراء الناس وبين ضابط قيصري في رواية روسية؟ ألأنَّ الأمر متعلق بالخداع والنصب؟ فما فعله "فرونسكي" أنه أخذ ما ليس من حقه، أغرى امرأة متزوجة وكدّر حياتها؟ وهنا سيد حردان يشيع ان بركاته تفتح أبواب الرزق وتشفي المرضى وتحمي من كلِّ ضرر، حتى أن والدتي وضعت له صورة صغيرة على باب الثلاجة تحميها من العطل، في الواقع من يومها لم تعد ثلاجتنا تعمل مثلما نتمنى.
رؤية أخرى يدخل "زاهر أبو لحية" عامل المقهى الذي خطف منه لغمٌ نصف قدمه في حرب ايران ليصير الجندي "أوستن ديوشيف" الأصم في رواية زبد الحديد لـ "ايفان أوخانوف"، رواية فتحت لي أفقا جديداً من الوجع، أكثر من مرة طافت بي رؤى في شخصياتها وعوالمها، أختي التي فُقد زوجُها في الحرب صارت هي ذاتها الأرملة الشابة "نيورا"، مدير مدرستي "عبد اليمة" الذي تغطي أحد أسنانهِ صفيحة من الذهب أخذ دوراً أيضاً، كان وجهه قد بان تماماً على شخصية "بريديخين" الانتهازي الخسيس، لكن الضحكة المفتعلة التي تفجرت من فمه المليء ببخار الفودكا ورائحة تبغ "الماخوركا" الشهير لم تكن في ورشة الحديد كما جاء في الرواية، حين كان يقلب ذكرى تحرشه بـ"فروسيا" على مسمع زوجها "أوستن"، أين أطلقها إذن؟ أطلقها في ساحة مدرسة الامام علي المختلطة، هذا كان قد حدث في الواقع، فعلها "عبد اليمة" عندما تنمَّرَ ساخراً من إحدى التلميذات، مازلت أذكرها، اسمها مرام، كانت حين تتكلم تسقط بعض الحروف من فمِها مدغمة ومبللة باللعاب.
مع رواية "الجريمة والعقاب" لـ "ديستوفسكي" كان الأمر مختلف إذ أن الرواية ذاتها التي كنت أقرأها في الواقع تلبستني تفاصيلها تماما، كنت بين يوم وآخر تقريباً أقفز في الظلام وقد علق بي شيء من أحداثها بسياقٍ مفزع، بعض تلك الرؤى طفيفاً وأخرى تتواصل كأنها تكملة أو إعادة صياغة جريمة القتل، الحدث شبه الأساس الذي دارت فيه، أحدى المرات أخذتني الرؤيا في ذلك الفصل عندما أتم القاتل فعلته الشنيعة، تاركا المرابية العجوز وشقيقتها تخوضان في الدماء حدَّ الموت، كنت أنظر نحوه من زاوية في الغرفة الواسعة أثناء محاولته جمع بعض الأشياء التي تستحق السرقة، حين دققت النظر لم يكن هو الشاب الروسي الذي وصفته الرواية وكما تخيلته حينها، وسيما بشعره الأشقر وبقميصه الأبيض ذي الأكمام العريضة الموشّاة المشدود بحزام جلدي داخل سروال أسود ضيق، أسفل بطنه يبرز شعار القيصرية الروسية محفورا على معدن القوبجة الفضي، هذا شخص أعرفه، مَن؟ إنه أبو حوراء معلم الإنجليزي، يا الله من أتى به الى هنا؟ بطبيعة الحال لم أسأل هذا السؤال ولاحتى بعد أن تموجت الصور والوجوه، وبالتفاتة منه رأيته شخصاً آخر، من هذا الآن؟ انه "سعد خماط" الشاب الطيب الذي كان معي في الجيش، وجدناه ميتا بسبب ارتفاع نسبة السكر في دمه.
رؤيا أخرى تطوف داخلها الرواية ذاتها، يمر من قربي "راسكولينكوف" القاتل ومن ثم يولي هارباً دون أن أميز له ملامح بعينها، لكني أدخل أنا الى مسرح الجريمة وأصير جزءا منها، أقوم بما هو أكثر شناعة، أقترب من جسد العجوز "إيلينا إيفانوف" القتيلة، أمدُّ يدي لأتلمّس جسدَها اللين، التفُّ حولهُ وأشدّها اليَّ، من ثم أضاجعها، ماذا؟ كم أشعر بالخجل من هذه الرؤيا، لكن هذا ما حدث، ضاجعتها بشهوة مجنون، من جهتي صار جسدي كله يلهث، تدافع عصب اللحمِ وتصلّب وأولجته بقوة ثلاث مرات، لا أعرف من جهتها لو أدركت ما يحدث لها؟ ماذا ستكون ردة فعلها؟ لم أشعر أنها ميتة، لم تتلطخ يدي بالدم، لكني رأيت دماً يتدفق من بطن أختها "ليزافيتا" المسكينة البريئة، كانت تنظر لي بعينين مفتوحتين كأن البؤبؤين اليابسين صارا من شدة الغضب مثل بئرين من جحيم، لا مما فعله الفتى الروسي القاتل المضطرب الذي تعرفانه جيدا، بل مما فعلته أنا الغريب القادم من بلاد بعيدة في رؤيا منام لأعبث بشرفِ أختها القتيلة.
خرجتُ هارباً انا الآخر من نفس باب البناية التي هرب منها "راسكولينكوف"، نزلتُ سلماً يمتدُّ عليه مسند خشبي وقد لامست يداي ذات الأماكن التي تركت يداه عليها آثار دم لزجة، سرعان ما وجدت نفسي بعد أن ركضت مسافة أمتار عبر شوارع غريبة، أغلب مناظرها جامدة، الناس الذين يمشون بخطوات بطيئة كانوا مجرّد تخطيطات بالحبر الأزرق الجاف، واجهات المحال المرصوفة ليست سوى لوحات بالأبيض والأسود، لا أعرف كيف وصلت عبر ممرٍّ طويل الى قلعة أثرية كبيرة، ما من أحد في رحابِها سواي، مررتُ عبر أحد الأبواب الضيقة أملاً في إيجاد مخرج، يا الله ما هذا؟ وجدت نفسي في غرفةٍ شبه مظلمة، ليس ثمة سوى ضوء شحيح يتدفق من الفراغ الضيق أسفل عتبة الباب، تمكنت من خلاله التعرف على آثاثها القروي بطرزهِ المختلفة، لفائف سجاد مطوية بإحكام ومركونة خلف صندوق ملابس اعتلته نضد من الأفرشة والوسائد، ثمة رول لفرش العجين وثلاث ملاعق كبيرة خمنت انها جميعا صنعت من خشب الجوز كما عادة أقرأ عنها في الروايات، ثمة أوان معدنية بعضها ما زال يلمع، لمعة بيضاء على كتف برطمان فافون وأخرى صفراء داكنة تنعكس من باطن قدر نحاسٍ مرميٍّ تحت فرن طيني مفخور، من حافته المتفحمة الذي ملأ احفورها الغبار بدا انه أهمل منذ زمن، لكن ثمة أثر طاغ لرائحة ثوم مطبوخ، ثمة أيضا رائحة زبدة نيئة بالكاد استطيع شمها، أزحت ستارة غليظة من القماش عن النافذة الخشبية الصغيرة العالية استطعت من تحت حافتها المثبتة على الجدار الصخري رؤية منزل في وسط أكوام التبن، تقبع خلفه ثلاث شجرات إحداهن عارية تماما ليس سوى الأغصان الجافة، أين رأيت كل هذا الذي رأيته في الغرفة وأيضا ذلك المنزل البعيد؟ يا الله إنه هو ذاته، المنزل الذي وصفه الشاعر "سيرجي يسنين" في إحدى قصائده عند زيارته الى حقل أمه الصغير في قرية "كونستا نتينوفو"، مجمل قصائده التي قراتها تدور هناك، قبل أن يعود مرة أخرى وأخيرة الى سانت "بطرسبرغ" وجد مشنوقاً يتدلى وسط غرفة رثة في أحد الفنادق القديمة وهو في الثلاثين، أظن أن الفندق اسمه "إنغليتير".



#ماجد_موجد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حياة من ينابيع الشمس/ حوار متخيل مع البياتي
- (بقجة من Contour العائلة)
- تعريف صورة
- فِطنة
- مجرد حجة لأطوف حولكِ
- لم تردْ في الأغاني... رُبَّما عن زيد بن حارثة


المزيد.....




- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد موجد - طواف في الادب الروسي، فصل من رواية