أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - أمّي ... التي تموتُ كلَّ عام!














المزيد.....

أمّي ... التي تموتُ كلَّ عام!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 7013 - 2021 / 9 / 8 - 12:54
المحور: حقوق الانسان
    


في شهر سبتمبر من كل عام، تترك أمي غصنَ شرفتنا، وتطيرُ إلى حيث تطيرُ الأمهاتُ ولا يعُدن. منذ أول طيرانها قبل أعوام، أنتظرُها كل صباح، تربتُ على كتفي، وتقول: "متى تدركين أن الحياة ليست ما تقرأين فى الكتب؟! الحياة ليست مثالية وليس كل الناس ملائكة كما تظنين!”. أمي سيدة واقعية، ترى الأمورَ كما هي، وتُسمّي الأشياءَ بأسمائها. وأنا حالمةٌ مثل أبي، أصبِغُ الواقع بألواني، حين لا يروقُ لى؛ بوسعي أن أرى برجَ الكهرباء نخلةً خضراء، وأن أسمع في صخب السيارات هديرَ بحر، أو مقدمة إحدى سيمفونيات تشايكوفسكي. تلك إحدى الحيل الذهنية التي يلجأ إليها مَن يرفضون ما في الواقع من شرور.
كنت أراها جبلاً، كيف لسيدة جميلة أن تكون جبلاً؟! وأنا صغيرة، حين قرأتُ الميثولوجيا الإغريقية، قبضتُ على أمي بين ربّات الأساطير. رأيتها "أثينا" حين تطفرُ حكمتُها، "آرتيمس" حين تخرج للعمل مثل رجل، وتعود إلى البيت لتحمى صغارها، "أفروديت" حين تتكسرُ أشعةُ الشمس فوق وجهها الناصع، "هيرا" حين تغضبُ وتنهرني لكي أترك رواية أقرأها لأذاكر دروسي، "هيستيا" حينما أغلقت علينا باب البيت لتربينا وحيدةً بعد رحيل أبي، لتدخل معجمَنا عبارةٌ جديدة: "أنا أمٌّ وأبٌ”. وبحثت عنها طويلاً فى "يوفروسينى"، فلم أجدها، لأن أمي كانت نادرًا ما تضحك. كانت أشدَّ نساء الأرض بأسًا. مرةً واحدةً وحيدة، شاهدتُ انكسارَ أمي. كسرها "عمر” ابني، حينما اكتشفنا إصابته بمرض "التوحّد". رأيتُ دموعَها للمرة الأولى!
تموتُ أمي عند الساعة الثامنة مساء 5 سبتمبر من كل عام. ويقعُ الخبرُ على قلبي كصاعقة. تميدُ الأرضُ بي، وأدخلُ في حال بكاء صامت، ثم أستسلمُ لشعور الخوف والقلق من غدٍ مخيف بغير أم. ثم أكتبُ لأعزّي نفسي: “صوتُ أمي لا يطيرُ مرتين. أرحمُ ما في موت الأمهات؛ أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. أن ينتهي رعبُ المرءِ من فكرة فقد أمّه.”
محاولةٌ بائسة لإيجاد أي فرح أو راحة في موت أمي مرّةً واحدة، بدل الخوف من موتها كلَّ يومٍ! لكنني أدركُ الآن كم كنتُ أخدعُ نفسي! فالحقيقة أن أمي تموتُ كلَّ يومٍ منذ طيرانها إلى الله مع كل نهارٍ يصافحُني دونها، ومع كل محنة أمرُّ بها وحيدةً دون سند، ومع كل مشكلة عابرة تواجهني خلال نهاري ولا أجد من يساعدني عليها، ومع كل صفعة من الحياة تصفعني ولا أجد من يربتُ على ظهري ويُمسّد شعري قائلا: “ولا يهمك، أنا معك، وسوف يكون الغدُ أجملَ"، ومع كل عيد أم دونها، ومع كل لحظة يقع فيها بصري على رقمها على شاشة هاتفي، ومع كل دقّة تليفون في بيتي أركضُ وأنا أرجو أن تكون المهاتفة من ماما، لأسمع صوتها ذاك الذي تبخّر في الأثير ولم يعد موجودًا، ومع كل نظرة إلى مذياعها وساعة الحائط في بيتي تلك التي كانت يومًا في بيتها، ومع كل صورة لها تقع عيني عليها في ثوب زفافها إلى أبي بعدسة الأرمني "ڤان ليو"، ومع كل نظرة في عيني ابني "مازن" لأتذكر صوتها يقول: “مازن طفل مُشرِّف"، وفي عيني ابني "عمر" لأتذكر كم داخت به عند الأطباء لتنقذه من "التوحد"، حتى أنها قبّلتْ يومًا يدَ الطبيبة قائلة: “عمر لازم يخفّ يا دكتورة!"، فانهرتُ وأنا أرى هذا الجبل الصلب، الذي هو أمي التي لم تخضع يومًا لأحد، وهي تقبّلُ يدَ إنسان من أجلي!
ماتت أمي منذ سنوات، ولكن موتها لم ينته. بل يصفعني كلَّ نهار حين أصحو من نومي لأتذكر أن يومًا آخر عليّ أن أعيشه دون أمي التي تركتني وطارت، ويدي معلّقةً لم تزل في طرف ثوبها.
ماما "سهير"، نامي مستريحةً. وموعدنا في ذكراك مع سورة "غافر" التي تُحبّينها بصوت الشيخ "محمد صدّيق المنشاوي”. تُحوّمين حول شرفتى يمامةً بيضاءَ، تحُطُّ برهةً فوق كتفي، تمنحني القوة، ثم تطير.
وماذا أفعلُ بالثلجِ عشّشَ في أركانِ البيت/ بقِطَّتِكِ البيضاء/ بصورِ العائلة على الحائط الأبيض؟/ بالأبوابِ البيْضِ مغلّقةٍ أمام قلبي/ بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ/ لأن الشيشَ مُقفَل؟/ بالسيارةِ البيضاء الحزينة تحت البيت؟/ بفوطةٍ بيضاءَ تحملُ رائحتَكِ/ بخصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ/ عالقةٍ بالمشْط/ بشالِ حريرٍ أبيضَ/ ضمَّ كتفيكِ المُجْهدين/ بقطرةٍِ من ماءِ زمْزمَ/ عالقةٍ في كأسِ غُسْلِك/ بوحشتي/ بخوفي؟/ هل أبيعُها وأشتري أقراصًا للنوم؟/ هل أقايضُ بثمنها على أبٍ قديمٍ/ نسيتُ ملامحَه/ وأمٍّ تركتني وطارتْ/ ويدي لم تزل/ معلّقةً في طرفِ ثوبِها؟

***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سألتُ نجيب محفوظ: هل تعرفُ اسمَ طاعنك؟
- الرئيس السيسي … فارسُ التنوير الجسور
- أعلنها الرئيسُ: مسألة وعي!
- السيسي … قائدٌ يُنجِزُ … ثم يُعلن
- سمير الاسكندراني … وأبي!
- هاتزعل منّي يا ريس!
- فريال … فارسةُ مصرَ الذهبية
- العذراءُ المُطوّبة … وشمس الدين التبريزي
- العيّل بيجي … من رزقنا!
- صحوةُ الضمير الإنساني
- فنُّ التعليم … عبقريةُ مُعلّمة
- في الوحدةِ يصنعُ الإنسانُ كُرةً … أو يُطلقُ رصاصة
- درس علا غبور… في مناهج التعليم المصري
- نستحقُّ حياة كريمة… ولا يليقُ بنا أن نقلق!
- أنا سوّدت عيشة أهلي ... يا عمو حسين يعقوب!
- نفرتيتي تقولُ: -مِن مصرَ دعوتُ حابي-!
- هكذا كلّمنا الرئيسُ ... قبل سبع سنوات
- 30 يونيو حياةٌ … والقراءةُ حياة
- مدينة نور … مستقبلُ مصرَ الأخضر
- هديةُ الِله للمصريين بعد 30 يونيو


المزيد.....




- الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضي ...
- إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيل ...
- الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي بشبهة -رشوة-
- قناة -12-: الجنائية ما كانت لتصدر أوامر اعتقال ضد مسؤولين إس ...
- الأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي في المقابر الجماعية بمستشفيا ...
- مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: أعداد الشهداء بين الأبرياء ...
- لازاريني: 160 من مقار الأونروا في غزة دمرت بشكل كامل
- السفارة الروسية لدى واشنطن: تقرير واشنطن حول حقوق الإنسان مح ...
- غرق وفقدان العشرات من المهاجرين قبالة سواحل تونس وجيبوتي


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - أمّي ... التي تموتُ كلَّ عام!