(1)
أنماط التفكير الميكانيكى وحدها هى التى يمكن أن تتورط فى اعتبار (الأيديولوجيا) المحضة ، كتركيبة صارمة من النظريات والنظم والعقائد ، هى المكوِّن الوحيد (للوعى الاجتماعى) بمعزل عن (السايكولوجيا الاجتماعية) ، فى حين أن (الوعى الاجتماعى) ، كمقولة سوسيولوجية ، يفوق (الأيديولوجيا) المحضة وسعاً وعمقاً ، من حيث الطابع المعقد وغير المنتظم لتشكيل طبقاته layers ، ومن حيث شموله ، ليس للدين والفلسفة والعلوم الاجتماعية والطبيعية ، فحسب ، بل ولحياة الشعب النفسية والعاطفية والأخلاقية أيضاً ، بحيث أن ما يندرج ضمنه من المضامين ، ومن بينها موضوعة (المزاج) ، أكثر مما يندرج ضمن (الأيديولوجيا) المحضة بما لا يقاس. هذا لا يعنى قطعاً أن (السايكولوجيا الاجتماعية) لا تتأثر (بالأيديولوجيا) ، غير أنها تمتاز عنها بالسبق ، من الناحية التاريخية ، وبالتجلى فى مستوى الخصوصية الدقيقة للنسيج الثقافى والنفسى الذى يشكل ، على نحو عفوى ، جماع المشاعر العامة ، والانفعالات و(الأمزجة) والأذواق والعادات والسلوكيات ، مما يمكن أن ينسب إلى جماعة ما ، أو طبقة أو فئة اجتماعية ، أو شعب أو أمة .. الخ.
ولأن (مزاج) الشعب لا يتمظهر كحالة معزولة عن مستوى (وعيه الاجتماعى) خلال الحقبة التاريخية المعينة من حياته ، فإن الذين يولون اعتباراً خاصاً لتقصِّى هذا (المزاج) فى العمل السياسى يلاحظون ، ولا بد ، أن مؤشراته ظلت تسجل ، منذ فجر الحركة الوطنية فى بلادنا وحتى يوم الناس هذا ، ميلاً قوياً باتجاه (تكاتف) و(وئام) و(وحدة) الصف الوطنى ، ونفوراً واضحاً من (الخلاف) و(الفرقة) و(الشقاق) حول القضايا الأساسية ، وأهمها إحلال السلام ، وبناء النظام الديموقراطى ، وبسط الحريات والحقوق ، وضمان العدالة والمساواة ، وتجنيب البلاد حالة التمزق والانقسام وأوضاع التبعية للقوى الأجنبية ، مما يتجلى ، أكثر ما يكون ، فى الأغانى والأهازيج الوطنية وسائر تعبيرات الوجدان الشعبى والعقل الجمعى للجماهير. ولعل فى ذلك تفسيراً أولياً سديداً لخلود (عزة الخليل) ، مثلاً ، على الصعيد الابداعى ، وانطفاء العشرات غيرها من القصائد والأغنيات التى سعت لتمجيد أحوال سياسية أضيق من (مزاج) الجماهير التى توجَّهت إليها ، ولا أبرئ نفسى فقد كنت ممَّن حسبوا (نحاس) مايو (ذهباً) أوَانَ غَرارةٍ ابداعيةٍ باكرة.
وهكذا ، فإن أيَّة محاولة للتعرُّف على (الارادة) الشعبية العامة بالاستناد فقط إلى أنماط القياسات الميكانيكية المبسطة لدرجة انعكاس العلاقات الاقتصادية الاجتماعية من مستوى البنية التحتية infrastructure إلى مستوى البنية الفوقية superstructure ، وإهمال الحالة الروحية الأخلاقية التى تلعب الدور الأكثر حسماً فى تحديد (مزاج) الجماهير الشعبية ، لهى محاولة محكوم عليها بالفشل الذريع ، بل إنها لتتساوى ، فى نتائجها النهائية ، مع عدم الاقرار ، أصلاً، بجدوى التعرُّف على هذه (الارادة) الشعبية لدى تحديد الخيار أو الموقف السياسى.
(2)
وإذا كان التدليل على صِحة هذا الحكم لازماً فباستطاعتنا إيراد ما لا حصر له من النماذج ، على أننا سنكتفى ، هنا ، بنموذجين ساطعين:
النموذج الأول: هو حساب الشيوعيين غير الدقيق (للمزاج) الشعبى العام الذى أحاط باتفاقية الحكم الذاتى (أواخر فبراير 1953م). فعلى الرغم من أن تلك الاتفاقية التى وقعتها الحكومتان البريطانية والمصرية مع كل الأحزاب السودانية ، ما عدا (حستو) ، قد أرجأت ، ولمدة ثلاث سنوات هى فترة الحكم الذاتى ، تحقيق مطالب الشعب بالجلاء الناجز ، وحق تقرير المصير ، وبناء وطن ديموقراطى حر ، وضربت ، فوق ذلك كله ، قيوداً إضافية على الحريات ، ووفرت للحاكم البريطانى من السلطات والصلاحيات ما يمكنه من تدعيم النفوذ الاستعمارى وممارسة شتى أساليب الضغط على البرلمان ، إلا أن (مزاج) الجماهير والرأى الشعبى العام كان ، وقتها ، قد التف بقوة حول هذه الاتفاقية ، لدرجة أنه لم يعُدْ مستعداً لتقبل أىِّ موقف معارض لها كالذى اتخذته (حستو) ، مثلاً ، وتضمَّنه كتيب (الاتفاقية فى الميزان) للشهيد قاسم أمين.
فبصرف النظر عن معقولية الأساس الذى انبنت عليه تلك المعارضة ، وهو الشكوك فى نوايا الانجليز الحقيقية تجاه تلك المطالب الشعبية ، إنطلاقاً من هاجس الحدب على تجنيب قضية الديموقراطية والحريات فى الدولة الوطنية المستقلة مزالق المؤامرات الاستعمارية ، وبعيداً عن المعايير الموضوعية (الباردة) للخطأ والصواب فى ذلك الموقف ، وبرغم نضالات الشيوعيين غير المنكورة ، طوال السنوات السابقة على الاتفاقية ، فى سبيل الاستقلال ، وإسهامهم المشهود فى استنهاض طاقات الجماهير باتجاهه ، ودفعهم الدءوب لجهود بناء المنظمات النقابية والمهنية والفئوية لأجله ، وما لازم ذلك من (دواس) ضروس خاضوه ، على شحِّ إمكاناتهم المادية ، مع آلة الإدارة الاستعمارية وأجهزة مخابراتها ، وسقوط أنبل أبنائهم ، كالشهيد قرشى الطيب ، فى سوح معارك الجمعية التشريعية فى الخرطوم وعطبرة وغيرها ، بل وعلى الرغم من أن الأيام وحدها قد تكفلت بإثبات أن تلك الشكوك لم تكن بلا أساس ، حيث أقدمت الادارة البريطانية ، فعلاً ، وبين يدى البدء فى تطبيق الاتفاقية خلال النصف الثانى من عام 1953م ، على سن (قانون النشاط الهدام) تمهيداً لتأسيس دولة بوليسية تجرد الاستقلال من معناه ، وبرغم ما تحمَّل الشيوعيون من نصيب وافر فى معركة إلغاء ذلك القانون ، ليس فى مواجهة البريطانيين وحدهم ، بل وفى مواجهة بعض الساسة (الوطنيين) الذين ألحفوا فى مناشدتهم الوضيعة للمستعمرين كى (يساعدوهم) فى القضاء على الشيوعية فى السودان ، مما فضحته وثائق المخابرات البريطانية التى تم الكشف عنها مؤخراً ، بصرف النظر عن كل هذا وغيره ، فإن موقف (حستو) من تلك الاتفاقية قد اعتبر ، فى الحساب الختامى ، مفارقاً (للمزاج الجماهيرى) الذى كان قد انفتح على آخره لاستقبالها ، مما حدا بالحزب لممارسة النقد الذاتى العلنى ، و(لتعديل) موقفه ذاك من رفض الاتفاقية إلى قبولها خلال ما لا يزيد على أسبوع واحد (دورة اللجنة المركزية ، مارس 1953م).
النموذج الثانى: هو الأداء السياسى غير المحسوب جيداً ، والذى انتهجته الأحزاب والقوى السياسية التقليدية ، بالمصادمة (للمزاج) العام الذى كانت الجماهير تخرج به ، فى كل مرَّة ، على صهوات نصرها المؤزر ، لتجابه ذات القضايا الكبرى الشاخصة فى جبهات العمل السياسى والاقتصادى والاجتماعى كافة ، عبر الفترات التاريخية الثلاث التى أعقبت يناير 1956م ، وأكتوبر 1964م ، وأبريل 1985م ، أى (مزاج) التشوُّق الدائم لاستمرار (وحدة) نفس القوى التى نازلت الاستعمار البريطانى ودكتاتورية عبود ودكتاتورية نميرى ، و(تجانس) مواقفها حول مهام إعادة البناء ، إبتداءً من إيقاف الحرب الأهلية فى الجنوب والتصدى الجاد لتحديات التنمية ، وانتهاءً بتعميق مفاهيم الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية. ومن نافلة القول أن هذه الوحدة وذلك التجانس لا يعنيان ، بالضرورة ، تحقيق التطابق أو الانصهار ، بقدر ما يعنيان إحسان الصراع والتدافع على قاعدة مشروعية التعدد والاختلاف ، بحيث تتكامل الجهود فى ما يتوجب الاتفاق حوله ، وما أكثره فى وعى الجماهير بطبيعة مهام المرحلة ، وبمستوى التجانس المفترض فى قواها الوطنية والديموقراطية ، بحيث تتحرَّك ، على (تعدُّدِها) ، فوق مساحة متسعة ، نسبياً ، من الاتفاق بالحدِّ الأدنى حول تلك القضايا الأساسية ، وعلى رأسها بناء الدولة الديموقراطية الحديثة.
(وحدة) الارادة الشعبية التى تجلت فى أبهى حُللها لحظة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان ، والتى ما انفكَّ الوجدان الجمعى للشعب يستحلبها كأنضر اللحظات فى تاريخه المعاصِر ، إن لم تكن أنضرها طراً ، هى ، إذن ، جوهرة التاج فى تكوين (مزاج) الجماهير التى احتقبت المطالبة (بوحدة) الحركة الوطنية والديموقراطية خلال تلك الفترات الثلاث. غير أن استدارة القوى التقليدية ، مجدَّداً ، عقب أكتوبر 1964م ، إلى ذات الممارسة الشكلانية للديموقراطية التى سبق أن وفرت المقدمات الضرورية لانقلاب كبار الجنرالات فى نوفمبر 1958م ، هو الذى أقعد قدراتها السياسية عن بلوغ أى أفق أبعد من مصادمة جبهة الهيئات ، وتصفية حكومة أكتوبر الأولى ، ومعاداة القوى الصاعدة بين الأحزاب والنقابات والاتحادات المهنية والمنظمات الجماهيرية فى المدن الكبيرة ومناطق الانتاج الحديث ، وتدبير حل الحزب الشيوعى ، وطرد نوابه من البرلمان ، والاستهانة باستقلال القضاء ، والانشغال ، عموماً ، بتأسيس دكتاتورية مدنية من فوق ما أسمته (بالدستور الاسلامى) ، مثلما أعجزها الأثر الضاغط لذهنية القطاع التقليدى على هشاشة التجربة الديموقراطية ، عن أن تتجاوز ، قيد أنملة ، ضيق تشرذمها الحزبى ، وصراعاتها الداخلية ، وانشقاقات أجنحتها ، ومكائدها فى الاستقطاب والاستقطاب المضاد ، بكل ما يلزم ذلك من عدائيات ومجابهات ومصادمات فتت فى عضد (التكاتف) ، وأضعفت التجربة الديموقراطية ، وسمَّمت مناخ الفعل السياسى ، وأسلمت الجماهير ، بما فى ذلك قطاعات واسعة من جماهير تلك القوى التقليدية نفسها ، إلى (مشاعر) اليأس المُمِض و(مزاج) الاحباط الثقيل ، باسم نفس الديموقراطية البرلمانية التى "هبَّت الخرطوم فى جُنح الدُّجى" لاستعادتها بالمُهَج والأرواح فى أكتوبر ، مما فتح الأبواب على مصاريعها ، مرة أخرى ، لشيوع (المزاج) المعاكس الذى استقبلت به الجماهير انقلاب البكباشى جعفر نميرى فى مايو 1969م ، أملاً فى طريق آخر (للخلاص) ، أو كما أنشد محجوب شريف: "بعد يا مايو ما يئسنا" ، والمبدعون يعبرون عن (مزاج) الشعب ، عفو الخاطر ، وليس عن البرامج السياسية تمكُّثاً!
ونستطيع أن نقرر ، باطمئنان تام ، للأسف الشديد ، أن المشهد نفسه عاد ليتكرر ، للمرة الثالثة ، مع فارق التفاصيل هنا أو هناك ، منذ تلك الأمسية التى وقف فيها الدكتور عمر نور الدائم متحدِّثاً ، ضمن كوكبة من قادة الأحزاب والنقابات ، على منبر أوَّل مهرجان نصبته الجماهير بالميدان الشرقى لجامعة الخرطوم احتفالاً (بعُرس) الديموقراطية المستعادة فى أبريل 1985م ، لتقاطعه الحشود ، باستهجان ساخط وإرزام عنيف ، كونه حاول نسبة ذلك الانجاز إلى حزبه ، غير آبهٍ ، ولا منتبهٍ حتى ، (للمزاج) العام المنفعل من حوله ، أوان ذاك ، ببشارات (التجمُّع الوطنى الديموقراطى) الذى عدَّته الجماهير ، بحق ، أحد أهم عوامل نصرها الغالى. ومن ثمَّ تداعت الانهيارات إلى أن راحت القوى التقليدية تنفض يدها ، تباعاً ، عن (التجمُّع) ، معتبرة أنه قد استنفد أغراضه ، ولما يكن ، بعد ، قد استنفدها ، حقيقة ، فى وعى الجماهير و(مزاجها) العام ، فتراكمت عوامل الفرقة والشتات ذاتها لتسلم تلك الجماهير إلى حالة أخرى مريعة من اليأس والاحباط ، مما لم تكن (حكومة الوحدة الوطنية) التى تشكلت فى الأسابيع الأخيرة من عمر (الديموقراطية الثالثة) مؤهلة بما يكفى لتبديده ، كون تشكيلها نفسه وقع فى سياق تداعيات (مذكرة الجيش) ، لا بقناعة تلك القوى ، الأمر الذى مهَّد لانقلاب الجبهة الاسلامية القومية فى يونيو 1989م.
(3)
مع ذلك ، وبرغم كل تلك النوازل ، فإن الأيام قد تكفلت بإثبات أن الاستمساك بالديموقراطية والذود عن الحريات العامة والحقوق الأساسية قد تكرَّس ، نهائياً ، كقانون ثابت لتطور الثورة والحراك الجماهيرى فى بلادنا. ولهذا فإن من صميم فساد النظر وسوء التدبير عدم إيلاء الحركة السياسية الوطنية الاعتبار اللازم لأخطائها فى تفسير (مزاج) الجماهير الذى قد يبدو متناقضاً ، للوهلة الأولى ، من حيث انفعاله ، للتو ، بنصره المؤزر على الدكتاتورية لاستعادة النظام الديموقراطى البرلمانى ، ثم (تعاطفه) الذى ما يلبث أن يتراءى ، للنظر المتعجِّل ، مع فعل الانقلاب التالى على هذا النظام نفسه ، إما بالترحيب الإيجابى ، ولو إلى حين ، كما حدث تجاه انقلاب مايو 1969م ، أو باللامبالاة السالبة ، ولو إلى حين أيضاً ، كما حدث بإزاء انقلاب يونيو 1989م ، أو بخليط متفاوت من هذين السلب والايجاب كما حدث لدى استقبال القطاعات الشعبية لانقلاب أرستقراطية الجيش فى نوفمبر 1958م.
على أن ذلك (التعاطف) لا يعدو ، فى حقيقته ، أن يكون محض تمظهر خادع (للمزاج) العام المُحبَط واليائس جراء التشققات والانقسامات والصراعات فى صف العمل الوطنى والديموقراطى المفترض ، الأمر الذى ظل يورث الجماهير ، فى كلِّ مرَّة ، حالة (مزاجية) من الاحباط والملل والسأم والعزوف واللامبالاة ، مما لا يلبث أن ينفجر سخطاً عاماً على الأوضاع فى ظل النظم الديموقراطية نفسها ، فلكأنها ليست هى ذات الجماهير التى خرجت البارحة لاستعادتها. وبالنتيجة يذوى حماسها ، وتتبدَّد حيويتها ، ويروح يستغرقها ، المرَّة تلو المرَّة ، ركام متكاثف من الكلس السياسى ، بينما انتظارها لا ينفكُّ يتطاول ، دون جدوى ، لمعجزة تعيد الرشد ، قبل أن تدُقَّ الساعة الرابعة والعشرون ، إلى هذا الصف الوطنى والديموقراطى المتشاكس ، كيما يتوحَّد على إنجاز ما فى فضاء قضاياها المُلحَّة ، ولو كمردود مستحق ، على الأقل ، لتضحياتها الجسام فى استعادة الديموقراطية.
وليس ببعيد عن الصواب القول ، أيضاً ، بأن هذا الحكم لا يقتصر على أداء القوى الوطنية تحت ظلال الأنظمة الديموقراطية ، فحسب ، بل يشمل ، أيضاً ، أداءها فى أزمنة المعارضات. لقد ظل (المزاج) الشعبى يستمسك (بوحدة) القوى الوطنية والديموقراطية ، سواء فى إطار التصدى لمهام البناء الديموقراطى الكبرى ، أم فى مستوى التصدى لمقاومة (الشمولية).
ولئن كان ذلك كذلك ، فربما كان من المدهش ، بل من المُحَيِّر حقاً ، تعويل الشموليين ، بالمقابل ، على هذا (التمظهر الخادع) فى تبرير (شرعيتهم) ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، مما يُعَدُّ قراءة خاطئة أخرى (لمزاج الجماهير). ولعلنا نجد التعبير الأوفى عن هذه القراءة الحولاء (لشرعية) انقلاب مايو 1969م ، مثلاً ، فى قول جعفر نميرى عن مواكب الترحيب التى استقبلته ، بعد أسبوع واحد من وقوعه: ".. إن إجراءات عنيفة قد تم اتخاذها ، إعتقلنا العشرات من القيادات الحزبية والطائفية ، ألغينا الأحزاب وواجهاتها المختلفة ، وكان من الواضح أن هناك شعوراً بين الناس (بالرضى) ، أو على الأقل ، ليس منهم من (أعلن) احتجاجاً على أى من هذه الاجراءات. ولكن هل يكفى ذلك لكى يكون دليلاً على (مناصرة) الزحف ؟! .. تسربت أيام شهر مايو .. وتباطأت ساعات يونيو .. مرَّ اليوم الأول ، وفى صبيحة اليوم الثانى .. كان (الهدير). عشرات الآلاف (تهدر) ، مئات الآلاف (تهتف) ، جموع العاملين (تزحف) ، من حيث تعمل ومن حيث تقيم. ولقد كان ذلك اليوم (المجيد) يوم (النصر) فى يقينى" (أقواس التشديد من عندنا ـ النميرى ؛ النهج الاسلامى لماذا ، ص 85 ، 86).
(4)
ليس رضا الجماهير ، إذن ، أو سخطها ، بشاشتها أو غضبها ، أملها أو يأسها ، استبشارها أو إحباطها ، إقبالها أو إدبارها ، هو محض انعكاس ، فحسب ، لعلاقات الاقتصاد والاجتماع فى قاع البنية التحتية ، بل إن جزءاً كبيراً منه يشكل بعض وضعية (مزاجية) تندرج ضمن مباحث (السايكولوجيا الاجتماعية).
ويحارُ المرء كيف لم تتشكل ، بعد كل هذه الخبرات ، كتلة ذات ثقل مرموق بين الحركيين الاسلاميين ، تحسن النظر فى تضاريس هذه الوضعية ، وتجيد الاصغاء إلى وجيب جلجلتها ، ولو فعلت لوضعت أقدام الحركة بأسرها على أول الطريق المفضى إلى الاصلاح. بل لو كانوا فعلوا ، منذ البداية ، لما كانوا ركلوا كلَّ ما وقع لهم من كسب فى ظلِّ الديموقراطية ، فباتوا على ساعة من فعل حربى خاطف ، ليصبحوا على (مزاج) شعبى مُعَكَّر يصُمُّ آذانه ، بعناد ، عن أطنان من الشروحات ، بينما يفتحها ، عن آخرها ، لسؤال واحدٍ فاره البساطة ، بليغ العفوية ، ألقى به الطيب صالح ذات خريف بعيد: "من أين جاء هؤلاء الناس"؟! وليت لكثير من السياسيين بعض فراسة هؤلاء المبدعين ، فهم ، من قبل ومن بعد ، أدرى الناس (بأمزجة) الناس!
(إنتهى)