أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مهدي بندق - 2 البلطة والسنبلة .. التراث الفرعوني ومساءلة الأساس















المزيد.....



2 البلطة والسنبلة .. التراث الفرعوني ومساءلة الأساس


مهدي بندق

الحوار المتمدن-العدد: 1647 - 2006 / 8 / 19 - 10:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(نشر هذا المقال بمجلة تحديات ثقافية - العدد 26 - و جريدة التجمع المصرية - العددين الصادرين في 12 و 19 أغسطس لعام 2006 )


لا مراء في أن التغير و الصيرورة هما أساس الكون . وآيه ذلك أن ما يبدو ثابتاً في الطبيعة ليس إلا نتاجاً لتحول سابق، وهو في الآن نفسه رهن تحول قادم . فالشمس التي نراها تشرق علينا اليوم، ليست هي إطلاقاً شمس الأمس . لقد فقدت شمس اليوم جزءاً من كتلتها جراء ما حدث فيها من اندماج نووي، تحولت به كمية من ذرات الأيدروجين إلي ذرات هيليوم، وانطلق الفارق في الوزن بين النوعين ،علي هيئة طاقة حرارية وإشعاعات، ومع استمرار عملية الاندماج النووي هذه فإن 4000 مليون سنه قادمة ستكون كفيلة بنقل الشمس من كونها نجماً مشعاً إلي جرم مظلم أو ثقب أسود يبتلع كواكبه السيارة، كما نبتلع نحن لحم الدجاج المشوي.
وحين قال الفيلسوف الإغريقي هرقليطس " أنت تنزل النهر ولا تنزله" فلقد كان يعبر عن حقيقة جوهر الوجود في تغيره الدائم. فالموضع الذي أحسبه ثابتاً في النهر، هو في الواقع ماء متدفق، وعليه فأنا في نهر جديد كل لحظة وحتى " الأنا" الذي أراه وأري به الأشياء، ليس إلا نقطة مفترضة متقاطعة علي خطوط طولية و عرضية متحركة، بعضها يمثل غرائز الجسد ورغباته، وبعضها يكشف عن أوامر ونواهي المجتمع المحيط...
ولقد يوجد بالفعل شئ شبيه بالآنا (لكنه ليس أنا) دون أن يكون معروفاً لدي، مثل الجنين الذي كنته، و الكيان الجسدي الذي يبتعد عني حين أنام.
ومع ذلك فكل إنسان لاشك يشعر بأنه هو هو، تؤكد له ذلك ذكرياته المتصلة (أو المتقطعة) بيد أنه يقف مبهوتاً أمام اللغة الأعظم : الموت.
فالموت هو غياب دائم، لا عودة فيه، وكل تصور للذات بعد أن تغيب، إنما هو محض افتراض، وحتى ما يطمئن به المؤمن من اعتقاد بوجود عالم آخر، إن هو إلا إنتاج لفكر الحضور . وعلي العكس فإن الغياب لا فكر له ولا هوية ، وكل محاولة لسبر غوره لاشك ينفيه باعتباره غياباً. وهكذا تعود الذات إلي المربع رقم صفر،حيث يخلي " اليقين" الملعب لبديله الاحتياطي: الشك، ذلك اللاعب القادر وحده علي إحراز الهدف تلو الهدف، لا في مرمي الخصم، بل في مرماه هو.
فما الذي يفعله الشك بالضبط؟ إنه يهدم ليبني، ثم يعود ليهدم ما بناه. إنه يشكك الطفل في طفولته، وما يلبث حتى يهدم هذه الطفولة، منتقلا بها إلي الصبا و الشباب، بعدها يمحو الشباب بالنضج و الكهولة، فإذا اكتملا حذفهما منتقلا بالكائن إلي الشيخوخة، فالعجز، منهياً هذا العجز بالموت
إذا تم شئ بدا نقصه توقع زوالاً إذا قيل تم
فكيف إذن يتحدث البعض عن جوهر ثابت للذات، علي حين أن هذه الذات لا يمكن تعريفها إلا بالسلب؟ فالطفل لا يعرف الأنا إلا حين يدرك أنه ليس أمه ؟ الأنا إذن انفصال و استلاب. انفصال عن الطبيعة، وانفصال عن المصدر و المنبع( الأم) ثم هو انفصال عن العشيرة و القبيلة، وأخيراً هو استقلال نسبي عن الدولة حين تباشر الدولة مهامها التنظيمية للمجتمع. و الحاصل أنه كلما كثرت وتعددت مهام الدولة التنظيمية، كلما ضاقت المساحة التي يتنفس فيها الفرد حريته، ويؤكد فيها ذاته. ويظهر هذا الضيق بوضوح في البلدان التي تندرج تحت ما يسمي بالنمط الآسيوي للإنتاج Asiatic mode of production وأساسه وجود دولة مركزية قوية . بدونها لا تنجح عمليات ضبط النهر وسكان ضفتيه، ولا تبني منشآت الري الزراعي، ولا تتوقف المنازعات بين الزراع حول مياه الري و الصرف. ونمط الإنتاج الآسيوي هذا، سبق وأن أشار إليه ماركس من خلال تأثره بنظرية مورجان لفهم التنوع في مسيرة الجنس البشري، تلك النظرية التي اعتمد عليها انجلز . ولقد حاول بعض المفكرين الماركسيين لأسباب أيديولوجية(ستالينين) أن يغطرشوا علي هذه المقولة، برغم أنها الوجه الآخر للمركزية الأوربية، وأنها بذلك تشطر تاريخ العالم إلي غرب وشرق و الحقيقة الأبسط أن ينظر إلي تاريخ البشرية باعتباره متنوعاً بالفعل، وإن ضمته وحدة من غايات التطور. و المعروف أن النمط Mode يتحدد بعدة عناصر.. الموقف من الملكية( عامة – خاصة – مختلطة- تعاونية) وثانياً بوضع السوق، وثالثاً بنوعية تقسيم العمل، ورابعاً بعوائد الإنتاج (نقدي – عيني- جزء من التاريخ) وأخيراً بتحديد صاحب الهيمنة. فإذا طبقنا هذه العناصر علي النظام الإنتاجي الذي كان سائداً في مصر الفرعونية لوجدنا أنه لم يكن نظاماً انتقالياً بين مرحلة المشاعية البدائية (المشتركات القروية) وبين مرحلة الإقطاع اللاحقة دون مرور- لا تقتضيه ضرورة عقلية- بالنظام العبودي وهنا يتمظهر النمط الآسيوي . فلقد وضعت الدولة (= الفرعون) يدها علي وسيلة الإنتاج الرئيسية (الأرض الزراعية) دون أن تجعل الفلاحين أقناناً Helots ، بل تركتهم أحراراً بالمعني القانوني، بينما كانوا فعلياً تحت هيمنة حكام المقاطعات. نعم يحصلون علي جزء من المحصول ليعيشوا عليه، إضافة إلي صناعاتهم المنزلية الخاصة، ولكن ما كانوا يحصلون علية يكفي بالكاد للعيش وتجديد النسل، أما فائض إنتاجهم فللخزينة العامة . وصحيح أنه كان من حقهم مغادرة الأرض دون مانع من القانون، ولكن إلي أين يذهبون من الناحية الواقعية؟ للعمل في مناجم الدولة، مقابل أجور زهيدة( غالباً لا تدفع) وليشاركوا أسري الحروب معيشتهم البائسة في المناجم و مراكز التعدين، وليموتوا في النهاية من المرض وسوء التغذية؟! ربما كان البقاء في الأرض واحتمال عسف الجباة، وعصي موظفي مخازن الملك أرحم!
أما الحرفيون وصناع المدن . فكان الأغنياء من الأمراء ورحال الحاشية، و الكهنة، وكبار الموظفين يكلفونهم بأعمال خاصة نظير أجور محدودة، أو بطريق السخرة .ومن المحتمل أن يكون هؤلاء قد كونوا فيما بينهم طوائف (أشبة بالنقابات البدائية) لكنها لم تأخذ طريق التطور الطبيعي لولادة طبقة بورجوازية، بسبب ضعف النشاط التجاري الداخلي (وهو أساس نشأة الطبقة) جراء الاعتماد علي نظام المبادلات، الذي يحاول سليم حسن أن ينكره بحجج ضعيفة . وحتى لو كان ثمة نقود تجري بها عمليات البيع و الشراء، فإنها كانت مجرد مقياس حسابي يسمي "شعت" هو قيمة وزن خاص من الذهب، وكذلك " الدبن" الذي يساوي 12 شعت، وهذه المعايير الحسابية الجامدة، تتماشي مع جمود وتكرار الإنتاج الزراعي، وضعف الصناعة، إلا فيما يخص القصور الملكية، و المعابد، و المرافق العامة.
أما التجارة الخارجية فكانت نشاطاً للدولة، لا للأفراد، الأمر الذي أسهم أكثر في تعطيل مولد الطبقة الوسطي، حيث كانت الطبقة الحاكمة تمتص النابهين منهم أولا بأول، وبالطبع فإن ظهور الإقطاع، بجموده الطبيعي، وبخضوعه للسلطة المركزية في ذات الوقت، أدي إلي استغناء الإقطاعيين عن طبقة نشطة تحمل منتجاته إلي البلدان المختلفة، وتعود إليه بسلع وبضائع جديدة. بالاختصار ظلت مؤسسة الفرعون، ومؤسسة الإقطاع في حالة اكتفاء ذاتي Self-satisfaction، الآمر الذي انعكس علي ثبات البناء الفوقي المتمثل فيه غياب التنظير السياسي، ومن بعده الفكر الفلسفي، ومن بعدهما الأدب و الفنون الدرامية، حيث اقتصر النشاط الفني علي الفنون السكونية كالعمارة و التصوير، وحتي هذه الفنون فقد احتكرتها طوائف الأشراف و الكهنة، و الأغنياء " المرتاحون"، وتلك سمات النمط الأسيوي وعليه فاننا، ورغم اطمئناننا إلى صواب مقولة ماركس، فأننا لا نستخدم هذا المصطلح إلا كأداة تحليل للتاريخ المصرى القديم، وليس كنظرية عامة للتاريخ كله. إذ يبقى القول بأن هذا النمط إشكالي Problematic، سواء بالكتابات المؤسسـة له عند مـاركس (مسودات 1875) أو عند انجلز (الأعمال الكاملة) أو بتوسعات كارل فيتفوجل، وماكس فيبر، أو بتحفظات بيرى أندرسون من ناحية، ومن أخرى بمعارضات فاليرى شتاين، وأندريه جوندر فرنك وسمير أمين، وهي معارضات أساسها الأيديولوجي الخشية من تقسيم تاريخ العالم إلى تاريخ شرق وتاريخ غرب، لكننا نقول – مرة أخرى- إن التنوع التاريخي لا ينفى وحدة الجنس البشرى. والحاصل أن محددات هذا النمط (الاستبداد والجمود) تظل تلقى بظلالها على شكل الحياة، حتى بعد أن يكون المجتمع قد انتقل إلى المراحل التالية، بل هو- هذا النمط – نتيجة جموده، إنما يقع عقبة كأداء أمام احتمال ميلاد الرأسمالية، التي تقوم على تحرير السكان من التبعية لكيانات الما فوق – Meta سواء أكانت هذه الكيانات آلهة أو ممثلى آلهة (= لوردات) أو قبيلة، أو حتى المجتمع (بتصور أنه كيان مستقل يعلو على مجموع أفراده) ممثلاً في دولة ذات هيمنة، أو ممثلاً في لائحة شاملة من الأعراف والعادات الثقافية. فالرأسمالية نظام يقوم على الحرية الاقتصادية (اللبرالية) ويستتبع حتماً قدراً كبيراً من الحرية السياسية (= الديمقراطية) والبداية فيها الاعتراف بالفردية Individuality إزاء موضوعانية البنيات الما فوقية Meta-Structures .
فإذا كان الشك الوجودي يباعد ما بين المرء وبين امتلاكه ليقين يؤكد ذاتيته وتفرده، وينمى لديه مشاعر العزة، فإن عيش المرء في إطار نمط إنتاجي جامد Immobile ذي حكومة مستبدة، لا مشاحة يزيد، بل يضاعف من هذا التباعد، حتى تكاد الفروق بين الأشخاص أن تنطمس
شيء شبيه بهذا واجه الإنسان المصري القديم بينا هو يروى فرع حضارته . هذا الفرع الذي سبق نشأة الدولة الطبقية – حيث استطاع به أن يخرج من عالم البداوة الضيق إلى عالم رحب، تتوزع فيه الوظائف الاجتماعية، ما بين أناس يعملون بالزراعة، وأناس يعملون بالحرف، ورجال يقومون بالتشييد والمعمار، ويتخصص قوم بالأعمال الإدارية، وثمة من يختارون أشداء لمهام الدفاع، يمهدون لقيام مؤسسة عسكرية، فضلاً عن مؤسسة الشرطة . ومع الوقت بدأت تظهر الحاجة إلى مشرعين وقضاة (= الكهنة) جنباً إلى جنب المعلمين والعلماء والفنانين. ومن المنطقى (من وجهة نظر الفلسفة الوضعية) أن يشرف على هؤلاء جميعاً بيت كبير (برعو) يغدو صاحبه الفرعون صاحب السلطة، والمايسترو الذى يقود الجوقة. ومن المنطقى أيضاً – مادمنا ننظر للتاريخ بعيون ليبنتز leibntz - أن نرى في نظام للإنتاج أساسه حوض النهر الواحد – "ضرورة" أن يلجأ صاحب السلطة إلى "تأميم" الأرض الزراعية، تاركاً للمشترك الفردي حق الانتفاع دون حق الرقبة. وجراء ازدياد قوة الدولة، بوضع يدها على وسيلة الإنتاج الرئيسية : الأرض والمناجم، فإن النوازع الفردية لا غرو تتقلص، حتى لينظر الواحد منهم إلى نفسه بحسبانه جزء من كل . لا كياناً مستقلاً بذاته. نقول إن ذلك كله يبدو منطقياً، مادمنا قد قبلنا بالخديعة الفلسفية المؤسسة على ميتافيزيقا الحضور بحتميته وتبريراته. لكن ذلك – من وجهة نظر الاختلاف والإرجاء Deference – ما كان ليحدث بالضرورة ولسوف نناقش هذه النقطة بتوسع في الفصل الأخير من الكتاب. أما الآن فنقول ليتحدث غيرنا كيف يشاء عن عظمة "الحضارة الفرعونية"، بيد أننا – وقد أخذنا على عاتقنا مهمة الحديث باسم العامة Demos الموكل إليهم تاريخياً حكم أنفسهم بأنفسهم – لا نملك ترف التغني ببناء أهرامات لملوكنا، لكي "يمثلونا" في عالم الخلود، ولا نستطيع أن نبادل حريتنا بالتأمل المنبهر بما نحته أسلافنا من تماثيل، وما أقاموه من معابد وقصور لحكامهم وأمرائهم وكهانهم. فدعونا نعتذر لأصحاب كتاب "حكمة المصريين" وعلى رأسهم الكتاَّب اليساريون: الناقد د. عبد المنعم تليمة، والشاعران حسن طلب وحلمى سالم، عن عدم مشاركتنا إياهم الرضى بحكمة الأسلاف . وصحيح أن هذه الحضارة العظيمة قد تأسست بجهود هؤلاء الأسلاف، لكن صحيح أيضاً أن الشعب المصري لم ينل من ثمار هذه الحضارة إلا البؤس والفقر والهوان. أنظر إلى ديودور العقلى كيف يصف العمال المصريين (رجالاً ونساء) بعد وصفه لحال الأسرى والسجناء، إذ يقول : " .. وإذا كان هؤلاء العمال عاجزين عن العناية بأجسامهم، وليس لهم ثياب تستر عريهم، فإن كل من يرى هؤلاء البائسين منكودى الحظ، لابد تأخذه الرحمة بهم، لفرط شقائهم. لكن أحداً لا يرى، ولا يرحم هؤلاء المرضى والمشوهين، والعجزة، والضعاف من النساء، أو يخفف العمل عنهم. إنهم يلزمون بالعمل الدؤوب حتى تخور قواهم ... وهم من أجل هذا يفضلون الموت على الحياة".
(قصة الحضارة – جـ2 من المجلد الأول ص 85)
ويصف وول ديورانت لنا مشهداً آخر، تأخر فيه صرف أجور العمال زمناً طويلاً فصاحوا في رئيسهم قائلين: "لقد ساقنا إلى هذا المكان الجوع والعطش، فاكتب إلى سيدنا الملك في ذلك حتى يأمر حاكم المقاطعة أن يعطينا ما نقتات به"
يعلق ديورانت على ذلك بقوله: إن حضارة كانت تستغل العمال هذا الاستغلال القاسى لم تعرف، أو لم تسجل إلا عدداً ضئيلاً من الثورات (ص 87) .
فما الذي ورثه مصريو اليوم من أسلافهم مصريي الحضارة الفرعونية بجانب الاستكانة، والرضى بحكم المقادير ؟ لقد ورثوا تقليداً عجيباً هو لجوؤهم بشكواهم إلي كبير العائلة، ذلك الذي يعد المسئول الأول عن أحوالهم البائسة ! فإذا أضفنا إلي البؤس الأنطولوجي لأفراد الشعب، بؤس أحوالهم المعيشية، علاوة علي يقينهم – المستمد من جمود النمط الإنتاجي – بأن تغييراً ما لن يحدث، لأدركنا أن الوعي الجمعي(هو حصيلة جمع وعي الأفراد) لابد وأن يتسم (لعصور طويلة) بطابع اليأس، واللامبالاة، و الانصراف عن أية دعوة يدعوهم إليها أي " سبارتاكوس" مثالي، وخيالي ! لكنهم مع ذلك قد يندفعون اندفاع السيل الأعمى، دون قيادة، في لحظة يأس كاملة، لا إلي الثورة، بل إلي التدمير و الفوضي، مثلما حدث في نهاية الأسرة السادسة التي اقترنت بسقوط الدولة القديمة. ومن المنطقي أن يترفع مثقف هذا النظام مثل الحكيم إيبور عن التفاعل مع الغضب الجماهيري، بله قيادته، إلي درجة أنه راح يكتب ملتاعاً: انظر إن أصحاب الحرف لا يقومون بشيء، أصبح المعدم رب ثروة، والغني صار إنساناً منهوباً ! لكن غير المنطقي أن يمدح مؤرخ مثل برستيد توصيف الحكيم " أبيور "، المنحاز للملكية و للإقطاع . دون التفات إلي أن تعبير " اللص" كان الأولي به أن يلصق بصاحب العزب و الأطيان وليس بالفلاح المعدم الذي استرد جانباً من نتاج عمله وعمل آبائه و أجداده.
ومثل برسيتد، يتباكي كثير من المؤرخين علي ما حاق بـ " ماعت" إلهة العدل و الأخلاق، حيث حل الشك و الإلحاد محل " الإيمان " خلال هذه الفوضي العارمة دون اهتمام بتحليل الظروف المعيشة والاجتماعية، بل و الانقلابات السياسية المصاحبة لها . خذ مثلاً انقلاب القائد العسكري تيتي مؤسس الأسرة السادسة نفسه في محاولة لانقاذ الدولة من التفكك .فلقد عمد هذا القائد العسكري (بروفة ناصر الأولي) إلي الغاء عبادة رع، إله الارستقراطية، مستبدلاً به إلاله بتاح (فتاح في التحوير العربي ) الذي كان إلها للفلاحين و العمال (!) فكان أن دبر كهنه هوليوبولس فتم اغتياله بعد سنوات من توليه عرش البلاد ، وكان أن تولي بعده بيبي الأول الذي أعاد الإقطاعيين إلي مكانتهم، وتبعه بيبي الثاني الذي استمر يحكم البلاد لتسعين عاماً متصلة، بلغ فيها الترهل و الفساء الحد . فكان الانفجار الكبير و الذي استمرت آثاره المدمرة قرابة مائتي عام .

وبجانب السلبية و اللامبالاة التي تؤدي أحياناً إلي الانفجار غير المحسوب، فلقد ورث المصريون من حضارتهم الأولي التعلق الهذياني بالدين . صحيح أن الدين ليس اختراعاً قام به الكهنة المحتالون لتبرير السلطة المطلقة للحاكم، و الغطرشة علي واقع استيلائه، وعصبيته، علي أنتاج الشعب، وإن كان ذلك ما حدث بالفعل، تطبيقاًَ لمبدأ توظيف الاحتياجات الروحية للناس لخدمة الأغراض السياسية، و إلي التعزية Comfort عن المشكلة الأنطولوجية (= الحضور المؤقت في الحياة، و الغياب الدائم بالموت) اضافة إلي احتياج الناس الي تعويض Compensationعما حاق بهم من ظلم، قد اقتضي هذا وذلك تأسيس وظيفة اجتماعية للدين لاخضاع الشعب لمقتضيات الاستبداد مقابل ترقية المطيعين منهم إلي الدرجات الأعلي حيث يصبحون كهنة أو معلمين، أوكتبة، أو ضباطاً بالجيش و الشرطة، أو مشايخ بلد .
ورث المصريون إذن هذا التراث الديني المعقد ،والذي يبدو أساسه الأنطولوجي مرغوباً فيه، إذ يقوم علي احتياجات انسانية حقيقية . لكن الوظيفة اإجتماعية للدين هي التي فاقمت الإشكالية حيث تم استخدام العقائد اليهودية، فالمسيحية، فالإسلام لخدمة أصحاب السلطة في المقام الأول . فهل يمكن تخليص الإبريز الجوهري من تراب العرض و الزائل في ظل المجتمع الطبقي القائم علي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان؟ ربما تبدو" الديمقراطية" وكانها دين جديد، عقيدة إنسانية تخلو من الكهنة و الطقوس، وتتجاوز أشكال الترهيب و الترغيب الميتافيزيقية بحصر المشكلة الإجتماعية في نطاق الانتاج و التوزيع و الإدارة، دون ادخال عناصر غربية عليها . الأنطولوجية منظوراً إليها من زاوية الوعي الديمقراطي؟ سؤال سوف نؤجل الإجابة عليه لحين نصل إلي موضعه المنطقي في الفصل السابع من هذا الكتاب . حسبنا أن نواصل هنا رصد الموروث الاجتماعي و الثقافي، وتحليله تحليلاً نقدياً، نستطيع بعده التفكير فيما سيكون عليه مستقبلنا كمصريين، في إطار شعوب العالم الرامية إلي التحرر من الاستقلال، و القهر، و الهيمنة خارجية كانت أم داخلية.

لكننا الآن، مازلنا نتابع عملية جرد الموروث من العصر الفرعوني، بغرض اختبار صلاحيته أو عدم صلاحيته للاستمرار معنا في مستقبلنا، تماما كما يقوم ابن المتوفي بمراجعه ماخلفه والده، مستبقياً النافع، ومتخلصاً من الضار . فماذا ياتري نجد أيضاً من عناصر ثقافية سلبية بقيت معنا حتى الآن خلاف الاستكانة و الرضي بالمقادير، واللامبالاه بالشئون العامة، و الوقوع في أسر التوظيف الإجتماعي للدين ؟ نجد بجانب هذا كله فكرة المخلّص، الحاكم المستبد العادل، والذي سوف تدعوه المسيحية فيما بعد ب" المسيح المنتظر" ويسميه الاسلام الشيعي " المهدي المنتظر" .
وفكرة" المخلّص" هذه تظهر بذورها أول ما تظهر في شكوي الفلاح الفصيح، كما تبدو واضحة أكثر في تنبؤات " نفر روهو" و " إيبور" وغيرهما، هذه الأدبيات التي ظهرت إيان فترة الفوضي (الأسر من السابعة حتى الحادية عشرة المنتهية عام 2000 ق.م) ومن الواضح أن تلك التنبؤات كانت محاولات " أدبية" تستهدف تهدئة العامة، بحقنهم بمخدر قوي اسمه " الطبي" " المخلّص" الذي سيأتي " حتماً" ليملاً الأرض عدلاً! وليس أدل علي ذلك من الرجوع إلي آراء الحكيم " إيبور" نفسه الطبقية المنحازة. فما هو ذا يقول متحراً إن مخازن الملك قد أصبحت ملكاً مشاعاً لكل فرد، ولا ضرائب تجبي للقصر، رغم أنه ينبغي قانوناً أن يكون له شعير و قمح و دجاج و سمك، وكان القصر يحوي النسيج الأبيض، و التيل الجميل، والنحاس، و الزيت، وكان يملك الحصير، و البسط، وكل المحاصيل الجميلة..." ولنا أن نتأمل مدققين في الجملة الأخيرة " كل المحاصيل الجميلة" ولنتذكر كيف أن ” كل هذه المحاصيل الجميلة" إنما هي من عرق وكدح أولئك الذي انتفضوا، وقرروا ألايتركوها تذهب من بين أيديهم- هذه المرة- إلي صاحب القصر، ذلك الذي كان عليه أن يختبر ولو لمرة طعم الجوع . فهل تري أن مثل إيبور هذا يصح أن يلقب " الحكيم "؟! لكنه يصح بالطبع من وجهة نظر الطبقات المستغلة(بكسر الغين) ومن وجهة نظر المؤرخين الرسميين، الذين يدعوهم جرامشي بالمثقفين التقليدين، ويطلق عليهم هيجل أسم أصحاب الوعي الشقيUnhappy-consciousness . كيف إذن يصدر عن صاحب وعي شقي نبوءة صادقة تتحدث عن " حتمية" مجئ المخلّص؟!
وحتمية مجئ المخلّص ضربة مزدوجة وقعت، وتقع علي هامات المصريين منذ الفراعنة وحتي الآن . فالحتمية في حد ذاتها تؤدي إلي القبول بالجبرية المطلقة، وهي الفكرة التي ما أن تستقر في العقل، ويتم تقبلها بحسبانها أمراً طبيعياً، حتى تفرغ من الكائن كل طاقة فيه تسعي للتغير . ولا يحدث هذا لدي الأفراد العاديين حسب، بل يجري كذلك علي المثقفين منهم، وقد يمتد إلي فلاسفة التحرير أيضاً .
الماركسية مثال علي ذلك، وفي هذا السياق يمكننا أن نفهم كيف ارتضت الكوادر الشيوعية أن تحل حزبها – بالأحري حزب الطبقة العاملة الثورية- قائلين إن الظروف الموضوعية، وهي أحد تجليات الجبرية – لا تسمح إلا بالانخراط في حزب البورجوازية الصغيرة" الثورية"! الذي هو الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة المخلّص ناصر

وأما الجانب الثاني من هذه الضربة المزدوجة، فهي ما يتعلق بنفي الفعل الإجتماعي لحساب القائد، الزعيم الملهم، المستبد" العادل" . وتمتلأ كتب التاريخ المصري من بدر العيني (صاحب كتاب السيف المهند في أخبار الملك المؤيد) وحتي محمد حسنين هيكل بالترويج لهذه الثيمة الفرعونية، حتى أن السؤال عن الخلاص من وضع لا يحتمل لا يصاغ هكذا: " فما هو الحل ؟" بل يطلق بصيغة " فمن البديل؟" وإذا كان أحداً لا يتصور امكانية تغيير بنية الاستبداد، بل أقصي ما يتصوره هو تغيير أحد عناصر البنية(=المستبد) مع إستمرار باقي العناصر الأخري – وبينها الخانعون أنفسهم.. فضلاً عن منظومة القوانين و الأعراف و السلوكيات الداعمة لهذه البنية- بحيث يختزل المطلب العام في استبدال حاكم بحاكم، وليس أكثر.
ويمكن أن نضيف إلي هذا الموروث الثقافي السلبي، موروثاً في تقاعس إلانتلجنسيا المصرية عن العمل الفلسفي " الإبداعي " . ليس ممكناًً أن تجد مصرياً ينسب اليه مذهب فلسفي مبتكر . قد ينسب عبد الرحمن بدوي إلي الوجودية، و زكي نجيب محمود إلي الوضعية المنطقية، و حسن حنفي إلي الظاهراتية، و محمود أمين العالم إلي الماركسية..لكن الانتساب إلي مذهب – حتى وإن أضفنا إليه – شئ، واختطاط مذهب جديد شئ آخر.
في أواسط ستينات القرن الماضي طلع " عثمان أمين" علي الحياة الفكرية بكتاب أسماه" الجوانية" أراده أن يكون انعكاساً تجريدياً للتلفيق " الناصري " فما وجدنا مذهباً ذا كيان متماسك، بقدر ما سمعنا نداء مثالياً- هو خليط من الوسطية الإسلامية وروحانية برجسون- لشحذ الهمم حتى تستمر " الثورة" فتؤدي اللغة العربية رسالتها التي تحملها الأمة إلي الجنس البشري لكي يعطف علي المحرومين، ويؤازر المظلومين....الخ وما من شك في أن أحداً يمكنه أن يناقش النتائج " الفكرية" لمثل هذا النداء المثالي- ولا نقول المذهب الفلسفي – من حيث طواه النسيان، في غمرة الصخب الواقعي، الذي عصف بالناصرية، وبثورتها ،وأطاح بالوسطية الإسلامية لحساب التطرف الديني، كاشفا لاً عن غياب ما سمي برسالة الأمة العربية حسب، بل وعن غياب الأمة العربية ذاتها، وانسحابها الكامل عن دراما التأثر في مجريات القرن الحادي و العشرون

وهكذا، فاننا لا نجد علي المسرح المصري – بخلاف من أشرنا إليهم آنفاً- إلا مؤرخي فلسفة (يوسف كرم، علي سامي النشار، توفيق الطويل، وزكريا إبراهيم ...). أو شارحون لمذاهبها (أحمد فؤاد الأهواني، وإمام عبد الفتاح إمام، وعاطف العراقي، وعبد المنعم الحفني) ثم جيش من معلميها من أساتذة الجامعات و المدارس الثانوية . ولكن رغم جهود هؤلاء وأولئك فإن الفضاء الفلسفي ظل خالياُ لا تلمع فيه إلا شهب قلائل ما تلبث حتى تنطفئ .
ذلك تراث سلبي بالتأكيد . نقل إلينا من مورثه الأول: الفرع الحضاري الفرعوني، ذلك الفرع الحضاري الذي لم تطرح أوراقه قط مشروعات انسانية كبري، كانت حرية بأن تضطلع بها فئاته المثقفة (= الكهنة) لترقية الحياة، من قبيل حل مشكلة الضرورة و المصادفة، الجبر و الحرية، تحديد الغاية من العيش علي الأرض (وليس في عالم آخر ) عبر التصورات الأعم لآفاق الحضارة، والتصورات الأخص لعلاقة الأخلاق بالسياسة، و الجمال بالاقتصاد .. الخ
وهنا يبرز سؤال عن أسباب تقاعس هذه الفئات المثقفة (الكهنة) عن تعليم الشعب المصري طرائق التفكير و التنظير، في الوقت الذي علمت فيه الأجانب الزائرين (مثل هرقليطس، و وفيثاغورس، و أفلاطون، و أرسطو نفسه) كيف يتفلسفون. فبينما عمد سقراط وخصوصة السوفسطائيون إلي " تشعيب " الفلسفة( أي جعلها متاحة للشعب ) فإن الكهنة المصريون اكتفوا بالقاء إلاجابات سابقة التجهيز (المكرسة للواقع الطبقي الذاتي ) ليتلقفها العامة في صورة عقائد و طقوس دينية لا تقبل النقاش، وهي اجابات تنقل العيش الحقيقي من هذا العالم الواقعي الملموس، إلي عالم مفترض وجوده بعد الموت، يلقي فيه الأبرار النعيم جزاء " صبرهم"، ويعاقب فيه الأشرار (= المتمردون) لخروجهم عن الجاد التي رسمها لهم النظام.
فهل كان التمايز بين مثقفي الإغريق، ونظائرهم الكهنة المصريين، مرجعه إلى كون المدينة الإغريقية Police حشدا مجتمعيا لممارسه الإنتاج الحرفي، والتجارة، وإدارة الشئون العامة، وكون المدن المصرية أماكن لسكني الطبقة الحاكمة ودعاماتها من كهنة ورجال إدارة وأطباء ومهندسين وقضاة، يقيمون في دوائر مركزها البيت الكبير : الفرعون، وعلي حافة هذه الدوائر يقيم صغار الموظفين و الأتباع و الخدم و أصحاب الحرف المطلوبة للتخديم علي هذه الطبقة؟
إن وضع المدينة – وليس موقعها اقتراباً أو ابتعاداً عن الريف – هو الذي يحدد وظيفتها، ومداخل ومخارج قيمها علي الخارطة الحضارية . وبهذا المقياس يمكن القول بأن المدن الفرعونية لم تكن سوي " قصور" ملحقة ب (أو ملحق بها ) الريف .. ومن ثم غاب عنها العمل السياسي، وضمرت فيها الاحتياجات الفلسفية، فاكتفت بالعيش السطحي، مورثة إيانا جيلاً وراء جيل، وعصراً بعد عصر هذه السلبية السياسية وذاك الجفاف الفلسفي، و اللذين من جرائها نعاني ما نعانيه في حياتنا الثقافية بالمعني الأوسع لكلمة الثقافة.
ثمة موروث أفدح – عساه الأاساس المادي لهذين الجانبين السياسي و الفلسفي- انتقل إلينا من الفرع الحضاري الفرعوني عبر الفرع الحضاري العربي، ذلك هو كراهيتنا للعمل، بالنظر إلي وقوعه أنطولوجياً في النمط الآسيوي الجامد، و النمط الخراجيّ المتيبس. ولعل مقاربتنا لهذين النمطين، وابراز نتائجها المتشابهة هو ما حدا بمثقف أكاديمي (هو الدكتور أبو الحسن سلام) إلي انتقاد نظريتنا التي أوردناها في كتابنا" سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر " لنفسر بها غياب الدراما السياسية و الفلسفية عبر العصور الفرعونية، و البطلمية الرومانية، و العربية جميعاً في ارتكاز مفترض علي ظاهرة كراهية الشعب المصري لقيمة العمل الإنساني.
يقول الدكتور سلام : إن مهدي بندق صاحب مشروع فكري، أخشي القول أن أحداً لا يشاركه فيه . إذ يري – وأظنه الوحيد الذي يري – أن العقلية المصرية، قديمها و حديثها، هي و العقلية العربية عقلية واحدة فلا فرق عنده بين عقلية الماء، و عقلية البيداء..

بالطبع ثمة فارق واضح. فمجتمعات الماء يمارس سكانها العمل فعلاً، بعكس مجتمع البيد الذي تظل اقتصادياته فقيرة، إلي أن ينهض رجاله إلي الفتح وغزو البلاد.
وهنا يبدأ اقتصاده في الازدهار، بما يضيفه إليه من فئ الحروب، وخراج البلدان المفتوحة. بيد أن وجه التشابه عندي قائم علي فينومينولوجية وحدة الوسيط الشعوري إزاء فكرة العمل، والقائم به في آن. بالنسبة لمجتمع البيداء فالسبب هيكلي لا جدل فيه، فالرعي و الزراعة المحدودة علي مياه الأمطار أو آبار الماء لا يمنحان الفرصة لتطوير الملكات الأدائية لشبه العمل Semi-work الروتيني قليل الإثمار. وفي حالة الغزو فإن المهزومين سيقومون – لا مشاحة- بالعمل لصالح القبائل المنتصرة وفي الحالين فإن ثقافة القبيلة لا تري في العمل قيمة معتبرة . أما مجتمع الماء (المجتمع الزراعي الوافر) فالعمل هو وسيلة العيش الرئيسية . إنما تعكر عليه كراهية العاملين بالنظر إلي الاستلاب Alienation التي تجابههم جراء الوضع الطبقي الظالم، إذ لا يتاح لأحد أن يحب عمله، بينما يري ناتجه ذاهباً إلي غيره من أول الفرعون وحتي الجابي و الملتزم، مروراً بالكهنة و الكتبة و الشرطة وغيرهم.
لقد طمست هذه الميمات الثقافية Cultural Mimes (وهي غير الجينات التي لا سبيل إلي تغييرها إلا بعمليات جراحية معقدة جداً) تكوينات أصلية لدي المصريين، منها حب العمل، و القدرة علي التنظيم، و الوداعة، و الاحتفاء بالحياة الطبيعية، و التآزر و التآلف، و التسامح، مما رمزنا له في مقدمة الكتاب برمز السنبلة. هذه التكوينات الأصلية عرفت طريقها إلي قلوب وعقول المصريين أثناء وقبل العصر النيوليتكي Neolithic وهو العصر الذي نشأت فيه حضارات ما قبل الأسرات و الدولة المركزية، ربما يكون قد امتد في الزمان لعشره آلاف سنة، نبغت فيها مرمدة بني سلامة، و الفيوم، وقبلهما منطقة العمري ووادي حوف، وبعدهما ديرتاسا ، ووادي الشيخ، و البداري، ونقادة، و الواحات الداخلة، و الواحات الخارجة. ولاشك أن حضارات العصر الحجري الحديث لم تكن الإنتاج التطور البشري و البيئي الموغل في القدم ،و العائد بطبيعة الحال إلي بذرة الثقافة الأولي التي خرج بها الإنسان المصري من عالم الهمجية و التنافر، و التنازع الوحشي من أجل البقاء . إلي فضاء الإنسانية الرحب، حيث التعاون و المحبة، و البناء و التشييد.

بيد أن استعادة البراءة الأولي ضرب من المحال في الإمكان حسب، تنشيط الذاكرة الجمعية لكي نسترشد بما قد في الأعماق، لا من أجل تكراره، بل بغرض استنفار الهمم لإبداع جديد مواز، أخذاً في الاعتبار قانون التطور الحلزوني . وهو ما يقتضي الوعي بالتاريخ، ونقده من ناحية، ومن أخري إطلاق قوي الخيال بأقصى مدي لخلق مستقبل أفضل.

فإما الوعي (الناقد ) بالتاريخ فيلزمنا أن نلتفت إلي ما جري من تشويه لتلك البراءة، ليس فحسب جراء الانقسام الطبقي، الذي بدوره ولد نظام الدولة (مما دشن الاستبداد من ناحية، والاذعان من أخري ) بل وأيضاً بسبب تعرض البلاد لعصور من الغزو الأجنبي، ارتضي المصريون العيش بشروطها، ومارسوا حياتهم العادية في ظلها .. وكأنهم راحوا يساءلون أنفسهم : " وما الفرق بين حكم الغزاة وحكم الطغاة ؟!" وكأنهم أجابوا : لا فرق، فلماذا نستشهد لنطرد هؤلاء، بينما لا نفكر الاستشهاد لخلع أولئك ؟ ذلك ما سوف نتلمسه في هشاشة الشعور بالمواطنة، التي تحفز للدفاع عن استقلال البلاد، لا بالجيوش وحدها، بل وأيضاً بالجماهير الشعبية. ولقد وصلت هذه الهشاشة إلي ذروتها في أيامنا هذه ، متمثلة في رد الفعل الضعيف لدي النخب المثقفة (وانعدامه تماماً عند الجماهير ) علي تصريحات مرشد الأخوان المسلمين ، التي تنفي كلمة مصر ، بل وتجرحها، وتستنكر علي مسلميها الانتساب إليها ، وترضي بأن يحكم أهلها تركي أو ماليزي شرط أن يعلن إسلامه! وربما تبين الإحصاءات أن ما قدمه المصريون من شهداء في حروبهم "التحريرية" منذ عصر أحمس وحتى حرب أكتوبر ليس مما يصل إلي نصف ما قدمه شعب الجزائر في حرب استقلاله التي استمرت لثمانية أعوام (1954-1962) فما بالك بما قدمه الشعب الروسي الذي بلغ عشرين مليوناً من الضحايا .. في سبيل تحرير الأرض الروسية من الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية ؟!
وثمة ملاحظة أخري تتعلق بنفس الظاهرة، مفادها أنه باستثناء تحرير البلاد من الغزاة الهكسوس عام 1500ق.م، وتحرير جزء من سيناء علي يد القوات المسلحة المصرية، كان علي المصريين – لثلاثة آلاف وأربعمائة عام – أن ينتظروا – دائماً – غازياً أجنبياً ليحررهم من محتل أجنبي.
غزا قمبيز الفارسي البلاد عام 525ق.م، بعدها خضعت مصر لحكم الإغريق حتى عام 30 ق.م (لمائتي عام أخرى ) إلي أن حل الرومان محلهم بعد هزيمة كيلوباترة وانتحارها .. ليحكموا قروناً ستة، حتى طردهم العرب (السُنٌة )، عام 641 ميلادي، الذين حكموا لقرون ثلاثة حتى طردهم الفاطميون (الشيعة) عام 969 ميلادي، بعدها تناوب حكم البلاد : الأيوبيون (الأكراد) من عام 1171 إلي عام 1250 م ثم سلاطين المماليك إلي عام 1517 ميلادية، ثم الأتراك العثمانيون، يعاونهم المماليك المهزومون في احكام السيطرة علي مقدرات المصريين، إلي أن أزاحت الحملة الفرنسية عام 1798 هذا الحكم المزدوج العثماني المملوكي . بعد أعوام ثلاثة طرد الإنجليز الفرنسيين، لتحكم البلاد أسرة أجنبية (ألبانية الأصل) هي أسرة محمد علي باشا، فكان حكمها المتذبذب بين المغامرات العسكرية الخارجية – التي انتهت بالهزيمة – وبين الاستبداد بالشئون الداخلية، ممهداً للاحتلال البريطاني عان 1882، ذلك الاحتلال الذي استمر لأكثر من سبعين عاماً تالية.
كل هذا، و المصريون يؤدون – حسب – دور المحكوم!

وللإنصاف كانت هناك أعمال مقاومة مسلحة فاشلة ضد المحتلين في بعض فترات التاريخ : ثلاث مرات ضد الفرس، ومرة ضد الرومان، ومرتين بالضد علي الحملة الفرنسية (اقتصرت علي القاهرة دون غيرها من المدن المصرية ) بينما حين انفجرت ثورة 1919 في مدن مصر وقراها ضد الاحتلال البريطاني، اتسمت بالطابع السلمي غير المسلح، مما أنتهي بزعمائها إلي التهاون و القبول بالتفاوض علي أساس التسوية Compromise مع استمرار الاحتلال . وفي كل الأحوال، فإن المصريين لم ينجحوا قط في رفع الفعل التحريري إلي غايته، ألا وهي طرد المحتل الأجنبي، وإعلان الاستقلال التام ناجزاً غير مشروط.
ولعل الكثيرين ممن ضللتهم الأيديولوجية القومية، يعتبرون أن عن مآثر حركة الجيش في 23 يوليو 1952 إعادة حكم البلاد – لأول مرة منذ العصر الفرعوني – إلي يد مصرية. بيد أن ذلك لم يزد عن إعادة وضع المصريين المحكومين إلي سابق عهدهم في ذلك العصر الفرعوني : الانصراف عن العمل السياسي، بما هو أغلبية ومعارضة، وتداول للسلطة في إطار شرعي وقانوني يسمح بحرية التفكير و التعبير و التنظيم ...الخ ؛ مما هيأ للنخبة العسكرية و البيروقراطية الانفراد بالحكم و التملص من كل دعوة سلمية للإصلاح السياسي، الأمر الذي دفع باليأس إلي نفوس المصريين، حتى لقد رأينا شرائح من المثقفين (خاصة أقباط المهجر ونظائر لهم بالداخل ) ينتظرون " الغرب" أن "يجلب" لهم الديمقراطية المشتهاة، وكأن هذه النخب المعاصرة تختزل تاريخ السلبية الطويل في ذات المطلب : فليحررنا أحد مما نحن فيه !
مرة أخري ما هو السر الكامن وراء هذه السلبية، وذلك الشعور الراسخ بالمفعولية بديلاً عن الفعل ؟ إنه النمط الآسيوي للانتاج، بتجذره في النظام الفرعوني القديم، ذلك النمط الجامد الذي جعل من الدولة المالك و الفاعل، الأوحد (أو بالأقل الأعظم ) مسرباً آثاره الثقافية عبر العصور المختلفة.
ومع هذا فانه – ولحسن الطالع – قد بات وشيكاً أن تنمحي هذه الآثار بدواع جيومورفولوجية Geomorphological سوف نعرض لها في مقال آخر..

ملحق (1)
إلماحة موجزة عن المرحلتين اليونانية و الرومانية

أوضحنا في موضع سابق أننا اتخذنا منهجاً يأبي أن ينسب مصر الي عصور تسمي بأسماء الطغاة أو الغزاة، فمصر لم تكن أبداً إلا مصر المصرية، لا الفرعونية، ولا الفارسية، ولا البطلمية الاغريقية، ولا الرومانية. فليس لطه حسين أن يحتج بأن الثقافة الهيلينسية قد تجذرت في مصر بما جعلها رافداً راويكاليا يسمح للمصريين المعاصرين بأن يتطلعوا إلي أوربا كأفق منشود (مستقبل الثقافة في مصر ) ذلك لسبب بسيط، أن المؤثرات الحضارية التي أراد لها الاسكندر أن تفعل فعلها في العالم اللاهيليني، لم تنجح لدي التطبيق علي المصريين، اللهم إلا في حدود الطبقة الحاكمة في الاسكندرية تحديداً، وجزئياً مع طبقة التجار (و التجارة لا وطن لها ) أما الفلاحون و الصناع فظلوا علي ماهم عليه . و الأمر نفسه مع المثقفين الوطنيين الذين انكمشوا أنطولوجياً و معرفياً الي درجة أنهم لم يتأثروا بوجود مثقفين اغريق كبار في مدينة الاسكندرية أمثال أبولونيوس وديمتريوس الفاليري (مؤسس المكتبة) وحتي لم ينجح الشعراء " المستوطنون " أمثال ثيوكرتيس و كالياموس (ولعلهم أيضاً لآسباب سياسية لم يرغبوا ) في غرس بذور الشعر المسرحي في التربة المصرية . ولقد يري البعض أن الفلسفة ازدهرت في الاسكندرية بأعمال فيلون اليهودي (صاحب تأويل التوراة) وبكتابات أفلوطين (المصري الصعيدي المولد المتأغرق ثقافة) إضافة إلي المدرسة الفثياغورية التي قامت علي فكرة الأعداد السبعة المقدسة مقابل الصفر الغامض، بيد أن هذا النشاط الفلسفي " التأملي " لم يتعد النخب إلي التأثير في الجماهير، ولو بطريق غير المباشر.
ربما اختلف الأمر قليلاً فترة الحكم الروماني (30ق.م – 640 ميلادي) من حيث التقاء المصريين بالديانة المسيحية، تلك التي كان لها – تأكيداً – أثر مازال ممتداً حتى الآن . ففي البداية تعرض المصريون للاضطهاد من قبل روما الوثنية لانصرافهم عن الدين " الرسمي للامبراطورية، ثم حين ادرك الرومان أن بمقدورهم استخدام المسيحية ذاتها للمزيد من الهيمنة (أيديولوجياً) أعلنوها دنياً رسمياً للدولة، فكان أن حرض آباء كنيسة الإسكندرية : إثناسيوس و اسكندر و كيرلس تباعاً، علي مناوئة القسطنطينية (خليفة روما في زعامة الامبراطورية الرومانية ) وذلك باعتناق عقيدة أصولية أرثودكسية مفادها الإيمان بأن للمسيح طبيعة واحدة هي الألوهية، بتعمد المخالفة لعقيدة القسطنطينية القائلة بالطبيعتين الإلهية والبشرية. وإذ كان القياصرة يرمون بذلك إلي المطابقة بينهم وبين الكنيسة (باعتبارها ممثل الطبيعة البشرية ليسوع ) فلقد سعت الإسكندرية، بعقيدة الطبيعة الواحدة، إلي تجنب التماهي مع الدولة، معلنة شعارها الجماهيري : دع ما لقيصر لقيصر، وما لله الله. وكأنها بذلك قد اختارت – مثل كل المصريين عبر التاريخ – ألا تخوض المعترك السياسي، متدثرة بمعطف الدين في وجه رياح الحياة الباردة القاسية .
لكن ذلك لم يكن بمانع أمام المتشددين أن يشنوا حرباً لا هوادة فيها، لا علي المحتل الأجنبي، بل بالضد علي مخالفيهم العقائديين من أهل البلاد يهوداً كانوا أو وثنيين، ولقد بلغ اضطهادهم لمعارضيهم ذروته في حادثة اغتيال الفيلسوفة " هيباثيا" عام 415 ميلادي ، الأمر الذي يؤكد أن الأصوليين في كل زمان ومكان بالغون ممارسة العنف متي توافرت الفرصة، وتهيأت الظروف .. فإذا لم تتهيأ تلك الظروف فهم إرهابيون بالإمكان، بمعني أنهم لا يرفضون – في قرارة أنفسهم – التصفية الجسدية لمخالفيهم، وإنهم ليرحبون بمن يقوم عنهم بهذا الدور العنيف، وإن لم يحمل وأحدهم بيده " بلطة" الإعدام فعلاُ . فكان ذلك ترسيماً لميمات ثقافية حصلها المصريون من حقبة الاحتلال الروماني وما أنتجته من أساليب الصراع الديني " السلبي " الذي أدارته الكنيسة المصرية ضده.
وهكذا يمكننا القول باطمئنان كبير أنه بقدر ما عجز الاحتلال الروماني عن تغيير ثقافة المصريين، بقدر ما أكدت المسيحية (القادمة من الشرق ) علي هذه الثقافة . ويكفي رصد المشابهة الرمزية( بضاعتهم وردت إليهم ) فالصليب هو شكل مفتاح الحياة المصري، و الثالوث المقدس هو أوزير وحورس و الأم المقدسة إيزيس . و الأكثر من هذا وذاك أن " الفكر المسيحي " المتضمن مبادئ التسامح (الظاهري) ورمزه " السنبلة " لم يكن بمثابة إضافة ثقافية، بقدر ما كان تثبيتاً لواقع ثقافي معيش بالفعل، واقع يتضمن في قرارته نزوعاً أصولياً (مكبوتاً ) نحو التعصب، و العنف، وإمكانية حمل " البلطة " في وجه الآخر المختلف.



#مهدي_بندق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا أنت غيثٌ ولا القومُ يستنكرون الظمأ - قصيدة
- البلطة والسنبلة.. إطلالة على تحولات المصريين1
- مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مهدي بندق - 2 البلطة والسنبلة .. التراث الفرعوني ومساءلة الأساس