أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد نزال - ترحال محظور قصة قصيرة















المزيد.....

ترحال محظور قصة قصيرة


سعد نزال

الحوار المتمدن-العدد: 7116 - 2021 / 12 / 24 - 09:55
المحور: الادب والفن
    


جدّ بطيء في القراءة ولا ارتوي إلّا بتنقيب تضاعيف الكتاب واستخراج دلالاته والإحاطة بأقوال المؤلف المُلغّزة، ذلكم أنا. حين يكون الكتاب الذي تطالعه مجموعة أقسام لا ترابط بينهم أو محاضرات بتواريخ عدة ومواضيع مختلفة جُمعت بين دفتي كتاب واحد، يمكنك مع هذا الصنف من الكتب أن تتوقف عند نهاية محاضرة أو قسم، ويمنحك ذلك وقتا أطول للتمغّط وحلحلة رأسك ذات الكتف والكتف لطرد الوسن الذي إستأثر بجفونك، أو ربما لطقطقة فقرات الرقبة المتحجّرة.
حين تهدّ الكَلالة بدني، يمكن إغماض العينين والدخول في مرحلة شرود الذهن يتبعها التحليق في عالم ذكريات الماضي و تسافر في الخيال التَرِف الخاص بك الذي يبدعه عقلك. ذلك ما فعلته بعد ان تركت كتاب ( مفاوضات مع الموتى) ممددا تعانق صفحاته سطح طاولة المكتب فيما غلافه السميك الجانح للسمرةِ لوناً، يطالع سقف الغرفة المطلي حديثا بدهان رمادي مائل للخضرة. جالت عيناي تفتحصان الجدران والصور المعلقة، الساعة الجدارية العاطلة عن العمل منذ سنين ولا أملك رقة المزاج لتصليحها، قد تكون بحاجة الى إستبدال البطاريات فقط، ولكني تركت ذلك متعمداً، من يحتاج الى معرفة الوقت اذا تساوى عنده (لباس الليل ومعاش النهار)؟
أخيرا شعرت إن جسدي إرتوى بجَمام لذيذ ونلتُ مرامي وقسطي من السكينة. بسطت ذراعي، مادّا كفي لأعاود الدخول مع الموتى في مفاوضاتهم، وقبل ان تلامس بناني غلاف الكتاب، سقط بصري سهواً ( ربما قصدا ) على حقيبة سفري الحديثة المتقوقعة في ركن الغرفة.
عامان مرّا وحقيبتي في الركن ذاته وما جلبت انتباهي يوماً. تقف منتصبة على عجلاتها كراقصة باليه استطالت شامخة على اطراف أصابع قدميها، مجلّلة بكيس من قماشٍ كَتَنَ الوسخُ أطرافه وخمد ماضي لونه الأبيض. حدّقتُ فيها بتمعن وللمرة الأولى أدركت إن ذلك الكيس ما أستطاع ان يجاري كبريائها طولاً. كيس حُشِرَ حشراً، حمايةً لها من رزايا الزمن وغبارٍ يمرح في الغرفة دون دعوة، قبل ان يضطجع مطمئنا فوق امتعة غرفة المكتب. حقيبتي المنسيّة ما بان من هيكلها إلا عجلاتها الأربع المفضضة المركز. لزيادة وضوح الصورة لكم وبواقعية اكثر، بُليَ بياض الكيس الناصع وتبدل إلى اللون الترابي لان مهمته الأولى التي خِيطَ من أجلها هي حماية وسادة نومي من التعرق والرائحة غير المستحبة.
يمكن نزع الكيس بسهولة وغسله بوجود معطرات بنكهات عدة، لإعادة رونقه وتعطره بأريج أخّاذ.
أدى الكيس وظيفته الاصليّة بمهنيّة عالية وتم استغلاله أبشع إستغلال وطبَّقنا عليه نظرية فائض القيمة، وربحنا!
تعرض للدَلْكِ والشطف مرات عديدة حتى خسر سَنيَّ بياضه وتماسُكْ نسيجه بعد ان أنهى عمله الأساس. لا أظن انني أهتكُ السر العائلي إن قلت إننا لا نتخلى عن أشيائنا بسهولة، إذ نجد لها مهماتٍ أخرى أقل وطأة ومشقة، لا أتحدث هنا عن كيس المخدة وحده، لا! اشياء أخرى يعاد استخدامها وتكليفها بمهام اخرى.
دعكم منها فلا ينفعكم سردها وستبدو كحشوٍ ممل الغرض منه استطالة القصة لا اكثر.
عجلات براقة ما لامست بلاطَ مطارٍ أو مرآبٍ قطُّ، من المتجر الى ركن الغرفة هذه تلاه رقادٌ صنوَ الحتْف.
وحدها هذه الحقيبة جعلتني أؤمنُ بالنحس والشؤم. حقيبة جمعت مواصفات الحداثة والفخامة، صلابة وخفة وزن، عجلات تغنيك عن حملها الا ما ندر، قفل بارقام سرية لا يفكَّ رموزه إلا أنت، ذراع قابل للطي. صفاتٌ أنيقة وعصرية تحلّت بها حقيبتي هذه ولكنني بدأت اتطيّر منها. توَقّفتُ عن السفر منذ أقتنيتها وبقيتُ حبيس الجدران القديمة أطالعُ صورَ الرحلات السالفة وأكبتُ غصتي.
حين داست أقدامي مطار أورلي في باريس قبل عشر سنين راسِناً حقيبة سفري بذراعي بعد أن فُصِم زمامها، حقيبة سفري الجلدية ذات الشكل الاسطواني غير المنتظم.
حقيبة تنم عن بساطة صاحبها قبل بساطتها، لا عجلات ولا جيوب مخفية ولا حتى ارقام سرية فمحتوياتها حلال على الجميع.
حقيبة سفري تلك ذات لون بنّي لامع.
عندما أتحدث عن لونها فالقصد هو حين الشراء، أما بعد ذلك باعوام فلا يتفق إثنان على لون ثابت لها.
أتركوا اللون والشكل والحداثة، حقيبتي الاولى التي جاوز عمرها ثلاثة عشر عاما، ما زلت أعشق رفقتها وأتيمّن بها، حقيبة صُنعت من تفاؤل وسَعْد!
-الم تشاهد او حتى تسمع بالحقائب الحديثة؟
ذلك ماقاله (عبادي) رفيق سفرتي لباريس وانا انتزع حقيبتي الجلدية من ظهر الحزام الناقل بعد ان فلتت مني في الدورة الاولى. حزام سريع تكدست عليه الحقائب وعليك خطف خاصتك بالهرولة مجاراة لسرعة الحزام. نأت عنّي في المرة الاولى وهي تطالعني بعين المزاح كأنها تداعبني.
إلفة خاصة وتواصل روحاني بيني وبين حقيبتي التي هجرتها بسبب الّلج بحجّة قِدَمها ودخول الحقائب الذكية الى عالمنا السريع التطور. بعد ان احكمت ذراعي حول حقيبتي التي قطعت حمالاتها بسبب الشحن السيء او لسبب اخر، أدرت رأسي تجاه رفيق سفري لاجابته حول استفسار الحقائب الحديثة الا إني عدلت عن ذلك، لا فائدة! لن يفهم التواصل الروحاني بيني وبين هذه الحبيبة، نعم قلت حبيبة، ولا وجود لخطأ طباعي او املائي.
أحيانا أنسى المدن التي زرتها برفقة حقيبتي الحبيبة ولكني أعاود تذكر حتى بلاطات شوارع المدن حين انظر الى حقيبتي المنسية في غرفة علوية نسميها مخزن الاشياء المستهلكة. مرمية مجعدة وقد اكلها الغبار اكلا وصارت كومة من الجلد الميت.
لا أميز نفسي عن جاحدي النعم!
مالي وهذا الكائن الجامد ذو العجلات المفضضة المركز والمجلل بكيس القماش!
حين دخلت مخزن الاشياء المستهلكة ازحت قليلا من الغبار عنها فشعرت بندبها لي بنبضها المنهك وبقايا حشاشة محتضر في جسدها المطوي.
بهدوء سحبتها من بين الركم، إحتضنتها وخرجت.
فقدت شهيتي للقراءة هذا اليوم وارحت ذقني مدفونا براحة يديَّ وأسندت مرفقي فوق فورمايكا المكتب قريبا جداً من مفاوضات الموتى وأنا أطالع حبيبتي القديمة.
قد يكون كيس القماش أكبر منها حجما ولكن إستشعار نبضها ومعاودة الترابط الروحي معها يجعلاني أنتفخ زهواً، وبريق يشع من عينيّ وأمل يغلف كياني، إن الرحلة القادمة أقرب من الرموش إلى العيون المغمضة.
حسبت ذلك وآمنت به، حتى طَوّحَ آمالي صوتٌ متناءٍ بنبرة متوائمة مع مسامعي:
العالم يتطور والحداثة تصادر كل مساحة وأنت تنبش الماضي لتجعله آيةً لك!!



#سعد_نزال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في المجموعة القصصية( جذوة نوفمبر) للقاصة إيمان كاظم
- انسلاخ فراشة
- سبع سنوات خضر واخرى قادمات, اشد خضرة
- الديمقراطية الدون كيشوتية
- الشيوعيون يخلقون( مدنيون), الحزبية الضيقة لبعض الأحزاب الديم ...
- فن كوميديا الزواحف
- قراءة في المادة (407) من قانون العقوبات العراقي
- نسيان العنبر
- ( قومي روؤس كلهم أرأيت مزرعة البصل)


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد نزال - ترحال محظور قصة قصيرة