أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد سعيدي - -خلافة على منهاج النبوة -:هل هي الحل؟ الجزء الثاني















المزيد.....


-خلافة على منهاج النبوة -:هل هي الحل؟ الجزء الثاني


محمد سعيدي

الحوار المتمدن-العدد: 7010 - 2021 / 9 / 5 - 00:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


جملة سيطرت على عقول كثير من الشباب، وهي أول نقطة في بيان "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الصادر في 2014 بعد إعلان "خلافة" داعش:
"أولاً : إننا كلنا نحلم بالخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، ونتمنى من أعماق قلوبنا أن تقوم اليوم قبل الغد..".
هذا الحلم الذي أنتج داعش و القاعدة وغيرهما، يغذيه هذا الاتحاد و "جماعات إسلامية" أخرى. كما تغذيه أيضاً الأنظمة التربوية السائدة في بلداننا. هذه الأطراف تقدم تجربة بشرية وتاريخية، على أنها مقدسة وعلى أنها الحل لمشاكلنا وقضايانا المعاصرة. وما دامت تقدم هكذا ، يبقى من حقنا مساءلتها وتقييمها.

1. غياب النص الديني المؤطر للدولة الإسلامية:
(المقال السابق)

2.هيئة "أهل الحل والعقد":
في غياب النص الديني المؤطر، تعيش الجماعات الداعية إلى إعادة "الخلافة" تيهاناً نظرياً. حيث تذم ملوك كسرى وبيزنطة، وفي نفس الوقت تستلهم تقاليدهم في أمور السياسة والاقتصاد و تلبسها لبوساً إسلامية. وحيث تتبرأ مما تسميه ملكاً عاضاً أو جبرياً أيام الأمويين والعباسيين، و تتبنى جملة ما أنتجه الفكر السياسي خلال هذه المرحلة. و يظهر هذا في إجابتهم مثلا عما يعرف الآن بمسألة التداول على السلطة. من إجاباتهم الأكثر تداولا هي هيئة "أهل الحل والعقد" التي تختص باختيار الخليفة ومحاسبته وعزله. تاريخيًا ، هذه التأصيلات ظهرت مع الماوردي والجويني اللذان نظرا لحكم البويهيين والسلاجقة اللذين سيطروا في فترة ما على بغداد، عاصمة الخلافة، وكانت لهم سلطة فعلية على اختيار الخليفة وعزله متى شاؤوا. أما "دولة الخلافة " كما طبقها الخلفاء الأربعة ،فلم تعرف مثل هذه الهيئة كما سنرى. كل واحد من الأربعة تولى السلطة بطريقة خاصة وفي شروط خاصة ، وتوحدوا فقط في نهاية ولايتهم بمقتلهم.

أبو بكر: تولى الحكم بعد اجتماع مصغر(اجتماع سقيفة بني ساعدة ) لبعض الأنصار على إثر وفاة النبي (ابن كثير، البداية والنهاية، ج 5-ص 301). وجاء بعض المهاجرين إلى الاجتماع بشكل مفاجئ بعد علمهم بأن أمر الحكم يتداول هناك. لم تكن آنذاك هيئة يطلق عليها "أهل الحل والعقد " ، ولم يكن الاجتماع معلوماً حتى عند الخاصة (من غير الأنصار) ناهيك عن عامة الناس. خلال الاجتماع اتفق المهاجرون الحاضرون وبعض الانصار على تولية أبي بكر. بعض الرواة ذكر حديثاً نبويا يحصر الخلافة في قريش، و أن أبا بكر احتج به في هذا الاجتماع .خطبة أبي بكر تحدثت عن استحقاق قريش لكثرة عددها ولم تشر لا من قريب أو بعيد إلى هذا الحديث. وكذلك تجاهلته ردود عمر وغيره من المهاجرين والأنصار خلال الاجتماع! هذا يدفعني إلى التساؤل ؛ لماذا تجاهل الحاضرون في اجتماع السقيفةبما فيهم أبو بكر الحديث المذكور؟ لماذا ظل هذا الحديث سراً حتى مات النبي؟ لماذا لم يعلم بهذا الحديث الأنصار في حياة النبي، وهم الذين احتضنوه وقاتلوا معه قريشاً حتى النصر؟هل كان الأنصار ليعقدوا هذا الاجتماع لتعيين خليفة منهم وهم يعلمون بهذا الحديث؟هذه الأسئلة وغيرها تقوي القناعة لدي بأن هذا الحديث وضع بعد هذا الاجتماع . وانتهت ولاية أبي بكر بموته مسموماً ( السيوطي، كتاب تاريخ الخلفاء ، ص65).

عمر بن الخطاب: تولى الخلافة بوصية من أبي بكر واستبدل لقب "خليفة خليفة رسول الله" بلقب "أمير المؤمنين " (ب-ن، ج 7 ص 18) . ولم يذكر أحد "هيئة أهل الحل والعقد" ولم ينكر الوصية بدعوى أن هذا من صلاحيات الهيئة في تولية الخليفة. وانتهت ولايته بمقتله طعنا على يد حرفي غاضب جراء رفع الخرا ج الذي يؤديه، وهو أبو لؤلؤة.

عثمان بن عفان: تولى الخلافة بعد مقتل عمر ووصيته لستة عليهم أن يختاروا خليفة منهم: عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. بعد نقاش صاخب تنازل ثلاثة ، ومن الباقين، اقترح عبد الرحمن بن عوف ليختار أحد الإثنين. ولما اختار عثمان، غضب علي قائلا:"خدعتني وإنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه.."(ب-ن، ج 7-ص 163). انتهت ولاية عثمان بمقتله بمشاركة أحد أبناء صاحبه؛ محمد بن أبي بكر.

علي بن أبي طالب : تولى الخلافة بعد مقتل عثمان من طرف الغاضبين على ولاته، الذين قدموا بأعداد كبيرة من مصر والعراق إلى المدينة (ب-ن، ج 7-ص 253 ). و بعد الفراغ السياسي الذي حدث، أصروا على تولية واحد من أصحاب النبي قبل رجوعهم إلى بلدانهم. رفض علي الخلافة في المرة الأولى كما رفضها آخرون وأصروا عليه، فقبلها في المرة الثانية. وإن كان زعماء الوافدين من مصر والعراق هم من كان له الكلمة الفصل في اختيار علي فهم ليسوا "أهل الحل والعقد "في نظر "أهل السنة" ، فهؤلاء يعتبرونهم "خوارج". أما الأسماء البارزة من أصحاب النبي مثل الطلحة والزبير فبايعوا كرها، كما قال الزبير "بايعت والسيف على عنقي". انتهت ولايته بمقتله على يد عبد الرحمن بن ملجم ؛ أحد أبناء النهروان الذين حاربهم علي.

كما رأينا، ليست فقط "هيئة أهل الحل والعقد" كانت غائبة عن المشهد ، بل كانت غائبة أيضاً الآلية السياسية الموحدة للتداول على السلطة. لذا كان تعاطي الخلفاء مختلفاً حسب الظروف. فأبو بكر وعلي استخلفا وحكم قريش مهدد بالضياع ، أما عمر وعثمان فاستخلفا بوصية من قبلهما لكن في ظروف يطبعها بعض الاستقرار الداخلي. وهذه الوصية ليست مستوحاة من نص مرجعي ديني، بل من تجارب الملكيات المطلقة القريبة العهد بالعرب آنذاك، حيث كان الملك يحكم حتى مماته، ويعين ولي عهده في حياته. وهذا الأفق هو ما كان يؤطر تفكير الخلفاء. فأبو بكر مثلاً، لما تحدث عن ثلاثة أمور كان يود أن يسأل عنها النبي، ذكر:
"..وَوَدِدْتُ انى كنت سالت رسول الله ص: لِمَنْ هَذَا الأَمْرُ؟
فَلا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلْتُهُ: هَلْ لِلأَنْصَارِ فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبٌ؟.."(تاريخ الطبري، ج3-ص 431)
ويقصد بالأمر الحكم، والغريب أن بعض الرواة يذكرون أنه احتج على الأنصار بحديث أن الأمر في قريش، وهنا يتساءل هل في هذا الأمر نصيب للأنصار!!
أما عمر فكان رده عندما أشار إليه المغيرة بن شعبة بالوصية لابنه عبد الله أن قال:
"..قَاتَلَكَ اللَّهُ. وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ اللَّهَ بِهَا.
أَسْتَخْلِفُ رَجُلا لَمْ يُحْسِنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ؟" (البلاذري، أنساب الأشراف، ج 10-ص 421)
هذا الجواب يتضمن قبول عمر المبدئي لتولية ابنه كما كان يفعل الملوك وقتذاك لولا عدم قدرته التي قد تعود إلى عامل السن. والحوار الذي دار يدل على أن الفكرة كانت مقبولة كذلك في وسط الصحابة.

الوقائع التي سردتها تختصر الإجابات التي توصل إليها الخلفاء انطلاقاً من الثقافة السياسية السائدة آنذاك. لكن الفقه أتى من بعد ليلبسها لباساً إسلاميًا وصاغها في قواعد، منها: تصح الخلافة ببيعة رجل أو أكثر، وتصح بوصية الخليفة الذي قبله، وتصح بالغلبة، ولايجوز عزله او الخروج عليه إلا بشروط تعجيزية منها: الكفر البواح عند البعض، وأن لا يتسبب ذلك في مفسدة كبيرة عند البعض. والأخطر من هذا أن البعض أحاطها بقداسة خاصة حتى أصبح يعتقد مثلاً أن بعض تقاليد الملكية الفارسية من الدين الإسلامي.

3. البيعة العامة:

قد يعترض البعض على ما سلف بالقول بأن الخلفاء كانوا يبايعون بيعة عامة بعد البيعة الخاصة خلال خروجهم إلى المسجد ولقاء الناس. وهناك من يبالغ في مثل هذا الكلام، كأن يقول بأن الخليفة كان ينال رضى وبيعة كافة المسلمين. هذا الكلام غير صحيح وفيه بعض الإسقاطات لنظرية العقد الاجتماعي التي ترى أن الحاكم ينال شرعيته من الشعب وأن لكلا طرفي العقد حقوق وواجبات. بينما الأمر على عهد الخلفاء كان مختلفًا. فكانت البيعة تعني السمع والطاعة" للحاكم، ولا يقابل هذا بأي التزام له بخدمة أمور الشعب الدنيوية. أما ما كان من خطبة المسجد وماسمي بيعة عامة الناس، فكانت تتم كشكل احتفالي ومباركة للخليقة الجديد ولم تذكر كتب التاريخ أن العامة طلب رأيهم أو مارسوا اختياراً خلال خطبة المسجد. بل أكثر من هذا، فالمتخلفون يجبرون على البيعة تحت السيف.

ذكرت كتب التاريخ أنه بعد بيعة السقيفة ، خرج أبو بكر لمسجد المدينة يخطب ويتلقى البيعة . لكن هنا، لابد من بعض التنبيهات :
مات النبي يوم الاثنين ، وانتهى الناس من البيعة العامة في مسجد المدينة يوم الغد الثلاثاء (ب-ن، ج 5-ص 301). هل هذه المدة كانت كافية لاستشارة باقي العرب و المسلمين وقدومهم المدينة، مع الأخذ بالاعتبار المواصلات في ذلك الوقت.

أما عمر بن الخطاب فلم يحتج إلى مشاورات ، إذ عهد إليه أبو بكر بخلافته(ب-ن، ج 7 ص 16-18). وبدأ مباشرة مهامه بعد موت أبي بكر، واخذ أولى قراراته وهي عزل خالد بن الوليد الذي كان يقود جيش المسلمين في أهم جبهة وقتها- الشام-، وعين مكانه أبو عبيدة- أحد المهاجرين الثلاثة اللذين حضروا اجتماع السقيفة. وصل كتاب التعزية والعزل إلى أبي عبيدة، فأخفاه عن خالد وعن الجيش حتى انتهاء المعركة ودخول دمشق. هذه المرة، المشورة لم تستثني باقي العرب فقط ، ولكن حتى الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كان أكثرهم على جبهة الشام (ب-ن، ج 7-ص 8). ذكر ابن كثير عن هذه المعركة "وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي تَعْبِئَةٍ لَمْ تُعَبِّهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ"(ب-ن، ج 7-ص 8)، وقدر عدد الجيش في حوالي 36 ألف لم يؤخذ رأيهم في مستقبل الدولة التي تطوعوا للقتال من أجلها.

وأما عثمان فاختاره صهره عبد الرحمن بن عوف كما ذكرت أعلاه (ب-ن، ج 7-ص 163). وذكرت بعض الروايات أنه استشار المسلمين قبل أن يختار بين علي وعثمان، لكن ثلاثة أيام التي فصلت بين موت عمر وبيعة المسجد ، لا أظن أنها كانت كافية للنقاش مع الستة "أهل الشورى" ومع عامة الناس . قد يكون سمع بعض الآراء المؤيدة والمعارضة، لكنها لم تكن ملزمة ويبقى في الأخير هو الوحيد الذي مارس حق الاختيار.

وكانت بيعة علي اسثتنائية. لم تكن "الخلافة" مرغوباً فيها من طرف الصحابة المتواجدين بالمدينة. وكانت المرة الأولى التي تخرج فيها المشاورات عن دائرة أهل المدينة ومكة، وتحديدا زعماء قبائل قريش والأنصار. فكان من يعرض الخلافة هم أهل مصر والعراق اللذين قدموا المدينة احتجاجا على ولاة عثمان وعلى مروان كاتبه الخاص. بيعة المسجد تمت بعد خمسة أيام من مقتل عثمان؛ لم يتخلف عنها الأنصار ، بينما تخلف عنها بعض زعماء قريش اللذين هربوا من المدينة أو احتالوا. وقد أحضر كرهًا على الأقل طلحة والزبير لتقديم البيعة (ب-ن، ج 7-ص 253 )، ولم يأخذ رأي أحد من الشام.

وأخيرًا ، كانت بيعة الخليفة الخامس (عند بعض "أهل السنة")، عمر بن عبد العزيز كما يلي: أمر سليمان بن عبد الملك بمبايعة ولي عهده على كتاب مختوم ، من دون معرفة إسمه. ولما رفض الناس، أمر الحرس والشرط بجمع الكل وأخذ البيعة وضرب عنق من أبى، فبايع الناس (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 170).

"الخلافة الراشدة " بالقدر الذي شكلت حلمًا لجمهور من المسلمين، شكلت أيضاً الأداة التي أحكم بها "الخلفاء " والسلاطين القبضة على شعوبهم. فإن سألت عن الحكم الوراثي، قيل لك أن "الخلفاء الراشدون" عينوا من يخلفهم. وإن سألت عن الاستبداد والحكم مدى الحياة، قيل لك أن قدوتهم هم الخلفاء الأربعة ، فهم حكموا حتى وفاتهم ولم يحد من سلطاتهم. وإن سألت عن الأموال ، قيل لك أن الخلفاء الأربعة كانوا دائمًا يتصرفون في بيت المال بما يرونه والحاكم إن اجتهد وأخطأ له أجر وإن اجتهد وأصاب له أجران.. وهذه الوظيفة التي لعبتها فترة "الخلافة الراشدة " قد تكون من الأسباب التي جعلت الحكام يحيطونها بنوع من القداسة .

4.اجتماع سقيفة بني ساعدة والصراع القبلي:

يذكر الطبري جزء من النقاش الذي دار في هذا الاجتماع والذي من خلاله نستطيع فهم الأطراف المتصارعة: الأنصار وهم أهل المدينة اللذين احتضنوا النبي وأصحابه وقاتلوا معه قريش وغيرها ويرون أنفسهم أحق بالأمر لأنهم السبب الرئيسي في كل الانتصارات التي تحققت. وكانوا حلفاً لفريقين، لكل واحد نظرته الاستراتيجية وهما الأوس والخزرج. والطرف الثاني هو المهاجرون من قريش يمثله أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، ويرى أنه الأحق لأنه يمثل عشيرة النبي.

قال سعد بن عبادة الذي قدمه الأنصار للإمارة:
"..يا معشر الأنصار، لكم سابقة فِي الدين وفضيلة فِي الإسلام ليست لقبيله من العرب، ان محمدا ع لبث بضع عشرة سنة فِي قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وَكَانَ ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رَسُول اللَّهِ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حَتَّى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم اللَّه الإيمان به وبرسوله، والمنع لَهُ ولأصحابه، والإعزاز لَهُ ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حَتَّى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حَتَّى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم لَهُ العرب، وتوفاه اللَّه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس."(ج3-ص218).

وقال أبو بكر:
"..خص اللَّه المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة لَهُ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله فِي الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذَلِكَ إلا ظالم..."(ج3-220). ووعد أبو بكر الأنصار أن يكون منهم الوزراء.

عندها اقترح الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فكان جواب عمر:
"هيهات لا يجتمع اثنان فِي قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لاثم، ومتورط فِي هلكة! "
وقال بشير بْن سعد أبو النعمان بْن بشير، من الأنصار:
"..ألا ان محمدا ص من قريش، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا،.."(ج3-220)

وكان رد فعل الأوس كما ذكر الطبري :
"ولما رأت الأوس ما صنع بشير بْن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بْن عباده، قال بعضهم لبعض، وفيهم اسيد ابن حضير- وَكَانَ أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا" (ج3-221)

لم يكن اجتماعاً هادئًا ، حتى أن الناس كادوا يدوسون سعد بن عبادة وقد أتى وبه مرض ونبه أصحابه إلى ذلك، "فقال عمر: أقتلوه، قتله الله!" (ج3-222). ورغم التهديد ، رفض سعد مبايعة أبي بكر وأعلن إن أرغم، سيقاتل هو وأهل ومن يتبعه من عشيرته. وبقي على هذه الحال إلى أن تم اغتياله بسهم أتى في صدره (هناك من ذكر أن الاغتيال وقع في ايام ابي بكر ومن ذكر أنه وقع في أيام عمر). الغريب ان بعض المؤرخين(ابن الجوزي، كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والامم،ج 4-ص 199) (ابن الأثير، كتاب أسد الغابة، ج2-ص441) اتهم الجن بإطلاق السهم!!. سعد هذا لم تكن تنقصه الفضائل-بمنطق الفقهاء-؛ فهو الذي حمل راية الانصار في غزوة بدر بينما علي بن ابي طالب رفع راية المهاجرين ، وكان النبي يستشيره في كل أمور الحرب، المفروض أن تكون غالباً سرية. وتقدمه إلى الخلافة يقوي الأدلة على عدم وجود أحاديث نبوية صحيحة توصي بالحكم إلى قريش.

من خلال نقاش السقيفة يتضح أن الصراع القبلي كان حاضراً بقوة ، خاصة بين قريش والخزرج. كل من القبيلتين ترى أنها الأحق بوراثة سلطة النبي، وكلاهما ترى أن باقي العرب لا كلمة لهم في اختيار الخليفة. ومادامت المسألة التي كانت متداولة هي الأحقية في "الوراثة"، فأهل البيت قد رأوا أنهم الأحق بوراثة السلطة من هؤلاء جميعًا. فلم يبايع علي أبا بكر ولم تبايع فاطمة، وخاصمت أبا بكر إلى أن ماتت بعد أن رفض إعطاءها إرث أبيها (ابن كثير، ج5-ص287).

واستطاع القرشيون أن يمسكوا بزمام السلطة، بينما شكلت بيعة السقيفة بداية النهاية السياسية والعسكرية للأنصار . فلم تخصص لهم الدولة الناشئة مناصب الوزراء كما وعدهم أبو بكر في خطبته الأولى، وكان تجاهلهم من طرف الفقهاء عند وضعهم شروط الوزارة كتحصيل حاصل، بينما وضعوا القرشية (أي الانتساب لقريش) من شروط الامامة .

لكن باقي العرب لم يتم استدعاؤهم ، وهم لم يعتبروا أنفسهم معنيين بمستقبل الدولة الناشئة. منهم من ارتد عن الإسلام، ومنهم من امتنع عن البيعة ميلا لعلي، ومنهم من بقي على الإسلام وامتنع عن أداء الزكاة للخليفة، حتى اصبحت الجمعة لا تقام الا في مكة والمدينة حسب المؤرخين. وذكر الطبري وصف الحالة كما يلي:
"..لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي الأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ، قَالَ: لَيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ الشاتيه، لفقد نبيهم ص وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوُّهِمْ.."(تاريخ الطبري، ج 3ص225)
أما الإجابة على هذه الوضعية، فلم تكن الاستماع إلى الأغلبية وإنما كانت إعلان الحرب على هؤلاء جميعاً إلى أن يبايعوا ويسمعوا ويطيعوا لحكم الخليفة حتى وإن كان مختلف فيه كالزكاة.هناك خلفاء وفقهاء أجازوا أداء الزكاة مباشرة للفقراء لأنها ليست من الأموال التي يجب أن تذهب لبيت المال.
وقد يعود إقصاء باقي العرب إلى الموروث الثقافي في مجتمع منقسم إلى "أسياد وعبيد". ولهذا كانت قريش وقبيلتي الأنصار ترى في "أسيادها " الأحق بالحكم، وترى في باقي القبائل جيشاً احتياطياً للعبيد لا رأي لهم في هذا الأمر ويجب إخضاعهم بالسيف.

هامش:
ب-ن: ابن كثير، البداية والنهاية



#محمد_سعيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خلافة على منهاج النبوة -:هل هي الحل؟
- عن تطبيع المغرب/ تسهيل رحلة- العال- أم رحلة المال!
- ما يخفي شعاري-دولة الخلافة- -وشريعة الله-!
- من دروس أزمة الكورونا عند رئيس الحكومة
- على هامش الأزمة، غاب العلم وحضر -العلماء-.
- أين وصل برنامج حزب بنكيران و من معه ؟
- مهلا يا عقاوي.. مناضل الداخل
- السجون في المغرب شبيهة بجهنم
- محمد غلوط ..صرخة وصورة
- متى نهاية الربيع العربي في المغرب ؟
- حركة 20 فبراير
- حقوق الانسان المتعارف عليها -عربيا- في المغرب
- البيان العام الصادر عن المؤتمر الوطني التاسع للجمعية المغربي ...
- الجمعية المغربية لحقوق الإنسان: الوضعية القانونية للفروع
- سفينة عباس


المزيد.....




- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...
- “بابا تليفون.. قوله ما هو هون” مع قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف قاعدة -عوبدا- الجوية الاسر ...
- “وفري الفرحة والتسلية لأطفالك مع طيور الجنة” تردد قناة طيور ...
- “أهلا أهلا بالعيد” كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024 .. أهم ال ...
- المفكر الفرنسي أوليفييه روا: علمانية فرنسا سيئة وأوروبا لم ت ...
- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف ميناء عسقلان المحتل


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد سعيدي - -خلافة على منهاج النبوة -:هل هي الحل؟ الجزء الثاني