أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - جاكلين أشلي - ما زالت مجزرة درسيم تطارد الكورد في تركيا















المزيد.....



ما زالت مجزرة درسيم تطارد الكورد في تركيا


جاكلين أشلي

الحوار المتمدن-العدد: 7123 - 2022 / 1 / 1 - 20:12
المحور: القضية الكردية
    


نشر المقال باللغة الإنكليزية في موقع جاكوبين الالكتروني بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير 2021



سافرت مراسلة مجلة جاكوبين إلى مقاطعة درسيم للتحقيق في الاكتشاف الأخير لمقبرة جماعية لضحايا مجزرة عام 1937. ولكن أبعد من نسيانها، إنها فظاعة ما زالت تلاحق المنطقة حتى يومنا هذا، حيث يناضل الملايين من الكورد في تركيا من أجل حريتهم ضد الحملة القمعية التي شنها أردوغان.

يلوح الشرطي التركي بيديه لسيارتنا، طالباً منا التوقف لإجراء تفتيش أمني روتيني عند واحدة من العديد من نقاط التفتيش المنتشرة في جميع أنحاء مقاطعة درسيم، المقاطعة الكوردية التي يسكنها غالبية كوردية علوية في شرقي تركيا.

متين البصلان، 31 سنة، خرج فوراً من السيارة بعد أن سأل الضابط عن هوياتنا. هو يعلم الروتين. سرعان ما ركز الضابط نظره بهوية متين. فنظر إلينا وصاح: “متين، تعال إلى هنا!”

التجنيد في الجيش التركي إجباري. ومتين هو مقاتل سابق في حزب العمال الكوردستاني (بي. كي. كي.) المحظور- الحزب الذي خاض نضالاً مسلحاً من أجل تحقيق الحكم الذاتي الكوردي في شرقي تركيا لعقود من الزمن، في الوقت عينه تعتبره تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة “إرهابية”. كان النظام التركي قد أطلق سراح متين منذ ستة أشهر بعد أن أمضى عقوبة سجنية مدتها عامين لانتمائه إلى الحزب.

كما كان متوقعاً، هو يرفض الانضمام إلى الجيش التركي.

الطريقة الوحيدة للحصول على الإعفاء من هذا الواجب الوطني هي بدفع حوالي 31 ألف ليرة تركية (5380-$- [وفق سعر الصرف في شهر كانون الثاني/يناير الماضي])، ورغم ذلك عليك أن تتجند لمدة شهر. أخبرني كريم، صديق آخر في السيارة وطلب مني عدم استخدام اسمه الحقيقي، في وقت كنا نتابع مشهد استجواب الشرطة لمتين في الخارج: “لا نريد الخدمة في الجيش على الإطلاق، حتى لمدة شهر واحد، لا نريد أن نكون في جيشهم أبداً”.

كريم، كالعديد من الشباب الملتزم سياسياً في درسيم، يتابع دراسته لنيل شهادة الماستر في علم الاجتماع، وعلى الأغلب لأنه يريد تأجيل الانضمام إلى الخدمة العسكرية الإجبارية.

وقد طلب من متين، بعد أن جلس إلى جانب 3 رجال شرطة تحت مظلة لعدة دقائق، توقيع ورقة تعهد بأنه يلتزم بالانضمام إلى الخدمة الإجبارية. واقتيد إلى جيب عسكري حيث طلب منه الصعود إليه حتى ينقل إلى ثكنة عسكرية حيث سيوقع طلباً للانضمام إلى نفس الجيش الذي أمضى سنوات يحارب ضده.

لحقنا سيارة الجيب التي أخذت متين وهي تجول في طرقات درسيم المارة بين الجبال الخضراء، التي تبدو غير مأهولة، حيث الأبنية الوحيدة المرئية الموجودة هي أبراج المراقبة العسكرية التي تمتد طيلة المسافة التي تشرف على المقاطعة من قمم الجبال.

نلاحظ صور سيد رضا، زعيم الانتفاضة المحلية في درسيم قبل أكثر من 80 عاماً، والتي واجهها الجيش التركي بارتكاب مجزرة وحشية ضد سكان المقاطعة- من نوافذ السيارة عندما نعبر أمام جدراناً حجرية في وسط المدينة بنيت خلال الانتفاضة، وباتت اليوم مزينة بصور الانتفاضة والمجزرة التي تلتها.

في درسيم، الأجداد أحياء.

نعبر أمام جبل يشبه طوله شكل الكلاشينكوف. وبطبيعة الحال، يطلق عليه أهل المنطقة اسم “جبل كلش”. على كامل ظهر متين وشم غير مكتمل لكلاشينكوف، مستوحى من شكل المشاهد الطبيعية في درسيم.

بعد انتظار دام حوالي 15 دقيقة خارج الثكنة العسكرية، خرج متين: “أنا حر!” يهتف ملوحاً بورقة التعهد العسكري والموقع منه. كما وشم على ذراعه اليمنى عبارة مكتوبة بأحرف صينية. عندما سألته عن معناها، هز كتفيه قائلا: “ليس عندي أدنى فكرة. في يوم من الأيام سيأتي رجل من الصين إلى درسيم عندها سيخبرني عن معناها”.

يصعد متين إلى المقعد الخلفي ونتابع رحلتنا إلى منذر غوزيليري، نبع نهر منذر في درسيم- مكان مقدس للكورد العلويين وموقع واحدة من المجازر المروعة التي ارتكبتها الحكومة التركية.

“من المؤلم للغاية التفكير بما حصل”

“من المؤلم للغاية التفكير بما حصل. ما الهدف من الحديث عنها اليوم”. يقول بيغو، رجل عمره 90 عاماً صوته هادئ وخالٍ من المشاعر. وبمساعدة من مترجم، تحدث معي باللهجة الكوردية الزازاكية، وهو لا يعلم أي شيء عن اللغة التركية. “المجزرة أخذت كل شيء منا. كل ما نقوله ليس مهماً. الحكومة لا تأبه. لا أحد يستمع لنا. نحن فقط نحدث أنفسنا. كل شيء بات من الماضي اليوم”.

كان عمر بيغو 9 سنوات عام 1938. وهو عام أدى بطريقة مؤلمة إلى ولادة الهوية الكوردية العلوية في درسيم، المتجذرة بأعماق الأرض حيث تتلاحم عظام أجدادهم مع جذور الملول الملتفة حولها على طول أراضي الجبال.

تمتد أراضي كوردستان التاريخية على امتداد تركيا وإيران والعراق وسوريا. بعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الأولى، وقعت اتفاقية سيفر عام 1920 بين الدول المهزومة ودول الحلفاء. في الاتفاقية، وعد الأرمن بإقامة دولة كاملة في أراضي السلطنة العثمانية السابقة، وكان مقرراً إقامة منطقة حكم ذاتي مؤقت مع إمكانية الحصول على الاستقلال الكامل للمناطق الكوردية في تركيا- على أن يجرى تحديده بموجب استفتاء.

رغم ذلك، فإن هذه الوعود لم تنفذ أبداً. إنما، سيطرت الحركة القومية التركية، بقيادة مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك، الذي تزعم انتفاضة ضد القوى الأجنبية، وأفاد أتاتورك أنه في المناطق التركية التي تسكنها غالبية كوردية، سيسمح لهم بحكم ذاتي. ظن أغلب الكورد أن معركتهم ستؤدي إلى دولة كوردية-تركية متعددة الأعراق.

ولكن بدلاً من ذلك، وجد الكورد في تركيا، الذين يشكلون اليوم ما نسبته 20 بالمئة من السكان، أنفسهم بين ضحايا برنامج قومي يسعى إلى “تتريك” أقليات البلد عن طريق فصلهم بالقوة عن ثقافاتهم ومحاولة فرض هوية تركية متجانسة.

وعبّر خليفة أتاتورك، عصمت إينونو، عن الموقف القومي للبلاد عام 1925، بعد عامين من التأسيس الرسمي للدولة التركية: “في مواجهة الأغلبية التركية، ليس لبقية العناصر أي تأثير، يجب أن نترك السكان في أرضنا بأي ثمن، وسنبيد من يعارض الأتراك”.

منعت اللغة الكوردية، والأزياء، والفولكلور والأسماء الكوردية لعقود. حتى أن كلمات مثل “كورد، وكوردستان وكوردية” منعت من قبل الحكومة، حتى العام 1991، كانت تشير الحكومة إلى الكورد بتسمية “أتراك الجبال”، مدعية أنهم أتراك فعلياً، وقد تعرضت لغتهم للاندثار على مر السنوات.

عام 1934، أصدرت الحكومة قانون إعادة التوطين، مانحة الشرعية لنقل الكورد وسواهم من غير الأتراك من مناطقهم وإسكانهم في مناطق تركية في الغرب.

وبحسب الكاتب الأنتروبولوجي مارتن فان بروينسين، هدفت الحكومة التركية إلى إفراغ المناطق الكوردية، و”إضعاف العناصر الكوردية” في مناطق كوردية أخرى عبر نقلهم من مناطقهم واستبدالهم بالأتراك.

في كانون الأول/ديسمبر عام 1935، أصدرت الحكومة قانوناً خاصاً بدرسيم، والتي كانت قد اكتسبت سمعة بين المسؤولين الأتراك بأنها منطقة منتفضة في شرقي البلاد. وصف القانون المقاطعة بالمنطقة الانفصالية وقرر وضع المنطقة تحت الرقابة العسكرية المباشرة. فشهدت مقاطعة درسيم أول تطبيق لقانون إعادة التوطين في تركيا، وبدأ السكان يتعرضون للطرد من المقاطعة.

غيّر القانون تسمية المقاطعة لتصبح “تونجلي”، والتي تعني “القبضة البرونزية” بالتركية؛ إلى يومنا هذا، لا يزال هذا الاسم هو الرسمي في تركيا لمقاطعة درسيم. وأفاد برونسين إلى أن الحاكم العسكري لدرسيم قد نال “سلطات استثنائية لاعتقال وترحيل الأفراد والعائلات”.

ليس مستغرباً، أن الحملة العسكرية التركية قد سببت اندلاع انتفاضة، بقيادة جزئية لسيد رضا، زعيم كوردي علوي لإحدى العشائر العديدة التي سكنت في درسيم. ورداً على ذلك، شنّ الجيش التركي حملة من الأعمال الوحشية غير المفهومة، والتي شملت قصفاً جوياً وهجمات مزعومة بالغازات السامة. وبحسب عدة مصادر، ذبح الجيش التركي النساء والأطفال عشوائياً، من بينها حرقهم وهم أحياء.

في شهر أيلول/سبتمبر من تلك السنة، استسلم رضا للجيش التركي في مقاطعة أرزينجان المجاورة لدرسيم. وبعد مرور شهرين، أعدم شنقاً مع ابنه والعديد من المقربين منه. ودفنت جثته في مكان مجهول- ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.

استمرت الهجمات على الأمن التركي حتى عام 1938. وبحسب المؤرخ هانس لوكاس كايزر، ظن العديد من سكان درسيم في ذلك الوقت أنهم إذا لم يقاوموا، فإن الجيش التركي سيبيدهم في نهاية الأمر. عام 1938، أخذت الحملة العسكرية التركية “شكلاً جديداً وشاملاً”، بحسبما كتب كايزر حول المجزرة، وبدأ الجيش بـ”تطهير عام” للمقاطعة.

طارد الجنود الأتراك أفراد عشائر محددة وسكان قرى معينة للاشتباه بدعمهم للانتفاضة. نوري ديرسمي، طبيب بيطري ومناضل محلي في درسيم، خسر الكثير من أفراد عائلته في المجزرة. كما شارك في الانتفاضة طوال عدة أشهر قبل أن يهرب إلى المنفى في سوريا. كتب ديرسمي كتاباً بعد 14 عاماً شرح فيه بالتفصيل الممارسات الفظيعة التي ارتكبها الجيش التركي.

وبحسب ديرسمي، عندما تسابق الرجال إلى الجبال للقتال في الانتفاضة، اختبأت النساء والأطفال في الكهوف. وعندما اكتشف الجيش التركي هذا الأمر، أغلق مداخل الكهوف وأشعل النيران فيها التي سببت باختناق النساء والأطفال في الداخل. وكل من حاول الهروب طعن حتى الموت بالحراب. وأضاف ديرسمي إلى أن الكهوف قد حددت بالأرقام على الخرائط العسكرية للمنطقة، الأمر الذي يدل على أنها لم تكن ممارسة عابرة لبعض القوى العسكرية، إنما كانت سياسة استراتيجية.

اختارت بعض النساء والأطفال إلقاء أنفسهن في المنحدرات المطلة على نهري منذر وهارسك العابرين في المقاطعة، وذلك تجنباً لمواجهة وحشية جنود الجيش التركي. حتى العشائر التي كانت موالية للحكومة التركية ومتعاونة معها، لم تنجُ من ذلك.

في أغلب الحالات، بقيت القبائل المتعاونة في القرى خلال الحملة العسكرية، معتقدة أنها بمأمن من هجمات الجيش. في نهاية الأمر، اقتحم الجيش التركي القرى، بحسب ديرسمي. وقد تعرض قادة العشائر للتعذيب وأطلقت النيران عليهم. وكل شخص حاول الهروب كانت يقتل؛ واحتجزت النساء والأطفال داخل المزارع وسط القش، وأحرقوا/ن أحياء.

حتى نهاية العام 1938 انتهت الحملة العسكرية التركية. وبحسب بروينسين، يعتقد أن قمع تركيا لانتفاضة كان بمثابة إنذار لبقية المناطق الكوردية حول ما يمكن أن يحصل معهم إن قاوموا الإجراءات الإدماجية التركية.

وبحسب الحكومة التركية، قتل 13160 مدنياً في درسيم خلال المجزرة؛ مع ذلك، لطالما عارض سكان درسيم هذا الرقم. في كتاب دايفيد ماكدويل، “التاريخ الحديث للكورد”، قدر عدد القتلى بحوالي 40 ألف. ويعتقد أهالي درسيم أن عدد الوفيات هو أعلى من ذلك. كما نُفي، على الأقل، 11818 شخصاً في ذلك الوقت.

لطالما قللت الحكومة التركية من حجم وحشية الجيش في درسيم، مدعية أن الحملة الدموية كانت ضرورية لإهماد الانتفاضة. عام 1938، كان عدد سكان درسيم يقدر بحوالي 65 ألف إلى 70 ألف نسمة.

فإذا كان رقم ماكدويل صحيحاً، فقد قتل ما لا يقل عن 57 بالمئة من سكان درسيم في المجزرة.

“المجزرة كانت مجرد البداية”

زوجة بيغو، جوليزالر، اليوم يبلغ عمرها 84 سنة، كان عمرها 3 سنوات خلال ارتكاب المجزرة. معظم ذكرياتها كانت تروما انتقلت إليها من البالغين الذين كانوا محظوظين بما يكفي للبقاء على قيد الحياة. تقريباً، جميع أقارب جوليزار حملوا السلاح في ذلك الوقت، اختفوا في الغابات الكثيفة في الجبال المحيطة للقتال خلال الانتفاضة.

لكن والدها بقي في وسط المدينة من أجل حماية عائلته. في أحد الأيام، جاء الجنود واعتقلوا والدها. لم يسمعوا عنه مرة أخرى، ولم يعثروا على جثته. وبحسب جوليزار، في ذات اليوم، أوقف الجنود الأتراك 25 كوردياً علوياً في البلدة وأطلقوا النار على أجسادهم المرتجفة- وهو نذير شؤم للمصير المحتمل الذي حصل لوالدها.

كانت جوليزار مع والدتها وخالاتها يومها في قرية مجاورة. تضيف: “لذلك نجونا”. تتحدث جوليزار بتركية ضعيفة. لغتها الأولى هي أيضاً الزازاكية، وقد تعلمت التحدث باللغة التركية خلال سنوات صباها.

ومع ذلك، فإن لجوليزار ذاكرة فريدة تحمل فيها سلسلة محكمة من الأحداث التي عايشتها طوال السنوات الـ 82 اللاحقة. لا تعمل ذاكرتها بحركة مستمرة، إنما تشع متقطعة ومفككة.

وتضيف: “كان هناك قائد عسكري تركي جمع كل النساء والأطفال في مزرعة حيث ترعى الحيوانات”، تقول ذلك وعيونها تركز في مساحة فارغة أمامها.

“الرجل كان يحمل عصا. وكان يصرخ فينا لنخلع ملابسنا التقليدية. جال حولنا ورمى علينا الملابس الغربية- القمصان والسراويل والتنانير. في ثقافتنا ترتدي النساء الطرابيش. فجاء القائد وضرب النساء بالعصا وطالبهن بخلع الطرابيش”.

“ما إن بدلنا ملابسنا، حتى سمح لنا الجنود بالعودة إلى منازلنا”.

تضيف جوليزار: “لكن المجزرة كانت مجرد البداية”. ذبح الجنود الماشية وأحرق المزارع. وبالنسبة إلى السكان المعتمدين على الزراعة بشكل كامل، فإن المجاعة التي اجتاحت أرضهم- تجاوزت الجثث والرصاص- كانت على الأقل يمكن توقعها وعلى أعلى مستوى من الناحية الاستراتيجية.

وتكمل: “قبل المجزرة كنا نعيش حياة عادية. كنا نزرع ونكسب مدخولنا. ولكن بعد المجزرة لم يكن لدينا أي شيء. لم يكن أي أحد يزرع أو أي شيء ولم يكن بمستطاعنا شراء الطعام. أتذكر أنني كنت جائعة كثيراً وحاولت العثور على الطعام في الشوارع”.

عام 1974، بعد عقود من الاضطهاد في تركيا، تشكل حزب العمال الكوردستاني بقيادة المناضل الكوردي المولود في تركيا عبد الله أوجلان، الذي يحتجزه النظام التركي في زنزانة إفرادية في جزيرة نائية في تركيا منذ 20 عاماً. وفي وقت لم تأخذ السلطات الحزب على محمل الجد، بحلول عام 1984، أطلق الحزب، المبني أساساً وفق أيديولوجيا ماركسية لينينة، انتفاضة مسلحة شاملة في تركيا بهدف إقامة دولة كوردية مستقلة. لكن في الـ 1990ات، غيّر الحزب من هدفه من النضال من أجل دولة مستقلة إلى المطالبة بحقوق متساوية وحكم ذاتي للكورد ضمن الدولة التركية.

استمر النزاع المسلح حتى اليوم. ووفقاً لمجموعة الأزمات الدولية، سقط بين 30 إلى 40 ألف شخص، من ضمنهم آلاف المدنيين، منذ اندلاع الصراع عام 1984. في الـ 1990ات، وكمحاولة للقضاء على حزب العمال الكوردستاني، اتُهمت الحكومة التركية والقوى الأمنية بطرد مئات الآلاف من الكورد من قراهم في شرقي تركيا، إلى جانب قتل الآلاف من المدنيين، من ضمنهم عشرات الصحافيين، ودمرت المئات من القرى الكوردية، وأخفت قسرياً العديد منهم، بحسب هيومان رايتس ووتش.

كما لاحظت جماعات حقوقية أن الجيش التركي استهدف بشكل ممنهج المدنيين الكورد انتقاماً لهجمات حزب العمال الكوردستاني، والتي تضمنت مداهمة المنازل واعتقالات جماعية وإطلاق النار العشوائي وإلقاء القنابل اليدوية على منازل المدنيين.

على سبيل المثال، عام 1992، وفي أعقاب اشتباكات بين البي كي كي والقوى الأمنية التركية في بلدة كولب، الواقعة في محافظة ديار بكر التركية، قتل على الأقل 5 مدنيين كورد وجرح أربعة بعد أن أطلقت القوات التركية النار بشكل عشوائي على المنازل والمحلات التجارية والسيارات خلال أيام. وبحسب ما أفيد قتل أحد الجرحى بعد أن رشّته القوى الأمنية التركية بالكيروسين وأشعلت النار فيه.

كما اتهم البي كي كي بارتكابات خطيرة ضد حقوق الإنسان، مثل قتل المدنيين، من بينهم النساء والأطفال، سواهم من الكورد المشتبه بتعاملهم مع الجيش التركي- فضلاً عن استهداف المنشقين عن الحزب.

كانت الميليشيات ذات الغالبية الكوردية، التي تسمى حراس القرى، والتي ساعدت الجيش التركي في عملياته ضد البي كي كي وفروعه- هدفاًخاصاً لمحاربي الحزب. وقد خيّرت القوى الأمنية القرويين بين الانضمام إلى حراس القرى أو التعاون بالتالي مع الدولة التركية، أو أن يطردوا من قراهم. وأفاد قرويون أنهم تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة من السلطات التركية إذا رفضوا التعامل.

واتهم أعضاء “حراس القرى” بتنفيذ إعدامات ميدانية إثر إجراءات موجزة، وارتكاب الإخفاء القسري والاعتداءات الجنسية، والاستيلاء على ممتلكات القرويين المهجرين- في بعض الأوقات متنكرين بثياب مقاتلي البي كي كي بهدف إلقاء اللوم على الحزب.

توقف القتال مؤقتاً بعد اعتقال أوجلان عام 1999، الذي طلب من مقاتليه إلقاء السلاح ووقف الانتفاضة المسلحة. ولكن الوقف الجانبي لإطلاق النار استمر لسنوات قليلة قبل أن يستأنف من جديد.

تقول جوليزار: “بعد المجزرة، استمرت الحياة بنفس الطريقة”. يغطي شعرها الأبيض بشكل جزئي وشاحاً رقيقاً أبيض اللون. وما زال جسدها نحيلاً تماماً؛ الحركة الوحيدة التي أمكنني اكتشافها فيها هي فتح وإغلاق فمها ببراعة خلال حديثها. “في الـ 1930ات والـ 40ات، قتلونا. في الـ 70ات والـ 80ات عذبونا. وفي الـ 90ات دمروا قرانا. اليوم يستمرون بسجننا. لم يتغير أي شيء”.

“أتجنب النظر إلى الجبال”

عندما بدأ بيغو أخيراً بالتحدث، استغرق دقيقة لفتح عينيه والنظر إلى المساحة الفارغة أمامه، فرفع ذراعه وهو يدل إلى قمة الجبل المجاور لنا: “هربت إلى قرية على ذلك الجبل مع والدتي وأخي وشقيقتاي”.

كان بيغو وعائلته جزءاً من عشيرة ديمانان، التي لامها الجيش التركي جزئياً بإحراق جسر يربط بين درسيم وأرزينجان عند بداية الانتفاضة. هربت عائلة بيغو من القرية بعد وصول أنباء عن اقتراب الجنود الأتراك. فاختبأوا في قرية أخرى اسمها هوبيك- تقع على جبل مجاور لمنزل بيغو الحالي.

بحسب بيغو، وصل الجنود إلى القرى المجاورة وبدأوا باستجواب السكان عن أعضاء عشيرة ديمانان- والعديد منهم كانوا منخرطين في الانتفاضة، وأضاف بيغو: “قال رجل للجنود إن عائلتي من عشيرة ديمانان ثم أخبرهم عن مكان اختبائنا”.

وسرعان ما وجدهم الجنود واعتقلهم كلهم. “أحضرونا إلى ضفة نهر هارسيك. وطلبوا منا الوقوف بالصف. كانت أختي مرتعبة جداً. كانت ترجف وتبكي. لذا وضعت يدي على رأسها في محاولة مني لطمأنتها”.

بدأ الجنود في إطلاق الرصاص؛ استهدفت إحداها رأس أخته. وعندما خرقت الرصاصة رأسها، قطعت أصابع بيغو. توقف بيغو عن سرد قصته ورفع ذراعه اليمنى حتى أرى يده المشوّهة حيث لم يبقَ فيها سوى 3 أصابع.

نتيجة شعوره بالألم الشديد أغمي عليه. فحمل الجنود جثته، بعد أن اعتقدوا أنه مات، وألقوها في نهر هارسك، إلى جانب جثث عائلته- الذين قتلوا كلهم. ولكن عندما سقط في المياه الجليدية استيقظ بيغو مرتجفاً.

أكمل بيغو سرده: “جريت مع النهر لمسافة عدة كيلومترات ثم خرجت من النهر، مشيت إلى بيت خالتي وجاء أحد أخوالي ورافقني إلى الجبال للاختباء”.

يستمر صوت بيغو دون انقطاع، ما زال يحدق بالسماء- لم يبدُ عليه أي أثر لردة فعل من كلماته أو ذكرياته، وهو يصف وحشية الجنود الأتراك. خلال الانتفاضة، في أغلب الحالات كان يتجه الرجال إلى الجبال لمحاربة الجيش التركي، تاركين خلفهم النساء والمسنين والأطفال في القرى، بحسب قول بيغو.

في قرية روفايك، المعروفة اليوم على الصعيد المحلي بأنها موقع مقبرة جماعية، قتل الجنود الأتراك عشوائياً السكان الذين بقوا فيها. يقول بيغو: “اعتقدنا دائماً أن النساء والأطفال والمسنون يجب ألا يكونوا جزءاً من الحرب على الإطلاق، الحرب هي بين الرجال، والجنود. ولكنهم أتوا إلى القرية وقتلوا كل من فيها. لم يتركوا أحداً على قيد الحياة”.

يكمل بيغو: “عندما عاد الرجال من الجبال، وجدوا جثث أحبائهم موزعة على الأرض، لقد تركهم الجنود للتو”. ثم أجبر الكورد العلويون على دفن آبائهم وأجدادهم وزوجاتهم وأولادهم. وبحسب بيغو، كان هناك الكثير من الجثث بحيث لم يكن أمامهم من خيار سوى دفنهم في مقبرة جماعية واحدة.

يقول بيغو: “أحاول تجنب النظر إلى الجبال، وفي كل مرة أنظر إليها أتذكر مقتل عائلتي. فأشعر بالألم باستمرار. لم أستطع أبداً نسيان هذا الألم”.

عام 2011، اعتذر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان عن مجزرة درسيم، حيث قال في حديث تلفزيوني: “إذا كان هناك من حاجة للاعتذار نيابة عن الدولة، وإذا حصلت مثل هذه الممارسة، فسأعتذر وها أنا أعتذر”. ووصف المجزرة بأنها “أكثر الأحداث مأساوية في تاريخنا الحديث” ودعا حزب الشعب الجمهوري، حزب أتاتورك الذي كان حاكماً إبان حصول المجزرة، إلى “مواجهة” تاريخه.

ومع ذلك، سخر العديد من الكورد من اعتذار أردوغان، حيث رأوا فيه لعبة سياسية لإبعاد الناخبين الكورد من التصويت لحزب الشعب الجمهوري، الحزب المعارض الأساسي في تركيا.

عندما سألت بيغو عن رأيه في اعتذار أردوغان، توقعت منه أن يجاوب بغضب، لكن صوته استمر بنغمته الرتيبة المنخفضة.

فأجاب: “ما زالوا يقتلوننا ويعتقلوننا ويعذبوننا. لقد ذبحونا مؤخراً في سور”، في إشارة منه إلى حصار مدينة سور في دياربكر، حيث قتل أكثر من مئتي كوردي، أغلبهم من المدنيين، على يد الجيش التركي والشرطة خلال مواجهات دامت 3 أشهر مع مقاتلي بي كي كي.

ويكمل بيغو: “إذا أرادوا الاعتذار فليتوقفوا عن قتلنا أولاً”.

“كما لو أن العظام كانت تناديني”

استمر اكتئاب حسين باران لعدة سنوات- مسكوناً بماضٍ يلاحقه كظل يترنح خلفه كمشية المسنين في درسيم. ولدت والدة حسين، ظريفة عام 1938- تلاحم تنفسّها الأول وصراخها مع صرخات وأنفاس أجدادها.

كجميع سكان درسيم، تعلّم حسين قصص المقاومة والمجازر قبل بلوغه العمر الضروري للدخول إلى المدرسة. عام 1938، قتل الجنود الأتراك كل أفراد عائلة كانان، عائلة عم ظريفة- إلى جانب عائلة باران. يقول السكان أن عدد القتلى وصل إلى 24.

جمعهم الجنود الأتراك داخل منزل يقع على أعلى تلة بعيدة عدة كيلومترات عن منزل حسين في حوزا. وبحسب الرواية المتناقلة من المسنين، قتل الجنود الجميع، من بينهم الأطفال، بالرصاص قبل حرق المنزل.

لطالما شعر حسين “بعبء روحي” تجاه أسلافه، ولطالما أراد إقامة نصب تذكاري لهم. يقول حسين: “كبرت مع روايات المجازر هذه”، وهو جالس في غرفة الجلوس ويداه متشابكتان برقة. تبدو روحه ناعمة ولطيفة.

“شعرت أنه علي بعض المسؤولية تجاههم- على الأقل لخلق مساحة حيث يمكننا الذهاب وإظهار الاحترام لهم”.

رغم ذلك، فإن بناء نصب تذكاري لأسلافه في درسيم من شأنه أن يودي بحسين إلى السجن. حتى أن ذكر كلمة “درسيم” علنا من شأنه أن يجذب “قبضة الدولة البرونزية” [تقصد القمع]. ولكن حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان بدأ بتحسين سياساته إزاء الكورد خلال العقد الماضي بهدف اجتذاب أصوات الكورد وإحياء محادثات السلام العالقة مع بي كي كي، والذي كان قد استأنف عملياته ضد الحكومة عام 2004.

في شهر آذار/مارس عام 2013، وبعد مفاوضات بين أوجلان وأردوغان، أعلن أوجلان وقف إطلاق النار، وشمل الاتفاق انسحاب مقاتلي بي كي كي من تركيا، في حين وعد أردوغان بزيادة الحقوق الثقافية الكوردية في تركيا.

لأول مرة في تاريخ تركيا، بدأت المدارس الكوردية بالظهور في المنطقة، كما أنشئت العشرات من القنوات التلفزيونية والصحف والجمعيات الكوردية؛ وتضاعفت طباعة الكتب الكوردية.

كما بدأت البلديات الكوردية بإقامة نصب تذكارية للقادة والمدنيين الكورد المقتولين على يد القوى الأمنية التركية. أقيم نصب تذكاري لسيد رضا في درسيم عام 2010 وبعده بثلاث سنوات نصب آخر في دياربكر لإحياء ذكرى مجزرة روبوسكي، حين قصفت الطائرات التركية عام 2011 وقتلت 34 كوردياً، معظمهم من القاصرين من قرية روبوسكي في مقاطعة سيرناك التركية بعد عودتهم من الحدود العراقية حيث أتوا بسلع لبيعها بالسوق.

أخيراً، وجد حسين فرصة سياسية لبناء نصب تذكاري لأسلافه الذين قتلوا. في نيسان/أبريل عام 2014، تسلق حسين مع ثلاثة عمال، حاملين مجارفهم، التلة حيث وقعت المجزرة، والبعيدة حوالي 45 دقيقة من منزل حسين.

يقول حسين: “كنت أحفر في الأرض وفجأة ضربت صخرة كبيرة بمجرفتي، رفعت الصخرة ووجدت عظاماً تحتها، إضافة إلى الجماجم وعظام الأذرع والأرجل والفكوك، وما يشبه الضلوع”.

“علمت فوراً أن هذه العظام تعود لأجدادي”.

انهار حسين وبدأ يبكي بشدة. يضيف: “لا أستطيع أن أشرح لكِ ما شعرت به”. وعندما استجمع قواه لمواصلة البحث عن العظام، برقت في ذاكرته ومضات شديدة لصور من روايات ما حصل منذ أكثر من 8 عقود.

يضيف: “شعرت بما شعروا به. كان بإمكاني تخيلهم يحترقون. كان باستطاعتي سماع طلقات الرصاص وصراخ الأولاد، كما لو كانت العظام تناديني تحديداً إلى هذه البقعة من الأرض”.

فوراً، سارع حسين إلى الاتصال بمحامين لمساعدته. لمدة 20 يوماً، راقب عظام أسلافه- ولم يغادر المكان إلا للأكل والنوم. خشي أن يعرف المسؤولون الأتراك بهذا الاكتشاف وأن يأتوا ويتلفوا العظام.

بعد أسبوعين ونصف الأسبوع وصل المحامي جيهان سويلمز، ابن درسيم، إلى المكان. لم تكن المرة الأولى التي يكتشف فيها السكان عظاماً مطمورة تحت الأرض في درسيم. عم 2012، عمل سويلمز كذلك على قضية اكتشف فيها قرويون عظاماً في المنطقة الجبلية بإرزينكان، حيث يقول المسنون أن الجيش التركي جمّع ما لا يقل عن 105 شخص وقتلهم رمياً بالرصاص. رغم ذلك، إن القضية تطلبت إجراء تحقيق في الوفيات، وقد رفضت المحاكم المضي قدماً بالقضية وسويلمز لم يتابع الموضوع أكثر من ذلك.

كما عثر العديد من سكان درسيم على عظام؛ في أوقات أخرى، تظهر العظام من تحت التربة بعد حصول انجرافات فيها. لكن الخوف الكبير من الدولة التركية- الموروث من الأسلاف ما زال يثقل كاهلهم- ويجبرهم على الصمت.

يقول سويلمز، وهو جالس على كرسي خلف مكتب كبير في مكتبة بوسط درسيم: “عام 1938، كان الجيش يتنقل من قرية إلى أخرى لقتل الناس، فاختبأ الناس في الجبال والغابات. وعندما عادوا إلى قراهم وجدوا الناس مقتولين”.

ويضيف: “لقد حاولوا طمر المقابر بما تيسر لهم، في الواقع، أهل درسيم هم من دفنوا موتاهم، لذا فهم يتذكرون بالضبط مكان وجود المقابر، التي كانت بمعظمها مقابر جماعية لأن الناس كانت خائفة للغاية من دفن الضحايا كل واحدة على حدى؛ إذ اعتقدوا أن الجيش التركي سيستهدفها، كما أن عدد الضحايا كان كبيراً للغاية”.

وبحسب سكان البلدة، هناك ما لا عن يقل 300 مقبرة جماعية في أنحاء مقاطعة درسيم. وكثيراً ما يزور سكان درسيم هذه المقابر الجماعية، ويشعلون الشموع ويصلون من أجل أرواح أجدادهم.

عندما توجه سويلمز إلى موقع المقبرة في حوزا، اصطحب معه وسائل الإعلام. وما إن جرى توثيق المقبرة، شعر أخيراً سويلمز بالارتياح. أخذ سويلمز ما وجد إلى مكتب المدعي العام في حوزا وطلب منه أن تساعد الحكومة التركية في التنقيب بالمكان.

ولكن المدعي العام رفض الطلب. فرفع القضية سويلمز إلى المحكمة الجنائية في إرزينكان، التي كسرت قرار المدعي العام. ولكن خلال التحقيق الأولي، أرسل المدعي العام عناصر أمنية إلى المكان من دون إبلاغ السكان في حوزا. وعندما وصل العناصر، كان حسين قد طمر العظام لحمايتها من الحيوانات البرية. فاستنتجوا أن المكان لا يوجد فيه أي شيء؛ فغادروا ورفضت القضية من جديد.

فأجبر سويلمز على رفع القضية أمام القاضي المنفرد درسيم. وقدم أمثلة من قرار محكمة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان التي أدانت تركيا لعدة انتهاكات خلال اجتياح واحتلال قبرص عام 1974. وخاصة، أن المحكمة الأوروبية وجدت أن تركيا فشلت مراراً في التحقيق في ظروف اختفاء أكثر من 1485 قبرصياً في ذلك الوقت.

أضاف سويلمز: “القضية هنا أن الحق بالحياة قد انتهك، قد تكون العظام من الـ 1970ات لأشخاص تعرضوا للتعذيب على يد الجيش. وحتى لو كانت ليست لأولئك الذين قتلوا عام 1938، فهي تعود لأحدٍ ما. ولذلك ينبغي المباشرة بالتحقيق وفقاً للقانون”.

أصدرت المحكمة حكمها لصالح سويلمز، وأمرت بالتنقيب في المكان وفتح تحقيق بالموضوع. في نيسان/أبريل عام 2015، أرسلت الحكومة خبراء جنائيين من جامعة اسطنبول والذين كانوا قد شاركوا في التنقيب بالمقابر الجماعية في البوسنة.

خلال التنقيب، والذي استغرق يومين كاملين، وقف حسين وراقب الفريق يحفر في التراب الذي أخفى طوال عقود أرواح أجداده- ومن جديد، سمع أصواتهم.

يقول حسين: “حصل ذلك معي عندما وجدتهم وحصل من جديد خلال التنقيب، كانت الشجيرات والرياح تبكي؛ حاملة معها أصوات الأطفال. كانت تقول: نحن هنا، ما زلنا هنا”.

تردد صدى بقايا الجثث والأصوات البعيدة لأجداد درسيم في الفضاء.

وقد شرح سويلمز لنا: “لقد وجدوا 11 هيكلاً عظمياً، كانت بعض الهياكل موجودة في مكان واحد، وما تبقى منها كان موزعاً في المكان، كما وجدوا بقايا رماد، و30 رصاصة ومجوهرات- مثل الخواتم والأساور والعقود”.

وأرسلت العظام إلى اسطنبول لدراستها. في شهر شباط/فبراير عام 2016، صدر التقرير الجنائي الكامل. وبحسب سويلمز، توصل فريق المحققين إلى أن 7 هياكل عظمية تعود إلى أطفال؛ أكبرهم في الـ 14 وأصغرهم 4 سنوات. كل الرصاصات المستعملة تعود إلى الجيش التركي.

قال لي سويلمز: “تعالي إلى هنا وألقي نظرة”، طالباً مني مشاهدة حاسوبه. كان ينقر فأرة الحاسوب ويعرض صور، الواحدة تلو الأخرى، العديد من العظام المكتشفة في المكان. في إحدى الصور، تظهر يد محقق تمسك بجمجمة، ويقيسها محقق آخر.

ويكمل: “أنظري إلى هذه”، في حين ينقر بإصبعه بواسطة الفأرة مرة جديدة، لا أستطيع استخلاص ما أراه. بدا لي أن الصخور تخرج إلى السطح من أعماق الأرض. “إنها هياكل عظمية وجدناها لطفلين كان يحاولان الاحتماء ببعضهما البعض حين بدأ الجنود الأتراك بإطلاق النار”.

بنات درسيم المفقودات

تتدفق المياه في منذر غوزيليري فوق الصخور وتنتشر في الحوض بالأسفل في وقت نسير على ضفة نهر منذر. النهر هو واحد من روافد نهر الفرات الذي يمر بسوريا والعراق وصولا إلى شط العرب في محافظة البصرة بجنوبي العراق. يقول متين: يمكنك بكل سهولة الانتقال بواسطة هذا النهر إلى العراق. لا مشكلة!”.

حول النهر، تبتسم نساء كورديات علويات يضعن أوشحة على ملونة على رؤوسهن، ويبعن الغوزليم، خبز مسطح معروف في كل تركيا. يبيع محل هدايا سلاسل مفاتيح مزينة بصور الإمام الحسين، ابن علي، وصهر النبي محمد الذي يتبع العلويون تعاليمه الصوفية.

في حين أن العلوية هي أكبر أقلية دينية في تركيا، إلا أن العلوية الممارسة في درسيم فريدة من نوعها بالنسبة للكورد هناك؛ فلديهم قديسيهم ومعتقداتهم المرتبطة ارتباطاً شديداً بالمناظر الطبيعية لدرسيم. كما هي متأثرة بشدة بالتعاليم الدينية المسيحية الأرمنية، حيث تحول العديد من الأرمن في درسيم إلى المذهب العلوي بهدف إخفاء هويتهم الدينية عن السلطات التركية خلال الإبادة الأرمنية، ولاحقاً خلال مجزرة درسيم.

عند أعلى الصخور، يضيء الناس الشموع ويصلون في حين تسقط المياه على الحجارة ويتناثر رذاذها. والبعض الآخر يجمعون بين أيديهم المياه ويشربون. تعتبر مياه منذر غوزيليري مقدسة لدى العلويين الكورد في درسيم، الذي يظنون أن قداستها تحقق الأمنيات.

انحنت امرأة فوق برك المياه المتجمعة في المكان، تجمع المياه من النهر، وترفع بنطالها وترش المياه على قدميها وساقيها. إلى جانبها لوحة حفر عليها قصيدة كتبتها فيسير (كوثر) بوك، إحدى بنات درسيم المفقودات.

بعد مجزرة عام 1938، اختطفت المئات من الفتيات الكورديات العلويات من عائلاتهن وسلمن لضباط من الجيش التركي حتى يتبنوهن. كما خطف الجنود عشرات الأطفال من مدارس داخلية التركية. حتى اليوم، ما زال العديد منهم يبحثون عن أقربائهم المفقودين من درسيم. اختطفت فيسير عندما كان عمرها حوالي 3 سنوات وسلمت إلى ضابط تركي. كتبت هذه القصيدة بعد سنوات كثيرة في اسطنبول.

القصيدة مكتوبة باللغة التركية، تعبّر فيسير فيها عن اشتياقها لنهر منذر. أخبرني المترجم أن القصيدة “ستفقد معناها إن ترجمها إلى الانكليزية” [والآن إلى العربية :)]، لكنه سيحاول ترجمة معانيها بأفضل ما باستطاعته:

أنت روحي وقلبي

الدموع في عينيّ

أنت شاهد قبري

والتاج على رأسي

عزيزي منذر

شاركت دمي معك

شاركت حياتي معك

ألم تشهد كل شيء؟

عزيزي منذر.

طوافات فوق درسيم

دعاني إيمري ومتين للذهاب إلى الصيد معهم وأصدقائهم. إيمري صياد جدي. يقف لمدة ساعات إلى جانب نهر هارسيك- يرمي صنارته بالمياه المشعة ويتركها بكل صبر حتى تتحرك عند التقاطها لسمكة.

في هذا الوقت، جلست ومتين إلى ضفة النهر وشربنا البيرة. التقينا بالمزيد من أصدقائهما ونحن نتجمع للسباحة في بركة النهر. في درسيم، على ما يبدو الجميع يعرفون بعضهم البعض. ضحك الناس وتراشقوا بمياه النهر خلال سباحتهم، وقفزوا من على الصخور، وتأرجحوا بواسطة حبل غليظ، وغطسوا في المياه الجليدية، كل ذلك قاطعه صوت الحوامات التي تحلق فوقنا.

فقال إيمري: “لا بأس”، بعد ملاحظته أنني كنت أنظر بفضول، “الحكومة التركية تتأكد من أننا لسنا إرهابيين”.

عام 2015، انهار وقف إطلاق النار بين الجكومة التركية وبي كي كي. اتهم مناضلون كورد الحكومة التركية بمساعدة الدولة الإسلامية(داعش)، في هجومها على مدينة كوباني في سوريا. بعد أسابيع قليلة، زعم مناضلون كورد أن الدولة التركية مسؤولة عن الهجوم الانتحاري الذي نفذته داعش في بلدة سورج الحدودية في مقاطعة شانلي أورفا، أدى الهجوم إلى مقتل 32 شخصاً، معظمهم من الطلاب الجامعيين الذين كانوا ينون السفر عبر الحدود للمساعدة في جهود إعادة الإعمار في كوباني.

من جديد، باتت جبال درسيم ملجأً لمئات المقاتلين/ات في بي كي كي. استؤنف قتل المدنيين وتهجير مئات الآلاف وتدمير الممتلكات على نطاق واسع. خلال أكثر من عام بقليل، طرد الجيش التركي ما يقارب نصف مليون شخص من منازلهم، وبحسب الأمم المتحدة، فرض حظر تجول مشدد على عشرات المدن والبلدات والأحياء الكوردية، ولا يسمح بالتنقل سوى بموجب إذن خاص. خلال حظر التجول، قطع المسؤولون الأتراك المياه والكهرباء والسلع الغذائية عن مدن بأكملها.

منذ شهر تموز/يوليو عام 2015، قتل 5123 شخصاً على الأقل خلال المعارك، من ضمنهم المدنيين. ويشكل مقاتلو بي كي كي نصف عدد الضحايا. وضمن تقرير صدر عام 2017، وثقت منظمة الأمم المتحدة ممارسة التعذيب بحق المعتقلين واستخدام العنف الجنسي، من ضمنه الاغتصاب. وأظهرت تقارير عن التقاط المسؤولين الأتراك صوراً للمعتقلين وهم عراة بهدف استعمالها في ابتزازات محتملة.

كما نفذ الجيش التركي قصفاً جوياً لقواعد بي كي كي في جبال درسيم وحول مناطق شاسعة من الأراضي في المقاطعة “منطقة أمنية مغلقة”، ووفقاً للسكان، إذا ألقي القبض على شخص يخرق تلك المناطق، فيتعرض لخطر إطلاق النار عليه من المروحيات التي تحلق فوقه.

في وقت خفّت فيه حدة المواجهات، يقول السكان إنه ما زال بضعة عشرات من المقاتلين المتفانين الذين بقوا في الجبال. أصبحت المروحيات التركية أعلى صوتاً في درسيم، حيث تحلق بشكل دوري في السماء، وتراقب أشجار الملول. اعتاد السكان على وجودهم لدرجة أنهم توقفوا عن النظر إليها.

بدء حملة قمعية ضد الكورد

بالعودة إلى حوزا، تلقى حسين أخيراً رفاة أسلافه من المختبرات في اسطنبول بعد أشهر من الانتظار. كانت ملفوفة بعناية بأكياس من القماش. وضع الرفات برقة على أريكة في بيته، وغطاها بغطاء، واحتفظ بها هناك 20 يوماً- نفس الفترة التي بقي فيها إلى جانبهم عندما اكتشف المقبرة الجماعية لأول مرة في الأرض.

يقول حسين: “كنت أتحدث إليهم كل يوم، لقد تحدثت معهم عن الآلام التي خبروها. لقد تأكدت من أنهم يعرفون أن هناك من يستمع إليهم وأن ما حصل لن ينسى إلى الأبد”.

أعاد حسين العظام إلى أعلى التلة، والتي حولها إلى نصب تذكاري- كُتب عليها أسماء جميع الضحايا، من بينهم عائلة كوردية قتلت في نفس القمة خلال عهد السلطنة العثمانية. وضع الجماجم والعظام داخل مقبرة في وسط النصب التذكاري.

يضيف، وعيناه الواسعتان الحزينتان تركزان بأرض غرف الجلوس: “لقد شعرت بالاكتئاب منذ أن عثرت على العظام، لقد استمرت تلاحقني لسنوات”.

حسين كان يخطط لتوسيع التنقيب ومتابعة جغرافية ذكريات أسلافه. يشرح قائلاً: نحن نعرف عدداً من الأشخاص الذين قتلوا على التلة وكان عددهم أكبر من عدد الأشخاص الذين عثر عليهم”. كما أراد إنشاء مقبرة واحدة لكل رفات الضحايا الذين عثر عليهم في المقابر الجماعية، حيث تجرى لهم المراسم وتخصص مقابر ملائمة لهم.

رغم ذلك، وبعد محاولة الانقلاب في تموز/يوليو عام 2016، أعلن أردوغان حالة الطوارئ، الأمر الذي مكّن الحكومة من تجاوز البرلمان والحكم بموجب المراسيم. انتقد أردوغان بشدة المناطق الكوردية، وأغلق عشرات التلفزيونات والصحف والجمعيات. كما اعتقل الآلاف من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي بقيادة الكورد، والذي اتهمه أردوغان مراراً بعلاقاته مع بي كي كي، وطرد العشرات من المنتخبين منه، واستبدلهم بآخرين مؤيدين للدولة.

بدأت السلطات المحلية على الفور بالسطو على المكاسب الثقافية التي حققتها البلديات خلال فترة السلام، من بينها إغلاق المدارس الكوردية وتدمير الآثار العامة والنصب التذكارية. أزيل النصب التذكاري لضحايا روبوسكي، والذي يتضمن أسماء الضحايا الـ 34 ونحتاً لامرأة راكعة على ركبتيها، حداداً على الضحايا، ويديها مرفوعتين إلى السماء، حيث تتساقط الصواريخ حولها، فسرعان ما أزيل النصب.

وقع الكورد في تركيا تحت ظلال الخوف الصامت؛ أي همس معارض يمكن أن يؤدي إلى اتهام بالإرهاب. ألقي القبض على رؤساء البلديات المنتسبين إلى حزب الشعوب الديمقراطي درسيم، الحزب الذي تبنى سياسة المساواة الجندرية بحيث ينتخب الرجال والنساء إلى منصب رئيس البلدية. لا تزال رئيسة بلدية درسيم نورحياة ألتون، المعتقلة منذ عام 2016، في السجن تواجه تهمة عقوبتها أكثر من 22 سنة سجنية باعتبارها “إدارية في منظمة إرهابية”.

عندما رجع الناس إلى الصمت، انكمش كذلك أسلافهم في التربة. بعد اكتشاف حسين، عثر على المزيد من العظام. وبحسب سويلمز، الذي عمل على قضية لعائلة من قرية تدعى نازمير، التي كانت تطلب من الحكومة التركية المساعدة في التنقيب عن مكان قتل ودفن أسلافها. لكن بعد محاولة الانقلاب وحالة الطوارئ التي تبعتها، علّق البحث بالقضية.

اليوم، يشعر حسين بالتوتر لأنه لا يمكنه الاستمرار ببناء المزيد من النصب التذكارية لضحايا المجزرة. يقول حسين: “أنا لا أبحث عن العظام بعد الآن. إذا وجدتها لا يمكن تحديد لمن تعود لأن الوضع السياسي الراهن لن يسمح بذلك”.

ظريفة، والدته المسنة، ترتدي الملابس التقليدية وتنسدل ضفائرها الحمراء والطويلة على صدرها، تجلس قبالته- بكل هدوء وتستمع إلى الحديث الجاري بكل اهتمام.”من الأفضل تركهم تحت الأرض حتى يتغير الوضع السياسي في تركيا”. لكنه يستمر بزيارة النصب التذكاري وسواه من مواقع المقابر الجماعية لإضاءة الشموع والصلاة من أجل أرواح ومواساتها حتى يأتي الوقت أخيراً لمساعدتها على الخروج من باطن الأرض.

بالنسبة إلى حسين، معركته ليست أبداً من أجل العدالة. يقول: “لا يمكنك العثور على العدالة في هذا البلد. لذلك لا جدوى من البحث عنها، لا أريد كذلك تعويضات مالية. كل ما أريد هو تأكيد من الحكومة. أريد من الحكومة أن تعترف بأن كل هؤلاء الأطفال والمسنين قد قتلوا وأحرقوا أحياء لمجرد كونهم من الكورد العلويين”.

“أستطيع الشعور بذلك في أعماق ضميري. وذلك يؤرقني. ما فعلته الحكومة هنا كان إبادة جماعية. أريد منهم الاعتراف بذلك”.

فأسأل حسين: “إذا تحملت الحكومة التركية مسؤولية ما فعلته هنا، فهل سيكون ذلك كافياً حقاً؟”

فتوقف لبرهة، وقال أخيراً: “على الأقل سيرتاح ضميرنا، نريد كتابة أسمائهم. نريد تذكر موتانا. أريد أن يعلم العالم بأسره أن هؤلاء الأشخاص كانوا موجودين وأريد أن يعرف العالم ماذا فعلت الحكومة التركية بهم”.

يكمل حسين: “درسيم كلها مكان للتذكر، كل تاريخنا يكمن في الجبال. في كل مكان أتجه إليه، أرى خطوات أجدادي. أسمع صراخهم. وأبكي عليهم كل مرة أزور فيها المقابر الجماعية. أستطيع رؤية الأطفال يلعبون معاً فوق المكان الذي دفنت فيه جثثهم”.

“ذرية الألم”

يعيش متين في منزل خشبي متواضع يتألف من غرفتين وسط جبال درسيم. في أحد الأيام رافقني إلى موقع مجاور لنهر منذر. الليل بارد ومظلم. كان الهواء يزداد برودة كلما اقتربنا من النهر. نحن هنا للالتقاء بمقاتل سابق في بي كي كي. خوفاً من الانتقام، طلب مني استعمال اسماً مستعاراً لحماية هويته. سأسميه علي- أحد أشهر الأسماء في تركيا، بعد بحث سريع على غوغل.

يبدو علي، كجميع سكان درسيم الذين قابلتهم، لطيفاً وطيباً. يبلغ عمره 24 سنة وقد حمل السلاح منذ كان في الـ 20 من عمره. وبحسب علي، كان هناك ما يقارب 300 مقاتل/ة من بي كي كي وعدد أقل من الثوار الشيوعيين يشاركون في القتال ضد الجيش التركي في الجبال. فقد ساروا على خطى أجدادهم واختبأوا في ذات الكهوف والشجيرات حيث حاول أجدادهم قبل عدة عقود اللجوء هرباً من الجنود الأتراك.

يتحدث كل من متين وعلي بلهجة يقظة ومنخفضة. حتى الوشوشة الداعمة لبي كي كي يمكن أن تؤدي بك إلى السجن في تركيا. يقول علي: “لم نكن نقاتل من أجل أنفسنا، إنما من أجل شعبنا وثقافتنا”، صوته يتشابك مع الهدير الخفيف لنهر منذر. “نحن لسنا من إيران أو العراق أو سوريا- أو أي مكان آخر. نحن أبناء هذه الأرض. نحن أبناء درسيم”.

شاهد علي ومتين مقتل العديد من رفاقهما على أيدي الجيش التركي- وهم يتمسكون بصلابة بنفسهم الأخير قبل اللحاق بأجدادهم. يقول متين: “عندما ترين وجوههم… عيونهم… لا يمكن تفسير الشعور. يخفض رأسه ببطء، كما لو أنه يبحث عن كلمات تصف ما لا يمكن وصفه. “بقينا كلنا سوياً في الغابة، أصبحنا كالإخوة والأخوات”.

يأسر النضال الكوردي قلب متين. هو رجل مبدأي ويؤمن أن الرصاص والسجون ضرورية إذا كان يناضل من أجل حقه. كما لديه توقعات مرتفعة من الآخرين؛ إذ يتوقع من الجميع أن يضحوا من أجل الحركة كما يفعل هو. مع ذلك، وبالنسبة للعديد من الناس، إن الخوف من دخول السجون التركية كافٍ لإبقائهم غير متورطين. بالنسبة للعديد من الكورد، أثبت الاندماج القسري الذي فرضته تركيا نجاحه، لذلك، غالباً ما يترك متين مصاباً بخيبة أمل.

في الجبال، حين قتل رفاقهم، دفن مقاتلو بي كي كي جثثهم بسرعة. يقول متين: “كنا خائفين حتى لا يجدهم الجنود الأتراك ويقومون بتشويهها”. يذكر اسم بارين كوباني، مقاتلة في وحدات حماية الشعب، ميليشيا يهيمن عليها الكورد في سوريا، فصورت القوات المدعومة من تركيا جثتها وسخروا منها خلال اجتياحهم لمدينة عفرين في سوريا.

يتذكر متين: “كان مهماً بالنسبة لنا التأكد من تذكر أصدقائنا بعد مقتلهم، لكننا أردنا أيضاً تسهيل الأمر على العائلات حتى تتمكن من زيارة قبور أبنائها”. وبمساعدة من الفلاحين في تلك المنطقة، حفروا القبور وشيدوا المقبرة، وبحسب متين، جمعوا رفات حوالي 270 مقاتلاً ودفنوها هناك.

ولكن في درسيم، اجتمعت أنهار الأرض وعروق الناس معاً عام 1938.

بعد بناء المقبرة، قرر مقاتلو بي كي كي بناء نصب تذكاري إلى جانب مقبرة الأجداد الذين قتلوا في تلك الجبال فقط بعد 15 سنة على تأسيس الدولة التركية.

فتتبع حوالي خمسين مقاتلاً ذكريات كبار السن وبدأوا بالبحث عن عظام أجدادهم. يقول علي: “تحدثنا إلى كبار السن والقرويين عن المناطق التي عرفنا بوجود مقابر جماعية فيها، الأماكن التي حصلت فيها مواجهات قوية وحيث من المعتاد حصول مجازر فيها”.

لم يحن الوقت بعد لخروج العظام من تحت الأرض؛ لذلك أعيدت إلى الأرض. لكن القصص ما زالت راسخة في درسيم، فلم يمضِ وقت طويل إلى أن عثر متين وعلي على العظام. يقول متين: “وجدنا أجزاء من إصبع، وأضلاع وعظمة فخذ”. ووفقاً لقصص كبار السن والقرويين، وجدوا أن تلك العظام تعود إلى أجدادهم الذين قتلوا.

لم تكن تلك أول أو آخر مجزرة في تاريخ تركيا

وجد المقاتلون كذلك بقايا هياكل عظمية، يعتقد بأنها تعود إلى عام 1938، في قريتين أخريين بدرسيم، بور ولاك. فأحضروا العظام إلى موقع النصب التذكاري إلى جانب مقبرة الشهداء، حيث رفعوا رخامة كتب عليها أن العظام تعود إلى كورد علويين قتلوا عام 1938 وأماكن العثور عليها. ومن ثم وضعوا العظام في خزانة زجاجية أقيمت في النصب التذكاري.

يشرح متين: “نريد إظهار أن الألم الذي خبرناه، بدءاً من العام 1938 وحتى اليوم، متشابه، هناك نمط متسلسل من الألم هنا”. لم تكن تلك أول أو آخر مجزرة في تاريخ تركيا.

يهدف النصب التذكاري كذلك إلى تذكير السكان في درسيم، الذين يزورون المقبرة من أجل البكاء على أبنائهم وبناتهم المقتولين/ات، بتاريخهم. بحسب متين، السياسات الأكثر دماراً لم تكن عمليات القصف أو العمليات العسكرية، إنما محاولات الجيش خلق شرخ بين مقاتلي بي كي كي والمدنيين في درسيم.

يقول متين: “قاموا ما بوسعهم حتى ينقلب الناس ضدنا، أردنا إقامة نصب تذكاري حتى يتذكر شعبنا جذوره- حتى يتذكر ثقافته وتاريخه وبذلك حتى نتمكن من حمايته”.

ولكن النصب دام بضعة أشهر فحسب قبل أن يقصفه الجيش التركي عبر هجمة جوية، فدمره والمقبرة، اليوم، باتت هذه المنطقة جزءاً من المنطقة الأمنية المغلقة التي يمنع على أهالي درسيم من الدخول إليها.

يقول متين: “هناك الآلاف من العظام التي تركت خلفنا”. تخرج أنفاسه من فمه كالدخان خلال حديثه. لقد قبض علينا البرد. “ولم تكن لدينا الفرصة بعد حتى ندفنهم بشكل لائق”.

“إذا نسينا ما حصل هنا، سيستمر حصول المجازر. وهذا من شأنه أن يكون مصير أطفالنا. نحن نتابع ونحمي أجدادنا لأن تاريخهم هو الذي سيحمي أطفالنا في المستقبل”. صوت متين يرتجف في وقت يحاول التغلب على البرد. أصبحت همسات نهر منذر أقوى، يبدو كما لو أنه يزأر.

“مرت عقود من المجازر والحروب. ولكن نحن ما زلنا هنا. أنهار درسيم تجري في عروقنا. لن نرحل من هنا. أعتقد أننا سنستمر بالمقاومة، مهما كانت العواقب، وفي يوم من الأيام لن يكون أمام الحكومة التركية سوى أن تتركنا أخيرا بسلام”.



#جاكلين_أشلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما زالت مجزرة درسيم تطارد الكورد في تركيا


المزيد.....




- السعودية تأسف لفشل مجلس الأمن في اعتماد مشروع عضوية فلسطين ا ...
- فيتو أمريكي يمنع عضوية فلسطين في الأمم المتحدة وتنديد فلسطين ...
- الرياض -تأسف- لعدم قبول عضوية فلسطينية كاملة في الأمم المتحد ...
- السعودية تعلق على تداعيات الفيتو الأمريكي بشأن عضوية فلسطين ...
- فيتو أمريكي في مجلس الأمن يطيح بآمال فلسطين بالحصول على عضوي ...
- حماس تحذّر من مساع -خبيثة- لاستبدال الأونروا
- الجزائر تتعهد بإعادة طرح قضية العضوية الفلسطينية بالأمم المت ...
- إسرائيل تشكر الولايات المتحدة لاستخدامها -الفيتو- ضد عضوية ف ...
- بيان رسمي مصري عن توقيت حرج بعد الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلس ...
- مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة: عدم تبني قرار عضوية ف ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - جاكلين أشلي - ما زالت مجزرة درسيم تطارد الكورد في تركيا